فاضطرب سيرانو وخفت صوته، وهدأت تلك الزوبعة التي كانت ثائرة في نفسه، وقال: ماذا تقول يا لبريه؟ قال: أظن أنك قد عرفت منها عندما قابلتها أنها لا تحبك، فأنت ناقم على الحب، راض عن البغض، فنكس رأسه وصمت صمتا طويلا لا يقول فيه شيئا، ففهم لبريه كل شيء.
المعركة النفسية
وفي هذه اللحظة دخل المطعم البارون كرستيان يختال في حلته الجميلة، ورونقه الشائق البديع، ورأى أبناء فرقته مجتمعين، فتقدم لتحيتهم فلم يعبئوا به، وحاول أن يداخلهم ويتحبب إليهم كما هو شأن أبناء الفرقة الواحدة عندما يجتمعون في مكان واحد، فانقبضوا عنه، وتسللوا من جواره، فلم ير بدا من أن ينتبذ مكانا قصيا، ويجلس فيه وحده، فلم يقنعهم ذلك منه حتى أرادوا إزعاجه وإقلاقه، وكان من شأنهم - كما حدثت روكسان عنهم - أنهم لا يحبون أن يدخل فرقتهم غريب عنهم، عصبية لأنفسهم، واحتفاظا بجامعتهم، والجنوبيون في فرنسا ينظرون دائما إلى الشماليين بعين البغض والازدراء، ويسمون ترفهم ونعومتهم ضعفا وجبنا، فمشى أحدهم إلى سيرانو وقال له وهو يغمز كرستيان بعينه: قد كنت وعدتنا يا سيدي منذ هنيهة أن تقص علينا حديث الواقعة التي انتصرت فيها ليلة أمس على أعدائك الشماليين الجبناء، فحدثنا ذلك الحديث الآن؛ ليكون درسا تهذيبيا لهذا الفتى الشمالي المتأنث، وأشار إلى كرستيان، فانتفض كرستيان غضبا، والتفت إلى المتكلم وقال له: ماذا تقول؟ وكان سيرانو مشتغلا بمحادثة صديقه لبريه، وكان يفضي إليه بشأنه مع روكسان، فلم يشعر بشيء مما حوله، فتركه الفتى ومشى إلى كرستيان، فوقف أمامه وقال له: عندي نصيحة لك أيها السيد أحب أن أقدمها إليك؛ لتنتفع بها في مستقبل حياتك معنا، فألقى عليه كرستيان نظرة ازدراء واحتقار، وأشاح بوجهه عنه. فقال له الفتى: أترى هذا الرجل ذا الأنف الكبير والسحنة المخيفة الجالس هناك؟ إن ههنا كلمة لا يجوز لأحد النطق بها أمامه مطلقا، كما لا يجوز النطق بكلمة الحبل في بيت المشنوق، وأحب أن لا يفوتك العلم بها ضنا بحياتك، فعجب كرستيان لأمره، ورفع رأسه إليه وقال: أي كلمة تريد؟ قال انظر إلى وجهي تفهم معناها، فإنني لا أستطيع النطق بها، ثم وضع أصبعه على أنفه وهو يتلفت ويتحذر. فقال له: أتريد كلمة الأن ...؟ فقاطعه الفتى وقال: صه! إياك أن تتمها فيسمعها فيكون فيها هلاكك، فلم يرفع كرستيان طرفه إليه أنفة وكبرياء، فتقدم نحوه فتى آخر وقال له: ولا بد لك أن تعلم أيضا أن أحدا من الناس لا يحدث نفسه بمناوأة هذا الرجل أو مخاشنته، إلا إذا كان من رأيه أن يلاقي حتفه قبل نهاية أجله، ثم وقف به آخر وقال له: احذر الحذر كله من أن تنطق على مسمع منه بهذه الكلمة أو ما يشبهها، لا تصريحا ولا تلميحا، ولا كناية ولا تعريضا، فقد قتل في الأسبوع الماضي رجلا أخنف؛ لأنه ظنه يتخانف هزءا به وسخرية، وقتل آخر منذ يومين؛ لأنه أخرج منديله من جيبه وأدناه من أنفه!
