دخل المتنبي فقابله كافور ووزيراه بحفاوة، فلما اطمأن به مجلسه قال: لقد بعث إلي أبو شجاح فاتك يا مولانا منذ قدمت مصر برسائل محبة وترحيب، ثم والى علي من هباته وصلاته ما أثقل ظهري، وأوهن كاهلي، حين رأيت أن ترك مديح مثله لؤم لا يليق بمثلي. لهذا جئت يا مولانا أستأذنك في مديحه وأداء هذا الدين، الذي أصبحت لا أستطيع احتماله. فهل يأذن مولانا لشاعره بأن يشدو بمديح أحد رجاله المخلصين؟
فالتفت كافور إلى ابن الفرات، وغمز بعينه بحيث لا يرى، وقال: ما عليك من بأس يا أبا الطيب. فإنه يسرني أن يستحق أحد قوادي مديح مثلك. قل فيه يا أبا الطيب ما تشاء، وأجد ما طاولتك الإجادة.
ثم اتجه إلى ابن الفرات، وقال: لقد جاءتني اليوم رسالة من أهل صيداء يشكون فيها من واليهم، ويعددون مظالمه، وأخشى أن يكونوا في شكايتهم صادقين؛ فقد سمعت من قبل كلاما كثيرا يدور حول هذا الوالي، وأنه يعبث بالحقوق ويأخذ الرشا. أسمعت بشيء من ذلك يا جعفر؟ - نعم يا مولانا، وقد حاولنا إصلاحه بالنصيحة والصبر، فكاد يفسد علينا أمرنا بالتمادي في ظلمه، وهنا التفت كافور إلى المتنبي وقال: ما رأيك في ولاية صيداء؟ إنها ولاية واسعة وافرة الخيرات.
فكاد المتنبي يطير من فوق كرسيه فرحا، ووقف خاضع الرأس أمام كافور كأنه الراهب في محرابه، وطفق يقول: إنني سأكون أعدل وال لها، وأوفى وال لك يا مولانا.
فابتسم كافور وقال: سننظر في الأمر يا أبا الطيب، والأمور مرهونة بأوقاتها، وسيكون كل شيء خيرا إن شاء الله.
وانصرف المتنبي وهو يكاد يخرق الأرض بقدميه تيها وكبرا، ويملأ الفضاء بصدره المنتفخ زهوا وعجبا. إن هذا النخيل التي يداعبها الهواء في طريقه إنما تميل نشوى للنبأ العظيم! وقمم المقطم المطلة عليه إنما تمد آذانها؛ لتتلقف الخبر الخطير! والأهرام ما صمدت لعوادي الزمان طيلة هذه القرون إلا انتظارا لذلك المجد الباذخ! والنيل لم تتهامس أمواجه إلا بأنباء هذا الحادث الجلل!! إنه قدم مصر لأجل هذا، وتدلى إلى مدح الأسود لأجل هذا، ولاقى صنوف الاضطهاد من عظماء مصر وعلمائها لأجل هذا، ولا شك أن العزة لا تنال إلا بشيء من الذل، والعظمة لا تقتنص إلا بخضوع النفس. لقد كان مصيبا حقا حينما هجر سيف الدولة وقصد كافور، ولطالما ظن أنه ضل السبيل، وتنكب الصواب، وأنه باع نفسه للأبالسة، وأن الأسود إنما احتال لاجتذابه إليه ليجرد سيف الدولة من أمضى سلاح هو سلاح الشعر، الذي تعتز به الدول، ثم ليحتبسه في مصر شاعرا ذليلا مأجورا. لطالما ظن هذا، ولطالما عنف نفسه، ولطالما جلس في فراشه في الليل البهيم وهو يقلب كفيه أسفا، ويرسل أنفاسه حسرات تلو حسرات، ولطالما صور له الخيال أن الأسود يعبث به ويمنيه الأماني كذبا وزورا، وأنه يشد رقبته بخيط من الوهم، ويرقصه في مجلسه على أنغام آمال هي أبعد من مناط الثريا، وأكذب من هذيان الأحلام. لقد ظلم العبد. لقد كان العبد مظلوما حقا. إنه رجل وفي صادق أمين. إنه كان يطاوله ليختبره ويبلوه، والولايات شأنهن عظيم، ولا تكفي أشهر لاختيار من يصلحون لها. فالآن وقد درس نفسي، وألم بنواحي عظمتي، أخذ يعلن ما أخفى، ويجهر بما كتم. ثم وقف المتنبي عن حديث نفسه ومال برأسه قليلا، شأن المفكر في أمر مفاجئ، وقال: ولكن ماذا سيكون أمري مع فاتك الذي عاهدته في الصحراء على أن أكون له عونا في انتزاع الملك من كافور برأيي وسيفي وشعري، ووعدني بأخصب ولايات مصر وأدرها خيرا؟ في الحق إني تعجلت المفاوضة مع فاتك، وكان من الحزم أن أصبر قليلا حتى أيأس تمام اليأس من كافور، ولكن ما لي أبيع حاضرا بغائب؟ وما لي أطلق أملا في يدي لأنتظر أملا حائما؟ وما لي أضيع حقيقة واقعة بوعد موهوم؟ لا لا إني سأخلص لكافور، وسأكون أوفى خلصائه وأصدق أمرائه.
