وقيعة
صلح
صراع
رحيل
لقاء
ضجيج
حب
دسائس
خيبة
مرض
فرار
وقيعة
صلح
صراع
رحيل
لقاء
ضجيج
حب
دسائس
خيبة
مرض
فرار
الشاعر الطموح
الشاعر الطموح
تأليف
علي الجارم
وقيعة
فارس فارع القد، وسيم الطلعة، تكشف أسارير وجهه عن نبل عريق، وشرف رفيع، وتنطق ملامحه ونظرات عينيه بشجاعة تفرق منها الشجعان، وبطولة يعز مثلها على الأبطال، وكان يتقلد سيفا حلي غمده بالذهب، وزين بنفيس الجوهر، ويتنكب رمحا تقبل أشعة الشمس سنانه فترسل بريقا وهاجا يكاد يحسر العيون، وقد امتطى جوادا كريما راح يهملج في بخترة وزهو، كأنه كان يعتز بكرم سلالته، أو يتيه بشرف منبت فارسه الشعشاع.
سار الجواد بين الوخد والخبب في طريق مدينة حلب، في يوم صائف من سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فانفجرت السابلة عن طريقه كما تنفرج أمواج البحر أمام سفينة تداعب شراعها الرياح، وأخذ الناس يتهامسون في إجلال وخشية: هذا أبو فراس! هذا ابن عم الأمير! هذا بطل حصن برزويه! هذا فارس الدولة وشاعرها المغرد! وكان بين القوم رجل قوي الأسر مفتول العضلات، ظهرت في وجهه سطور كتبتها السيوف، ونقطتها النبال، فدلت على أن عمارا القضاعي جندي قديم مغامر، عرك الوقائع وعركته، وخاض غمارها فغمرته، قال عمار لمن بجانبه في صوت خافت: لقد شهدت خمس وقائع مع هذا البطل، رأيت فيها من إقدامه وجرأته، وصدق درايته بالحروب، ما يكاد يذهل المجاهد عن كوارث الحروب. فأجابه صاحبه: لقد كنت إذا مشاهدا لا محاربا. فابتسم عمار ابتسامة مبهمة فيها ازدراء، وفيها رفق القوي بالضعيف، وفيها اعتزاز الشجاع بمكانته. ثم قال: كنت مشاهدا حقا، ولكن لا كما تشاهد اليوم أبا فراس، وهو يتمايل فوق جواده اللعوب في دروب حلب، وقد نصبت السلم على المدينة ورواقها، وأصبح أهلها لا يخافون إلا من سهام عيون الحسان! دعك يا صاحبي من ذكر الحرب والمحاربين فتلك دماء طهر الله منها سيوف الجبناء. - أتعد كل من لم يشهد الحرب جبانا؟ - إن اقتراب الروم من أطراف مملكتنا، وضغنهم القديم الموروث على المسلمين وملوك المسلمين، وادعاءهم أن بلادنا قطعة من مملكتهم الواسعة، اغتصبها منهم الإسلام بسيفه، ثم ما أعدوه لنا من غوائل الحرب؛ كالنار اليونانية والدبابات الهائلة، كل هؤلاء مما يوجب الجهاد، ويدفع كل مسلم إلى امتشاق الحسام، والموت في سبيل دينه ووطنه شهما كريما. - أما أنا فلن أمتشق الحسام، ولن أخوض غمار الهيجاء. فنظر إليه عمار في اشمئزاز، وقال ولسانه يتعثر من الغيظ: كنت أظن قبل أن أراك أن اللحى من خصائص الرجال. - وهي لا تزال من خصائص الرجال، وإن أمامك لرجلا. - رجل بلا قلب. - رجل لولاه ما امتلأت خياشيمك كبرا، ولا انثنى عطفك تيها عند ذكر الحرب والنزال. - من تكون؟ - أكون كما أكون. - بالله قل لي من تكون؟ فأجاب الرجل وفوق شفتيه ابتسامة ماكرة: أنا يا سيدي الشجاع المغوار صانع سيوف، لولا يده هذه ما جردت أنت ولا قائدك أبو فراس في الحرب صمصاما.
فضحك عمار طويلا، ومد يده إلى صاحبه في سرور، يشعر به من وجد في عدو صديقا جديدا. ثم أخذ يشد على يده ويهزها هزا، ويقول: صانع سيوف؟! حقا لولاك ما حملتنا إلى الجهاد قدم. نعم يا صاحبي، أنت لا تشهد الهيجاء، ولكنك حقا نون النصر فيها وصاده وراؤه، ولولاك ما عز للمسلمين جانب، ولا خفق على حصونهم علم. انظر؛ ما أظن أبا فراس إلا ذاهبا إلى قصر الرحبة. - إني لمحت في وجهه كدرة الغضب، وأخشى أن يكون قد جاء إلى الأمير نذير جديد من قبل الروم. - أظنهم سيقضون وقتا طويلا يلعقون فيه جراحهم، بعد هزيمتهم في «سروج». تلك كانت موقعة رائعة حقا. لقد زحف فيها الروم علينا في عديد الحصى، وقد اشتجرت رماحهم حتى سدت الأفق، وصال بطاريقهم، ووثبت دباباتهم، وتطايرت نيرانهم التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وقد أعجبتهم في ذلك اليوم قوتهم، وزهاهم ما أجلبوا به من خيل ورجل وعدة وعتاد، وزلزل المسلمون زلزالا شديدا، واتجهت عينا سيف الدولة إلى السماء في رجاء المستغيث، حتى إذا اشتد الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، سمعنا على الرغم من لجب الحرب زمازمها، صوتا مجلجلا يصيح: إلي إلي أيها المجاهدون! إن أبا فراس قائدكم المفاخر بشجاعتكم يدعوكم لتخطفوا ثمر النصر من أيدي هؤلاء العلوج. إن دباباتهم لن تغني عنهم اليوم شيئا، وإن قلبا يملؤه الإيمان، وذراعا تشدها العزيمة، أقوى من كل ما جمعوا وعدوا. إننا أيها الأبطال لم نجاهد لأرض وقلاع، وإنما نجاهد لدين وتاريخ ومجد قديم. إن الروم إذا برعوا في الحرب فهم في الفرار أبرع إذا حمي الوطيس، وصدقت الحملة. إلي إلي أيها المجاهدون، ثم إلى الجنة إلى الجنة أيها الشهداء! وما كاد يتم نداءه حتى وثب بجواده نحو الحصن، ونحن خلفه كالأسود الغاضبة، ريع حماها، وديس عرينها، وتكاثر حوله الروم فكان يطوح برؤوسهم يمنة ويسرة، كما ينثر الزراع الحب. حتى إذا وصل إلى القمة خلع راية الروم، وقذف بها في التراب ثم صاح: الله أكبر! الله أكبر! فردد الجيش صيحته، وتواثب المسلمون على الحصن، حتى أجلوا الروم عنه، فانطلقوا خلف بطاريقهم في سرعة الريح يلتمسون الفرار، وعاد المسلمون بالنصر والأسرى والأسلاب والغنائم. - لقد كان ذلك فتحا مبينا. - وسيتلوه فتوح لو اتحد العرب، وكانوا يدا على من سواهم. عم صباحا يا صاحبي، واعمل في طبع السيوف ليل نهار، فإني أخشى أننا لا نزال في بداية صراع طويل الأمد.
بلغ أبو فراس أرض الحلبة، وهي في سفح جبل الجوشن، ووصل بعد قليل إلى قصر سيف الدولة بن حمدان، وكان قصرا سامق البنيان، يطل على نهر قويق، بذل فيه المهندسون والرسامون كل ما في مكنة البشر من إبداع، وزينت حيطانه وسقوفه بالنقوش البارعة، والتهاويل الرائعة، وكان لقاعته الكبرى، وهي قاعة الرسل خمس قباب تحملها اثنتان وأربعون ومائة سارية من الرخام الأبيض الناصع، المحلى بالذهب، وبها مئات من النوافذ الزجاجية البديعة الألوان، أما الأثاث فكان فوق ما يصف الشعر ويرسم الخيال، وقد أحاطت بالقصر الحدائق والبحيرات يجري إليها الماء من تماثيل سمك ضخم، صنع من خالص النضار، وركبت له عيون من ثمين الجواهر.
وما كاد أبو فراس يثب من صهوة جواده، حتى تلقاه بشارة ونجا، غلاما سيف الدولة، بما يليق بمنزلته من إجلال وحفاوة، وكان أبو فراس لا يزال عابسا متجهم الوجه، فانحنى نحوه نجا قائلا: سعد صباح الأمير، ما للوجه المشرق البسام تعلوه اليوم سحابة عابسة؟ فهل في الأمر شيء يا مولاي؟ - لا شيء يا نجا، ولكنها ظنون الشاعر وهواجسه، التي كثيرا ما تطغى على ثبات الفارس وركانته، وتصور له في الحلم ذلا، وفي الإقدام طيشا وجهلا. أتعرف يا نجا لمن هذا البيت:
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام؟
فأسرع نجا، وكان من أنصار المتنبي المعجبين به فقال: هو يا سيدي لأبي الطيب من قصيدته التي يقول فيها:
إن بعضا من القريض هذاء
ليس شيئا وبعضه إحكام
فاربد وجه أبي فراس، وقال: نعم، إنه لذلك الزق المنتفخ بالعظمة الحمقاء، والغرور الكاذب، أين ابن عمي يا نجا؟ - في القاعة الكبرى يا سيدي. فسار أبو فراس في دهاليز القصر وأبهائة، وقد انتثر فيها العبيد والمماليك الروم، يروحون ويجيئون في حركة دائبة، ورهبة وإطراق، يعرف كيف يصطنعهما رجال القصور. فلما وصل إلى القاعة تلقاه سيف الدولة مرحبا باشا، وكان سيف الدولة جسيما قسيما، واسع العينين تشع منهما عزيمة المجاهدين، وفي وجهه سمرة العرب، وملامح النبل والبطولة.
أخذ أبو فراس يتحدث عن الجيش، وما يبذل في إعداده لمكافحة الروم، وردهم إلى تخومهم. فتململ سيف الدولة في حزن وأسى، وقال: أخشى يا ابن عمي أن القوم هنا لا يدركون ما يحيط بالدولة من خطر داهم، فإني أرى أكثرهم منصرفا عن الجهاد ثقة بي، واعتمادا على عظم قوتي، كأن في سيفي سحرا بابليا إذا لوحت به للأعداء انهارت جيوشهم في طرفة عين. إن بمملكتي أبطالا، ولكن بطولتهم مخبوءة مغمدة؛ لأنهم يظنون أنهم يعيشون في ظلال وارفة من الأمن، وأن أعظم معونة يبذلونها للدولة أن يسيروا في مواكبها، ويأخذوا زينتهم في صدور مجالسها. - نحن لا تعوزنا السيوف يا مولاي، ولا تعوزنا السواعد المفتولة، ولا القلوب الضيغمية، وكل عربي منا يضع قلبه ورمحه في أول الصفوف، إذا جد الجد، وأذن مؤذن الجهاد، ولكن الذي نحن في أشد الحاجة إليه حقا أصوات رنانة مجلجلة، تثير الحمية، وتلهب العزائم، وتخلق من اليأس ثقة، ومن التردد إقداما، وتذكر بالمجد الغابر، وتوجه الأمل الحائر، وتوقظ النفوس إلى ما يحيط بها من كوارث تريد أن تنقض. المملكة يا سيدي تتحرق شوقا إلى من يذيع مآثرها، وينشر مفاخرها، ويملأ الآذان بوقائعها المظفرة، وبحسن بلاء أبطالها الميامين. - ألا يقوم المتنبي بهذا، وهو خير شاعر أنبتته أرض العرب؟ - إنه لا يقوم بشيء منه يا مولاي، وهو رجل صلف تياه، شائك الخلق نافر الطبع، أبغض الناس فأبغضوه فنفرت قلوبهم من شعره. - إن بيتا واحدا من شعره كفيل بأن يملأ الآفاق، ويشغل الدنيا، ويرفع الدولة التي يغني بمديحها إلى مسارح النجوم. - إن الشعر يا ابن العم روح قبل أن يكون لفظا ووزنا، وهو شعاع من نفس قائله، ونور يفيض به قلب صاحبه، فإذا كانت تلك النفس مظلمة قاتمة مدنسة بالحقير من الأغراض، وكان ذلك القلب نهبا للأطماع الدنيئة، جاء منهما الكلام فاترا خائرا مقطوع النفس، ضعيف المنة. - هل ترى من هذا النوع قوله:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد؟ - وماذا في هذا البيت يا مولاي؟ إنه لم يبذل فيه جهدا، ولم يعمل روية، ويعلم الله أنه استرق معناه سرقة الطوار البارع في النهار المبصر. استرقه من شاعر دفنته يا مولاي حيا بالانصراف عنه، والاستهانة بشعره. استرقه من شاعر غنى بمجد دولتك، فما ألقيت إليه سمعا، وأشاد بمآثرك فما حققت له أملا. ذلك الشاعر يا مولاي هو أبو الحسين الناشئ الأصغر، الذي يقول فيك حينما شغلك عنه انصرافك إلى ذلك المتنبي، واحتفاؤك به، وإسكات كل صوت للشعراء دونه:
إذا أنا عاتبت الملوك فإنما
أخط بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم يكن
تودده طبعا فصار تكلفا؟ - حقا كان من حق الناشئ علي أن ينال من إقبالي عليه ما هو حقيق بشعره وأدبه، إني أعذره يا أبا فراس، فقد أبطأ عنه عطائي حينا من الدهر طويلا: هل سرق معناه الرائع من هذا الشاعر الذي ظلمناه وبخسناه حقه؟ - نعم يا ابن العم سرق المعنى من قصيدة لهذا الشاعر ينوه فيها بصولة بني حمدان، ويذم بني العباس، الذين لا يفتئون يدسون لهم الدسائس غيرة وحسدا، ويغرون في الخفاء بعض القبائل الخارجة علينا، كبني كلاب وبني العجلان، بالانتقاض على مملكتنا، ومصارحتنا بالعصيان، فهو يقول:
إليكم يا بني العباس عني فإنني
إلى لله من ميلي إليكم لتائب
تركت طريق الرشد بعد اتضاحه
وأقصاكم عنه ظنون كواذب
أترضون أن تطوى صحائف عصبة
كرام لهم في السابقين مراتب
فلا تذكروا منهم مثالب إنما
مثالب قوم عند قوم مناقب - حيا الله أبا الحسين! لقد أحسن الزود عنا، ولكني لا أرى أن أبا الطيب سرق منه معناه، لأن هذه في ناحية، وبيت أبي الطيب في ناحية، إلا أن تدعي أنه سرق الأسلوب والأسلوب ملك شائع لجميع الشعراء. لا يا ابن العم إن المتنبي أرفع قدرا، وأبعد منزلة في الشعر، من أن يتدلى إلى فتات غيره. إنني شاعر قبل أن أكون ملكا وفارسا، ومعرفتي بابتداع الكلام لا تقل عن درايتي بامتشاق الحسام.
