وتساءلت فرانسي عما إذا كان يجدر بها أن تضحي ببنس مما معها من أجل تحفة جيمبي الخاصة، وهي الحقيبة الفائزة، وكانت مودي دونافان التي كانت ذات يوم صديقة فرانسي على وشك أن تبتاع شيئا، فشقت فرانسي طريقها إلى الداخل حتى وقفت خلف مودي، وتظاهرت بأنها تنفق البنس، وكتمت فرانسي أنفاسها حين أشارت مودي بطريقة مسرحية بعد تفكير طويل إلى حقيبة بارزة في نافذة العرض، كانت فرانسي خليقة بأن تنتقي حقيبة أصغر حجما، ونظرت من فوق كتف صديقتها، ورأتها تلتقط قليلا من قطع الحلوى القديمة، وتفحص جائزتها التي كانت منديل يد من الكتان الخشن، وحصلت فرانسي مرة على زجاجة صغيرة من عطر له رائحة نفاذة، وتساءلت مرة أخرى أيصح لها أن تنفق بنسا لتنال جائزة تفوز فيها بالحقيبة، وكان جميلا أن تفاجأ بالجائزة وإن لم تستطع أن تأكل الحلوى، لكن فرانسي رأت حين تدبرت الأمر أن المفاجأة كانت في وجودها مع مودي وهي تشتري، وكان هذا لا يكاد يقل جمالا عن مفاجأة الجائزة.
وسارت فرانسي صاعدة في شارع مانهاتان تقرأ بصوت عال أسماء الشوارع ذات الجرس الجميل، وهي تمر بها: سكولز، ميزيرول، مونتروز ثم شارع جونسون، وكان الإيطاليون يقطنون في الشارعين الأخيرين، وكانت الضاحية المسماة بمدينة اليهود تبدأ من شارع سيجل وتشمل شارع مور وشارع ماكيبن حتى شارع برودواي، واتجهت فرانسي تلقاء برودواي.
وماذا كان هناك في شارع برودواي في حي ويليمسبرج ببروكلين؟ لا شيء، اللهم إلا أجمل محل في العالم يبيع بضائعه بعشرة أو خمسة سنتات، وكان محلا كبيرا تتلألأ أنواره، وبه كل شيء في العالم، أو هكذا خيل لفتاة في الحادية عشرة من عمرها، وكانت فرانسي تمتلك عشرة سنتات، تمتلك قوة ... تستطيع أن تشتري أي شيء تقريبا في ذلك المحل، وكان هو المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك.
ووصلت فرانسي إلى المحل، وأخذت تتجول بين أقسامه ذهابا وإيابا، تمسك بأي سلعة يهفو إليها خيالها، يا له من شعور رائع تحسه حين تلتقط شيئا ما وتمسكه بيديها لحظة، تتحسس هيكله وتجري يدها على سطحه، ثم تعيده إلى مكانه في حرص وعناية، وكانت السنتات العشرة التي معها تمنحها هذا الامتياز، فإذا ما سألها سائل إذا كانت تنوي شراء شيء فإنها تستطيع أن تقول نعم، وتشتريه مشيرة إلى شيء أو شيئين، وقررت فرانسي أن المال شيء عجيب، واستقر رأيها بعد فترة من المتعة العارمة في لمس الأشياء، على أن تشتري رقائق من النعناع قرنفلية اللون مقابل خمسة سنتات.
