وحينما انتهى أبو فراس من إحكام مؤامرته، حيا سيف الدولة وانصرف، وما كاد يعود إلى قصره، وكان بالقرب من برج أبي الحارث، حتى رأى به طائفة من الشعراء ينتظرون عودته، بينهم أبو العباس النامي، وأبو الحسين الناشئ، وأبو القاسم الزاهي، وأبو الفرج السامري، وكان من ألد أعداء أبي الطيب الحاقدين عليه. فلما رأواه هموا لاستقباله محتفين، وطفقوا يسألونه في شوق ولهفة عما تم في أمر المتنبي وسيف الدولة من نبذ المتنبي، وتقريب شعراء مملكته. فطار الفرح بقلوبهم، وأخذ كل منهم يفكر في مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة؛ ليكون من السابقين الأولين.
أخذ سيف الدولة يفكر في أمر المتنبي، بعد أن تركه أبو فراس وقد تراكمت عليه الهموم، وانتابته الظنون، وعبثت به الهواجس. فهو مرة يرى أن أبا الطيب صناجة ملكه، وناشر فضله، وأنه الغاية التي تقطع دونها أنفاس الملوك، والحلم الذي يتطلع إلى تحقيقه كل أمير، وأنه أشعر من رددت أصداءه آفاق العرب، وأندى صوت يجلجل بالشعر فيخوض البحار، ويثب الجبال، لا يقف دونه سد، ولا يعترضه حائل، وأن شعره جيش أقوى من الجيش، وعتاد يزدري بكل عتاد. من هو سيف الدولة حتى يظفر بدولة الشعر كلها مجتمعة في رجل يمجد أفعاله، ويخلد محامده، ويبث الرعب في قلوب أعدائه؟
يرى سيف الدولة كل هذا، فيرفع رأسه باسما مبتهجا، وقد كاد يثلج صدره برد اليقين، ولكنه لا يفتأ حتى تهجم عليه الوساوس من كل مكان، صارخة عاوية وهي تصيح : ما هذا التدلي إلى الحضيض؟ وما هذا الاستخذاء لشاعر مجنون بالعظمة تياه على الملوك؟ أنت يا ابن حمدان ملك من سلالة ملوك، ولكنك في سبيل أمل كاذب، من نبي كاذب، نزلت بنفسك إلى الهاوية حتى صرت له مملوكا! اذكر إن كنت ناسيا أنه يقبل صلاتك الجزيلة آنفا، ويتقلب في نعمتك حاقدا، واذكر إن كنت ناسيا أنه لا يجود عليك بقصيدة إلا كارها متثاقلا، ثم اذكر أنك كثيرا ما استبطأت مديحه فأفنيت الحيل في استجدائه، فتارة ترسل إليه أبياتا لشاعر ليقول على مثالها، وتارة تزعم أنك أعجبت ببيت قديم لتستثير خاطره الراكد، وخياله الكليل. كل هذا وهو سادر في غروره وكبريائه، يسخر في خبيئة نفسه من الملوك والمماليك، ويردد في صدره قولته الحمقاء:
أي محل أرتقي
أي عظيم أتقي
وكل ما خلق الل
ه وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
إنه وايم الحق رجل ثقيل الظل، مستكره الطباع، ولو كان ينطق بالوحي، ويستملي شعره من ملائكة السماء! إن نفرة الناس منه ذهبت بروعة شعره، فلم يجد بين القلوب منزلا، ويل له مني؟ لن يعيش هذا الرجل في مملكتي بعد اليوم، فإنه لا تؤمن عواقبه، وهو حقود لئيم، يسخط على اليد تمتد إليه بالإحسان، ويأنف من النعمة يسوقها إليها كريم. أليس هو القائل:
Unknown page