وقد فرض على فرانسي ونيلي قبل الذهاب إلى النوم أن يقرآ صفحة من الإنجيل وصفحة من شكسبير، وكانا قد درجا على هذه العادة، فقد تعودت الأم أن تقرأ لهما الصفحتين كل مساء، حتى كبرا واستطاعا أن يقرآ بمفردهما، وقرأ نيلي صفحة الإنجيل، وقرأت فرانسي صفحة شكسبير اقتصادا للوقت، وظلا مستمرين على هذه القراءة منذ ست سنوات، حتى وصلا إلى منتصف الإنجيل وإلى مسرحية ماكبث من مسرحيات شكسبير الكاملة، وتسابقا في القراءة، وما إن حلت الساعة الحادية عشرة، حتى كانت أسرة نولان جميعا قد ذهبت إلى الفراش، ما عدا جوني الذي لا يزال في عمله.
وكان يسمح لفرانسي في ليالي السبت أن تنام في الحجرة الأمامية، فحملت مقعدين وضمتهما لتصنع سريرا أمام النافذة، حيث تستطيع أن تراقب الناس في الشارع، وكانت، وهي راقدة في مكانها، تستمع إلى الأصوات المنبعثة في الليل من المنزل؛ أناس يدخلون ويذهبون إلى شققهم، بعضهم متعب يجر قدميه جرا، وبعضهم يصعد السلم جريا في خفة، أحدهم تعثرت قدمه فلعن المشمع الممزق الذي يغطي أرض الصالة، وبكى طفل في شيء من التصنع، وأخذ رجل مخمور في إحدى الشقق السفلية يسرد في إيجاز الحياة الآثمة التي زعم أن زوجته عاشتها.
وسمعت فرانسي في الثانية صباحا صوت أبيها يغني في رقة وهو يصعد السلم: ... مولي مالون الجميلة.
تقود عربة اليد ذات العجلات،
وتخترق الشوارع واسعها وضيقها،
باكية منتحبة ...
وفتحت الأم الباب عند كلمة «باكية»، وكان ذلك من الأب على سبيل المباراة، فإذا ما فتحوا له الباب قبل أن ينتهي من إنشاده، فازوا، أما هو فيفوز إذا فرغ من غنائه وهو في البهو.
ونهض نيلي وفرانسي من فراشهما وجلس الجميع حول المائدة، وأكلوا بعد أن وضع الأب على المائدة ثلاثة دولارات، وأعطى لكل طفل خمسة سنتات، ثم حملتهما الأم على أن يضعاها في الحصالة المصنوعة من القصدير، مبينة أنه قد سبق لهما أن تسلما في ذلك اليوم مالا من بيع النفايات، وأحضر الأب معه إلى البيت حقيبة من الورق ممتلئة بالطعام المتبقي من حفل الزفاف؛ لأن بعض المدعوين لم يحضروا، فوزعت العروس الطعام الفائض على الخدم، وكان يحتوي نصف سرطان بحري مشوي بارد، وخمس محارات مقلية متجمدة، ووعاء يحتوي مقدار بوصة من الكافيار، وقطعة من جبن الروكفور. ولم يكن الطفلان يحبان السرطان البحري، ولم يكن للمحار البارد أي طعم يسيغان، وبدا الكافيار مملحا أكثر مما ينبغي، ولكن الجوع كان قد بلغ بهما مبلغه فأتيا على كل ما احتوته المائدة، بل هضماه أيضا خلال الليل، وكان في إمكانهما أن يهضما المسامير لو استطاعا أن يمضغاها.
وبعد أن أكلت فرانسي واجهت الحقيقة أخيرا، وهي أنها قد أفسدت الصيام الذي بدأته في منتصف الليل، وكان يجب أن تستمر فيه إلى ما بعد قداس الصباح التالي، وبذلك فهي لا تستطيع أن تتناول القربان المقدس، وهذه خطيئة صريحة يجب أن تعترف بها للقسيس في الأسبوع التالي.
وعاد نيلي إلى فراشه وواصل نومه العميق، أما فرانسي فقد ذهبت إلى الحجرة الأمامية المظلمة وجلست بجوار النافذة، ولم تشعر برغبة في النوم، وجلس الأب والأم في المطبخ، وكانا خليقين بأن يجلسا هناك وأن يتحدثا حتى تبدأ تباشير الصباح، وكان الأب يحكي عن عمله في تلك الليلة، والناس الذين رآهم وكيف بدوا له وكيف كانوا يتحدثون، ولم تر أسرة نولان الكثير من الحياة، كانوا يعيشون حياتهم بكل ما فيها، ولكن ذلك لم يكن كافيا، فعليهم أن يكملوها بحياة جميع الناس الذين يتصلون بهم.
Unknown page