فاربد وجه أبي فراس قليلا، وأطرق واجما، ثم رفع رأسه وعلى وجهه ابتسامة الظفر، وقال: مهلا يا ابن العم، فما خالجني شك من تمكنك من ناصية الشعر، واستذلالك أوابد المعاني، ولولا ذلك ما أجاد شعراء المملكة في مديحك، ولا جودوا في الثناء عليك؛ لأنهم يعلمون أنهم يعرضون نسيجهم على خير بزاز، ويقدمون فنهم إلى أمهر الأدباء في تصاريف الكلام، ولعمري إن شاعرا لم يسبق مولاي في وصف قوس قزح حين يقول:
وساق صبيح للصبوح دعوته
فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم
فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا
على الجو دكنا، والحواشي على الأرض
يطرزها قوس الغمام بأصفر
على أحمر في أخضر تحت مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل
مصبغة، والبعض أقصر من بعض
وإذا لم يرض مولاي أن يكون المتنبي قد أغار على بيت الناشئ، فما أظنه يجحد أن شاعره اللص سرق هذا المعنى بعينه من قول الحارث بن حلزة:
ربما قرت عيون بشجا
مرمض قد سخنت منه عيون
وأكبر الظن أن شاعره، وهو أعجز من أن يمتد حفظه إلى العهد الجاهلي، وجد الطريق سهلة مذللة إلى حبيب بن أوس الطائي، فاغتصب المعنى من قوله:
ما إن ترى شيئا لشيء محييا
حتى تلاقيه لآخر قاتلا
ماذا تقول يا سيدي في هذه السرقة الصارخة، وتلك الإغارة الوقحة، التي لا تقل عن إغارات اللصوص، وقطاع الطريق؟ - لقد نظر المتنبي إلى معنى الطائي ما في ذلك شك. - ثم إن هذا السارق لا ينكس رأسه خزيا، بل ينفخ خياشيمه، ويتحدى كل شاعر من شعراء مولاي في جبرية وعجب، إنه في هذه القصيدة التي استشهد مولاي ببيت منها يقول:
خليلي ما لي لا أرى غير شاعر
فلم منهم الدعوى ومني القصائد؟
ويقول في أول قصيدة أنشدها بين يدي سيدي:
غضبت له لما رأيت صفاته
بلا واصف، والشعر تهذي طماطمه
فيصف جميع شعراء مملكته بأنهم عجم لا يبينون، وعلوج لا يفهمون، وأشهد أن الشعراء لم يغضوا عنه عجزا عن معارضته، فإن لكل منهم لسانا لو ضرب به حجرا لفلقه، وإن في شاعرك المغرور المتشدق من وضاعة النسب، وسماجة الخلق، ولؤم العنصر، ما يغري ضواري الشعراء، وما تتحلب له نهما أفواه الهجاء، ولكنهم سكتوا مرغمين محزونين؛ لأنه في كنف مولاي وحمايته، ولأنهم يظنون أن ثلبه، وتمريغه في التراب، قد يغضب مولاهم، فتركوه لك يا سيدي ولكنك تركته عليهم يمزق أعراضهم، ويسخر من فنهم، ويتحداهم في بذاءة وجبروت، وقد كان من أثر هذا أن انصرف الشعراء عن مدحك، فلا يحييك منهم شاعر بكلمة، وتفرد بك هذا الشاعر الدخيل فأخذ يتيه عليك، ويخاطبك مخاطبة الند والنظير، ويمر العام فلا يجود عليك إلا بقصيدة أو قصيدتين، بعد أن تلح في الطلب، وتلحف في المسألة، وبذلك انقلب الوضع، وعكس الأمر، وأصبح الأمير يستجدي شاعره، وأصبح الشاعر يراوغ ويماطل في العطاء ، ما هذه الحال يا مولاي؟! - لقد قلت حقا يا ابن العم، ولكني أخشى إذا انصرفنا عن هذا الشاعر أو صرفناه، أن يلحق بأعدائنا، فيرفع من شأنهم، ويشيد بمجدهم، وقد علمت أن عبد الإخشيد بمصر يبذل الآن فوق ما يستطاع لاستهوائه وإغرائه بالجاه والمال؛ ليصل إلى أرض مصر، ولست تجهل يا أبا فراس ما بيننا وبين الإخشيد من عداء محتدم، فقد وثبت علينا جيوشه منذ سنوات فاستولت على دمشق زينة العواصم، وغرة جبين الشام.
فإذا ذهب المتنبي إلى العبد زاد دولته قوة، ومسح عنه عار الرق ووصل نسبه بمعد بن عدنان. ثم إني أخشى، وهو لدود الخصام علقمي اللسان ألا يتعفف عن أن ينال بهجائه، وهو نفسه الذي يقول:
ومكايد السفهاء واقعة بهم
وعداوة الشعراء بئس المقتنى - إنه لن يذهب إلى مصر يا مولاي، كن من ذلك على يقين. إنه يذهب إلى العراق؛ ليتصل بالخليفة والوزير المهلبي فإن كبره سيزين له أنه أحق شعراء الأرض بالاتصال بالخليفة، وأن شعره أغلى من أن يبعثر على الأمراء وحكام الأطراف، وإذا بلغ بغداد يا ابن العم فإن مائة دينار من خزانتك هذه، ترسل إلى ابن الحجاج وابن سكرة، وهما أقذع الشعراء هجاء، وأفحشهم سبابا كفيلة بأن تشغله عن هجاء الناس جميعا، وتدفعه إلى الانصراف إلى نفسه. - لا أكذبك أبا فراس إني سئمت كبره وإدلاله وتجنيه، ولن أنسى ما اشترطه علي ذلك الأحمق عند أول اتصاله بي من ألا يكلف تقبيل الأرض بين يدي، وألا يخلع سيفه في حضرتي، وألا ينشدني شعرا إلا وهو جالس، ولقد قبلت منه كل ذلك على مضض، حين ظننت أن إغداقي عليه، وإحساني إيه يروضان من نفسه الجامحة، فما أجدى ذلك فتيلا. - إنك يا مولاي تمنحه كل عام ثلاثة آلاف دينار، غير ما تفيض عليه من الصلات والهبات، ثم إنك لا تظفر منه بعد كل هذا إلا بثلاث قصائد، نصف أبياتها في مدح نفسه، والازدهاء بمواهبه، ولو فرقت في كل عام مائتي دينار على عشرين شاعرا لأتوا بالمعجز المطرب، ولبزوا ذلك الوقع في كل ما يتبجح به من إجادة وإعجاز، وإن شعراء مملكتك، والشعراء الوافدين عليك قد يزيدون على المائة وهم يا ابن العم يرتقبون منك نظرة عطف؛ ليملئوا الدنيا باسمك دويا، ويرسلوا أجنحة الشعر بمديحك خفاقة في الآفاق. - صدقت أبا فراس لن يكون لهذا الشاعر الزنيم مكان من رعايتي بعد اليوم! غير أني أرى أن نخرج من هذا الأمر بكياسة ورفق، كما دخلنا فيه بكياسة ورفق. - هذا ما أشير به يا مولاي، ويكفي أن تصد عنه شهرا حتى يزمع الرحيل.
وحينما انتهى أبو فراس من إحكام مؤامرته، حيا سيف الدولة وانصرف، وما كاد يعود إلى قصره، وكان بالقرب من برج أبي الحارث، حتى رأى به طائفة من الشعراء ينتظرون عودته، بينهم أبو العباس النامي، وأبو الحسين الناشئ، وأبو القاسم الزاهي، وأبو الفرج السامري، وكان من ألد أعداء أبي الطيب الحاقدين عليه. فلما رأواه هموا لاستقباله محتفين، وطفقوا يسألونه في شوق ولهفة عما تم في أمر المتنبي وسيف الدولة من نبذ المتنبي، وتقريب شعراء مملكته. فطار الفرح بقلوبهم، وأخذ كل منهم يفكر في مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة؛ ليكون من السابقين الأولين.
أخذ سيف الدولة يفكر في أمر المتنبي، بعد أن تركه أبو فراس وقد تراكمت عليه الهموم، وانتابته الظنون، وعبثت به الهواجس. فهو مرة يرى أن أبا الطيب صناجة ملكه، وناشر فضله، وأنه الغاية التي تقطع دونها أنفاس الملوك، والحلم الذي يتطلع إلى تحقيقه كل أمير، وأنه أشعر من رددت أصداءه آفاق العرب، وأندى صوت يجلجل بالشعر فيخوض البحار، ويثب الجبال، لا يقف دونه سد، ولا يعترضه حائل، وأن شعره جيش أقوى من الجيش، وعتاد يزدري بكل عتاد. من هو سيف الدولة حتى يظفر بدولة الشعر كلها مجتمعة في رجل يمجد أفعاله، ويخلد محامده، ويبث الرعب في قلوب أعدائه؟
يرى سيف الدولة كل هذا، فيرفع رأسه باسما مبتهجا، وقد كاد يثلج صدره برد اليقين، ولكنه لا يفتأ حتى تهجم عليه الوساوس من كل مكان، صارخة عاوية وهي تصيح : ما هذا التدلي إلى الحضيض؟ وما هذا الاستخذاء لشاعر مجنون بالعظمة تياه على الملوك؟ أنت يا ابن حمدان ملك من سلالة ملوك، ولكنك في سبيل أمل كاذب، من نبي كاذب، نزلت بنفسك إلى الهاوية حتى صرت له مملوكا! اذكر إن كنت ناسيا أنه يقبل صلاتك الجزيلة آنفا، ويتقلب في نعمتك حاقدا، واذكر إن كنت ناسيا أنه لا يجود عليك بقصيدة إلا كارها متثاقلا، ثم اذكر أنك كثيرا ما استبطأت مديحه فأفنيت الحيل في استجدائه، فتارة ترسل إليه أبياتا لشاعر ليقول على مثالها، وتارة تزعم أنك أعجبت ببيت قديم لتستثير خاطره الراكد، وخياله الكليل. كل هذا وهو سادر في غروره وكبريائه، يسخر في خبيئة نفسه من الملوك والمماليك، ويردد في صدره قولته الحمقاء:
أي محل أرتقي
أي عظيم أتقي
وكل ما خلق الل
ه وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
إنه وايم الحق رجل ثقيل الظل، مستكره الطباع، ولو كان ينطق بالوحي، ويستملي شعره من ملائكة السماء! إن نفرة الناس منه ذهبت بروعة شعره، فلم يجد بين القلوب منزلا، ويل له مني؟ لن يعيش هذا الرجل في مملكتي بعد اليوم، فإنه لا تؤمن عواقبه، وهو حقود لئيم، يسخط على اليد تمتد إليه بالإحسان، ويأنف من النعمة يسوقها إليها كريم. أليس هو القائل:
مدحت قوما وإن عشنا نظمت لهم
قصائدا من إناث الخيل والحصن
تحت العجاج قوافيها مضمرة
إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن
لا. لا. فليخسأ ذلك المتشدق. أو ليرحل من بلادي إلى أي بلد شاء. لا أريد شعرا، ولا أريد ذلك المجد الموهوم الذي سيخلده شعره.
قال سيف الدولة هذا، وهو يحرك ذراعيه فعل الغاضب المحموم. ثم قام متجها إلى الجناح الذي به أهله بعد أن زالت عنه آلام الشكوك، وسكنت نفسه إلى ما عقد عليه العزم، وبينما هو يسير في دهليز طويل، إذ سمع أصواتا في حجرة، فاقترب وأنصت، فإذا غلامه نجا وأبو الحسن بن سعيد راوية المتنبي يتحاوران، فأرهف السمع فإذا نجا يقول: إنها من أروع قصائده، وكل شعره رائع خلاب. استمع لي يا مولانا، وأصلح خطئي إذا أخطأت:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا
فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا
فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا؟
فصاح ابن سعيد: هذا شعر كان في صدور الشعراء سرا مكتوما حتى جاء أبو الطيب فأفشاه، وكان في كهف الغيب رحيقا مختوما حتى ظهر ابن الحسين ففض ختامه. اقرأ يا بني من مديحه:
هنيئا لأهل الثغر رأيك فيهم
وإنك حزب الله صرت لهم حزبا
وأنك رعت الدهر فيها وريبه
فإن شك فليحدث بساحتها خطبا
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم
ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
سراياك تترى والدمستق هارب
وأصحابه قتلى وأمواله نهبى
أتى (مرعشا) يستقرب البعد مقبلا
وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا
كذا يترك الأعداء من يكره القنا
ويقفل من كانت غنيمته رعبا
مضى بعدما التف الرماحان ساعة
كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدبا
ولكنه ولى وللطعن سورة
إذ ذكرتها نفسه لمس الجنبا
الله! الله! هذا فيض الكريم الفتاح، هذا ليس بشعر يا ولدي، إنه يكاد يكون من وحي جبريل. إن شعراء سيف الدولة جميعا أعجز من أن يقولوا:
ولكنه ولى وللطعن سورة
إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا
فصاح نجا قائلا: أتعرف يا سيدي أني كتبت نسخا من هذه القصيدة، وبعثت بها إلى مصر وبغداد ودمشق وفارس وإفريقية والأندلس؟
كان سيف الدولة يسمع هذا الحوار، ولكنه لم يطق أن يصبر طويلا فدخل الحجرة غاضبا، وقال: ما هذا الهذر الذي تخوضان فيه؟ قاتل الله المتنبي وشعره! أكلما ذهبت إلى مكان سمعت الناس يتحدثون في هذا الوغد أو يدرسون شعره؟ إن بابي سيغلق دونه بعد اليوم. لقد علمت من ابن عمي أبي فراس من شأن هذا الرجل ما كنت أجهل. إنه يتقلب في نعمتي، ويضمر لي ولمملكتي أسوأ ما ينطوي عليه ضمير. فليذهب إلى حيث يشاء، وليجعل من ملوك الأقطار التي ينزل بها آلهة تعبد، فلست في حاجة إلى هذره وهرائه.
