فبصق ضحكة خشنة، وقال: لا فائدة من تجاهل الجماهير. - أتريد أن تبدأ من جديد محاميا؟ - مات القانون قبل الفن، الحق أن مفهوم الفن قد تغير، ونحن لا ندري. عهد الفن قد مضى وانقضى، وفن عصرنا هو التسلية والتهريج، هذا هو الفن الممكن في زمن العلم، ويجب أن تتخلى للعلم عن جميع الميادين عدا السيرك. - الحقيقة أننا نتحطم واحدا بعد آخر. - بل قل إننا بلغنا سن الرشد، انظر إلى نجاحك في الحياة على سبيل المثال، وفي رأيي أن الترفيه غاية جليلة لمتعبي القرن العشرين، وما نظن أنه الفن الحقيقي ليس إلا الضوء القادم من نجم مات منذ ملايين السنين؛ فعلينا أن نبلغ سن الرشد، وأن نولي المهرجين ما يستحقون من احترام. - يخيل إلي أن التفلسف قد قضى على الفن. - بل قضى العلم على الفلسفة والفن، فإلى مسرات التسلية بلا تحفظ، ببراءة الأطفال وذكاء الرجال، إلى القصص الخفيفة، والضحكات المجلجلة، والصور الغريبة، ولنتنازل نهائيا عن غرور الكبرياء وعرش العلماء، ولنقنع بالاسم المحبوب، والمال الوفير.
سرني ذلك رغم الحزن والأسف، مارست بتألم حقيقي العواطف المتضاربة، وفكرت بذهول فيمن ازدرده السجن. الأصلع المحبوب يهبك بلسم العزاء لفشلك، وتفوقا غير متوقع. من غد سوف يطمح إلى القوة التي امتلكها، ولكن بوسيلة أتفه. كما انقلب المتطلع إلى سر الوجود إلى محام ثري غارق في المواد الدهنية. - إن يكن العلم كما تتصور؛ فما نحن إلا طفيليون على هامش الحياة. - نحن رجال ناجحون ذوو سر دفين من الحزن المكبوت، وليس من الحكمة أن ننكأ الجروح. - لكننا ننتمي في الواقع إلى عصر قديم بال. - بالله لا تنكأ الجروح. - العلماء أقوياء بالحقيقة، ونحن قوتنا مستمدة من المال الذي يفقد شرعيته يوما بعد يوم. - لذلك أقول لك: إن الموت يمثل أملا حقيقيا في حياة الإنسان.
ونظر إلى عينيها الخضراوين برقة، وقال: بثينة، هل أطمع أن تعديني بألا تفرطي في دراستك العلمية؟ - أظن ذلك، ولو أن الشعر سيظل أجمل ما في حياتي. - ليكن، لن أجادلك في ذلك، ويمكن أن تكوني شاعرة وفي ذات الوقت مهندسة مثلا. - يبدو أنك مشغول بمستقبلي. - طبعا، لا أحب أن تنتبهي يوما، فتجدي نفسك في العصر الحجري على حين يعيش من حولك في عصر العلم. - لكن الشعر ...
فقاطعها: لن أجادلك يا عزيزتي، صديقي مصطفى يجد في العلم دينا، وشعرا، وفلسفة، لكني لن أجادلك، أنا سعيد بك وفخور.
ها هي الشمس تتهاوى للمغيب، قرص أحمر كبير امتص المجهول قوته وحيويته الباطشة ؛ فرنت إليه الأعين كما ترنو إلى الماء. وتدفقت حوله كثبان السحب وضاءة الحوافي، موردة الأديم في مهرجان من الألوان.
أتريد أن تعرف سري حقا يا مصطفى؟ اسمع عندما أمضني الفشل جريت نحو القوة التي آمنا من قبل بأنها شر يجب أن يزول، ولكنك تعرف سري يا مصطفى.
5
في ضوء الشمس الغاربة تبدت أنيقة وقورا، رغم اكتناز جسمها الطويل، المفصح عن شبع مثير، ورفاهية محنقة. ما كان أرق جمالها! وما زالت على قدر من الجمال بالرغم من ضخامتها غير العادية وانتفاخ وجنتيها. ونظرتها الخضراء الجادة لم تفقد كل سحرها ولكنها غريبة، غرابة مستحدثة لم ترها عينك من قبل. امرأة رجل آخر، رجل الأمس الذي لم يعرف التعب أو الفتور، الذي نسي نفسه. ولكن ما علاقتها بهذا الرجل؟ المريض بلا مرض، المتجنب للدسم والشراب، الذي يتنسم في الهواء المشبع بالرطوبة نذر مخاوف لا حدود لها. والأختان سابقتان، جميلة تمشي على سور الكورنيش الحجري قابضة على يد بثينة التي سايرتها على الأرض، في الطريق ما بين جليم وسيدي بشر الذي يخف به الزحام درجة ما. وأعين كثيرة تطلعت إلى بثينة، وشفاه تمتمت بكلمات لم يميزها، ولكنه يعرفها على أي حال؛ فابتسم من الداخل فحسب. وما هو إلا عامان أو ثلاثة ثم تصير جدا، وتمضي الحياة، ولكن إلى أين؟ والتفت إلى الشمس الغاربة في سماء صافية باهتة لم يعلق بها من الشفق إلا قشرة سطحية استدارت عند الأفق. قال: كان الأقدمون يتساءلون أين تذهب الشمس، ولم نعد نتساءل.
فتطلعت زينب إلى الشمس ثواني، ثم قالت: بديع أن نتخلص من سؤال.
الإجابة العاقلة تخنقك وكأنها تستفزك، التصرفات العاقلة تغضبك بلا سبب. ما أجمل أن يثور البحر حتى يطارد المتسكعين على الشاطئ! وأن يرتكب السائرون على الكورنيش حماقات لا يمكن تخيلها، وأن يطير الكازينو الكبير فوق السحب، وأن تتحطم الصور المألوفة إلى الأبد؛ فيخفق القلب في الدماغ، وتراقص الزواحف العصافير.
Unknown page