مأساتنا ليست أننا ابتعدنا عن الإسلام. وإنما أن مجتمعاتنا عزفت عن المعرفة العلمية والبحث العلمي، وعاطلة عن العمل والإنتاج، وتعيش عيالا على الآخرين، ينتجون العلم والتكنولوجيا، ويتطورون ونحن غارقون في نشوة الاستهلاك السفيه الذي لا يشبع ولا يغني .. والإنتاج لا يكون إلا بامتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا وحرية الإبداع .. نحن عاطلون عن العمل الاجتماعي الذي يفي بمقتضيات الظرف الوجودي لعصرنا الراهن، عصر العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات والمشحون بالتحديات على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي تعزيزا لحق البقاء. إن العمل والإنتاج على مستوى حضارة العصر؛ أي العلم والتكنولوجيا، هو سبيلنا لتحقيق الذاتية الاجتماعية، هويتنا، التي نبحث عنها عبثا في كتب الأقدمين، وهو سبيلنا لبناء الإنسان وتغيير المجتمع وحسم حالة اختلال الأنا القومية واختلال التوازن الحضاري بيننا وبين المجتمعات المتقدمة. وهو ما لا يتعارض مع قواعد كل الديانات .. هذا وإلا سنقضي قرونا أخرى أسرى أوهام من يحرثون البحر.
الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة1
في البدء كان الفعل .. وانبثق عنه الفكر.
حين صدر لي عام 2002م كتاب «الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل» ظن كثيرون أنني اخترت عنوانا يعبر عن نزعة تشاؤمية. بيد أنني كنت ولا أزال، أرى أنه عنوان متفائل؛ ذلك لأن التفاؤل عندي ليس كما يرى المتطيرون منحة تنبني على مبررات طوباوية، وإنما أرى التفاؤل أملا ينبني على جهد إنساني وليد إرادة وسعي نضالي منهجي واضح المقصد والهدف، أعني أنه ثمرة فعل إنساني مجتمعي عقلاني وليس شيئا مجانيا.
لهذا فإن عبارة سوسيولوجيا الفشل تعني أن الفشل راجع لأسباب اجتماعية تدخل في نطاق مسئولية الإنسان /المجتمع؛ وأن الإنسان قادر بإرادته وفعله وفكره، ومنهجه العلمي في الفعل والفكر، أن يصحح الخطأ ويزيل الأسباب إذا عرف نفسه كوجود تاريخي؛ أي وجود له امتداد في الزمان، وعرف عصره، ومقتضيات هذا العصر وتحدياته؛ وتكيف اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا .. إلخ للاستجابة نحوها .. ويصبح البحث عن الأسباب أكثر إلحاحا حين يتواتر الفشل بينما الآخرون انعقدت لهم وبجهدهم أسباب السبق والنجاح دون أن نقارن أو نسأل كيف ولماذا؟ ورضينا بالبقاء قانعين بالاكتفاء والانكفاء على الذات ثقافة وتراثا.
ويعني الفشل أن المجتمع عاطل من المعرفة الكاملة والصحيحة نسبيا ومرحليا لتوجيه مسارات حركته وطاقاته وأنشطته الاجتماعية بصورة فعالة في الاتجاه الصحيح للتطوير .. أي للتكيف مع حضارة العصر بهدف البقاء والعطاء والارتقاء والمنافسة. وطبيعي أنه في حالة غياب هذه المعرفة/الفكر في صورة نسقية شاملة، وغياب التكامل بين الفعل المجتمعي وثيق الصلة بالنهضة ومن ثم غياب الفكر النهضوي. هنا يغدو واقع المجتمع أو نشاطه ضربا من الشواش/المحاولة والخطأ مع نسبة عالية من الإخفاق، وحركة غير مطردة، وغير سوية ولا مستوية مختلة التوازن، عاجزة عن كفالة أسباب البقاء ناهيك عن المنافسة والتطوير ..
قضيتنا المحورية هي أزمة الفكر الاجتماعي العربي التي هي في جوهرها أزمة فعل التحول الاجتماعي الحضاري، أو أزمة إنتاج المجتمع لوجوده على مستوى منافس لحضارة العصر. والقضية ليست جديدة بل قديمة معادة ومكررة تواترت على ألسنة المصلحين الاجتماعيين: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ولكنني استكمالا وتوضيحا للرؤية، أطرح مع السؤال أسئلة أخرى: كيف تقدم غيرنا وقد كانوا في السابق أسوأ حالا؟ وكيف نتقدم نحن؟ ما هي شروط وآلية ومعايير التقدم؟ ثم كيف تكون ثقافتنا الاجتماعية حافزة لفعل التقدم والتحدي والمنافسة، حافزة لفعل الإبداع والتجديد والتغيير؟ وما هو الخطأ في أسلوب تناولنا للقضية بحيث مضت قرون وتعاقبت أجيال وتفاقمت الحال، وأزمن الفشل، وضاعت من أقدامنا الطريق وبقي السؤال مجرد سؤال ولا فعل؟
أحاول الخروج من السياق التقليدي في النظر إلى عصر ذهبي مضى، والزعم أن الفشل مرجعه أننا تنكبنا طريق السلف. فالحضارات أطوار تراكمية صاعدة ، وليست امتدادا متجانسا. والحضارة فعل ذاتي بالأصالة وليس بالنيابة .. وإن ما صنعه السلف لا يغني عن جهد الخلف، وليس السلف بإنجازاتهم قدوة للمحاكاة بل قدوة لمنهج وثقافة الفعل وصناعة الوجود ومواجهة التحدي.
وأحاول الخروج أيضا عن مقولة التحديث محاكاة للغرب فإن الحداثة معيار متجدد، والتحديث متعدد الآليات، وفعل ذاتي أصيل، والتحديث ثقافة حافزة للفعل والمنافسة نتعلم أسسه ومنهجه، ونستوعب خبراته على صعيد عالمي ولا نستورده .. إنه صناعة لا حيازة، وفعل ابتكاري متجدد وليس مظهرا للمحاكاة .. والتحديث ثقافة تغيير وتكييف.
القضية هي التطوير .. تطوير الإنسان/المجتمع .. تحول حضاري ومشاركة؛ أي فكر وفعل إبداعيان وليس تنمية. التحول الحضاري امتداد وتعزيز رأسي صاعد أو كيفي يفضي إلى نشوء أنماط وأشكال جديدة، ويحقق إنجازات وفق معايير المنافسة لحضارة العصر، كما يفضي إلى نشوء فكر ورؤية جديدين. والحضارة عندي هي عملية تاريخية قوامها إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري-القيمي في تكامل، استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان/المجتمع.
Unknown page