ولما انصرف سيف الدولة التفت ابن سعيد إلى نجا، وقال هامسا: دسيسة جديدة ورب الكعبة. لقد أوشك أعداء أبي الطيب أن يظفروا به هذه المرة، ولكني لن أنيلهم مأربا. لن أتركهم ينالون من هذا السر السماوي غرضا. إنه الحسد يا بني الذي قتل النبوغ في العرب، وذهب بريح العرب. أين نعلاي؟ - إلى أين أيها الشيخ؟ - إلى أبي الطيب. إلى نادرة عطارد. إلى الذي يقول:
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
صلح
سار أبو الحسن بن سعيد حزينا مطرقا، يخرج من درب إلى درب، ويتخلص من زحام ليغرق في زحام، وكانت حلب في ذلك الحين من أعظم مدن الشام، تشرف على نهر قويق، ويحيط بها سور شاهق، بني بالحجر الأبيض الضخم، به ستة أبواب، وإلى جانب السور قلعتها الحصينة الحمراء، التي تطل على المدينة شامخة متحدية كما يربض الأسد حول العرين، وكانت فسيحة الطرق، كثيرة القصور ذات الطابع البيزنطي، كثيرة المساجد والفنادق والمتاجر والحدائق، مزدحمة بالسكان من عرب وترك وأرمن وروم.
سار ابن سعيد حتى بلغ ساحة الناعورة، حيث القصر السامق الذي أهداه سيف الدولة إلى المتنبي، فولج بابه مهرولا، فتلقاه العبيد، وأقبل عليه مسعود كبير الخدم فحياه في أدب ولطف. فابتدره الشيخ: أين سيدك أبو الطيب؟ - في حجرة الزوار يا سيدي. - من معه الآن يا مسعود؟ - معه الحسين الصنوبري وأبو الفرج المخزومي. - فيم يتحدثون؟ فابتسم العبد وأجاب: في الشعر يا سيدي، وهل في حلب اليوم حديث إلا في الشعر، وغزوات الروم؟
وانفلت ابن سعيد من بين يدي العبد إلى لقاء المتنبي، فدخل حجرة فسيحة، ثمينة الأثاث، فرشت أرضها بالبسط الفارسية، وغطيت نوافذها بسجوف الحرير المصرية، ونضدت حولها الأرائك، وكان أكثر ما يسترعي نظر الناظر فيها كثرة خزائن الكتب، وكثرة المناضد التي ألقيت عليها الكتب أكداسا، وكان المتنبي جالسا أو على الأصح مضطجعا على كرسي ضخم، في صدر المجلس، وهو طويل فاره في التاسعة والثلاثين من عمره، خفيف اللحم، أسمر اللون، عريض الجبهة، براق العينين، شديد سوداهما، مستقيم الأنف، ترتفع أرنبته إلى ما يقرب من الشمم، في شفتيه رقة، وفي عنقه صيد، وفي ملامحه ثقة المعتز بنفسه، وفي نظراته كبرياء العباقرة، وفي صدره المرتفع ما ينم على ما يملأ هذا الصدر من آمال جسام، وكان يرتدي ثوب فارس كامل العدة، ويهز قدمه بين الحين والحين في إعجاب وزهو، فتصطدم بغمد سيفه الذي طال نجاده.
دخل ابن سعيد فقطع على المتحدثين حديثهم، وحياه المتنبي بنظرة لطيفة، فيها ترحيب لم يذهب بجماله ما فيها من كبرياء، وأخذ المخزومي يصل الحديث، ويقول: فلما رآني ... فابتدره ابن سعيد سائلا: من الذي رآك؟ - أبو الحصين الرقي قاضي حلب. كنت أقول: إنني كنت مارا بالأمس بسوق الوراقين، وكان الرقي جالسا عند وضاح بن سعيد الوراق، فلما رآني صاح: إلي يا أبا الفرج فإن شيطاني لا يريد أن يفارقني اليوم، لقد تلجلج في صدري بيت من الشعر منذ الصباح، وقد عيل صبري في رده إلى قائله، فهل لك أن تنقذ أخاك من خيال الشك؟ قلت: هات يا سيدي، لعل الله معقب بعد عسرا يسرا. قال: من قائل هذا البيت يا ابن أخي؟:
خير أعضائنا الرءوس ولكن
فضلتها بقصدك الأقدام
وكنت أعلم أن الشيخ حاقد على أبي الطيب وشديد الكراهة له، كثير الإيقاع بينه وبين سيف الدولة. فقلت: قائل هذا هو الذي يقول:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مردها الأجسام
فقال: أحسن والله وأجاد! فمن هو؟ قلت: هو الذي يقول:
عقدت سنابكها عليها عثيرا
لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا
فقال: هذا وحي السموات العلا! فمن هو والله ولا تطل؟ قلت: هو أيضا الذي يقول:
أقبلتها غرر الجياد كأنما
أيدي بني عمران في جيهاتها
فصاح هذا تشبيه عز أن يناله خيال، من هذا الشاعر ناشدتك الله؟ قلت هو الذي يكيد له سيدي القاضي، ويصارحه بالعداء، ويدس له عند سيف الدولة! فصاح: هو المتنبي إذا. آمنت أنه الشاعر! إنه يا ابن أخي يحيينا بشعره، ولكنه يميتنا في اليوم ألف مرة بزهوه وإعجابه.
فضحك القوم، وابتسم المتنبي ابتسامة فاترة، ملؤها السخرية والأنفة . ثم قال في تعاظم: عجبا لهؤلاء القوم! إن لم أنزل إلى الوهدة التي تردوا فيها، والحمأة التي تمرغوا في دنسها، قالوا: إنني مزهو متكبر. إنهم يسمون الفضيلة عجبا، والإباء كبرا، والتنزه عن الدنايا تيها وصلفا، وماذا أصنع وقد خلق الله لي نفسا عزوفا عن كل ما يشين، طموحا إلى ما فوق السماء إن كان للسماء فوق؟ وإني أشهدكم أني ضقت بهم قبل أن يضيقوا بي. إنني طائر يعيش في غير وكره، وأمل حائر لا يجد له مستقرا، ولطالما نفرت نفسي من مجالسهم، واشمأزت من عبثهم ولهوهم. فإني إذا لم أعاقر الخمر معهم، قالوا جلف نابي الخلق سيء المعاشرة، وإذا لم أتدل إلى مغازلة النساء المتبذلات، قالوا: سمج الذوق، غير مصقول الطباع، وإذا لم أتخذ من الغلمان أسرابا وأسرابا كما يفعلون نبزوني بأسوأ الصفات، وأشنع الألقاب. فماذا أصنع في هؤلاء، والفجور عندهم محمدة، والسمو إلى معالي الأمور كبر وغرور؟ ولقد يذهب بي الفكر والهم أحيانا إلى أن أعتزم الرحيل عنهم، وقطع المفاوز دونهم، فإنه لا يزال في فسيح الأرض مضطرب للكريم الذي يطلب ما يعجز الطير ورده، ويبتغي ما هو أجل من أن يسمى.
دعاني منذ أيام أحمد بن نصر وزير سيف الدولة، إلى مجلس من مجالس أنسه ولهوه، فأبيت وأبيت، ولكنه أطال في الرجاء وألحف، فذهبت إلى داره كأنما أقاد إليها بالسلاسل. وماذا رأيت؟ رأيت طائفة من كبار المملكة، بينهم أبو فراس وأبو الحصين الرقي هذا الذي يزعم أن زهوي وإعجابي يميته في اليوم ألف مرة، ورأيت كثيرا من قواد الجيش، وأدعياء الشعر والأدب في هذه المدينة، رأيتهم وقد لعبت الخمر برءوسهم جميعا، فذهب عنهم العقل، وطار منهم الحياء، وكان السقاة يطوفون بالأكواب، فما مروا برجل إلا أفرغ كؤوسهم في بطنه، وشرب شرب الهيم، وكانت الجواري الروميات، وهن في أجمل زينتهن، يرسلن شباكهن لصيد القلوب وإثارة النزوات: بين غمزة ساحرة، وبسمة فاتنة، وانثناء لعطف، واهتزاز لنهد، وقبلات ترسل بالأكف، وإشارات تعبث بالعقول، وهمسات أثيمات، وذعر مصطنع، واستنكار مبتدع، ودلال ينسي الرجل عرضه، وإغراء يوقظ الفتنة النائمة، وقرب في تباعد، وتباعد في قرب، وغضب في طيه رضا، ورضا في غضونه غضب، وقامت بين القوم راقصة تكاد تكون متجردة فذهبت بالبقية من عقولهم، وأخذت ما تركته الخمر فيهم، وزينت النشوة لهذا الرقي قاضي حلب، الذي يكره مني زهوي وإعجابي أن يقوم ويرقص بين تصفيق والقوم، وترديد الألحان، وكان ينشد أبياتا عبث السكر بأوزانها، ولعبت بنت الحان بقوافيها. أما أنا فلم أستطع البقاء، فاتخذت من انصراف القوم إلى لهوهم سترا، وخرجت أتلفت ورائي، وأجمع من هذا الدنس أثوابي.
ذلك هو الذي يريدني هؤلاء المستهترون علي أن أفعله، وأن أشاركهم فيه، وإلا كنت ثقيل الظل، شائك الجانب، غليظ القلب فظا. لا يا صحابي إني خلقت من طينة غير طينتهم، ورميت إلى غاية غير غايتهم، وإذا كان لساني لسان شاعر، فإن قلبي قلب ... ثم ترددت قليلا، فقال المخزومي: قلب أسد؟ فالتفت إليه المتنبي، وقال: لا. كنت أريد كلمة أخرى ندعها الآن يا أبا الفرج. ثم أذن العصر، فقام من حضر للصلاة، وبقي المتنبي جالسا في متكئه يقلب في ديوان أبي تمام، وكان على منضدة أمامه، وكان يرسل إليه لمحات خاطفة، فمرة يبتسم احتقارا، وأخرى يهز رأسه استحسانا، وثالثة يمد شفتيه في استنكار وسخط.
فلما قضيت الصلاة حيا القوم أبا الطيب وانصرفوا، وبقي ابن سعيد قلقا ينفخ من الهم والغضب، فالتفت إليه أبو الطيب سائلا: ما لي أراك قلقا يا أبا الحسن؟ - لا شيء يا أخي، إلا أني سمعت اليوم حديثا أطار صوابي، وضاعفت من همي وحزني. فلقد علمت في هذا الصباح أن القوم يأتمرون بك، وأنهم لم يتركوا في كنانتهم سهما مسموما حتى رموك به. فخذ حذرك أبا الطيب، إني لك من الناصحين. - القوم يأتمرون بي؟! حياك الله وبياك يا أبا الحسن! ولكن ليس هذا بنبأ جديد. قل لهم ما قلته لغيرهم:
إني وإن لمت حاسدي فما
أنكر أني عقوبة لهم
وكيف لا يحسد امرؤ علم
له على كل هامة قدم - إن الأمر يا سيدي جد وما هو بالهزل، وإن أبا فراس وشيعته أعظم من أن يستهان بأمرهم، أو يفض الحديث عنهم ببيتين من الشعر، إنهم يكيدون لك، وينصبون لك الحبائل، ويمشون لك الضراء، فحاربهم بسيوفهم، واقتلهم بالسم الذي أعدوه لك. إن الفلسفة التي تسير بهديها، والتي تستريح إليك نفسك، وتهدأ بها هواجسك، لن تغني في هذا الزمان فتيلا. إننا يا سيدي نعيش في جو قاتم بالدسائس، مختنق بالفتن، ومن خطل الرأي أن يخطو المرء في أرض تزدحم بالأفاعي وهو لا يحمل ترياقا، أو يسير في مسبعة وهو لا يستصحب الحذر. لقد أزعج القوم إباؤك وشممك، وتلك المشية المزهوة التي تكاد تشم فيها عظمة الملك من أعطافك، وتلك النظرات المتسامية التي تعد من تحتها من الناس ذبابا أو نمالا. إن العظمة يا أبا الطيب لا يراها الناس إلا تحت رداء من التواضع، والنبل معنى تدركه العقول ولا تبصره العيون. خض مع الناس فيما يخوضون، وخذهم كما يكونون، واحتل إذا وجدت الاحتيال مطية لمآربك، وبش في وجوه قوم وقلبك يلعنهم. - لا. لا. يا أبا الحسن. ذلك عهد ودعته منذ حين، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها، ولن أفسد خلقي لفساد أخلاق الناس، ولن أضيع مروءتي بين ملق دنيء، وخداع وبيء. أنت تريدني على أن أقذف بأخلاقي ورجولتي في التراب؛ لأرتدي ثوبا من الرياء مخرقا، ولماذا؟ لأن طائفة من السادرين الآثمة الذين أعيش بينهم، تؤلمهم رؤية الفضيلة، ويؤذيهم أن يعتز المرء بنفسه. لا يا أبا الحسن عرج على حديث آخر. - ليس لي اليوم حديث إلا هذا، فإن لي فيك اعتقادا أرسخ من الجبال. أعتقد أنك الشاعر الذي بعث على رأس هذا القرن لينهض بالعرب، وليغني بمآثر العرب، وليعيد مجد دولة العرب، ولن أجد لك ميدانا بين دويلات الإسلام أوسع من حلب، ولا ملكا يساير رنين شعرك صليل سيوفه إلا سيف الدولة. إنه الملك الفذ الذي يقارع الروم، وهم يتوثبون على أطراف مملكته بعددهم وعديدهم في صولة وقوة وشهوة للانتقام، والحرب يا أبا الطيب لن تسير غازية، فاتحة، مظفرة إلا على ألحان الشعر الحماسي الذي يلهب الوجدان، ويقذف الرعب في قلب الجبان، ولن يكون هذا الشعر إلا شعرك يا ابن الحسين، ولن تكون النغمات السماوية إلا من مزهرك المرنان. أنت لست ملك نفسك يا رجل. أنت ملك العرب جميعا، أنت هبة الزمان الجديد الذي جاء ليصلح بك ما أفسده الزمان القديم، وإذا هجرت حاضرة سيف الدولة فأين تذهب؟ قد يخيل إليك أن تذهب إلى العراق، ويا ويلي من العراق وتعسي!! إنه الآن تحت سيطرة طغاة من الديلم، وخليفتنا المطيع لله - فك الله أسره - يعيش الآن في قفص يسمونه عرشا، بعد أن خلع الديلم ابن عمه المستكفي بالله وسملوا عينيه، وهو اليوم يجلس على سرير الملك كما يجلس القرد المذعور الذي تذهب عيناه يمينا وشمالا أينما ذهبت عصا صاحبه. هذه هي بغداد التي كانت زينة الدنيا وبهجة الدهور، أيام الرشيد والمأمون، وهناك الوزير المهلبي، وقد جمع حوله حثالة الكتاب، وشذاذ الشعراء الذين يرسلهم على أعدائه كما ترسل الكلاب المضراة فلا يتركون أديما صحيحا، ولا عرضا سليما. هل تستطيع أن تعيش في هذا الجو يا أبا الطيب؟ وفي أي شيء تقول الشعر هناك؟ في الكأس والطاس والغواني والغلمان! نعم ليس هناك مجال إلا هذا المجال القذر الدنس، فليس هناك غزو ولا فتح، حتى لقد صدئت سيوفهم في أغمادها، إن كان لا يزال في أغمادهم سيوف، ومن تظن سيكون من نظرائك وأندادك؟ سيكون من هؤلاء ابن الحجاج الوقح، وابن سكرة المفحش، وابن لنكك السباب. لا يا سيدي، إن رضيت بهذا فلن أرضاه لك، وقد يجول بخاطرك أن تذهب إلى مصر، وإني أربأ بك أن تفعل هذا، وأن تجعل من نفسك عبدا للعبد الأسود، ويا لضيعة الشعر ويا لضيعة الأدب إذا انحدر إلى هذه الهاوية! قد تقول أذهب إلى فارس، ولكن ثقتي بك تأبى علي أن أتخيل أن مثلك يذهب هذا المذهب، ويبيع عروبته وتاريخه بثمن بخس، دراهم معدودات. أنصت إلي يا أبا الطيب، ليس لنبوغك مجال إلا في حلب ، وليس لعقود شعرك مكان أجمل ولا أشرف من جيد سيف الدولة. فأقم في ذراه، واعتصم برضاه، وجامل من حوله، وكن فسيح الصدر، واسع الحيلة، واترك خلق الله في ملك الله. - إني أحب سيف الدولة يا أبا الحسن، أحب فيه شجاعته وإقدامه وكرم سجيته وصبره على الجهاد، وأود أن أعيش في كنفه، وأن أدفن في الأرض التي طهرها سيفه من رجس الغزاة المغيرين، ولكن في حاشيته عصابة اتخذت من أبي فراس زعيما، بغضت إلي حلب وملكها، وحببت إلي الذهاب ثانية إلى الصحراء، حيث كنت أعيش في طليعة شبابي مع جفاة الأعراب، فما رأيت منهم إلا نجدة وعزة وأنفة عن كل ما يشين. - إن أبا فراس هذا هو الذي جئت لأحدثك في شأنه اليوم. فقد ملأ قلب سيف الدولة غيظا منك وحقدا عليك، وذكر له من تيهك وجبريتك وامتهانك لشأنه ما دفع سيف الدولة إلى أن يعقد العزم على سد بابه دونك. رآني اليوم مع نجا وهو يقرأ علي بائيتك الأخيرة فصاح فينا غاضبا، وأخذ يرميك بكل قارعة، ويصمك بكل قاصمة، وينذر ويتوعد؛ لذلك هرولت إليك مسرعا حتى نرد كيد القوم في نحرهم، ونظفر برضا سيف الدولة دونهم. - وكيف نظفر برضاه وهو على ما وصفت؟ - إن سيف الدولة قلب دوار، يكون الصبا ويكون الدبور، فهو في لحظة سيل هدار العباب، وفي أخرى صفحة غدير سجسج يتعثر فوقه النسيم. هو الآن غضبان، ولكنه إذا سكت عنه الغضب عاد طفلا غريرا يسهل اجتذابه، ويسلس قياده. - دعني أرحل عنه بسلام يا أبا الحسن، فإن النفوس إذا تنافرت قل أن تعود إلى ودادها. - هذا كلامكم معشر الشعراء، ولكن النفوس تتنافر ثم تتعانق، ولا يصفو الود إلا بعد أن يخلص من الكدر. - من الذي يخلص ود سيف الدولة من هذا الكدر؟ - أخته خولة. فإنها مفتونة بشعرك، كثيرة الإعجاب بك، وهي ترى- أن خروجك من مملكة أخيها لا يقل عن دخول الروم فيها، وسيف الدولة مشغوف بها حبا، لا يرد لها كلمة ولا يخيب رجاء. فلو ألحت عليه في أمرك، لأحبطت كيد القوم، وأعادتك إلى ما كنت فيه من المنزلة والكرامة. - افعل ما تشاء يا أبا الحسن، ولو خيرت ما اخترت. - إني سأختار لك. فلا يكن في صدرك حرج، وسأمر على دارك غدا بالخبر اليقين.
