وهذا ما نعنيه بعفو الثناء: ثناء لا يأتي بشيء من عنده ولا يخلق الواقع الذي يثني عليه، ولكنه يكرره في صورة من صور الخيال تعلق به كما تعلق الحواشي والأهداب بالصورة التي تبعث من شهادة الحس ومن تحصيل الحاصل، فهي توحي إلى الأذهان أن تعيد أوصافها بلون من ألوان الخيال.
فالنجاح والتفوق في حياة الممثل شكسبير آية من آيات هذا الاستعداد العجيب؛ لأنه نجاح لم يحرم صاحبه حظا من الثقة والحمد بين زملائه المتخلفين عنه، ومنهم من ذهب إلى نهاية الشوط يوم كان هذا الطارئ على الفن يخطو على خشبات المسرح خطو المبتدئين المتطفلين، ولعله لم يبلغ في دور من الأدوار غاية شوطه، ولكنه لم يجهل مداه من هذه الصناعة، ولم يخطئ فيما هو قادر عليه وما هو عاجز عنه من أشواطها، فأعطاه التمثيل قصارى ما يعطيه من علمه وعمله وجدواه.
ونجح شكسبير وتفوق في منافسة أخطر من منافسة الزملاء على خشبة المسرح، وهي منافسته لأكبر الزملاء في تأليف المسرحيات، ونجاحه على الرغم من ذلك في كسب الثقة والحمد منهم، وأكثرهم قد سبقوه إلى التأليف كما سبقوه في مؤهلات الشهرة والدعوى، فمضى في التأليف قدما وتخلف وراءه أعلام مبرزون من طبقة مارلو وفلتشر وبوشي وناش ودرايتون ولايلي وبيل وكيد وبن جونسون وروبرت جرين، وفيما عدا هذا الأخير لم ينقم عليه نجاحه وتفوقه أحد من هؤلاء الأعلام، ولم نسمع من شكسبير كلمة تشف عن نقمة من هذه المنافسة أو ضيق بتكاليفها.
وليس شكسبير المؤلف بصاحب الفضل في هذه الصلة النادرة بينه وبين زملائه، فإن الإبداع في التأليف لم يكن يوما من الأيام ضمانا للحمد والثقة بين المتنافسين، وإنما الفضل لخليقة في الرجل تكسر حدة الغيرة وتفل سلاح العدوان وتوصد باب اللجاجة في الخصومة على من يفتحه بغيا عليه.
تلك - فيما نحسب - خليقة الجد والدأب مع ثقة بالنفس وشعور بالمناعة يدعوه إلى المسالمة ولا يستجيش فيه ثورة النضال ما دام في أمان من قدرته على عمله.
وخليقة الجد والدأب تشغله ولا ريب عن صغائر الكيد ولغو الفضول في غير طائل؛ لأن قرابة أربعين رواية وديوانا في نحو عشر سنوات عمل شاغل يضاعفه عمل التمثيل والإدارة وتدبير أمر الأسرة التي يعولها في أزمتها، ولكنه عمل شاغل له لا يشغل منافسيه عن الافتيات عليه وتضييع وقته، لولا عصمة من مناعته وثقة منه بنفسه وثقة منهم بفضله، وعزوف ينحيه عن طريق الثرثرة واللغط، وييئسهم أن ينالوا منه بعدوان لا يضيره ولا يسلمون من مذمته.
وربما كان للرجل شأن غير هذا الشأن لو أن رسالته في الحياة كانت رسالة دعوة إلى عقيدة جديدة أو نقض لفكرة مخالفة، أو لو أنه كان مطبوعا على مزاج الدعاة المصلحين الذين يحسون الأخطاء والعيوب في أعمال الناس وأفكارهم فلا يملكون الصبر عليها ولا يهدأون أو يزيلوها ويتجردوا ليلهم ونهارهم لتبديلها.
فإن صاحب الدعوة إلى تبديل الأفكار مدفوع إلى الغضب والإغضاب يثور على مخالفيه ويثيرهم عليه، ويصدم شعورهم وتفكيرهم ويتلقى صدماتهم لشعوره وتفكيره، وليس في مقدوره أن يتجنب النضال أو يسكن إلى حياة المسالمة أو الموادعة؛ لأن السكينة وتحريك الأفكار للدفاع والهجوم نقيضان لا يتفقان.
ومن كان مطبوعا على مزاج الدعاة المصلحين فهو منذور لحياة القلق والنضال لاعتقاده أن الإصلاح ضربة لازب وأن الشرور تنتهي على أيدي المصلحين وتنقضي بانقضاء الزمن الذي هي فيه، وربما تجرد للإصلاح وهو لا يؤمن كل الإيمان بزوال الشرور على يديه أو على أيدي المصلحين من بعده، ولكنه يتجرد لجهاده لأنه لا يطيق التوفيق بين حالته وحالة زمنه، ولا يخشى من الجهاد قلقا أشد عليه من قلق الصبر على ما يخالفه ويستثير سخطه على قومه.
أما شكسبير فلم تكن رسالته دعوة يثيرها بل كانت رسالة عمل يؤديه، فإذا صور الدنيا على صورتها فقد وفى عمله كل حقه ورفع المرآة الصادقة أمام دنياه لتصلح من أمرها ما تريد، وإذا بدا لدنياه أنها راضية عن عيوبها لم يعجلها عن هذا الرضا وتركها على مهل إلى اليوم الذي تتبدل فيه على مهل؛ لأنها لن تدوم على حال.
Unknown page