وبينما هو في الطريق إذ التقى بصديقه عبد العزيز الخزاعي، فحياه تحية المحب المشوق، ثم سأله: من أين؟ وإلى أين؟ - قدمت بالأمس من بلبيس لزيارتك، وعرض لي أن أزور في الصباح شيخ الشافعية عبد الله الناصح بالجامع العتيق، وقد كنت الآن قاصدا إلى دارك. - وماذا رأيت في الجامع العتيق؟ - يا أبا الطيب، يجب أن تتقي علماء هذا الجامع، ويجب أن تتقي منهم خاصة هذا العالم الموسوس أبا بكر الكندي الذي يلقبونه بسيبويه. - وماذا أعمل له؟ - تخفض جناحك، وتنهنه من كبريائك قليلا. إن مصر يا أبا الطيب ليست كحلب. إنها عش العربية، وموطن العلم والأدب. فإذا كنت في حلب قد أرسلت أشعارك على فطرتها جريئا غير هياب ، ففكر هنا ألف مرة في كل بيت تقوله. - ماذا تريد بهذا يا ابن يوسف؟ - أريد يا سيدي أن أكون لك ناصحا، وإن غلظ عليك نصحي، وأريد أن أقول: إنني حينما دخلت الجامع في هذا الصباح، رأيت حلقة من الطلاب غاصة بمن فيها حاشدة، وقد توسطها أبو بكر الكندي وهو يصبح: اسمعوا يا أهل الفهم والمعرفة ما يقوله شاعرنا الجديد! اسمعوا ما ابتكره في فن المديح هذا المتنبي الكاذب! إنه لا محيد له عن إحدى خلتين: إما أنه يسخر من عقول أدباء هذا البلد، ويرى أنهم أغبى من أن يدركوا ما يقول، وإما أنه سخيف أبله لا يعرف مرامي الكلام، وهنا ضج المجتمعون صائحين: قل أبا بكر ولا تطل علينا. أسرع يا صاحب الحمار. هات ما عندك. فعاد يقول: يمدح هذا المتنبي مولانا بقوله:
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
أرأيتم شاعرا منذ أن قال امرؤ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» قال لممدوحه: إنني لم أعجب لطربي عند رؤيتك أيها الأمير؛ لأنني كنت أؤمل أني سأملأ الدنيا ضحكا حين أراك. إن المتنبي أيها الطلاب قدم إلى مصر؛ ليفرج عن نفسه برؤية أميرنا المضحك! إنه - جزاه الله بما يستحق - جعل من أميرنا قردا يتزاحم الناس عليه؛ ليروا ألاعيبه فيطربوا ويضحكوا، وهنا أغرق القوم في الضحك والجلبة، وارتفع صوت خبيث منهم يصيح: إن الأمير لا يفهم هذا الكلام الموجه وعلى علمائنا أن يفهموه، حتى ينال هذا الرجل ما يستحق، وما كاد يسكت حتى مد أبو بكر ذراعيه طالبا السكوت؟ وقال: ثم من علم هذا الشاعر العربية حين يقول: «لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب؟».
Unknown page