يرد يدا عن ثوبها وهو قادر
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
دسائس
مرت شهور والمتنبي ينعم بحبه، ويكثر من ازديار صاحبته، وشاع بين الناس أمر حب عائشة له، وتحدث بذلك الأدباء في مجالسهم، ودهم الخبر أبا بكر بن صالح فصعق له، وغلى مرجل غيظه، وكان ذلك حين دخل عليه ابن الفرات يوما وهو يقول باسما: لقد طار عصفورك من القفص يا أبا بكر. - ماذا تقصد يا جعفر؟ - أقصد أن نسرا جارحا طار إلينا من الشام، ثم مازال يحوم حول العصفور حتى اختطفه، وأنشب فيه مخالبه. - أفصح بالله يا ابن الفرات. - إن المتنبي سبى قلب عائشة، أو هي التي سبت قلبه، وقد علمت أنهما يتقابلان في دارهما كل مساء؛ لرواية الشعر والتحدث في الأدب. - ممن علمت هذا؟ - من أهل مصر جميعا، فإن الأمر لم يعد سرا، وإن الصبيان في الأزقة يتغنون بهذا الحب، ويلفقون له أغاني وأهازيج يترنمون بها. أفق يا أبا بكر فما يوم حليمة بسر. - العابثة الماجنة! لقد قلت حينما ازدرت حبي، وسخرت من دموعي، إنها امرأة شاذة لا إربة لها في الرجال، فكيف تهفو الآن إلى هذا الأفاق، وتبذل له أغلى كنوز مصر؟ ويل لهما مني! - رفقا بالفتاة يا أبا بكر، فإن قلوب النساء من قوارير، وصعب النساء إلى مياسرة، كما يقول بشار الخبيث، وماذا تفعل أية فتاة حياة إغراء شاعر فتاك يمزق أفئدة النساء كما يمزق رسالة طال عليها العهد؟ - لابد من الانتقام من هذا الوغد اللئيم. - وكيف ننتقم منه؟ - الأمر في غاية اليسر، فإن في شعره الذي يتبجح بالإجادة فيه حبالا تكفي لخنقه. - كيف؟ - هذا ما ستعرفه يا ابن الفرات. أين مولانا الأستاذ الآن؟ - في قاعة الحكم. - هلم بنا إليه، وانطلقنا مسرعين وأبو بكر يتحرق غيظا، وابن الفرات يبتسم في شمامة، لدنو ساعة انتقامه من المتنبي؛ لأنه تعاظم عليه، وتسامى عن مديحه، ودخلا على العبد فابتسم لهما ابتسامة الأفعى. ثم قال: أهلا بالوزيرين! هل من حاجة؟ فانطلق أبو بكر يقول: هذا المتنبي الشاعر يا مولانا أخشى أن يثير قدومه علينا شرا مستطيرا. - وأين عيونك وجواسيسك؟ وأين أصحاب الأخبار الذين تباهي بأنهم يعلمون همسات الصدور، وخلجات الخواطر؟ - من هؤلاء يا مولانا علمت كل شيء. - ماذا علمت؟ - علمت أنه يتصل في السر بفاتك عدوك اللدود، وأن الرسل بينهما جائية ذاهبة، وأنه اجتمع به منذ أيام في الصحراء بين مصر والفيوم، في جنح الليل البهيم، وأنه جرت بينهما محادثات، وأخشى أن أقول مفاوضات. - فاتك المجنون؟ - نعم يا مولانا، هو فاتك نفسه الذي حاول أن ينازعك الملك والوصاية على ابن مولانا، فنفيته إلى الفيوم. - وفي أي شيء يفاوضه هذا الشاعر؟ - يفاوضه في الملك. يفاوضه على أن الدولة ستكون بينهما بالسوية: لفاتك قيادة الجيوش، ولهذا الأفاق حكم البلاد وسياستها.
وهنا اكفهر وجه كافور، وأخذته رعشة من الغضب حاول كبتها. ثم قال: وأين يذهب كافور؟ - هذه يا مولانا أوهام لا يمكن أن تحقق، وإن سيوفنا وقلوبنا سور حول عرشك الكريم. - هذا المتنبي لم يفتر منذ قدم علينا من مضايقتنا، والإلحاح علينا في أن نوليه ولاية، كأنه جاء إلى مصر فاتحا لا شاعرا مستجديا. لقد أكرمنا وفادته، وأجزلنا له الصلات، ونثرنا فوقه الذهب والفضة، ولكن شيئا من هذا لم يقنعه، ولم ينهنه من عزيمته، وإني أعرف هذا الصنف من المخاطرين إنه - فيما يزعمون - ادعى النبوة، وهل يصعب عليه إذا نال ولاية أن يدعي ملك مصر كلها؟! - إن كل قصيدة له في مدح مولانا ليست إلا إلحاحا في طلب هذه الولاية، ولا يقصد اللئيم من هذا إلا أن يصارح الناس بأن مولانا لا يستحق المدح، وأنه إنما دفع إلى مدحه ليتوصل إلى مآربه. ثم إنه يتدرج في شعره مطالبا بهذه الولاية تدرجا خبيثا، وأعتقد أن مرماه البعيد أن يجعل من هذه الولاية ذريعة لالتهام مصر. يقول أولا:
يأيها الملك الغاني بتسمية
في الشرق والغرب عن وصف وتقليب
أنت الحبيب ولكني أعوذ به
من أن أكون محبا غير محبوب
ثم يلحف في قصيدة أخرى فيقول:
Unknown page