فلما جاء الغد أسرع أبو الحسن بن سعيد إلى دار المتنبي، فلم يجده ورأى ابنه محسدا فقال له: قل لأبيك يا محسد: إن الأمير يبلغه تحيته ورضاه، ويود أن يقابله في قاعة الرسل في صبيحة غد؛ ليستمع لإنشاد القصيدة الجديدة، وقل له: إن الجمع سيكون حاشدا، عم مساء يا محسد. ثم بلغه عني ألا ينسى قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
صراع
عاد المتنبي إلى داره حزينا مثقلا بالهموم والأوجال، يهز رأسه صامتا مطرقا، فابتدره محسد وألقى عليه رسالة أبي الحسن لم يخرم منها حرفا. فالتفت إليه أبوه في تثاقل، وقال: إذا سيكون الموعد غدا؟ - نعم يا أبي، وهو يقول: إن الجمع سيكون حاشدا. - إنه يوم الفصل يا محسد، وسيعلمون غدا من السباق المبرز.
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت، أم ذعر الذعر؟
وأقبل مسعود فقال: إن العشاء قد أعد يا سيدي.
ليس لي في الطعام من أرب الليلة يا مسعود. أوقد الشموع في حجرة نومي، وأعد بجانبها شموعا أخرى، فقد يطول بي السهاد في هذه الليلة الليلاء، وأحضر أقلاما وأوراقا ودواة بجانب سريري. أسرع يا مسعود، فإن مجد سيدك الليلة في ميزان القدر. فأسرع العبد ينجز ما أمر به، وتخفف المتنبي من بعض أثوابه، وهو يتمتم: غدا سيرون! غدا سيكون لي معهم ومع أميرهم شأن أي شأن! غدا يعلمون أني كالحجاج بن يوسف لا يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين، وغدا يستيقنون أن الشعر إذا تنفست به نفس جريئة، كان ملكا على الملوك، وأميرا على الأمراء. من هؤلاء ليت شعري ومن آباؤهم؟ كان آباؤهم زعماء طائفة من فتاكي العرب، أغاروا على أطراف الخلافة، وهي تترنح للسقوط، فمزقوا أشلاءها، واقتطعوا لأنفسهم منها طرفا، وأصبحوا في طرفة عين ملوكا لهم عرش وصولجان، وجند وسلطان، ولم لا أوطد ملكا كما وطدوا؟ وأشيد مجدا مغتصبا كما شيدوا، ما دام الأمر للقوة، والحكم لأطراف الأسنة؟ ثم أطرق حزينا وهز رأسه في ألم وحسرة، وقال: ولكن هؤلاء لهم عشيرة وعصبة، ولهم أعوان وأحلاف في القبائل، ولهم في الرياسة مجد قديم، أما أنا فقد:
أظمتني الدنيا فلما جئتها
مستسقيا مطرت علي مصائبا
ثم زفر وقال: نعم يا أبا الطيب، لقد قسا عليك القدر، فأنشأك في أسرة خاملة النسب، تجاهد بجدع الأنف أن ينساها الناس، وأن ينسوا اتصالك بها، وليس لك غير عزمك وسيفك وشعرك من عشير أو قبيل. فأين أنت من المطالب العظام والمقاصد الجسام؟. نعم. لقد قسا عليك القدر، فخلق لك نفسا شامخا تواقة غلابة طماحة إلى الملك، ولم يخلق لك من آلات العظمة والملك ما يصل بك إلى أدنى هذه الغايات. هذا هو دأب القدر دائما، يضع السيف في يد من لا يستطيع حمله، ويهب المال لمن لا يحسن تدبيره، ويكيل الحمد والثناء لمن لا يفهم معنى الحمد والثناء.
جلس المتنبي أمام منضدته، ومد يده إلى القلم، وأطرق طويلا يفكر في ابتداء القصيدة، فجال بخاطره أن يقول:
نقل الواشي حديثا فكذب
كن مجيري منه يا خير العرب
ولكنه هز رأسه هزا عنيفا، وقال: لا. لا. هذا مطلع يدل على ضعف نفسي، واهتمامي بالوشاة. ثم إن تسمية سيف الدولة في أول القصيدة بخير العرب إغراق فاضح، وسرف في المديح لا يصح أن يعطى في جرعة واحدة، وعدل عن هذا المطلع، وأخذ يفكر في مطلع آخر؛ فعرض له أن يقول:
غال بعض الحب عذل العاذل
ومضى الباقي بمطل الماطل
غير أنه مد شفته السفلى استنكارا، وقال: لا. لن يصلح هذا مطلعا فإن فيه إيغالا في القطيعة، ومصارحة بالجفاء، وإذا اغتال العذل بعض الحب، وذهب مطل الحبيب بباقيه، فماذا يبقى منه للرجل؟ وماذا أرجو عنده بعد أن كاشفته بانقطاع حبل الود بيننا؟ ثم فكر قليلا، وصاح في اهتمام: لقد وجدت المطلع، لقد وجدته. هذا هو:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ثم وقف وأخذ يجول في أنحاء الحجرة، وهو يهمهم ويزمجر زمجرة النمر الجريح، وكلما حام حوله طائر الشعر أطرق وزمزم حتى يلتقطه فيسرع إلى أوراقه فيدون البيت أو البيتين، وكان من يراه وهو يذرع أرض الحجرة شاخص العينين، يلوح بذراعيه أحيانا، ويضرب بقدمه الأرض أحيانا، ويتحدث إلى الشموع والحيطان أحيانا، يظنه مجنونا ذهب عقله وطار لبه.
فرغ المتنبي من قصيدته قبل أن تظهر خيوط الصباح، فطوى أوراقه، وألقى بنفسه على سريره، ولكن هيهات لمثله أن ينام! فلما شاع نور الشمس في الأفق، تناول نزرا من الطعام، ثم ارتدى ملابسه، وأمر مسعودا بإعداد جواده، ولما هم بالركوب رأى أبا الحسن بن سعيد في انتظاره، فابتدره ابن سعيد: هل أتممت القصيدة؟ - نعمت أتممت قاصمة الظهر، وقارعة الأبد. - أرجو ألا تقسو فيها على أعدائك يا أبا الطيب. - ليكن ما يكون.
ولما بلغا قصر سيف الدولة، نزل أبو الطيب عن جواده فتلقاه نجا في بشر وترحاب، وهمس في أذنه قائلا: اليوم يومك يا أبا الطيب. فإن أعداءك هنا جميعا، وقد جمعوا مكرهم، وألقوا حبالهم وعصيهم. فهز المتنبي كتفه في تيه، وقال: إن هؤلاء لا يهزون شعرة من مفرقي:
أنا الذي بين الإله به الأق
دار والمرء حيثما جعله
جوهرة تفرح الشراف به
وغصة لا تسيغها السفله
ودخل المتنبي قاعة الرسل، فرأى سيف الدولة في صدر الإيوان، وحوله الوزراء والفقهاء ورجال العلم والأدب، وكان بالمجلس عدد عديد من أعداء المتنبي بينهم الزاهي والنامي وأبو الفرج السامري، وكان على رأس هؤلاء أبو فراس وأبو العشائر، وقد أخذا ينظران ذات اليمين وذات الشمال في قلق واضطراب.
دخل المتنبي فسلم على الأمير مطأطئ الرأس حزينا، ورد سيف الدولة تحيته مدلا عابسا، وسكت الجمع، وتحفز أعداء أبي الطيب للوثوب، فشرع ينشد حتى إذا بلغ قوله:
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم؟
صاح به أبو الفرج السامري: ويلك يا دعي كندة. لقد هجوت الأمير؛ لأنك تزعم أن الناس جميعا لا يحبونه إلا ادعاء، وأنك وحدك الذي يحبه حبا صادقا، وهل هذا إلا هجو صراح؟ فانصرف عنه أبو الطيب غير مكترث، واستمر في الإنشاد، فلما قال:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
قال أبو فراس: قد مسخت قول دعبل:
ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت
عيني دموعا، وأنت الخصم والحكم
فقال المتنبي وهو ينظر إلى الأمير ويشير إلى أبي فراس:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فعلم أبو فراس أنه يعنيه، فقال: ومن أنت يا ابن عبدان حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه؟ فواصل المتنبي إنشاده ولم يلق إليه أذنا إلى أن قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
فزاد ذلك في غيظ أبي فراس، وقال: قد سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد إذ يقول:
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت
دهرا وأظهرت إغرابا وإبداعا
حتى فتحت بإعجاز خصصت به
للعمى والصم أبصارا وأسماعا
ولما انتهى إلى قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
صاح أبو فراس: وماذا أبقيت للأمير إذا وصفت نفسك بكل هذا؟ تمدح الأمير وتتبجح بوصف نفسك بما تسرقه من كلام غيرك؟ أما سرقت هذا من الهيثم بن الأسود النخعي؟:
أنا ابن الفلا والطعن والضرب والسرى
وجرد المذاكي والقنا والقواضب
فقال المتنبي:
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
فقال أبو فراس: وهذا أيضا سرقته من قول العجلي:
إذا لم أميز بين نور وظلمة
بعيني فالعينان زور وباطل
ومن قول محمد بن أحمد المكي:
إذا المرء لم يدرك بعينيه ما يرى
فما الفرق بين العمى والبصراء؟
وهنا ضجر سيف الدولة من كثرة مباهاة المتنبي بنفسه، وكثرة دعاويه، فمد يده إلى دواة كانت أمامه، فضرب بها المتنبي فسال المداد على ثيابه، ولكن المتنبي وقف شامخ الرأس كأن لم يمس بأذى، وشرع يقول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
فاهتز سيف الدولة للبيت، وحسن عنده موقعه، وقام مهرولا نحو المتنبي يعانقه، ويقبل رأسه، وأخذ يشده من ذراعه حتى أجلسه بجانبه. فلما أتم أبو الطيب القصيدة وهو جالس، أجازه بألف دينار، ثم أردفها بألف أخرى، استعادة لمودته وإعلاء لمنزلته، والناس مع الزمان، والإقبال يجلب الإقبال، فما كاد يرى من بالمجلس فعل سيف الدولة حتى أقبلوا على المتنبي يكيلون له المديح، ويخلعون عليه من الثناء حللا، ويشيدون بعبقريته، ويحمدون فيه الإباء والشمم والجرأة على ممدوحه، وأنه يرفع فنه إلى قمة دونها منازل الملوك، ويضع نفسه حيث يجب أن تكون، وقال له أبو الحصين الرقي وهو يشد على يده: حياك الله يا أبا الطيب! لقد كنت اليوم الفارس المعلم فلم تدع مصالا لصائل، ولقد كان نصرك مبينا مؤزرا، فاحرص على هذا الانتصار يا أبا محسد، فقد يكبو الجواد وقد قارب القصب! فرد عليه المتنبي بكلمات ضاعت معانيها بين صيحات المعجبين. أما أبو فراس وأبو العشائر وأنصارهما من آل حمدان فقد حبست الهزيمة ألسنتهم، وأكل الغيظ قلوبهم فتسللوا من المجلس، وفي أعينهم لمحات الغضب والحقد والعزم على الانتقام؛ لما نالهم من احتقار المتنبي وتعريضه بهم في قصيدته.
