وكانت «سوسنة» تحاول أن تضمد جراح قلب البارون، إلا أن مساعيها كانت تذهب سدى.
أما الأم فبقيت زمنا طويلا وهي لم تجسر أن تعلم أحدا بما أوحت إليها ابنتها، وفي آخر الأمر أفشت سرها لزوجها القنصل آملة أنه بدرايته وحذقه يدبر كل شيء على أحسن طريقة، فما علم القنصل بحقيقة الأمر حتى رأى لهذه الحالة الحرجة مناصا.
فلما كان مساء بعض أيام كانون الثاني انقشعت الغيوم بعد أن همت طويلا الأمطار المدرارة، وعاد للسماء صفاء أديمها، وركدت مياه البحر فتحلت بزرقة ناصعة، بينما كان جبل صنين يظهر للعيان عن بعد مشتملا ببردة ثلوجه الغراء، وأشجار اللوز زاهية بأنوارها الفاغمة، وازدهت ربى بيروت بزهور الربيع فصارت كأنها روض نضير، فانتهز القنصل هذه الفرصة ليعرض على صهره السفر إلى جهات بلاد اليونان، وكانت غايته بذلك أن يشغل بال البارون بزيارة أصحابه، ويعيد لابنته «سوسنة» ما فقدته من الراحة والسكينة، فأجاب البارون إلى سؤله، وبعد إعداد لوازم السفر ركبوا البحر طالبين مرفأ البيرة.
وفي واقع الأمر ما كاد البارون مع عائلة القنصل يطأ أرض اليونان حتى انتعشت قواه وسكن بلباله وهدأ خاطره، وما لبث أصدقاؤه أن يأتوه زرافات ليقرءوا عليه السلام، ووافق وصوله اكتشاف عدد وافر من العاديات والدمى والرسوم القديمة البديعة العمل، فكنت تراه يتردد إلى المتاحف؛ ليطلع على هذه البقايا الجليلة، ويكتب عنها مقالات يرسلها إلى المجلات العلمية.
ولما كان البارون لا يجهل شيئا من أحوال أثينة وتاريخها وآثارها القديمة، أقام نفسه كدليل لحميه القنصل ولعائلته فزاروا أولا هيكل الإلهة «مينرفة» الشهير ب «البرتينون» ثم سائر أبنية المدينة فردا فردا، وكان البارون يصف لهم رسم البلد فيشبهه بقرص كبير من الحلوى قسم إلى أربعة أقسام، فالخطان المعترضان هما سكتا إيول وهرميس، وفي الوسط مركز البلاط الملكي الذي بلغت نفقاته ثمانية آلاف ألف من الدرخمات، وهو مع ذلك أشبه بثكنة جنود أو بمستشفى المرضى، ويحدق بالبلاط بستان ليس سواه في البلدة جمعاء ليستظل به الأهلون.
وكان عند دخول البارون وعائلة القنصل إلى أثينة قد حشدت فيها الجنود فتعرض يوميا على مرأى الشعب، وكان الناس يزدحمون في القهاوي فتعلو فيها جلبتهم، فيقرءون الجرائد ويصرخون طالبين إشهار الحرب، وينسبون رئيس الوزارة «تريكوبيس» إلى الجبن والفشل.
فكان القنصل وهو من مشاهير الضباط لا يتماسك عن الضحك؛ لما يراه في جنود اليونان من سوء النظام وقلة النظافة في الملابس الرسمية، وما كان يزيده عجبا كثرة الضباط بالنسبة إلى عدد الجنود، وكان أكثرهم من الشبان خرجوا حديثا في المكتب العسكري، وهم مع ذلك يتباهون بهندامهم وقبعاتهم الواسعة المستطيلة وأطواقهم العريضة الصفراء.
وكان القنصل يفكر في ما عسى أن يفعل هؤلاء الضباط المرجلو الشعر المطيبون بأنواع الطيب كالنساء، وكيف تقوم لهم قائمة بإزاء أعدائهم وهم يظنون أن ثرثرة الكلام والبذخ يكفيان للفوز بالانتصار؟!
إلا أن البارون كان معجبا بفرقة «الإفزن»
efzones
Unknown page