ومن الواضح أن حركة الإنسانيين لا تقوم في مبدئها بمعزل عن أنصار المعرفة وأنصار الإقبال على الحياة، فهي في بواعثها ووسائلها حركة من حركات العلم واليسار، ويكفي أن نلم بأسماء بعض القائمين علياه لنعلم أنها رسالة المعرفة في عصر الفتح والإقدام والتطلع إلى المستقبل على ثقة ورجاء ، فقد كان الشابان اللذان نقلا الموشحة من أرفع طبقات النبلاء المثقفين، وكان رائدهما الأول - سير فيليب سدني - وزيرا من كبار وزراء المملكة، وعناه من أجل هذا أن يكتب رسالته المشهورة في الدفاع عن صناعة القريض، وكان مما قاله فيها: إن اسم الشاعر باللغة اللاتينية كفيل أن يدل على قداستها في نظر الأقدمين؛ لأنه اسم يشير إلى الإلهام والنظر أو النبوءة، وقريب منه في جلالة شأنه اسم الشاعر باللغة الإغريقية؛ لأنه يفيد معنى الصانع ويشبه معنى الخلق في مجاراة الطبيعة والتفوق عليها، واستطرد من الكلام على الشعر في اللاتينية والإغريقية إلى الكلام على الشعر المقدس في العبرية، فذكر منه المزامير، وقال إنها من الكلام الموزون، فلا يجوز الغض من صناعة تختارها لغات الحضارة والعقيدة للتعبير عن أشرف المقاصد وأرفع الأفكار.
ولولا قوة الإنسانيين في المجتمع الحديث لما تسنى لسلطان الدولة برمتها أن يعزز الدعوة إلى إحياء الفنون والعلوم والإقبال على الحياة في وجه الجامدين المتعصبين للتقاليد بين شعب مشهور بالمحافظة عليها والتريث في تبديلها، أو في وجه المجددين الذين أرادوا التجديد في شعائر الدين؛ سخطا على رذائل البذخ والفساد التي استرسل فيها فريق من أقطاب الدين قبيل عصر النهضة وفي إبان ذلك العصر المتناقض العجيب.
ولقد كاد مجلس المدينة يتمرد على أوامر الملكة لما أذنت للممثلين أن يعرضوا صناعتهم داخل أسوار العاصمة، فإن التمثيل كان عند المحافظين المتشددين محسوبا من صناعات الخلاعة والابتذال، وكان الممثلون يسلكون في عداد الأفاقين والشطار واللصوص، ويطاردهم الشرطة ما لم تكن في أيديهم شهادة بالانتماء إلى أحد النبلاء وذوي الأقدار يقبلهم للتمثيل في قصره بين خاصته وذويه، وظل الحال كذلك إلى ما قبل نهاية القرن السادس عشر بقليل، ولعل المحافظين لم ينكروا تلك الصناعة اعتسافا في أيام المتطهرين وما قبلها؛ لأن التمثيل إنما كان نوعا من أنواع التهريج والشعوذة والألعاب البهلوانية قبل أن تستقل الرواية المهذبة بفن المسرح بزمن طويل، وكان المشتغلون به يرودون المدن والقرى متنقلين في الفرق الجوالة ولا تؤمن طائلتهم إذا سنحت لهم غرة من سكان الحضر والريف.
على أن المثقفين من دعاة الإحياء والإقبال على الحياة لم يكن في طاقتهم أن ينهضوا بهذا الفن لو كان قصارى الأمر فيه أنه دعوة من دعوات المعرفة والذوق تروجها فئة من السادة والعلماء. وإنما نجحوا في دعوتهم لأنها صادفت رغبة قوية بين سكان مدينة تمتلئ عاما بعد عام بألوف الوافدين من أنحاء المملكة في طلب العمل واللهو الجديد، ويكاد أن ينحصر في فن التمثيل وأن يكون في هذا الفن تلبية لشوق الوطن كله إلى تمثيل مفاخر القوم وتصويرها على المسرح في صور المجد والبطولة، وكان هذا الباب من أبواب الرواية المسرحية فنا تمليه رغبة الجمهرة الغالبة من العامة والسواد؛ إذ لم يكن معهودا في روايات الإغريق والرومان، ولم يكن مما يشتغل به هواة الفن في الجامعات والقصور، وهم الذين اشتهروا يومئذ باسم أذكياء الجامعة
University wits
وعالجوا التمثيل كما عالجوا التأليف.
ويصح أن يقال إن العلية والسواد معا كانوا يدا واحدة في تشجيع هذا الفن الجديد، وإن معارضيه من المتطهرين لم يخذلوه بمعارضتهم بل أضافوا إلى لذات الإقبال عليه لذة الثمرة المحرمة التي لا تباح كل الإباحة ولا تحرم كل التحريم.
أسرة شكسبير
كاتب الأعاجيب ليس في سيرته خبر عجيب.
يقال هذا ويعاد في مفتتح السير التي تروي لنا عجائب الأخبار في الواقع والخيال، ويصدق على فئة كبيرة من أعلام الشعراء والكتاب يصفون لنا أبطال العظائم والغرائب، ويخلقون لنا من أخيلتهم سيرا تشوقنا بما تعمله أو بما تلقاه من صروف المحن والتجارب، ونعود إلى سيرتهم في وقائعها وأخبارها فنعجب لخلوها من العجائب، ونحار كيف نضعها مع السير التي وصفوها لنا كما خلقها الله أو وضعوها لنا كما خلقوها من صنع القريحة والخيال.
Unknown page