وما كاد أبو الطيب بعد خروجه من القصر يصل إلى ظاهر المدينة، حتى أحاط به غلمان أبي العشائر ونفوسهم متعطشة إلى دمه، فرماه أحدهم بسهم وهو يقول: خذه وأنا غلام أبي العشائر! فحاد عنه السهم، ووكز أبو الطيب جواده وهو يقول:
ومنتسب عندي إلى من أحبه
وللنبل حولي من يديه خفيف
فهيج من شوقي وما من مذلة
حننت، ولكن الكريم ألوف
وكل وداد لا يدوم على الأذى
دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا
فأفعاله اللائي سررن ألوف
فإن كان يبغي قتلها يك قاتلا
بكفيه، فالقتل الشريف شريف
وبلغ المتنبي داره وقد نال منه الجهد، واضطرب منه العصب، فارتمى فوق سريره يلهث ويردد أنفاسه ، وقد جالت في نفسه خواطر متباينة، وهجمت عليه ظنون متناقضة. هؤلاء الغلمان الذين طلبوا دمه إنما هم عن قوس ساداتهم رموا، وبأيديهم راشوا السهام. نعم إنه انتصر عليهم عند سيف الدولة اليوم ولكن هل يدوم هذا النصر، وحوله هؤلاء الذئاب، وهو يخطو فوق أرض كثيرة المزالق والأخاديد؟ إنه انتصر حقا ولكن هذا النصر قد يكون حافزا لأعدائه على الإسراع بالكيد له، وإحكام الخطة لدفعه في الهاوية. إنه انتصار يجر في ذيله الهزيمة. انتصار المصادفة الذي يعقبه انهزام تنصب شباكه الدسائس المحكمة، والمكر الخبيث، والغلمان الفتاكون الذين يرسلون سهامهم في غبش الظلام، وهل يستطيع أن يركن إلى سيف الدولة أو يثق بنصرته، وهو كما قال أبو الحسن رجل من هواء لا يدوم على حال. يملكه الغضب حينا فيرتد شيطانا رجيما، ويجتذبه الرضا بخيط من خيوط العنكبوت فيصبح ملكا كريما، وكيف يعيش شاعر غرد في هذا الجو القلق المضطرب؟ إني أوثر أن أعيش في عرين الأسد، وأرقد بين الحيات السود، وأنام في مجاري السيول، على أن أعيش بين سموم هذه الأحقاد يوما واحدا. غدا أرحل إلى أي مكان على رغم يقيني من أني لن أجد لسيف الدولة مثيلا بين الأمراء، ولكن ماذا أفعل والجنة تحف دائما بالمكاره، والورد لا يجنى إلا من الشوك؟ غدا أرحل إلى دمشق، ويفعل الله ما يشاء. يا محسد. فأسرع ابنه إلى ندائه، ووقف يتلقى أمره، فطلب منه أن يأمر العبيد بإعداد كل شيء للرحيل في الغد، ورأى أبو الطيب في وجه ابنه سمات التردد والعجب فصاح به: أطع ما آمرك به ولا تعوق. فقال محسد في تلعثم: إني في الحق في حيرة من هذا الأمر المفاجئ. لقد كان فوزك اليوم على أعدائك فوزا حاسما، وكان إقبال الأمير عليك واعترافه بسمو منزلتك حادثا فذا لم يسجل له الدهر مثيلا في تاريخ الملوك والشعراء. ثم بعد هذا يخطر لك أن ترحل عن هذا الجاه العريض، والمرتبة التي تتقطع دونها أعناق الشعراء! - مر العبيد أن يعدوا كل شيء، ولا تخاطبني في شأن الأمير. اذهب.
فخرج محسد متثاقلا والدهش يملك عليه لبه، فأمر مسعودا بالاستعداد للرحيل، وما كاد يلمع أول شعاع للصباح حتى وصل فارس يلهث جواده إلى دار أبي الطيب وطلب لقاءه فأدخل عليه. فقال الفارس: إني خادم سيدتي خولة أخت الأمير، وقد بعثتني برسالة إليك. - سيدتي خولة؟ تبعث إلي برسالة؟ أين هي؟ - ها هي ذي يا سيدي، ومد يده في كمه فأخرج منه كيسا من الحرير الأخضر خيطت جوانبه حول الرسالة، ففض المتنبي الكيس وأخرج الرسالة فكان فيها:
من خولة بنت عبد الله بن حمدان إلى أبي الطيب أحمد بن الحسين. أما بعد؛ فقد كانت قصيدتك التي أنشدتها اليوم آية بينة من آيات البيان، جديرة بأن تعلق على أستار الزمان، وأن يردد قوافيها الملوان. قرأها علي الليلة أبو الحسن بن سعيد، وشرح لي ما حدث من مقاطعة أبي فراس لك، وتحديه إياك، وما كان من انتصارك عليه، وما كاد يتم سرورنا حتى فوجئنا بتعرض غلمان أبي العشائر لك في الطريق، فغضب أخي أشد الغضب وبعث في طلب أبي العشائر، فلما جاءه تلقاه ساخطا لاعنا، واعتذر أبو العشائر وأطال الاعتذار، وأقسم إن شيئا من ذلك لم يكن بإشارته ولا بعلمه، ولم يخرج من لدنه حتى كتب أمرا بنفي هؤلاء الغلمان جميعا إلى الموصل؛ وقد جال بنفسي أن هذا الحادث قد يحفزك إلى الرحيل، بعد أن كنت مترددا. فأستحلفك بالله وبمجد العرب وبما تكن لأخي من مودة ألا تفعل. لا ترحل يا أبا الطيب فإن الدولة في أشد الحاجة إليك. أنت قلبها النابض، وزندها المفتول، وجيشها الذي لا يصاول. لا ترحل يا أبا الطيب واستمع لرجاء فتاة تقدر أدبك وفضلك. إن الدولة من غير أن يتردد فيها نغم شعرك كنانة بلا سهام، ودوحة بلا بلابل، والسلام عليك في الخالدين.
قرأ المتنبي الرسالة، ثم اطرق واجما مفكرا ينكت الأرض بعصا كانت في يده. ثم رفع رأسه وكأنما أفاق من غمه فقال للرسول: قبل يد مولاتي وقل لها: إن العبد لا يأبق ما أحسن به سيده، وإن طائرها سيظل رفافا غردا ما بعد عنه حفيف السهام، وإن الشعر لن يعصي أمرا لسيدة نساء «تغلب» ولا يرد كلمة مرت بأطهر شفتين، ونطق بها أصدق لسان.
وبقي المتنبي في كنف سيف الدولة بعد ذلك قرابة خمس سنين، بين سخط ورضا وعتب وإعتاب، وتجن وإدلال، وحضر بعض مواقع الروم مع سيف الدولة فأجاد وصفها، وشدا ببطولة رجالها، فملأ الدنيا، وشغل الناس، وطار شعره في الآفاق، ورددته الأفواه في كل مكان:
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
ولما طال به المقام كثر حساده، ومل سيف الدولة تيهه وكبريائه وضنه عليه بالمديح، فازدادت بينهم الجفوة، ولم يجد أعداء المتنبي بابا للنكاية به إلا ولجوه، وحينما ضاق المتنبي بأمرهم فكر في الرحيل، وكأنه كان ينظر بعين الغيب حقا حينما قال في آخر قصيدة أنشدها بين يدي سيف الدولة:
ولا تبال بشعر بعد شاعره
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
وبلغ سخطه على سيف الدولة غايته حينما حضر مجلسه مرة، وكان به أبو الطيب اللغوي وأبو عبد الله بن خالويه النحوي فجاء في عرض الحديث بيت المتنبي:
لقد تبصرت حتى لات مصطبر
فاليوم أقحم حتى لات مقتحم
فقال ابن خالويه: في هذا البيت لحن شنيع، لأن «لات» لا تجر ما بعدها؛ إذ ليست هي من حروف الجر. فقال أبو الطيب اللغوي: إن بعض العرب يجر الاسم بعدها، فأنكر عليه ابن خالويه ذلك، فنهره المتنبي في غضب وقال: اسكت فما أنت إلا أعجمي لا يفهم أساليب اللغة، فإن من العرب من يجر الاسم بعد «لات»، قال شاعرهم:
طلبوا صلحنا ولات أون
فأجبنا أن ليس حين بقاء
فغضب ابن خالويه، وأخرج من كمه مفتاحا من حديد، فصك به المتنبي في وجهه، فأسال دمه. فنظر أبو الطيب حوله فلم ير من سيف الدولة استنكارا ولا أسفا، فخرج من عنده كالبعير الصائل، وقد عزم ألا يكون ثالث الأذلين عير الحي ووتده، وجعل يردد:
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني
ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما
رحيل
لزم المتنبي داره أياما يفكر ويدبر، ويبحث عن طريق للفرار من حلب، وهو يعلم أن سيف الدولة سيسد دونه المنافذ، ويسأل عنه الفلوات، وأنه سيرسل جواسيسه في كل مكان يتعقبون خطواته، ويترسمون آثاره. فكر أولا في الذهاب إلى حمص ولكنه رأى أنها من أملاك سيف الدولة، وأن الفرار من حلب إليها ليس إلا كما ينتقل الطائر الحبيس في قفصه من ركن إلى ركن. ثم فكر في أن يصارح سيف الدولة بأن ثواءه طال في حلب، وأنه يعتزم الرحيل عنها، وأن ينشئ قصيدة فريدة في مدحه وتوديعه، ولكنه رأى بعد طول التكفير وتقليب الرأي أن سيف الدولة لم يصل به البله إلى أن يطلق من يده شاعرا تتنافس في احتيازه ملوك الأرض. يرسله من يديه؛ ليغني بمجد منافسيه، ويطلق لسانه المر بهجائه والإزراء بملكه. إنه إن صارح سيف الدولة بهذا فليس لذلك من عاقبة إلا أن يعتقله وينكل به، ويقضي على آماله الجسام.
فكر المتنبي طويلا ودبر طويلا، حتى هداه التفكير إلى أن يتحين غفلة من الأمير ويفر إلى دمشق. فأظهر الود لسيف الدولة، وأكثر من زيارته، ثم التمس منه أن يأذن له بالسفر إلى إقطاعه «بمعرة النعمان» فأذن له، وما كاد يظفر أبو الطيب بهذا الإذن حتى أسرع إلى داره، وكان قد أعد عدته للرحيل منذ أيام، فدعا ابنه محسدا وعبده مسعودا وأنبأهما بأن يحملا إلى دمشق في خفية وحذر ما خف من متاعه على ظهور الجياد، وأنه سيلحق بهما إذا خفضت عنه العيون، ونام عنه الرقباء. فامتثلا الأمر، ولم تمض ساعات حتى كانا في طريق دمشق ينبهان الأرض في صمت ورعب ووجل.
أما أبو الطيب فانتظر إلى الهزيع الأخير من الليل، ثم خرج متسللا ينظر في الظلام، فلا يرى إلا أشباح الظلام، ويصغي فلا يسمح إلا دقات قلبه الواجف الحزين. حتى إذا وثق أن عينا لا تنظر، وأن أذنا لا تسمع، انطلق كما ينطلق السهم، وانقض كما ينقض القدر المحتوم، ولفه الليل كأنه طيف نائم، أو خيال شاعر، أو كما يقول:
وكنت إذا يممت أرضا بعيدة
سريت فكنت السر والليل كاتمه
ولم يمتع به النهار حتى جاوز أملاك سيف الدولة، فاطمأنت نفسه قليلا، ولكن الفكر عاوده، والأمل الحائر ساوره: إنه قادم إلى دمشق. ماذا يفعل بها؟ هل هي خاتمة المطاف؟ هل انتهى به الطموح إلى أن يلقي بنبوغه في مدينة يحكمها رجل من قبل كافور؟ إنه أسمى منزلة وأعلى كعبا من أن يخص بمدحه خليفة أو ملكا، فهل ينتهي به الأمر إلى أن يكون ذيلا في حاشية وال ليس في العير ولا في النفير؟ إنه كان في طليعة أمره يمدح أمثال هذا الوالي ومن هم دونه، ولكن هيهات! هيهات! لقد تغيرت الحال وتبدل الأمر، وأصبح لا يرجو المال وقد نال منه كثيرا، ولكنه يطلب الآن ما هو أعظم من المال، وما هو أبقى من المال. ماذا يعمل في دمشق؟ سؤال لم يستطع عنه جوابا بعد أن ردده وردده. حتى إذا يئس، ألقى لفرسه العنان، وعول على أن يترك الليالي تلد ما تشاء من عجائب.
بلغ المتنبي دمشق، فاتجه بجواده نحو دار أبي الحسن الممشوق الشاعر، وكانت له به صداقة على قلة أصدقاء المتنبي وخلصائه، وكان أبو الحسن يزور حلب كثيرا، وكان مولعا بشعر المتنبي، كثير الإعجاب به، حتى سماه أدباء عصره بصاحب المتنبي، وكثيرا ما دعاه أن يزوره بدمشق، فلم يفكر المتنبي - حينما عزم على الرحيل إلى دمشق - إلا في أن يكون ضيفه، حتى يبت في مصيره برأي.
نزل المتنبي أمام دار أبي الحسن، وكانت في سفح قاسيون، فتلقاه صاحب الدار مرحبا، وقد كاد الدهش يعقد لسانه، والفرح يطير بصوابه. ثم قال:أهلا بأمير الشعر وفارس البيان، ومحيي ما درس من لغة العرب. من كان يظن أن داري هذه، ستظل أكبر شاعر تتزاحم الملوك على عتبات شعره؟! - إن الملوك الآن لا يتزاحمون يا أبا الحسن، ولكن الشعراء الذين أرخصوا مواهبهم، ونزلوا بفنهم إلى الحضيض، هم الذين يتزاحمون على عتبات الملوك. - هؤلاء يا سيدي ليسوا شعراء، وسيف الدولة يعرفهم واحدا واحدا، ولا يقيم لهم وزنا إلى جانب شاعره المحلق، الذي ينطق بوحي الحكمة، ويرسل الأوابد التي تعيا بأمثالها العقول. - إن سيف الدولة ليس الآن كما تعهد يا أبا الحسن. إنه قد غيرته علينا الغير. - غيرته الغير؟ سيف الدولة؟ أكرم ملك عربي، وأعظم مقدر لعقول الرجال؟! - نعم يا أبا الحسن، وأنا الآن حر طليق، وكثيرا ما خطر لي أن أهجر الشعر، وأستنجد بسيفي ورمحي، لنيل مطلبي.
