فقال الدوق: إنك تبالغ كثيرا يا لبريه في الحزن عليه والرثاء له، فسيرانو رجل عظيم، لا يكترث بآلام الحياة ومصائبها، ولا ينظر إليها بمثل العين التي تنظر بها إليها، ولقد عاش طول حياته حرا مستقلا في آرائه ومذاهبه، غير مبال بما يلاقيه في هذه السبيل من المكاره والآلام، ولا يزال شأنه في حاضره مثله في ماضيه، فاعجبوا به كل الإعجاب، ولا تهينوه بالتألم له والبكاء عليه!
فدهش لبريه وظل ينظر إلى الدوق نظرا حائرا مضطربا؛ لأنه ما كان يتوقع منه بعد الذي كان بينه وبين سيرانو أن يجري لسانه بكلمة ثناء عليه أو إعجاب به؛ فقال له الدوق: لا تعجب يا لبريه، فإنني وإن كنت أعلم أنني قد نلت من حياتي كل شيء، وأنه قد حرم كل شيء فأنا أعتقد أنه خير مني، وأن نفسه تشتمل على أفضل مما تشتمل عليه نفسي، وليتني أستطيع أن أستغفره ذنبي الذي أذنبته إليه، وأن أضع يده في يدي فأصافحه مصافحة الصديق للصديق.
ثم نهض قائما وقال: أستودعك الله يا روكسان، فنهضت روكسان لتوديعه، ومشت معه تشيعه إلى الباب. فقالت له وهي تسايره - وكان ذيل ردائها يجر معه كثيرا من أوراق الشجر الجافة المتساقطة، فيحدث صوتا أشبه بالحفيف: أتقول الحقيقة عن سيرانو يا سيدي أم أنت تتهكم به؟ قال: لا، بل أقول الحقيقة التي أعتقدها، وأقسم لك يا روكسان إنني كثيرا ما غبطته بيني وبين نفسي، وتمنيت أن أكون مثله! فدهشت وقالت: ولكنك عظيم يا مولاي! قال: إن المرء حينما يصل إلى ذروة العظمة في الحياة لا بد أن تمر به ساعات - مهما كان طاهرا وبريئا - يشعر فيها ببعض آلام خفية تلدغ نفسه وتؤلمها، وربما لا تبلغ في قوتها وتأثيرها مبلغ تبكيت الضمير، ولكنها على كل حال تزعجه وتقلقه، وتستولي على شيء من راحته وسكونه، وهل استطاع العظماء أن يكونوا عظماء إلا أنهم ارتقوا سلما بنيت درجاته من جماجم الموتى وأشلائهم، أو أن يناموا ملء جفونهم؛ إلا لأنهم أسهروا كثيرا من عيون البائسين والمعدمين في سبيل راحتهم وهنائهم، أو أن يمشوا في طريقهم رافعي الرءوس شامخي الأنوف؛ إلا لأن وراءهم كثيرا من المطرقين الصامتين، الذين لا تفارق أنظارهم الأرض هما وكمدا، وربما لا يشعرون بشيء من تلك الجرائم التي يقترفونها وهم في نشوة عزهم وضوضاء عظمتهم، ولكنهم متى خلوا إلى أنفسهم، وأووا إلى مضاجعهم، وساورتهم تلك الآلام الخفية اللاذعة التي لا يشعر بمثلها الجائعون والظامئون، والمرضى والمعوزون، لا تصدقي يا سيدتي أن في الدنيا سعيدا واحدا قد خلت كأسه التي يشربها من قذى ينغصها عليه، ولا بد للعظيم وهو صاعد إلى قمة عظمته أن يشعر أن ذيل معطفه المسبل وراءه يجر معه كثيرا من أنات الباكين، وصرخات المتألمين الذين بنى عظمته على أنقاض شقائهم، فيسمع لها خشخشة كخشخشة الأوراق الجافة التي يجرها وراءه ذيل معطفك الآن!
ثم وقف في مكانه وأطرق برأسه طويلا، فنظرت إليه روكسان ذاهلة، ووضعت يدها على عاتقه وقالت له: أتتألم يا مولاي؟ قال: نعم، فما نحن سعداء إلا في أنظار الناس واعتباراتهم، ولو كشف لهم من خبايا نفوسنا ما كشف لنا منها، ولمسوا بأيديهم مواقع الألم من أفئدتنا، لرثوا لنا أكثر مما نرثي لهم، ولرأوا أننا أولى الناس بالرحمة والإشفاق منهم، وليتهم يقفون على هذه الحقيقة فيعلموا أن السلامة والنجاة وراحة النفس وهدوءها في القناعة والإقلال، فيستريحوا من هموم الأحقاد وآلامها، فإنهم ما حسدونا، ولا اشتعلت بين جوانحهم نيران الحقد والموجدة علينا؛ إلا لأنهم ظنوا أننا سعداء، ولو نظروا إلينا بالعين التي ننظر بها إلى أنفسنا لضرعوا إلى الله تعالى أن ينجيهم مما ابتلانا به، ويريحهم من همومنا وشقائنا!
