وقد نشأت عائشة في بيت أدب وشعر، فقد كان أخوها أبو علي صالح بن رشدين من أعظم كتاب المملكة، وأبرع شعرائها، وكانت داره مثابة لأدباء مصر؛ فنشأت عائشة في هذا الجو الأدبي كما تنشأ الزهرة على شاطئ الغدير، وثقفها أخوها فأحسن تثقيفها، وتلقت من كبار العلماء والشعراء دروسا في الشعر والنحو واللغة، وكان من أساتذتها عبد الله بن أبي الجوع الشاعر الأديب اللغوي، وكانت برزة في النساء لا تحتجب عن الرجال إلا بخمار رقيق أسود تلفه حول وجهها فيبرز كالبدر في محتلك الظلام.
وكثيرا ما حضرت في دارها مجالس للشعراء الذين كانوا يكثرون من ازديار أخيها؛ لكرمه وسجاحة خلقه، وكان أبو بكر بن صالح يدأب على شهود هذه المجالس، عله يظفر من فاتنة لبه بكلمة رضا أو لمحة حنان، ولكنه كان لا يلقى إلا تجاهلا وإعراضا.
جلست عائشة إلى جانب شرفتها وفي يدها ورقة كتبت بها قصيدة أبي الطيب، وكانت تقرأها متئدة مفكرة، وكثيرا ما كانت تهتز في طرب وإعجاب، وبينما هي منصرفة إلى القراءة إذ دخل أخوها وهو يصيح: ألا تزالين تكررين أبيات هذه القصيدة؟! - لقد حفظتها، إنها إلهام صور في كلام. - حقا إنها من عيون الشعر. - إنه شاعر وفي. اسمع يا أبا علي حنينه إلى سيف الدولة, وكيف صاغ هذا الحنين في عزة الأنوف، وإباء العيوف:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
وأعلم أن البين يشكيك بعده
فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
فإن دموع العين غدر بربها
إذا كن إثر الغادرين جواريا
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى
Unknown page