وفرانسي تقضي ساعات كثيرة في سعادة تجذب تلك المصاريع ذات المفصلات، ثم تراقبها وهي تنطوي مرتدة مرة أخرى بلمسة من يدها، وترى في ذلك عجيبة لا يملها النظر قط، تلك المصاريع التي تستطيع أن تغطي النافذة كلها وتحجب الضوء والهواء، ثم تستطيع بالرغم من ذلك أن تنطوي على نفسها في بيتها الصغير، وتبدو للعين واجهة زهت بإطار ساذج.
وللبهو موقد منخفض بني داخل مدفأة من الرخام الأسود، ونصف الموقد الأمامي هو الذي يظهر للعين فحسب، كان شبيها ببطيخة هائلة الحجم شطرت نصفين وبرز جانبها المستدير، وكان يشتمل على نوافذ عديدة من غراء السمك، لها إطار رفيع من الحديد المنقوش.
وفي عيد الميلاد، وهو الوقت الذي تستطيع فيه كاتي أن تتحمل نفقات إشعال النار في البهو فتتوهج النوافذ جميعا، كانت فرانسي تشعر بسرور عظيم وهي تجلس هناك تنعم بالدفء، وتراقب النوافذ حين يستحيل لونها الوردي الأحمر إلى كهرماني أصفر عندما تذوي النار.
وعندما كانت كاتي تدخل وتضيء مصباح الغاز، فتنمحي الظلال ويشحب الضوء في نوافذ الموقد، كانت فرانسي تحس كأنما اقترفت بهذه الفعلة إثما عظيما.
وكان البيانو أروع شيء في الحجرة الأمامية، كان معجزة تصلي من أجلها طول حياتك، وهيهات أن تتحقق، ولكنه كان ماثلا هناك في بهو بيت نولان، معجزة مجسمة أتت بلا أمنية أو صلاة؛ ذلك أن السكان السابقين تركوا البيانو؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا نفقات نقله.
ونقل البيانو في تلك الأيام مسألة من المسائل التي تقتضي العناء والتفكير، ولم يكن من المستطاع الهبوط بالبيانو على ذلك السلم الضيق المنحدر؛ إذ يقتضي الأمر حزمه وربطه بالحبال، ثم رفعه وإخراجه من النوافذ بمعونة بكرة ضخمة معلقة بالسقف، ويتم ذلك في كثير من الضجيج والتلويح بالأيدي ولبس الخوذ فوق رأس رئيس الحمالين، ويقتضي الأمر أيضا أن يخلو الشارع من المارة حين ينقل بيانو، ويرد الشرطي جماهير الناس إلى الوراء ولا يسع الأطفال إلا الروغان من المدرسة، وهناك دائما تلك اللحظة المشهودة حين تهتز تلك الكتلة المحزومة وهي خارجة من النافذة، وتضطرب في الهواء لحظة كأنما هي تترنح قبل أن تستوي، ثم تبدأ هبوطها البطيء المحفوف بالخطر، وينطلق الأطفال مهللين بأصوات خشنة غليظة.
وكان ذلك العمل يتكلف خمسة عشر دولارا، أي ثلاثة أضعاف ما يتكلفه نقل بقية الأثاث جميعا؛ ولذلك سألت صاحبة البيانو كاتي عما إذا كان في إمكانها أن تتركه، على أن تعنى به كاتي، وفرحت كاتي وهي تعاهدها على ذلك، وطلبت المرأة في قلق من كاتي ألا تتركه للبرودة والرطوبة، وأن تفتح أبواب غرف النوم في الشتاء حتى تتسرب بعض حرارة المطبخ إليه، وتمنع عنه الالتواء والانثناء، وسألتها كاتي: هل تستطيعين العزف عليه؟
وقالت السيدة في أسف: لا، لا أحد في الأسرة يستطيع أن يعزف، ليتني كنت أستطيع. - لماذا اشتريته إذن؟ - كان في بيت بعض الأثرياء وعرضوه للبيع بثمن بخس، وكنت أرغب كل الرغبة في اقتنائه، لا، لا أستطيع أن أعزف عليه، ولكنه كان جميلا جدا يضفي على الغرفة بأكملها جمالا وبهاء.
ووعدت كاتي بأن تتعهده خير تعهد، حتى يتسنى للمرأة أن ترسل في طلبه، ولكن ذلك لم يحدث، ولم ترسل المرأة في طلبه قط، وامتلكت أسرة نولان ذلك البيانو الجميل.
وكان البيانو صغير الحجم صنع من خشب مطلي باللون الأسود، ولكنه كان يتألق بالرغم من سواده، وكانت واجهته المغطاة بقشرة رقيقة من الخشب النفيس، قد صنعت بحيث تصور رسما جميلا محلى بحرير وردي داكن، تحت هذا الرسم المنقوش في الخشب، ولم يكن غطاؤه من النوع الذي يطوى إلى الخلف في تكسر كالأجهزة الرأسية الأخرى، وإنما كان يدار إلى الخلف فحسب، ويستند على الخشب المرسوم كدرع مطلية جميلة داكنة اللون، وكان هناك حامل للشمعة على كل جانب، فتستطيع أن تضع فيه شموعا بيضاء خالصة، وتعزف في ضوء الشموع الذي يسقط ظلالا حالمة على المفاتيح العاجية البيضاء في لون الزبد، وتستطيع أن ترى المفاتيح أيضا منعكسة على الغطاء الداكن اللون.
Unknown page