فوجم الممشوق، وهز رأسه في أسى وحزن، ثم قال: إن مثلك لا يستطيع أن يهجر الشعر. إنه مزاج روحك، وقطرات دمك. إن الطير لا تستطيع إلا أن تغرد، والمزهر لا يستطيع إلا أن يرنم، وإذا تركت الشعر فإنه لا يتركك أو تتركك أنفاس الحياة. حدثني أبا الطيب بما جرى بينك وبين سيف الدولة. فقص عليه أبو الطيب قصته، ولونها بكثير من وساوس عواطفه، وتهاويل خياله. فقال الممشوق: وماذا عزمت أن تفعل يا ابن أخي؟ - لم أعقد عزما لأني وجهت كل همي إلى الفرار من سيف الدولة أولا. أما ما يكون بعد ذلك، فتركته لتصاريف القدر. - طب نفسا أبا الطيب، فلن يكون إلا الخير.
وشاع الأمر في المدينة، ولغطت الأفواه بقدوم المتنبي إلى دمشق، وأسرع الشعراء والأدباء والعلماء إلى لقائه بدار الممشوق. فكان بين زواره من أعاظم الشعراء: أحمد بن محمد الطائي، ومن كبار العلماء: عبد الرازق الأنطاكي مقرئ أهل الشام، وأحمد الغساني النحوي، وعبد الله المقري، وكان يحفظ خمسين ألف بيت من أشعار العرب.
وكان المتنبي على جفوته ونفرته يصطنع البشاشة لزواره، ويتسع صدره لهذرهم. فقد عرف أن بقاءه في دمشق معقود برضا كبار أدبائها عنه، وتقديرهم لأدبه وخلقه.
وسمع ابن ملك اليهودي - وكان عاملا على خراج الشام من قبل كافور - بفرار المتنبي، فأرسل رسالة إلى مصر على جناح طائر، يخبر فيها كافورا بوصول المتنبي إلى دمشق فلم يمض إلا ثلاثة أيام حتى وصل إليه جواب من كافور، يلح فيه بأن يعمل كل ما في مكنته لإغراء أبي الطيب بالقدوم إلى مصر، وأن يبذل له ما شاء من رغائب.
وحينما علم عبيد الله بن طغج، والي دمشق من قبل الإخشيد بمقدمه أرسل إليه أحد كبار حاشيته يدعوه إلى قصره، ويلح في أن ينزل في ضيافته. فرأى المتنبي أن من الحكمة ومسايرة الأمور، أن يلبي الدعوة شاكرا. فانتقل إلى قصر الوالي الذي بالغ في إكرامه والحفاوة به، والإغداق عليه.
وكان مجلس الوالي يجمع في كل ليلة كبار القواد والعلماء والأدباء، وكان المتنبي فارس الحلبة في هذا المجلس، وملتقى العيون، وموضع الإكبار، فقال الوالي ذات ليلة موجها الحديث إلى أبي الطيب: لم أر أبلغ في تصوير الظفر والانتصار من قولك في سيف الدولة:
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم
تركت جمعهم أرضا بلا رجل
فأطرق المتنبي شأن من تعزف نفسه عن أن يسمع مديحه بأذنه، وانطلق الأدباء يبينون ما في البيت من بديع الوصف، ورائع الخيال، وقال الوالي: إن الذي يمدح بهذا خليق بأن يخلده الزمان.
وانبرى الطائي يقول: ما دام بيننا أبو الطيب، فلن نحرم سماع مثل هذه الكلم البواقي في رجال دولتنا، وأسرع الوالي فقال في خبث واحتيال: هذا إذا رأى أبو الطيب في رجالنا ما يثير شعره، ويحفز شيطانه. إني حضرت كثيرا من الوقائع، وهزمت كثيرا من الجيوش، ولكن كل ذلك ذهب في الهواء؛ لأن شاعرا مثل أبي الطيب، لم يقل في مثل هذا البيت!
وهنا اتجهت أنظار الجمع إلى المتنبي، كأنهم يقولون بلغة العيون: لم يبق إلا أن تسرع إلى إجابة الطلب، فقد نثر الصائد الحب ووقع الطائر في الشرك، فليس له من مناص، وبهت المتنبي لهذه المفاجأة، وتمتم بكلمات مبهمة قد يفهم منها الرضا، وقد يفهم منها الإباء، وتقضى بعض الليل وانصرف السامرون إلى دورهم.
وانفرد المتنبي في مثواه وقد تزاحمت عليه الهموم، وانتابته الحيرة، واستبد به القلق، هذا الوالي يريد أن يمدح بمثل ما مدح به سيف الدولة سيد العرب! يا للهول، ويا للداهية الداهمة! إن من سخرية القدر وأضاحيك الزمان أن يفر المتنبي من مدح سيف الدولة، العربي المجاهد، المبسوط اليد، الرحب الفناء - ليرغم على مدح ذلك الأعجمي الحقير، الذي لا يقاس بشسع نعل ابن حمدان! ماذا جرى لهذا الفلك الدوار، وماذا أصاب أعين الأقدار، حتى تنزل أبا الطيب هذا المنزل المهين، وتسلكه في سلك صغار الشعراء الذين يمدحون كل من شموا في يديه رائحة درهم؟! لا إنه لن يهوي إلى هذا الدرك، ولن يقذف بنفسه في تلك الهاوية. لقد أنف من البقاء بحلب - وكان فيها رفيع المنزلة معروف المكانة - لأن ابن حمدان كان يتعالى عليه أحيانا، وينظر إليه نظرة الأمير للشاعر. فكيف يستطيع أن يبقى بدمشق شاعرا مغمورا لوال مغمور؟! لا. لا. إنه لم يخلق لأمثال هؤلاء. إنه خلق لتصغر في عينه العظائم، «وليترك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر» وماذا هو فاعل إذا؟ ليس أمامه إلا أن يرحل، وإلا أن يفر بنفسه من هذا الهوان، وإلى أين؟ قاتل الله هذا السؤال! إنه يفجأه دائما حين لا يجد له جوابا. يرحل إلى بلاد الله، وينزل حيث يجد العزة والعظمة والكرامة ... ليس شيء أيسر من هذا.
وبينما هو في هذا البحر المضطرب من الأفكار، إذا عبده مسعود يدخل الحجرة في هدوء ويقول: إن ابن ملك يطلب مقابلة سيدي. - ابن ملك؟ من ابن ملك؟ نعم نعم. لقد تذكرت. دعه يدخل.
وكان ابن ملك قصير القامة، نحيف الجسم، يلوح لمن يراه أنه في سن الأربعين أو جاوزها قليلا. له عينان يسيل دمعهما من علة ملازمة، وقد احمرت جفونهما، وأنف ضخم، ووجهه طويل تعلوه صفرة كدرة، ولحية تغزر عند الذقن، وتخف إلى أن تنمحي في العارضين، وكان قذر الملابس، زري البزة، له عمامة سوداء، أرسل منها ذؤابتين من شعره تسيلان فوق صدغيه. دخل ابن ملك فسلم على المتنبي، ثم قال: لقد زهيت الشام بزيارتك يا ابن الحسين. إن صوتك الرنان سوف يسكت أطيار غوطة دمشق، وإن مصر وهي من أقوى دول العرب ستسير من ظفر إلى ظفر، طروبا مهتزة بأنغام شعرك، الذي يبعث فيها القوة والعزيمة وحب الغلب. - لقد حسن ظنك بنا يا ابن ملك، ولكننا قوم لا نقول حتى نرى، ولا نشيد بمكرمة أو نثني على فضل، حتى يملى علينا فنكتب. - هذا حق، وهذا هو الذي يصل بشعرك إلى قرارة القلوب، وهذا أيضا هو الذي حفزني إلى زيارتك الليلة. فقد أرسل إلي سيدي كافور اليوم بريدا خاصا لأدعوك إليه؛ لأنه علم بقدومك إلى دمشق، وهو يريد أن يزين ملكه بفرائد شعرك، وأن يسبق ملوك العرب في أن يكون بين خاصته أشعر شعراء العرب.
وجم المتنبي حينما دهم بهذا الطلب، فأخذ يتلوى في مقعده كما يتلوى الملسوع، ثم قال وهو يتصبب عرقا: أمهلني يا ابن ملك حتى أفكر، فإن ارتجال الفكرة في مثل هذه الأمور قد يكون مدعاة للزلل. - ليس هناك زلل يا أبا الطيب في الاتصال بملك تعد دولته من أعظم دول العرب. - دعني الآن يا ابن ملك، فإني لا أحب الرأي الفطير. - إني أعجب منك. من من الملوك تقصد بعد أن نبذت سيف الدولة؟ إن كنت تريد بغداد، فخذها نصيحة من يهودي يرى أن مثلك لا يستطيع الإقامة بها يوما واحدا، وإن كنت تريد بلاد فارس، فإنك لن تكون فيها إلا «غريب الوجه واليد واللسان». فلم يبق إذا إلا مصر، ولم يبق إذا إلا كافور، وهو خير من يقدر الرجال، وقد يجد فيك سيدي كافور أكثر مما يجد المرء في الشاعر، قد يجد فيك - وهو ناقد بصير - صدق الرأي، وحسن التدبير، وعلو الهمة، فيوليك إمارة تظهر فيها فضائلك، ويتجلى المخبوء من مناقبك. لا تتردد يا سيدي، إن مصر تسعد كل من دخلها: رحل إليها يوسف الصديق غلاما مملوكا، بثمن بخس، دراهم معدودة، فأصبح بعد قليل وزير المال، وصاحب الأمر والنهي في شؤون الدولة، أقبل يا أبا الطيب ولا تتردد، فإني أعرض عليك ثروة وعزا وجاها، وربما كنت أعرض ولاية، فانفجرت أسارير المتنبي قليلا بعد انقباضها، وثارت في نفسه شياطين الجشع والطموح، ونسي العبد الأسود وما في مدحه من ذلة ومهانة، في جانب ما فتح له اليهودي من أبواب المجد والسؤدد والعظمة، التي هي حبيبة لنفسه قريبة إلى فؤاده. فرفع رأسه وتنفس طويلا، ثم قال: سأذهب أولا إلى الرملة لزيارة أميرها الحسن بن طغج، وبعد ذلك سأرى ما يكون. - هذا حسن. اذهب إلى الرملة يا سيدي، فإن أميرها سيقنعك بأن مصر خير مكان يشرق فيه أدبك، ويصدح فيه شعرك. متى ترحل إلى الرملة؟ - بعد غد.
ورحل المتنبي إلى الرملة، وأقام في كنف الحسن بن طغج، فأكرم وفادته، ووصله فأجزل الصلة، ولم يتصدق عليه المتنبي بعد كل هذا الإغداق، إلا ببعض أبيات في المديح.
وكتب كافور إلى صاحب الرملة يلح في قدوم المتنبي، ولبث ابن طغج أياما يزين إلى أبي الطيب الرحيل إلى مصر، وهو يمانع وينفر كما ينفر المهر الجموح. حتى لان قياده في نهاية الأمر، حينما أغرته الوعود، وحينما رأى أن الإقامة بالشام لا تستطاع. فشد رحاله إلى مصر في طليعة جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاثمائة. سار إليها يبسطه الرجاء، ويقبضه الإباء وهو يمني النفس ويداعب الأمل:
وحيد من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
لقاء
إلى أين تذهب يا أبا الطيب؟ سؤال كثر توارده على خاطر المتنبي كلما طالت عليه الطريق، وهاجت به الذكريات. سؤال كان ينفر من أن يجيب عنه، ويود بنزع الروح لو أنه استطاع أن يلوي عنان جواده إلى بلد آخر؛ ليستريح من هذا السؤال السمج، ومن تلك الوخزات القاتلة، التي تهلع لها نفسه كلما ألحف هذا السؤال، وألح. ما هذا البطر الذي أفسد عليه حياته ورنق عيشه؟ وما هذا الكبرياء البلهاء التي قذفت به إلى الدمار، وما هذه الكرامة التي حدت به إلى الذل والصغار؟ يتكبر على سيف الدولة خير أبناء العربية، وأشجع فرسانها، ويأنف من الإقامة في كنفه بين ظلال النعيم، وفي رحاب العز والجاه العريض. ثم يتدلل فيأبى أن يمدحه إلا إذا استجدى مديحه، ونزل عن جبروته صاغرا ذليلا! ثم يصول في صلف وعربدة على كل من حوله، فيتسامى على أقارب الأمير، وينهال بهجائه كل شاعر في قصره، ويقذف كل عالم في حضرته بكل قاصمة من السباب! ثم ينتهي به هذا الجنون إلى أي شيء؟ إلى ما هو فيه الآن مما يبكي له الشامت، ويجزع الحاسد. إلى أن يفارق الجنة؛ ليضل في مهاوي الجحيم. إلى أن يهدم كل مجد بناه، ويقضي على كل أمل داعبه وناغاه. إلى أن يتسلق إلى الحياة من جديد ولكن في شامخ وعر المرتقى، كثير المزالق، قد ينتهي إلى هباء. إلى أن يمدح ذلك العبد الحبشي الضخم المشافر، المنتفخ البطن المتفلفل الشعر، ويترك سادات العرب وصناديدها لا يجدون لمحامدهم ناشرا ولوقائعهم واصفا. إلى أن يضع رأسه تحت قدمي هذا الزنجي الفدم، بعد أن أنف أن يطأطئه لأعاظم الملوك. إلى أن يقول لليل الدامس أنت البدر المنير، وللعي الجاهل أنت نبراس البيان وخليفة سحبان، وللغبي المغفل أنت الحكمة صورت في إنسان. أهكذا تنتهي به الحال؟ أين شهامته وعزيمته العصامية، وأين أشعاره التي كلها علو وشمم، وشهامة وإباء؟ هل أصبح كل ذلك رمادا ليس به بصيص نار؟! وهل آضت كل هذه المناقب سرابا يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؟!