وعادت فرانسي إلى بيتها هابطة طريق جراهام وشارع غيتو، وبهرتها عربات اليد الممتلئة بالسلع، وكل عربة في ذاتها بمثابة محل صغير، زاخرة ... بالمساومات، واليهودي الحاد المزاج، والرائحة الغريبة التي تنبعث من المنطقة المجاورة، رائحة السمك المطهو، وخبز الجويدار الحريف حين يخرج طازجا من الفرن، ونفذت إلى أنفها رائحة تشبه رائحة العسل وهو يغلي، وحملقت فرانسي في الرجال الملتحين وعلى رءوسهم قلانس مصنوعة من صوف الباكاه، يرتدون معاطف من قماش السلكلين، وتساءلت في عجب عما جعل عيونهم ضيقة إلى هذا الحد ، تنبعث منها تلك النظرات النفاذة، ونظرت من خلال الفتحات الصغيرة في جدران المحال، وشمت رائحة أقمشة الأردية التي وضعت بغير نظام على المناضد، ولاحظت الأسرة المصنوعة من الريش تبرز خارج النوافذ، والملابس ذات الألوان الشرقية الزاهية منشورة على سلم الطوارئ، والأطفال أنصاف العرايا يلعبون في بالوعات المياه، وقد جلست على حافة الطريق على كرسي خشبي صلب امرأة تحمل في أحشائها طفلا؛ جلست في صبر تحت أشعة الشمس الدافئة، تراقب الحياة الجارية في الشارع، وترعى ما يستكن في أعماقها من سر حياتها.
وكانت الساعة الثانية عشرة حين وصلت فرانسي إلى بيتها، وأقبلت أمها بعد مجيئها مباشرة تحمل دلوها ومكنستها، وضربت بهما في الركن، تلك الضربة الأخيرة التي تعني أنها لن تمسهما مرة أخرى حتى يوم الإثنين.
وكانت أمها في التاسعة والعشرين من عمرها، سوداء الشعر، داكنة العينين، يداها سريعتا الحركة، وكانت جميلة الشكل أيضا، تعمل خادمة وتنظف ثلاثة بيوت مستأجرة، ترى هل يطرأ ببال أحد قط أن أمها تمسح الأرض لتعولهم هم الأربعة؟ كانت جميلة، خفيفة، مليئة بالحياة، تفيض بالمرح والنشاط دائما، وكانت يداها جميلتين وأظافرهما جميلة بشكلها المقوس البيضاوي بالرغم من أن يديها كانتا حمراوين مشققتين من أثر استعمال الماء الممتزج بالصودا، وكان كل شخص يقول إنه لأمر يستدر الشفقة أن امرأة خفيفة جميلة مثل كاتي نولان، تقتضيها الظروف أن تسعى لتمسح الأرض، ولكنهم كانوا يتساءلون: ماذا عسى أن تعمل ولديها ذلك الزوج الذي تعوله؟ وكانوا يعترفون أن جوني نولان رجل وسيم محبوب أفضل بكثير من أي رجل في الحي، بصرف النظر عن اختلاف نظرة الناس إليه، ولكنه كان سكيرا. ذلك ما كانوا يقولونه، وكان قولا حقا.
وتعمدت فرانسي أن تجعل أمها تشاهدها وهي تضع السنتات الثمانية في الحصالة المصنوعة من القصدير، واستمتعتا بخمس دقائق طيبة تخمنان فيها قيمة النقود التي في الحصالة، وظنت فرانسي أنه لا بد أن يكون فيها ما يقرب من مائة دولار، ولكن أمها قالت إن ثمانية دولارات ربما تكون أقرب رقم إلى الحقيقة.
وأصدرت الأم لفرانسي تعليماتها بشأن الخروج لتشتري شيئا للغداء، قائلة: خذي ثمانية سنتات من الفنجان المشدوخ، واشتري ربع رغيف من الخبز المصنوع من الجويدار وتأكدي أنه طازج، ثم خذي خمسة سنتات واذهبي إلى محل سوروين واطلبي طرف لسان، ولكن يجب أن تلحي وتلحفي لكي تحصلي عليه، ثم أضافت في تصميم وحزم: أخبريه أن أمك هي التي قالت ذلك.
وأخذت تفكر في شيء، ثم قالت: لا أدري هل يجب أن نشتري كعك السكر الصغير بخمسة سنتات، أو نودع هذا المبلغ في الحصالة؟ - أوه يا أماه! هذا يوم السبت، وإنك ظللت تقولين طوال الأسبوع إننا سنأكل الحلوى يوم السبت. - حسنا، أحضري الكعك الصغير.
Unknown page