وكان المخبز الصغير مليئا بالذين يشترون الخبز المصنوع من الجويدار، وشاهدت فرانسي البائع وهو يدس ربع رغيفها في كيس من الورق، وظنت أنه بلا شك أروع خبز في العالم، وهو طازج بقشرته العجيبة الفضية الهشة وقعره المغطى بالدقيق، ودخلت حانوت سوروين في إحجام وتردد، فقد كان أحيانا يبيع اللسان بثمن مناسب وأحيانا يبيعه بثمن غير مناسب؛ ذلك أن شرائح اللسان يباع الرطل منها بخمسة وسبعين سنتا، وهو ثمن لا يناسب إلا الأغنياء، ولكنك كنت تستطيع بعد أن يوشك الرجل على بيع اللسان كله، أن تشتري طرفه المربع بخمسة سنتات فحسب، لو أنك ساومته. ولم يكن يبقى بطبيعة الحال من طرف اللسان شيء اللهم إلا غضاريف صغيرة معظمها رخو، وليس به إلا أثر يسير يذكرك باللحم. وتصادف أن كان ذلك اليوم من الأيام التي يكون فيها سوروين معتدل المزاج وديعا، وقال الرجل لفرانسي: لقد نفد اللسان بالأمس، ولكني حفظته لك؛ لأني أعلم أن أمك تحب اللسان أخبري أمك بهذا.
وهمست فرانسي: نعم يا سيدي.
وأطرقت وهي تحس بالحرارة تسري في وجهها، لقد كرهت سوروين، ولم تصح نيتها على أن تنبئ أمها بما قال.
واختارت فرانسي حين وصولها إلى الخباز أربع كعكات صغيرة، وأخذت تنتقي بعناية الكعكة التي يغطيها السكر أكثر من غيرها، وقابلت نيلي خارج المخبز، واختلس نيلي نظرة إلى داخل الحقيبة ، ثم قفز من الفرح حين رأى الكعك، وبالرغم من أنه أكل في ذلك الصباح حلوى قيمتها أربعة سنتات، فإنه كان يشعر بجوع شديد، وحمل فرانسي على أن تجري الطريق كله إلى البيت.
ولم يعد أبوها إلى البيت وقت الغداء، وكان نادلا يغني بالقطعة، ومعنى ذلك أنه لم يكن يعمل في كثير من الأحيان، وكان يقضي عادة صباح يوم السبت في مكتب العمل ينتظر عملا يوكل إليه.
وحظيت فرانسي ونيلي وأمهما بأكلة شهية جدا، أخذ كل منهم شريحة سميكة من اللسان، وقطعتين من خبز الجويدار الطيب الرائحة تغطيها طبقة من الزبد غير المملح، وأصاب كل منهم كعكة من كعك السكر ثم فنجانا من القهوة الساخنة ممزوجة بملعقة من اللبن المركز المحلى بالسكر.
وكان لأسرة نولان فكرة خاصة عن القهوة، فقد كانت متعتهم الوحيدة الكبرى، تصنع الأم منها كل صباح ملء وعاء كبير، ثم تعيد تسخينه للغداء والعشاء، فتصبح القهوة أكثر تركيزا كلما انقضى اليوم، وكانت الأم تضع كمية هائلة من الماء على كمية قليلة جدا من اللبن، ولكنها كانت تضيف إليهما قطعة من الشيكوريا تجعل لها طعما مركزا مرا، وتسمح لكل فرد أن ينال ثلاثة فناجين منها مع اللبن، ويمكن في الأوقات الأخرى أن ينال المرء فنجانا إضافيا من القهوة السوداء في أي وقت يشاء. وإنك في بعض الأحيان، حين تكون خلي البال والجو ممطرا والشقة خاوية إلا منك، تشعر بالثقة إذ تعلم أنك تستطيع أن تصيب شيئا، حتى ولو لم يكن سوى فنجان من القهوة المرة السوداء.
وكان نيلي وفرانسي يحبان القهوة، ولكنهما قلما كانا يشربانها، وترك نيلي اليوم كشأنه دائما فنجان قهوته على حاله، والتهم نصيبه من اللبن المركز واضعا إياه على الخبز، ورشف من القهوة السوداء جريا على العرف، وأفرغت الأم لفرانسي قهوتها ومزجت بها اللبن، بالرغم من أنها كانت تعلم أن الطفلة سوف لا تشربها.
وكانت فرانسي تحب نكهة القهوة وسخونتها، فبينما كانت تأكل خبزها وقطعتها من اللحم، تركت يدها مثنية تلتف حول فنجان القهوة مستمتعة بدفئها ، ومن حين إلى حين تشم نكهة حلاوتها الممررة، وكانت تؤثر ذلك على احتسائها، وكان مصير القهوة بعد فراغها من طعامها إلى البالوعة.
وكان للأم أختان: هما سيسي وإيفي، تأتيان إلى الشقة في كثير من الأحيان، وكانتا في كل مرة تريان فيها القهوة تنتهي إلى هذا المصير، تعطيان الأم محاضرة في الإسراف، وشرحت الأم لهما الأمر قائلة: إن فرانسي يخصها في كل وجبة فنجان من القهوة مثل الباقين، وإذا كانت تؤثر إلقاءها في البالوعة على احتسائها، فلا ضير من ذلك، وإني أظن أنه من الخير لأناس مثلنا أن يبددوا شيئا من حين لآخر، ويستمتعوا بشعور الذين يتوافر لديهم مال وفير، ولا يشغلون أنفسهم بالتقتير.
Unknown page