يمر كل هذا بخاطر أبي الطيب والجواد يقطع به المفاوز بين الرملة ومصر، فيئن أنين المكلوم، ويزفر زفير المحموم، ولكنه يعود فيمني نفسه بالأوهام، ويهدي من ثائرتها بأضغاث الأحلام، ويتجه نحو زاوية أخرى من زوايا التفكير فيقول: إن الحزن على ما فات من صفات النساء، والرجل الحق من يتخذ من هفواته سلما إلى الفوز، والدنيا فيها الخير وفيها الشر، ولكن العاقل الحكيم من يقلب الشر خيرا، ويبسم للأيام لتخضع له الأيام، ولم لا أصل إلى العبد الأسود إذا كانت آمالي في قبضته السوداء؟ ولم لا أمدحه إذا كان في مدحه ما يحقق الرجاء؟ الولاية! الولاية هي خاتمة آمالي، ونهاية مطافي، ولن أبالي في طريق نيلها ببذل ماء المحيا والحياة، وتعفير الوجه بتراب أدنى الأدنياء، ولو قيل لي: لن تكون ملكا إلا إذا مدحت الكلب، وغازلت القرد، لفعلت راضيا مغتبطا. نعم، إني أبغض الأسود وأشمئز من لقياه، وألعن الزمن الأغبر الذي ألجأني إليه، وأحن إلى سيف الدولة، وأبكي على عهده الوارف الظلال، ولكن ما حيلتي؟ وليس إلى مآربي من وسيلة إلا أن أقصد هذا الكافور؟
ومرت بالمتنبي أيام حتى بلغ بلبيس، وهذا أول أملاك مصر في هذا العهد، ولشد ما كانت دهشته حينما رأى الزعيم عبد العزيز بن يوسف الخزاعي يترقب مروره في طائفة كبيرة من عشيرته. فلما قرب منه المتنبي تقدم فقبض على عنان جواده باشا مرحبا، وطلب إليه النزول ليستريح عنده فقبل المتنبي، ورأى في ضيافة عبد العزيز من الكرم ورحابة الصدر ما فرج عن نفسه، وأزاح بعض أحزانها.
وجرى الحديث في أثناء الليل عن مصر وأحوالها، وعن كافور ووزرائه وبطانته، ثم مال إلى ذكر حلب، وإلى أخبار سيف الدولة، فقال الخزاعي: أشهد إنه بطل، وأشهد إنه من العار على ملوك العرب جميعا، أن يدعوه يناضل الروم وحده، مع ما لهم من عدد وعدة. - الغيرة والحسد يا ابن يوسف هما اللذان أذهابا ريح الإسلام، وأضعفا أمراءه، ومن عجائب القدر أن كثيرا ممن يقدرون في هذه الأيام لا يملكون! - ولكن سيف الدولة من القليلين الذين يقدرون ويملكون. لقد كنا نتلقف ما يحمله إلينا البريد من قصائدك في وصف مواقعه، ولقد كانت والله عجبا من العجب، وسحرا من السحر. لم تركته يا أبا الطيب؟ - ذلك حديث طويل يا ابن يوسف، ومن الخير أن يترك الجرح حتى يندمل.
ففطن عبد العزيز إلى أن المتنبي يتألم لهذه الذكرى، فانصرف عن هذا الحديث فيها.
وبزغت الشمس، ورحل المتنبي بعد أن توثقت الصداقة بينه وبين عبد العزيز، وعاهده على أن يكثر من زيارته بالفسطاط، ومضى يوم وبعض يوم، بلغ فيه أبو الطيب باب مصر الشرقي المسمى: باب الصفاء.
كانت مدينة الفسطاط في ذلك الحين مستبحرة العمران، وافرة الثروة، كثيرة السكان، تشرف على النيل رياضها الباسمة، وقصورها العالية التي قد يصل ارتفاع بعضها إلى سبع طباق. حكى بعض المؤرخين: أن ستة عشر ألف دلو كانت تتدلى من طاقات بيوتها المطلة على النيل، وكانت رائجة التجارة، كثيرة الأسواق والحمامات والخانات والمساجد، التي أشهرها الجامع العتيق، الذي بناه عمرو بن العاص بعد الفتح.
وكان أهلها في بسطة من العيش، ورغد من النعيم؛ لكثرة الأموال، واتساع الخصب، وقد كثر بها الأدباء والشعراء، ورحل إليها كثير من أقطاب العلم والأدب في الشرق، فوجدوا في كنفها الرغد وطيب الحياة، وكان الجامع العتيق يزخر بالعلماء وطلاب العلم، الذين وفدوا عليها من أقطار الأرض؛ لتلقي علوم العربية، وفنون الأدب، وكان بها إلى جانب ذلك مجالس أنس ولهو، ومجانة وشراب، تهوى إليها أفئدة الشباب، وتختلف إليها جماعات الأدباء - لا تقل عما كانت تزهى به بغداد في ذلك الحين، إسرافا وجنونا.
وكان قصر كافور بخطة سوق العسكر، بالقرب من بركة تجري فيها الزوارق، وتلتف حولها بساتين ناضرة تعرف بجنان بني مسكين، وكان القصر شامخ البنيان، ضخم الأركان، كأنه الحصن العظيم، وقد انتثرت حوله الحدائق الخضر، وانهمرت الجداول المتدفقة. أما أبهاؤه ودهاليزه وقاعاته: فقل ما شئت في جماله وبهائها، وزينتها، وما أنفق في بنائها من أموال يكاد يخطئها العد، وكانت قاعة الملك كأنها قطعة من ذهب: فسقوفها وحيطانها ونقوشها وتصاويرها كلها من الذهب الإبريز، الذي يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
جلس كافور الإخشيدي في اليوم السابع عشر من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاثمائة - على عرش ملكه، ورجال قصره وجيشه وقوف يحيطون بسريره في رهبة وخشية، كأنهم يحرسون سرا سماويا مقدسا، وجلس إلى يمينه نقيب الطالبيين عبد الله بن طباطبا، فالشريف إبراهيم بن محمد العلوي، ثم صالح بن رشدين الكاتب، ثم الذين يلونهم في المرتبة من العلماء ورجال الدين، وجلس إلى يساره وزيراه: جعفر بن الفرات، وأبو بكر بن صالح، وقائد عسكره سمول الإخشيدي، ثم من يتلوهم في المرتبة من رجال الدولة.
وكان كافور أسود اللون، فاحم السواد براقه، قصير القامة مترهل اللحم، طويل الذراعين، منتفخ البطن، ضخم الجمجمة، أفطس الأنف، مثقوب الشفة السفلى، واسع العينين، صافي بياضهما. تنبعث منهما ومضات فيها دهاء ، وفيهما مكر وخداع.
وكان يحمل فوق رأسه عمامة كبيرة من الحرير الأبيض، المطرز بالذهب، ويلبس ثوبا من الخز التنيسي الثمين، فوقه جبة من الحرير الأخضر فضفاضة واسعة الكمين.
وكان على الرغم من دمامته وخسة منشئه وجهله، ذكيا متوقد الذكاء، شجاعا حازما داهية في ميدان السياسة. فإنه حينما مات سيده الإخشيد اضطربت أحوال مصر، وحجلت الفتنة، وتطلعت رؤوس كبار القواد إلى الحكم. فخرج كافور بولدي الإخشيد: أنوجور، وعلي، إلى بغداد فأقر الخليفة الراضي أنوجور على ملك أبيه، واهتبل سيف الدولة فرصة موت الإخشيد فوثب على دمشق، واستولى عليها، فسار إليه كافور في جيش لجب فهزمه وأجلاه عن المدينة.
وقد حال حزم كافور وعمق سياسته دون زحف المعز لدين الله على مصر، حتى كتب إليه بعض شيعته في مصر ... إذا زال الحجر الأسود، ملك مولانا المعز الدنيا كلها ... ولا يريدون بالحجر الأسود إلا كافورا.
وكان محبا للأدباء والعلماء، يصلهم ويقربهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة سير الأنبياء، وأخبار الأمويين والعباسيين.
هذا إلى كرمه وتواضعه، وشدة تمسكه بالدين. فقد كان أبو جعفر بن طاهر العلوي يقول: ما رأيت أكرم من كافور: كنت أسايره يوما في موكب خفيف وهو يريد التنزه، وبين يديه عدة جنائب بسروج من ذهب وفضة، وخلفه بغال يمتطيها الخدم والعبيد، فسقطت مقرعته من يده ولم يرها خدمه فنزلت عن دابتي وأخذتها من الأرض ورفعتها إليه، فذعر لما فعلت وقال: «أعوذ بالله من بلوغ الغاية. ما ظننت أن الزمان يرفعني حتى تفعل بي أنت هذا؟» وكاد يبكي. فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليه. فلما بلغ باب داره ودعني، فلما سرت التفت فإذا النجائب والبغال كلها خلفي. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمر الأستاذ أن يحمل موكبه كله إليك. فأدخلته داري، وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار.
اتجه كافور إلى وزيره ابن الفرات، وقال في صوت خافت: أظن الشاعر الجديد قد وصل إلى المدينة. - نعم يا مولانا، لقد علمت من بعض الجند أنه وصل الآن. - هل أعددت له كل شيء؟ - نعم يا مولانا، لقد أعددت له دار أبي بكر القريبة من باب الساحل، فرشت بأحسن الأثاث، ووضع بها من يكفي لخدمته. - هذا حسن. لعله لا يفر منا كما فر من ابن حمدان! - إن للشعراء يا مولانا ميزانا للأخلاق غير الميزان الذي تواضع عليه الناس. فقد قال هذا الشاعر لابن حمدان:
وقيدت نفسي في ذراك محبة
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
ولكننا رأيناه يفر منه كما يفر الزئبق من البنان. - ماذا يقصد الشاعر يا جعفر من هذا الشعر الذي ذكرته؟ - يقول يا مولانا، إنه قيد رجليه عند ابن حمدان، وإنه لا يرحل عنه لأنه يحبه. - ها ها. فهمت فهمت، وبعد أن قيد رجليه فك قيدهما وفر؛ لأنه هو الذي قيد نفسه. أما إذا قيده غير يا جعفر، فإنه يصعب عليه أن يفر. - لا شك في أنه سينسى عند مولانا كل ملوك الأرض.
وبينما هما في الحديث، إذ دخل كبير الحجاب وهو يقول: إن الشاعر المتنبي يلتمس أن ينال شرف المثول أمام مولانا. فرفع كافور رأسه، وقال: ليدخل.
دخل المتنبي في ثياب السفر، بعد أن خلع نجاد سيفه بالباب، فقبل الأرض ثم أطرق قليلا، فحياه كافور قائلا: أهلا بشاعر العرب. أهلا بأبي الطيب. لقد أبطأت علينا كثيرا، والدولة لا تكمل عظمتها إلا بمثلك. إنك ستكون في ضيافتي، وأرجو أن تطيب لك الإقامة. أقبل علي أبا الطيب، ثم مد يده فانكب عليها كأنه يريد أن يقبلها، فجذبها العبد منه وهو يقول: أستغفر الله! ثم أشار فأحضر كرسي إلى جانبه، وأومأ إلى أبي الطيب بالجلوس، وهنا قال ابن الفرات: قد قرأنا ما ورد علينا من شعرك في ابن حمدان فرأينا فنا جديدا، وروحانية قوية تهز المشاعر، وتثير خامد القلوب، ونرجو أن يتفتح لك النيل وحدائقه الباسمات عن معان لم تخطر ببال شاعر. إن بمصر يا أبا الطيب كثيرا من الشعراء، وأكثرهم مجيد مبرز، وقد رحل عنا منذ قليل أبو نصر كشاجم، وهو شاعر مبدع سباق. فمصر اليوم تجري في ميدان العلم والأدب مع بغداد في طلق، وتكاد تجلي عليها في شئون الحرب والسياسة. - علمت أن بمصر شعراء، وأرجو ألا يكون شأني معهم كما كان مع شعراء حلب! إن الشعر يا سيدي دولة يأبى رعاياها أن يختاروا لهم ملكا، ولو أراد الحسد أن يبني له عشا ما اختار إلا قلب متشاعر. دعني من هؤلاء؛ لأنني جئت للأستاذ وحده ولن أقول في غيره. - لن تقول في غيره؟! - إن من أدب الشاعر أن ينصرف إلى ممدوحه، فلا يلهج إلا باسمه، ولا يشيد إلا بفضله.
فاربد وجه ابن الفرات، وتكلف ابتسامة حاولت أن تمحو ما بدا على وجهه من سيماء الغضب، وقال: وأظن أن من أدب الشاعر أيضا أن ينصرف عن ممدوح؛ ليمجد ممدوحا آخر، ويدعي أن الدهر لم يسمح بسواه! فأسرع أبو الطيب قائلا: إن القلب قلب، والشعر كالناس قد يخطئ أحيانا ثم يصيب شاكله الصواب. فاتجه إليه ابن الفرات في نظرتي نمر، وقال: أرجو ألا يخطئ هذه المرة يا أبا الطيب! وهنا تحرك كافور من مجلسه قليلا فوقف من بالقاعة، ووجه الحديث إلى المتنبي قائلا: يوم الثلاثاء إن شاء الله نسمع إنشاد الشاعر، بعد سبعة أيام. فوقف المتنبي وحيا في خضوع ثم خرج.
ذهب المتنبي إلى داره الجديدة وفي رفقته صالح بن رشدين، وكان شاعرا مجيدا، أولع بشعر المتنبي قبل أن يراه، فلما رآه زاد به إعجابا، وله حبا: أحب فيه الرجولة ومخايل الشهامة، ورأى فيه شاعرا لا كالشعراء، وفي شعره شعرا لا كالشعر، كأن ما كان سمعه من شعره صورة لنفسه الطموح وخلقه العظيم، فلما بلغا الدار، شد على يده وقال: لقد أحببتك وهفت نفسي إليك منذ رأيتك يا أبا الطيب. فهل أطمع في أن تقبلني صديقا؟ لقد سمعت حديثك مع ابن الفرات، وعرفت أنك أغضبته، وهو رجل له دهاء الثعلب وفتك النمر، يحوك من خيوط الشمس شباكا، ويخلق من قطرات الغمام نبالا، وقد كان يريدك على أن تمدحه فجبهته في غير رفق، ورددته في غير إحسان، وهو لن يترك لك هذه، ولو اعتصمت بأسباب السماء . فاحذره يا أبا الطيب، واحذر من تخاطب ومن تعاشر في هذا البلد. إن العيون هنا تنبث في كل مكان، والجواسيس ينفذون إلى ما لا ينفذ إليه الهواء. احذر أبا الطيب، فإن أصحاب الأخبار في هذه الدولة هم المصرفون للأقدار، ولهم مناهج يعجز إبليس اللعين عن انتهاجها: يأتون إليك مرة في صورة الناصح، ثم ضحك وقال: وأخشى أن تعدني منهم - ومرة يشتكون إليك جور الحكام، وأخرى يمدحون أمامك من لا يستحق المدح. فاحذرهم يا أبا الطيب، وانصرف عنهم في هوادة ولطف، وأرجو أن تتخذني لك أخا مرشدا، وخليلا ناصحا.
