دخل المتنبي في ثياب السفر، بعد أن خلع نجاد سيفه بالباب، فقبل الأرض ثم أطرق قليلا، فحياه كافور قائلا: أهلا بشاعر العرب. أهلا بأبي الطيب. لقد أبطأت علينا كثيرا، والدولة لا تكمل عظمتها إلا بمثلك. إنك ستكون في ضيافتي، وأرجو أن تطيب لك الإقامة. أقبل علي أبا الطيب، ثم مد يده فانكب عليها كأنه يريد أن يقبلها، فجذبها العبد منه وهو يقول: أستغفر الله! ثم أشار فأحضر كرسي إلى جانبه، وأومأ إلى أبي الطيب بالجلوس، وهنا قال ابن الفرات: قد قرأنا ما ورد علينا من شعرك في ابن حمدان فرأينا فنا جديدا، وروحانية قوية تهز المشاعر، وتثير خامد القلوب، ونرجو أن يتفتح لك النيل وحدائقه الباسمات عن معان لم تخطر ببال شاعر. إن بمصر يا أبا الطيب كثيرا من الشعراء، وأكثرهم مجيد مبرز، وقد رحل عنا منذ قليل أبو نصر كشاجم، وهو شاعر مبدع سباق. فمصر اليوم تجري في ميدان العلم والأدب مع بغداد في طلق، وتكاد تجلي عليها في شئون الحرب والسياسة. - علمت أن بمصر شعراء، وأرجو ألا يكون شأني معهم كما كان مع شعراء حلب! إن الشعر يا سيدي دولة يأبى رعاياها أن يختاروا لهم ملكا، ولو أراد الحسد أن يبني له عشا ما اختار إلا قلب متشاعر. دعني من هؤلاء؛ لأنني جئت للأستاذ وحده ولن أقول في غيره. - لن تقول في غيره؟! - إن من أدب الشاعر أن ينصرف إلى ممدوحه، فلا يلهج إلا باسمه، ولا يشيد إلا بفضله.
فاربد وجه ابن الفرات، وتكلف ابتسامة حاولت أن تمحو ما بدا على وجهه من سيماء الغضب، وقال: وأظن أن من أدب الشاعر أيضا أن ينصرف عن ممدوح؛ ليمجد ممدوحا آخر، ويدعي أن الدهر لم يسمح بسواه! فأسرع أبو الطيب قائلا: إن القلب قلب، والشعر كالناس قد يخطئ أحيانا ثم يصيب شاكله الصواب. فاتجه إليه ابن الفرات في نظرتي نمر، وقال: أرجو ألا يخطئ هذه المرة يا أبا الطيب! وهنا تحرك كافور من مجلسه قليلا فوقف من بالقاعة، ووجه الحديث إلى المتنبي قائلا: يوم الثلاثاء إن شاء الله نسمع إنشاد الشاعر، بعد سبعة أيام. فوقف المتنبي وحيا في خضوع ثم خرج.
ذهب المتنبي إلى داره الجديدة وفي رفقته صالح بن رشدين، وكان شاعرا مجيدا، أولع بشعر المتنبي قبل أن يراه، فلما رآه زاد به إعجابا، وله حبا: أحب فيه الرجولة ومخايل الشهامة، ورأى فيه شاعرا لا كالشعراء، وفي شعره شعرا لا كالشعر، كأن ما كان سمعه من شعره صورة لنفسه الطموح وخلقه العظيم، فلما بلغا الدار، شد على يده وقال: لقد أحببتك وهفت نفسي إليك منذ رأيتك يا أبا الطيب. فهل أطمع في أن تقبلني صديقا؟ لقد سمعت حديثك مع ابن الفرات، وعرفت أنك أغضبته، وهو رجل له دهاء الثعلب وفتك النمر، يحوك من خيوط الشمس شباكا، ويخلق من قطرات الغمام نبالا، وقد كان يريدك على أن تمدحه فجبهته في غير رفق، ورددته في غير إحسان، وهو لن يترك لك هذه، ولو اعتصمت بأسباب السماء . فاحذره يا أبا الطيب، واحذر من تخاطب ومن تعاشر في هذا البلد. إن العيون هنا تنبث في كل مكان، والجواسيس ينفذون إلى ما لا ينفذ إليه الهواء. احذر أبا الطيب، فإن أصحاب الأخبار في هذه الدولة هم المصرفون للأقدار، ولهم مناهج يعجز إبليس اللعين عن انتهاجها: يأتون إليك مرة في صورة الناصح، ثم ضحك وقال: وأخشى أن تعدني منهم - ومرة يشتكون إليك جور الحكام، وأخرى يمدحون أمامك من لا يستحق المدح. فاحذرهم يا أبا الطيب، وانصرف عنهم في هوادة ولطف، وأرجو أن تتخذني لك أخا مرشدا، وخليلا ناصحا.