ثم مد يده إليها فصافحها وقال: أستودعك الله يا سيدتي، والتفت وهو منصرف إلى لبريه، وكان لا يزال واقفا في مكانه، فهتف به فلباه. فقال له: لي كلمة أريد أن أقولها لك، فتعال معي، فمشى وراءه، فالتفت إليه وقال له: نعم إن صديقك سيرانو بطل شجاع كما تقول روكسان، ولكنني علمت من طريق خاص لا أستطيع أن أبوح لك به، أن بعض أعدائه قد عزم على قتله غيلة، فاذهب إليه وحذره، وليقلل من الخروج من منزله ما استطاع. قال: ذلك مستحيل يا سيدي؛ لأنه لا يهاب شيئا، ولا يخاف أحدا! قال: لا تفارقه لحظة واحدة، فحياته في خطر عظيم. قال: سأفعل ما أستطيع يا مولاي، وسأشكر لك فضلك ما حييت، ثم تناول يده فقبلها وانصرف.
فما سار إلا قليلا حتى رأى «راجنو» مقبلا عليه، يولول ويستغيث، فسأله ما باله؛ فقال: خطب عظيم يا لبريه! قال: أي خطب؟ قال: قد أصيب صديقنا. قال: سيرانو؟ قال: نعم. قال: قل كل شيء وأوجز. قال: خرجت اليوم من منزلي ذاهبا إليه لزيارته في منزله، فلما وصلت إلى رأس الشارع الذي يسكنه رأيته خارجا من المنزل، فهرعت إليه لأدركه، حتى إذا لم يبق بيني وبينه إلا بضع خطوات، إذ سقط على رأسه من نافذة أحد المنازل المهجورة جذع عظيم، يخيل إلي أنه لم يسقط عفوا، بل تعمده به متعمد! فصرخ لبريه: يا للنذالة والجبن! ثم ماذا؟ قال: فدنوت منه، فرأيت، وياهول ما رأيت! رأيت ذلك الصديق الكريم، والرجل العظيم، والشاعر النابغة الجليل، ملقى على الأرض مضرجا بدمائه، وقد فتح في رأسه جرح كبير. قال: وهل مات؟ قال: لا، ولكن حالته سيئة جدا، فحملته إلى منزله، أو إلى ذلك الجحر الضيق الذي يسمونه منزلا ... قال: وهل يتألم؟ قال: لا؛ لأنه فقد رشده فلم يعد يشعر بشيء! قال: ألم يزره طبيب؟ قال: أشفق عليه طبيب من جيرانه فزاره. قال: وا رحمتاه لك أيها الصديق المسكين! لا تخبر روكسان الآن بهذا الخبر، وماذا قال الطبيب؟ قال: لم أفهم من كلامه شيئا، فإنه أخذ يردد كلمات كثيرة، حمى، التهاب، أغشية ... إلخ، آه يا سيدي لو رأيته وقد دارت برأسه الأربطة والضمائد، وأصبحت صورته أشبه شيء بصور الموتى في قبورهم! هيا بنا نذهب إليه، فهو وحيد في غرفته، وأخاف أن يحاول القيام من فراشه فيسقط ميتا، ثم ذهبا يعدوان ويتلهفان.
النغمة
جلست روكسان أمام منسجها في فناء الدير تنتظر حضور سيرانو، وكان قد جاء ميعاده الذي يحضر فيه من يوم السبت من كل أسبوع، وأخذت تقول: ما أجمل هذا اليوم! إن الخريف يخفف عني كثيرا من آلامي التي يهيجها الربيع ويستثيرها، فحمدا لك يا إلهي على ما منحت، وصبرا على ما ابتليت، ولك المنة العظمى في حالي رضاك وسخطك، ونعمائك وبأسائك! ما أعظم شكري لك يا سيرانو! إنك رسول العناية الإلهية إلي، والعزاء الباقي لي في هذه الحياة بعد ما فقدت كل عزاء وسلوى، فليت الله يتولى جزاءك عني، فإني لا أستطيع أن أقوم بشكرك!
وهنا حضرت راهبتان تحملان بين أيديهما المقعد الذي اعتاد سيرانو أن يجلس عليه عند حضوره، فوضعتاه وراء مجلس روكسان، فشكرتهما وانصرفتا، ثم دقت الساعة الرابعة، فأصغت إليها روكسان حتى انتهت دقاتها، ثم قالت: إنه سيأتي الآن! وأخذت تردد نظرها جهة الباب هنيهة، فلم يحضر، فمدت يديها إلى علبة إبرها وخيوطها، وظلت تقول بينها وبين نفسها: قد دقت الساعة الرابعة منذ دقائق ولم يحضر، أين خيوطي؟ ها قد وجدتها، هذا يدهشني جدا! إنها المرة الأولى التي تأخر فيها عن ميعاده منذ خمسة عشر عاما، لا بد أن تكون الأخت «مارت» قد أزعجته بنصائحها وعظاتها، أين كستباني؟ ليت شعري ماذا حدث له؟ قد أوشك الظلام أن يخيم، وألوان الخيوط قاتمة فلا أستطيع التمييز بين متشابهاتها، إنه ما تأخر عن زيارتي قبل اليوم، ولكن لا بد أن يحضر الآن!
وهنا سقطت ورقة جافة من الشجر على منسجها، فاصفرت وقالت: ورقة ميتة قد انقضى أجلها فهوت إلى مستقرها! يا لله! إن الأوراق الجافة المتساقطة تزعجني جدا، لا يمكن لأي شيء مهما كان أن يحول بينه وبين الحضور!
Unknown page