وهكذا ظلوا يتقدمون نحوه واحدا بعد آخر، ينذرونه ويتوعدونه، ويهمسون في أذنه بكلمات مختلفة، ويشيرون بين يديه بإشارات غريبة، تهويلا عليه وإرهابا له، وهو صامت ساكن، لا يرفع طرفه إليهم، حتى برم بهم، فنهض من مكانه بهدوء وسكون، ومشى إلى «كاربون دي كاستل» قائد الفرقة وهو جالس على كرسيه، فوقف بين يديه وقال له: ماذا يصنع الإنسان يا سيدي القائد إذا رمت به المقادير بين جماعة من الجنوبيين الوقحاء، وهم لا يزالون يشاكسونه ويناوئونه، ويستثيرون غيظه وحفيظته بسفاهتهم ووقاحتهم؟ فأجابه القائد ببساطة غير محتفل به ولا مكترث: يبرهن لهم على أنه، وإن كان شماليا فهو شجاع مثلهم، فانحنى كرستيان بين يديه، وقال: سأفعل ما أشرت به يا سيدي، وعاد إلى مكانه الأول.
وكان سيرانو قد فرغ من حديثه مع لبريه واعتدل في جلسته، فهرع إليه الجنود من كل ناحية وأحاطوا به، وقالوا: الحديث يا سيرانو، فاتجه إليهم وأنشأ يقص عليهم قصته، ويقول:
تقدمت نحوهم وحدي منفردا ، وكان القمر يلمع في قبة السماء لمعان القطعة الفضية في رمال الصحراء؛ ثم لم يلبث أن غشيته سحابة دكناء، فصار الظلام حالكا مدلهما، لا يستطيع المرء أن يرى فيه أبعد من ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أنفه.»
فدهش القوم، واصفر وجه سيرانو وتهالك في نفسه، ثم صرخ بصوت كهزيم الرعد قائلا: من هذا الرجل؟ وهم بالهجوم عليه ليفتك به. فقال له أحد الجنود: هو رجل شمالي دخل فرقتنا صباح هذا اليوم، فجمد سيرانو في مكانه ذاهلا، ومر بخاطره كلمح البصر حديث روكسان. فقال: صباح هذا اليوم! وما اسمه؟ قال: يزعم أن اسمه البارون كرستيان دي نوفييت، فتضعضع سيرانو وتخاذل، وشعر أن نفسه تتسرب من بين جنبيه، وقال: آه، إنه هو، ثم استحالت صورته إلى صورة مرعبة مخيفة، وظلت أطرافه ترتجف ارتجافا شديدا، فتهافت على كرسي بجانبه، وصمت صمتا عميقا لا حس فيه ولا حركة، ثم أخذ يعود إلى نفسه شيئا فشيئا حتى هدأ، فألقى نظرة على الجنود المحيطين به، وقال لهم: ماذا كنت أقول لكم؟ آه لقد تذكرت، كنت أقول: إن الظلام في تلك الساعة كان حالكا جدا، حتى إن المرء لا يستطيع أن ينظر إلى أبعد مما تحت قدميه.
وتوقف عن إتمام كلامه؛ لأنه تذكر مقاطعة كرستيان إياه عند وصوله إلى هذه الكلمة، فوثب من مكانه وثبة النمر الجائع، وهجم عليه هجمة ما كان عند الحاضرين ريب في أنها تحمل في طياتها الموت الأحمر، وهو يطمطم بلهجته الجاسكونية مورديوس - ميل ديوس، ولكنه لم يبلغ مكانه حتى جمد أمامه جمود التمثال فوق قاعدته، وظل يزفر زفيرا متتابعا، ثم تراجع بهدوء وسكون إلى مكانه الأول، والقوم يتبعونه بأنظارهم ويعجبون لأمره، ويقولون في أنفسهم: ما له يقدم ثم يحجم! وما الذي يبدو له فيتراجع بعد اندفاعه!
وما هي إلا هنيهة حتى هدأ وسكن، وعاد إلى حديثه يقول: وكنت أعلم أنني مقدم على خطر من أعظم الأخطار، وأنني إنما أحارب في الحقيقة رجلا عظيم الجاه والسلطان، لو شاء أن يسحقني بقدمه كما يسحق السائر النملة الدارجة في طريقه لفعل، بل لو شاء أن يضعني بين ...
Unknown page