Sharh Al-Wasatiyyah - Yusuf Al-Ghafis
شرح الواسطية - يوسف الغفيص
Genres
امتزاج التصوف بعلم الكلام
إذا نظرت إلى من أحدث النظر وعلم الكلام من أئمة الجهمية والمعتزلة وجدت أنهم بعيدون عن المسالك العبادية -مسالك العمل- ولهذا ليس بينهم وبين الصوفية شيء من التوافق، حتى بدأ هذا العلم -أعني علم الكلام- يقرب إلى التصوف وبدأ التصوف يقرب إليه.
وكان لهذا موجبات، من أخصها: ظهور المعتزلة البغدادية، والذين كانوا متشيعين لـ علي بن أبي طالب ﵁، فحصل بين التشيع وبين الاعتزال قدر من التآلف والاختلاط، وإلا فإن أصول الشيعة كانوا على مذهب التشبيه في الصفات، ثم انحرفوا إلى مذهب التعطيل على طريقة معتزلة بغداد.
فهذا التآلف -مع ما هو معروف عند الشيعة من الغلو في آل البيت كـ الحسين بن علي وغيره- جعل مسائل النظر تدخل على هذه المسائل الأخرى من العمل، فصار هذا الانحراف النظري يشاركه انحراف في مسائل العمل.
ثم لما ظهر المتفلسفة المحضة -وهم الفلاسفة الذين يصرحون بالفلسفة ويجعلونها طريقًا صريحًا لهم، ولا سيما فلاسفة المشرق كـ أبي نصر الفارابي والحسين بن عبد الله بن سينا وأمثال هؤلاء- كان من طرقهم التي أحدثوها أن الناظر لا يلزم بالضرورة أن يكون له أخذٌ واحد، بل يكون له أخذ من جهة النظر، وأخذ من جهة العمل، فقرروا بذلك طريقًا مخترعًا، وهو أن المذهب الشخصي للواحد -أي: المعتقد للشخص الواحد- لا يلزم أن يكون معتقدًا واحدًا، بل يكون متعددًا.
ومن هنا تجد ابن سينا في بعض كتبه رجلًا عقلانيًا نظريًا، يأخذ الطريقة العقلانية التجريدية المبالغة في العقلانية والتجريد؛ حتى لا يعتبر كثيرًا من أدلة العقل، وهي الأدلة الحسية وما إلى ذلك، معتبرًا أن هذه الأدلة -كما يزعم عن أرسطو وغيره- هي من الدلائل الخطابية أو من الدلائل الجدلية، وأن برهان اليقين لا يكون بمثل هذه الدلائل.
ثم تجده بعد أن استعمل طريقة التجريد العقلي الغالية في الأخذ بالعقليات والبعد عن مسائل الحس وما يتعلق بها، تجده في كتب أخرى له رجلًا صوفيًا إشراقيًا يعتبر مسائل النفس والعمل وما إلى ذلك، ويبتعد عن مسائل النظر والعقل.
فالاختلاط عند هؤلاء المتفلسفة لم يقتصر عليهم؛ إذ لما ظهر متكلمة الصفاتية، وكان خلق منهم قد اشتغل بالفقه، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الكلام، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الحديث، صار أتباعهم إلى مثل هذه الأنحاء.
فجاء -مثلًا- أبو حامد الغزالي، وهو من متكلمة الأشعرية، من أصحاب أبي المعالي الجويني، فصرف المذهب الأشعري عن صورته الأولى التي كان عليها الأشعري ومتقدمو أصحابه، وانحرف به انحرافًا باطلًا، وإن كان المذهب من أصله ليس على السنة المحضة، فوضع أبو حامد الغزالي للمذهب الأشعري منهجًا ذكره في كتابه (ميزان العمل)، وصرح بأن المذهب ليس واحدًا، بل ثمة المذهب الجدل، وثمة المذهب اليقين، وثمة المذهب العام، فجعل علم الكلام مذهبًا للجدل والدفع عن عقيدة المسلمين كما يقول، وجعل المذهب اليقين طريقة التصوف، الذي هو سر -كما يقول أبو حامد - بين العبد وبين ربه، وجعل للعامة مذهبًا ثالثًا يخاطب به العامة من الناس الذين لا يعرفون طريق النظر ولا يؤهلون لطريق اليقين والتصوف.
فهذه الطريقة التي قررها الغزالي في كتبه انتشرت عنده وعند غيره، ومن هنا يعلم أن الانحراف -أعني الانحراف في توحيد العبادة- لم يختص بالصوفية أو الشيعة فقط، بل وقع حتى عند بعض النظار الذين قرروا مثل هذه المسائل.
2 / 10