ومرا بمحل جابريل للأدوات المعدنية وتوقفا لينظرا إلى قباقيب الانزلاق في النافذة، إن أمها لا تجد وقتا لمثل هذا الترف، وتكلم أبوها كما لو كان خليقا بأن يشتري لها زوجا في يوم من الأيام، وسارا إلى المنعطف، وعندما أقبل التروللي الذي يصل إلى شارع جراهام، قفز جوني إلى داخل التروللي الذي كان يبطئ في سيره، وحينما سارت العربة مرة أخرى وقف في ممر العربة الخلفي ممسكا بالقضيب، على حين مال بجسمه إلى الخارج ولوح بيده لفرانسي، ودار بخلدها أنه ما من رجل مثل أبيها في ظرفه وأناقته.
4
وبعد أن ودعت فرانسي أباها، ذهبت لترى أي نوع من الحلل أعدتها فلوس جاديس للرقص في ذلك المساء.
وكانت فلوس تعول أمها وأخاها باشتغالها قلابة قفازات في مصنع لقفازات الأطفال، وكانت القفازات في هذا المصنع تحاك مقلوبة، وعليها هي أن تردها إلى وضعها الصحيح، وكثيرا ما كانت تعود بشغلها إلى البيت لتنجزه ليلا؛ لأن أسرتها كانت تحتاج إلى كل سنت تحصل هي عليه، فقد كان أخوها لا يستطيع العمل؛ لأنه مريض بالسل.
وكانت فرانسي قد علمت أن هني جاديس موشك على الموت، لكنها لم تصدق ذلك؛ لأن الموت لم يكن باديا عليه، فقد كان مظهره رائعا حقا، له بشرة صافية، وخدان جميلان مشربان بالحمرة، وعينان واسعتان داكنتان، ينبعث منهما شعاع دائم كأنه شعلة مصباح مكنون بعيد عن الريح، ولكنه كان يعلم مصيره، وكان قد بلغ التاسعة عشرة من عمره، يقبل على الحياة ويشتهيها، ولم يستطع أن يفهم لم كتب عليه هذا المصير، وسعدت السيدة جاديس حين رأت فرانسي، وكانت تعلم أن هني ينشغل عن أفكاره في وجود الآخرين، وصاحت في مرح: «هني، إن فرانسي هنا.» - أهلا فرانسي. - أهلا هني. - ألا ترين يا فرانسي أن هني يبدو في صحة جيدة، قولي له إنه يبدو في صحة جيدة. - إنك تبدو في صحة جيدة يا هني.
وقال هني كأنما يخاطب شخصا لا تراه العين: إنها تقول لرجل يحتضر إنه يبدو في صحة جيدة. - أنا أعني ما أقول. - لا، إنك لا تعنين ما تقولين، وإنما تقولين بلسانك فحسب. - كيف تقول ذلك يا هني؟ انظر إلي، ألا تراني مع شدة نحول جسمي لا أفكر في الموت أبدا. - لن تموتي يا فرانسي، إنك ولدت لتنتصري على هذه الحياة الفاسدة. - ومع ذلك كله لا أزال أتمنى أن يكون لي خدان متوردان جميلان مثلك. - لا، أنت لا تتمنين ذلك، وخاصة إذا علمت سر توردهما.
وقالت أمه: هني، عليك أن تطيل الجلوس على السطح.
وخاطب هني ذلك الشخص الوهمي الذي لا تراه العين: إنها تقول لرجل يحتضر إنه يجب عليه أن يجلس على السطح! - إن ما تحتاج إليه هو الهواء النقي وأشعة الشمس. - دعيني وشأني يا أماه. - إن ما أقوله في مصلحتك. - أماه، أماه، دعيني وشأني دعيني وشأني.
ثم مال برأسه فجأة متكئا على ذراعيه، وراح ينتزع من أعماقه في ألم مبرح نشيجا يختلط بالسعال، وتبادلت فرانسي وأمه النظرات، ووافقتا في صمت على أن يدعاه وشأنه، وتركتاه يسعل وينتحب في المطبخ، وذهبتا إلى الحجرة الأمامية لتطلع المرأة فرانسي على الأثواب.
وكانت فلوس تقوم بثلاثة أعمال كل أسبوع، عمل تؤديه في مصنع القفازات، وعمل تقوم به في حياكة أثوابها، وعمل تعمله في سبيل الفوز بفرانك، وكانت تذهب إلى حفلة تنكرية في كل ليلة من ليالي السبت، وهي تلبس ثوبا مختلفا كل مرة، وكانت الأثواب تصمم بطريقة خاصة لتخفي ذراعها اليمنى المشوهة، فقد سقطت إبان طفولتها في غلاية للغسيل بها ماء حارق، تركت في إهمال على أرض المطبخ ، واحترقت ذراعها اليمنى احتراقا بشعا، وشب عودها وذراعها يكسوها جلد مجعد أرجواني اللون؛ ولهذا كانت تلبس القفازات الطويلة دائما.
Unknown page