وفي القرن التاسع عشر، نشأت مذاهب النقد التحليلي ومذاهب الدراسات النفسية في أوقات متقاربة، فجاءت بحوث النقد التحليلي وبحوث النقد النفساني بنتائجها القيمة في تمحيص الحقائق عن آداب عصر النهضة وفنونه، وصح عند الباحثين المحدثين أن البراهين المستمدة من موضوع الكتابة ومن التعمق في تحليل الشخصية أولى بالاعتماد عليها من الأسانيد المنقولة عن أقوال الرواة المعاصرين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وما حولهما، لما ثبت في كثير من الأحوال من قلة اكتراث القوم بتصحيح الأسانيد وانصراف عنايتهم إلى العمل الفني دون التفات لتحقيق أسماء المؤلفين وأصحاب الأعمال.
وعلى هذه القاعدة قام البحث من جديد عن مؤلفات شكسبير وعن الشكوك التي تساور القارئ من اختلاف الطبعات وتردد الناشرين في إسناد بعض الروايات إليه.
لماذا أسقط الناشرون رواية بركليس من المجموعة الأولى؟ ألم يكن تصديرها باسم شكسبير في طبعتها المنفردة كافيا لتصحيح نسبتها إليه؟
ولماذا وضعوا رواية ترويلس وكريسيدا ثم رفعوها ثم عادوا إلى وضعها بعد إثبات رواية تيمون الأثيني في مكانها الأول؟
ولماذا عاد الناشرون في المجموعة الثالثة، فأثبتوا رواية بركليس وأثبتوا روايات أخرى حذفها الناشرون بعد ذلك؟
عاد البحث على أساس النقد الموضوعي والنقد النفساني إلى جميع مؤلفات شكسبير وفي مقدمتها الروايات التي كانت موضع التردد بين الناشرين في مختلف الطبعات.
فانجلى البحث عن شك قليل في بعض مناظر بركليس، ورجح عند الثقات النقاد أن فصولها من الثالث إلى الخامس شكسبيرية لا موجب للتردد في نسبتها إليه، وفيها مقطوعات من الشعر كأجود ما نظم الشاعر في مسرحياته، مع المشابهة بينها وبين عامة شعره في «الروح» ومناهج التعبير.
والاختلاف على رواية بركليس يسير بالقياس إلى الخلاف الواسع على رواية أخرى يقبلها أناس على مضض وينفيها آخرون كل النفي من أدب شكسبير، وهي رواية تيتس أندرينكس التي لا ينجلي البحث فيها من وجهة الموضوع ولا من وجهة التحليل النفساني عن رأي حاسم، فمن قال إنها شكسبيرية فهو يقولها على تردد وتحفظ ولا يزعم أنها «دعية» في نسبتها، ولكنه يزعم أنها عمل غير صالح، ولا ينسى أن يستدرك قائلا إنها في الحق من أسوأ ما صنع شكسبير، ومن نفاها وأصر على نفيها قال إنها لن تكون شكسبيرية إلا على فرض واحد يسوقونه على سبيل الظن والتخمين، فهي عندهم رواية مجهولة النسب اضطر صاحب المسرح إلى تمثيلها، فألقى بها إلى الشاعر ليعمل فيها قلمه ويداري من عيوبها المسرحية ما استطاع أن يداريه قبل عرضها في أجل محدود، ومن ثم جاءت حيرة النقاد والناشرين في أمرها؛ لأنها لا تتجرد من طابع الشاعر - ولا تمتاز بحسنة من الحسنات التي تشفع لعيوبه فيما ينزل به عن مستواه.
وتناول الشك روايات وفصولا شتى غير هاتين الروايتين، وأشد الروايات تعرضا للظن والنقد رواية هنري السادس بأجزائها الثلاثة، فإن المناظر الفرنسية والمناظر الإنجليزية في الجزء الأول لا تنمان على روح واحدة، والمناظر الإنجليزية منها ليست بالشكسبيرية الخالصة في تعبيراتها وأسلوب أدائها، ولعل الشاعر كتبها في أيام تلمذته على مارلو بإشراف أستاذه.
وليس في الجزء الثاني مثل هذا التباين في الروح والمنهج، إلا أن المؤلف يبدو فيها مقيدا بتنسيق للفصول والمناظر لا يرتضيه، مما يرجح عند بعض الشراح أن شكسبير وجد أمامه رواية قديمة أجرى فيها قلمه وأكثر من التنقيح فيها، مع إبقائه على تقسيم فصولها ومناظرها، وهي فكرة يوحي بها بحث الدكتور إسكندر بيتر أستاذ الأدب بجامعة جلاسجو وصاحب الرسائل الحديثة في ترقيم شكسبير وتقسيم فصوله (1945).
Unknown page