ولم تكن الشجرة الوحيدة النامية في فناء فرانسي من أشجار الصنوبر ولا من أشجار الشوكران، وإنما كانت أوراقها مدببة الطرف تنمو على سوق خضر تنتشر من الغصن فتجعل الشجرة تبدو للعين كأنها مجموعة من المظلات الخضراء المنبسطة، وقد سماها بعض الناس شجرة السماء؛ لأنها كانت تناضل حتى يبلغ طولها عنان السماء، أيا ما كان الموضع الذي تسقط فيه بذرتها، وكانت تنمو وسط الأحواش وتنبثق من أكوام النفايات المهملة، وإلى جانب ذلك كانت الشجرة الوحيدة التي برزت من الأسمنت ونمت، نمت في نضارة، ولكن في أحياء السكن فحسب.
وإنك لتسير في عصر يوم من أيام الأحد فتبلغ حيا قريبا غاية في الإبداع، وترى الشجرة الصغيرة من تلك الأشجار من خلال البوابة الحديدية المؤدية إلى فناء بيت، فتدرك أن ذلك القطاع من بروكلين سوف يصبح عما قريب حيا من أحياء السكن، وكانت الشجرة تعلم ذلك، إذ كانت أول الساكنين، ثم يتسلل إلى الحي من بعدها أغراب من الفقراء، وتتحول البيوت القديمة الهادئة المشيدة من الحجر الأسمر إلى طوابق، وتدفع الحشايا المصنوعة من الريش إلى الخارج على عتبات النوافذ لتهويتها، وتزدهر شجرة السماء، كانت تلك الشجرة من هذا الطراز، تحب الفقراء من الناس.
أجل، كانت الشجرة التي في فناء فرانسي من ذلك الطراز، كانت أفنانها المتشابكة تلتف حول سلم الطوارئ في الطابق الثالث ومن فوقه ومن تحته، وثمة فتاة في سن الحادية عشرة جالسة على هذا السلم تتخيل أنها تعيش في شجرة، ذلك ما كانت تتخيله فرانسي في عصر كل سبت من أيام الصيف.
ما كان أروع يوم السبت من يوم في بروكلين! وما كان أروعه في أي مكان آخر: كان الناس يتسلمون أجورهم في يوم السبت، وكان يوما من أيام العطلة لا يتسم بما يتسم به يوم الأحد من تزمت، يجد فيه الناس جيوبهم عامرة بالمال، فيخرجون من بيوتهم ويشترون ما يريدون، ويصيبون من الطعام الجيد مرة، ويمعنون في الشراب، ويلتقون على ميعاد، ويمارسون الحب، ويقضون ساعات الليل جميعها يغنون ويعزفون الموسيقى، ويتصارعون ويرقصون، فالغد يوم عطلتهم، وفي مقدورهم أن يناموا إلى وقت متأخر؛ حتى القداس الأخير على أية حال.
وفي يوم الأحد كان معظم الناس يحتشدون في قداس الساعة الحادية عشرة، ولو أن بعضهم أو قليلا منهم، كانوا يذهبون إلى قداس الساعة السادسة في الصباح المبكر، وكانوا يثابون على ذلك، وإن لم يكونوا يستحقون هذا الثواب لأنهم ظلوا خارج بيوتهم إلى الهزيع الأخير من الليل، فعادوا إلى بيوتهم مع الصباح؛ ولذلك ذهبوا إلى هذا القداس المبكر، وانتهوا منه ثم عادوا إلى بيوتهم وناموا النهار كله بنفس راضية.
ويبدأ يوم السبت بالنسبة لفرانسي برحلة إلى بائع النفايات ، وكانت هي وأخوها نيلي - مثل باقي صبية بروكلين - يجمعان الخرق البالية والورق والمعدن والمطاط، وغير ذلك من أنواع النفايات، ويكدسانها في الصفائح المغلقة الموضوعة في بدروم الدار، أو في صناديق يخفيانها تحت الفراش، وكانت فرانسي في أيام الأسبوع جميعا تمشي على استحياء عائدة إلى بيتها من المدرسة، وعيناها مصوبتان إلى كومة القمامة تبحثان عن رقائق القصدير من صناديق السجائر أو أغلفة العلك، وكانت هذه الرقائق تذاب في غطاء إناء من الأواني؛ إذ إن بائع النفايات لم يكن يقبل كرة من الرقائق دون أن تذاب؛ لأن عددا كبيرا من الصبية كانوا يضعون في وسطها حلقات من الحديد لتصبح أثقل وزنا، وأحيانا كان يعثر نيلي على زجاجة من زجاجات ماء سلتزر،
2
فتعاونه فرانسي في استخلاص غطائها وإذابته للحصول على الرصاص، وكان بائع النفايات لا يشتري عنق الزجاجة كاملا؛ لأن ذلك كان يوقعه في مشاكل مع صناع ماء الصودا، وكان غطاء زجاجة سلتزر شيئا قيما، يساوي بعد صهره خمسة سنتات.
وفي كل مساء كانت فرانسي ونيلي يهبطان إلى «الكرار»، ويفرغان الرفوف مما كدس عليها في النهار من نفايات، وكان لهما هذا الامتياز لأن أم فرانسي كانت هي خادمة الدار، ويسلبان من الرفوف الورق والخرق البالية والزجاجات الفارغة، ولم يكن للورق قيمة كبيرة، فقد كانا يتقاضيان عن كل عشرة أرطال منه سنتا واحدا، وعن رطل الخرق البالية سنتين، ورطل الحديد أربعة سنتات، وكان النحاس معدنا له قيمته، الرطل منه بعشرة سنتات، وكانت فرانسي تعثر أحيانا على قاع مهمل من قيعان غلايات الغسيل، فتنتزعه بفتاحة العلب وتثنيه ثم تطرقه، ثم تثنيه وتطرقه مرة أخرى.
وكان الصبية بعد التاسعة من صباح السبت يبدءون مباشرة مسيرهم نحو طريق مانهاتان، وهو الطريق العام الرئيسي، بعد أن تلفظهم الشوارع الجانبية كالرذاذ ويشقون طريقهم في بطء صاعدين في الطريق إلى شارع سكولز، وقد حمل بعضهم النفايات التي جمعها بين ذراعيه، وجر البعض الآخر عربات صنعت من صناديق الصابون الخشبية، لها عجلات متينة من الخشب، ودفع القليل منهم أمامهم عربات صغيرة من عربات الأطفال محملة بالنفايات.
Unknown page