فهز المتنبي يده وقال: إني أشرف بصداقة سيد شعراء مصر، وسأمشي في نور هدايتك.
ودخل المتنبي الدار جزعا محسورا، فوصف لمحسد كافورا ومجلسه فقال: دخلت يا بني على أمة حبلى يسجد أمامها صناديد الأبطال، ويخضع لإشارتها دهاة الرجال. جلس فوق عرشه، فرأيت في ثياب أمير قردا، عيناه عينا ثعلب، وإطراقه إطراق ثعبان. أما ابن الفرات: فثقيل متعالم متعاظم، نظر إلي في كبر وجبرية كأنه ينظر إلى شاعر مجتد أفاق. سحقا لهم، وسحقا للزمان الذي قذف بي إليهم: والله لكأني أشعر أني جئت لأهجوهم لا لأمدحهم! وكيف تنبسط نفسي لمديحهم، أو يتحرك لي لسان بالثناء عليهم؟ إن مدح الأسود سيخلق في الشعر فنا جديدا، أسمعت يا محسد؟ سيخلق فن المديح الهجائي. - كيف يا أبي؟ - إني أعتقد أن لحظات ستمر بي وأنا أقرض الشعر في الأسود، أنسى فيها نفسي فربما طفرت مني أبيات في مديحه، هي شر من الهجاء. - وماذا تصنع إذا فهم؟ - إنه لا يفهم يا أغبى الأغبياء. هات عبدنا مسعودا وأنشده إحدى قصائدي، فإن فهمها، اقتنعت وأخذت الحذر. - إن مسعودا لا يفهم؛ لأن كافورا مسعود قبل أن يكون كافورا، ومسعودا كافور بعد أن كان كافورا. - والوزراء والشعراء الذين حوله؟! ألا تخشاهم؟! - اسمع يا بني: عن الكلام الموجه يفهم من ناحيتين، وهؤلاء لجبنهم وجلالة قدر كافور عندهم، لا يفهمون إلا ناحية المديح. - وإذا فهموا الناحية الأخرى؟ - لا أبالي ما يفهمون. إن شعري لن يكون إلا صورة لنفسي رضي الناس أم أبوا، ولو كنت من الذين لا يقولون الحق الذي تجيش به نفوسهم؛ لكنت اليوم ملكا، أتندر بالأسود الزنيم.
ومر أسبوع صاغ في غضونه أبو الطيب أول قصيدة في مدح كافور، وحين حان الموعد غص القصر بالأدباء والشعراء، والعلماء، وجلس كافور على عرشه، وقد أحاط به القواد والوزراء، والأشراف والعلماء، وقوفا، وقدم المتنبي فانحنى في إجلال وخشوع، وأخذ ينشد قصيدته في صوت ندي حلو النبرات، وكان صدى كل بيت إعجابا واستحسانا، وطلب بعض الشعراء إعادة بعض الأبيات؛ لرصانتها، ولما فيها من تجديد رائع، وفن رفيع، وكان كافور يهز رأسه طول مدة الإنشاد، كأنه أرجوحة طفل عنيد، أبى أن ينام. فلما فرع أبو الطيب أمر له كافور بعشرة آلاف درهم، وأقبل القوم عليه يحيونه وينثرون فوقه أزاهير الإعجاب والثناء، وخرج مع الشريف إبراهيم العلوي وهو مطرق الرأس، حزين يهمس بمطلع قصيدته:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
ضجيج
أثارت قصيدة أبي الطيب ضجة وصخبا في مجامع العلم والأدب، فلو قيل إن العبيديين زحفوا على مصر من المغرب، ما كان شغل الناس بالخبر واهتمامهم به، فوق شغلهم بهذه القصيدة وما فيها من ومضات فنية، لم يكن لهم بها عهد. ففي القصر يزدحم القواد ورجال الدولة، حول ابن الفرات، وهو يردد كثيرا من أبياتها، معجبا تارة وعابسا تارة أخرى، وفي سوق الوراقين يتكاثر الأدباء على النساخين؛ ليظفروا بنسخ منها، وإن اشتطوا في الأجر، وغالوا في الثمن، وفي الجامع العتيق يتجمع الطلاب، ويشتد بينهم الجدل في معاني القصيدة ومراميها، وبينما هم في لغط وصراخ، إذ أقبل عليهم أبو بكر الكندي، وكان من أدباء مصر وعلمائها، فصيحا بارعا في الحديث واللغة والنحو الأدب، حتى لقد لقب بسيبويه؛ لمكانته في النحو وغريب اللغة، وكانت مع هذا به لوثة جنون، فكان يركب حمارا أكثر أوقات النهار ويدور به في الأسواق، ويتكلم وهو راكب، والناس حوله يكتبون ما يقول.
Unknown page