فهز المتنبي يده وقال: إني أشرف بصداقة سيد شعراء مصر، وسأمشي في نور هدايتك.
ودخل المتنبي الدار جزعا محسورا، فوصف لمحسد كافورا ومجلسه فقال: دخلت يا بني على أمة حبلى يسجد أمامها صناديد الأبطال، ويخضع لإشارتها دهاة الرجال. جلس فوق عرشه، فرأيت في ثياب أمير قردا، عيناه عينا ثعلب، وإطراقه إطراق ثعبان. أما ابن الفرات: فثقيل متعالم متعاظم، نظر إلي في كبر وجبرية كأنه ينظر إلى شاعر مجتد أفاق. سحقا لهم، وسحقا للزمان الذي قذف بي إليهم: والله لكأني أشعر أني جئت لأهجوهم لا لأمدحهم! وكيف تنبسط نفسي لمديحهم، أو يتحرك لي لسان بالثناء عليهم؟ إن مدح الأسود سيخلق في الشعر فنا جديدا، أسمعت يا محسد؟ سيخلق فن المديح الهجائي. - كيف يا أبي؟ - إني أعتقد أن لحظات ستمر بي وأنا أقرض الشعر في الأسود، أنسى فيها نفسي فربما طفرت مني أبيات في مديحه، هي شر من الهجاء. - وماذا تصنع إذا فهم؟ - إنه لا يفهم يا أغبى الأغبياء. هات عبدنا مسعودا وأنشده إحدى قصائدي، فإن فهمها، اقتنعت وأخذت الحذر. - إن مسعودا لا يفهم؛ لأن كافورا مسعود قبل أن يكون كافورا، ومسعودا كافور بعد أن كان كافورا. - والوزراء والشعراء الذين حوله؟! ألا تخشاهم؟! - اسمع يا بني: عن الكلام الموجه يفهم من ناحيتين، وهؤلاء لجبنهم وجلالة قدر كافور عندهم، لا يفهمون إلا ناحية المديح. - وإذا فهموا الناحية الأخرى؟ - لا أبالي ما يفهمون. إن شعري لن يكون إلا صورة لنفسي رضي الناس أم أبوا، ولو كنت من الذين لا يقولون الحق الذي تجيش به نفوسهم؛ لكنت اليوم ملكا، أتندر بالأسود الزنيم.
ومر أسبوع صاغ في غضونه أبو الطيب أول قصيدة في مدح كافور، وحين حان الموعد غص القصر بالأدباء والشعراء، والعلماء، وجلس كافور على عرشه، وقد أحاط به القواد والوزراء، والأشراف والعلماء، وقوفا، وقدم المتنبي فانحنى في إجلال وخشوع، وأخذ ينشد قصيدته في صوت ندي حلو النبرات، وكان صدى كل بيت إعجابا واستحسانا، وطلب بعض الشعراء إعادة بعض الأبيات؛ لرصانتها، ولما فيها من تجديد رائع، وفن رفيع، وكان كافور يهز رأسه طول مدة الإنشاد، كأنه أرجوحة طفل عنيد، أبى أن ينام. فلما فرع أبو الطيب أمر له كافور بعشرة آلاف درهم، وأقبل القوم عليه يحيونه وينثرون فوقه أزاهير الإعجاب والثناء، وخرج مع الشريف إبراهيم العلوي وهو مطرق الرأس، حزين يهمس بمطلع قصيدته:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
ضجيج
أثارت قصيدة أبي الطيب ضجة وصخبا في مجامع العلم والأدب، فلو قيل إن العبيديين زحفوا على مصر من المغرب، ما كان شغل الناس بالخبر واهتمامهم به، فوق شغلهم بهذه القصيدة وما فيها من ومضات فنية، لم يكن لهم بها عهد. ففي القصر يزدحم القواد ورجال الدولة، حول ابن الفرات، وهو يردد كثيرا من أبياتها، معجبا تارة وعابسا تارة أخرى، وفي سوق الوراقين يتكاثر الأدباء على النساخين؛ ليظفروا بنسخ منها، وإن اشتطوا في الأجر، وغالوا في الثمن، وفي الجامع العتيق يتجمع الطلاب، ويشتد بينهم الجدل في معاني القصيدة ومراميها، وبينما هم في لغط وصراخ، إذ أقبل عليهم أبو بكر الكندي، وكان من أدباء مصر وعلمائها، فصيحا بارعا في الحديث واللغة والنحو الأدب، حتى لقد لقب بسيبويه؛ لمكانته في النحو وغريب اللغة، وكانت مع هذا به لوثة جنون، فكان يركب حمارا أكثر أوقات النهار ويدور به في الأسواق، ويتكلم وهو راكب، والناس حوله يكتبون ما يقول.
فلما رأى الطلبة أبا بكر تسابقوا إليه متصايحين: إلينا أبا بكر! إلينا يا صاحب الحمار! فقد اشتد جدالنا في بعض أبيات من قصيدة المتنبي، وعندك القول الفصل، وأنت جهيزة التي تقطع قول كل خطيب. - إن المتنبي يا أبنائي، رجل معروف المكانة، ولكن له هفوات في اللغة، وانحرافا عن الأسلوب السليم. فصاح الجمع: كيف يا أبا بكر؟ - لقد زل في بيته المشهور:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
لأن الصداقة مشتقة من الصدق في المودة، والحر لا يصدق في مودة عدوه، والصداقة ضد العداوة، ولا موقع لها في هذا الموضع. فابتدره أحد الطلبة قائلا: وماذا كان يقول يا أخا الحمار؟!
كان يقول:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من مداجاته بد
فصفق الطلاب، وعلا صياحهم في إعجاب وسخرية. فأشار إليهم بذراعيه؛ ليسكتهم. ثم قال؛ أما القصيدة الجديدة فمطلعها هو: «كفى بك داء أن ترى الموت شافيا» لا يصح أن يخاطب به ملك وإن كان كافورا، وفي قوله:
ولكن بالفسطاط بحرا أزرته
حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
سخف وتطفل وتعد على الوزراء وكبار الدولة؛ لأن قوله أزرته حياتي معناه جعلت حياتي تزروه، وليس لهذا المعنى قيمة يتجه إليها شاعر. ثم يقول وأزرته نصحي فيدعي أن وصل في أصالة الرأي وبعد النظر في السياسة إلى القمة، وأنه قدم من الشام؛ لأن الأستاذ كان في حاجة إلى نصحه وثاقب رأيه، على الرغم من كثرة قواده ووزرائه.
فغضب أحد الطلاب، وقال: هذا تعصب يا مجنون. فأومأ إليه في حلم وهدوء، وقال: أما ثالثة الأثافي فقوله في المديح:
فتى ما سرينا في ظهور جدودنا
إلى عصره إلا نرجى التلاقيا
فهل سمعتم أقبح من هذا وأسخف! إن آباءكم أيها الطلبة النجباء من لدن آدم كانوا ينقلونكم من ظهر إلى ظهر؛ لتتمتعوا بطلعة جمال كافور! ثم انظروا إلى التركيب المعوج، وإلى سوء الأدب في حق ممدوحه حين يقول:
ومن قول سام لو رآك لنسله
فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
ومستقيم الكلام أن يقول: لو رآك سام لقال أفدي ابن أخي بنسلي، واللئيم هنا يقذف سهما مسموما فيلحق ملكنا بأبيه سام الأسود في وقاحة سافرة.
هذا أيها الطلبة بعض ما في القصيدة التي لهجت بها الأفواه، وتناقلها الرواة، وغالى بها أدعياء الشعر والأدب، ولكنكم يا أهل مصر لا تحبون إلا الجديد، وما أشبهكم ببني إسرائيل الذين سئموا المن والسلوى، واشتهوا على الله الفول والبصل!
وهنا انبرى له فريق كبير من الطلبة يتزعمهم شاب كان يعرف بينهم بالذكاء وقوة الشكيمة، حتى لقد كان العلماء يدارونه ويصانعونه، ويتجنبون سلاطة لسانه، فقال له: هذا نقد زائف أيها الشيخ، وهذا دأبكم دائما أيها الأدباء الجامدون، لا يلتمع أمامكم من الشعر جديد إلا قطعتم أنفاسكم في إطفائه. تركت القصيدة كلها يا مولانا، وهي آية خالدة من آيات البيان، وجئت تماحك في أبيات خيل إليك سوء فهمك أن فيها متنفسا لحقدك، وكل ما قلته هراء، ولن يضر الشمس ألا تراها مقلة عمياء، ولن يبالي السحاب بنباح الكلاب.
فقهقه أبو بكر طويلا، وقال: إنني السحاب، وأنتم الكلاب! ثم انتقل من بينهم كأن أرضا ابتلعته.
وفي هذا اليوم كانت تجلس عائشة بنت رشدين إلى جانب شرفتها المطلة على النيل ذاهلة واجمة، وكانت المراكب تتهادى فوق أمواجه تحتها، وقد داعب النسيم شعرها في رفق ولين، كأنه زفرة عاشق، أو جسة طبيب حاذق، وانطلقت أصوات الملاحين بالغناء مغردة مطربة في نعمات اعتادوها، وأغنيات ابتدعوها، فيها شوق وفيها شكوى وفيها حنين إلى الأوطان.
وكانت عائشة بارعة الحسن مشرقة الطلعة، لها وجه صباحي تحير فيه ماء الشباب، وتزاحمت فيه صنوف الفتنة: فعينان سوداوان فيهما سحر، وفيهما خمر، لهما نظرات ذابلة يخفضها الحياء، ويعترك أمامها اليأس والرجاء، وأنف تأنقت في تكوينه يد الجمال، لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، وفم ياقوتي لؤلؤي ضن على الشفاه بالقبلات، وعلى العاشقين بالبسمات.
وخصر تثبت الأبصار فيه
كأن عليه من حدق نطاقا
ثم هي إلى ذلك معتدلة القد، رخيصة الجسم، هضيم الكشح.
لها بشر الدر الذي قلدت به
ولم أر بدرا قبلها قلد الشهبا
وكانت صورة للعفاف، وتمثالا للطهر، وملكا سماويا كون من نقاء ونور.
وقد كثر عشاقها، وتسابق إلى اجتذابها أبناء سراة المدينة وكبار حكامها، فكانت تقابل الإقبال بالإعراض، والرجاء بالإباء؛ لأنها أنفت أن تكون في طاعة رجل، أو أن يكون جمالها ملهاة للعابثين، ونهبا للوالغين. فتن بها أبو بكر بن صالح وزير كافور، وجن بها جنونا، وأغراها بالمال والجاه، ولم يترك أحبولة لاصطيادها إلا نصبها، ولكنها صدفت عنه في كبرياء، ونفرت كما تنفر مروعة الظباء.
وقد نشأت عائشة في بيت أدب وشعر، فقد كان أخوها أبو علي صالح بن رشدين من أعظم كتاب المملكة، وأبرع شعرائها، وكانت داره مثابة لأدباء مصر؛ فنشأت عائشة في هذا الجو الأدبي كما تنشأ الزهرة على شاطئ الغدير، وثقفها أخوها فأحسن تثقيفها، وتلقت من كبار العلماء والشعراء دروسا في الشعر والنحو واللغة، وكان من أساتذتها عبد الله بن أبي الجوع الشاعر الأديب اللغوي، وكانت برزة في النساء لا تحتجب عن الرجال إلا بخمار رقيق أسود تلفه حول وجهها فيبرز كالبدر في محتلك الظلام.
وكثيرا ما حضرت في دارها مجالس للشعراء الذين كانوا يكثرون من ازديار أخيها؛ لكرمه وسجاحة خلقه، وكان أبو بكر بن صالح يدأب على شهود هذه المجالس، عله يظفر من فاتنة لبه بكلمة رضا أو لمحة حنان، ولكنه كان لا يلقى إلا تجاهلا وإعراضا.
جلست عائشة إلى جانب شرفتها وفي يدها ورقة كتبت بها قصيدة أبي الطيب، وكانت تقرأها متئدة مفكرة، وكثيرا ما كانت تهتز في طرب وإعجاب، وبينما هي منصرفة إلى القراءة إذ دخل أخوها وهو يصيح: ألا تزالين تكررين أبيات هذه القصيدة؟! - لقد حفظتها، إنها إلهام صور في كلام. - حقا إنها من عيون الشعر. - إنه شاعر وفي. اسمع يا أبا علي حنينه إلى سيف الدولة, وكيف صاغ هذا الحنين في عزة الأنوف، وإباء العيوف:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
وأعلم أن البين يشكيك بعده
فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
فإن دموع العين غدر بربها
إذا كن إثر الغادرين جواريا
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى
فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
أقل اشتياقا أيها القلب إنني
رأيتك تصفي الود من ليس صافيا
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
أرأيت يا أخي كيف يصاغ الكلام، وكيف ينفث السحر، وكيف يثور العاشق المهجور على قلبه؛ لأنه يحب من لا يفي، ويصف الود للمماذق الغادر! ثم هل رأيت كيف وخز الشاعر سيف الدولة في رفق لا يكاد يحس، حين قال إن إعطاءه لم يكن سخاء بل كان تساخيا؟ ثم هل مر بك في حسن التخلص والإبداع في مدح السواد مثل قوله:
قواصد كافور توارك غيره
ومن وجد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا
قل لي يا صالح: هل حضرت حفل الإنشاد؟ - حضرته، وواثقت أبا الطيب على المحبة والإخلاص. - نعم ما فعلت يا أخي، إنه غريب الدار، قليل الصديق في بلد تنبت فيه النمائم كما تنبت الأشواك. - لقد حذرته من كل ذلك يا عائشة، ولم تعجبني نظرة ابن الفرات إليه، وطفرت من أبي بكر بن صالح في المجلس كلمات شممت منها رائحة الحقد والضغن. - بئس القوم! إنهم لا يعيشون إلا في جو مدنس بالمكر والخديعة. صف لي المتنبي يا أبا علي. - إنه صورة للعربي السمح الوسيم. - هل شاع في شعره الشيب كما يقول؟
فضحك صالح، ونظر إليها نظرة مزجت فيها الدعابة بالاستنكار، ثم قال: وما لنا الآن بشيب شعره، ونحن نتحدث في رائع شعره؟ لا يا فتاتي، إن شعره لم يطرقه الشيب، وهو الآن في نحو الأربعين لم تفارقه نضارة الشباب. هل من سؤال آخر؟ سؤال مثلا عن لون عينيه؟ أو تكوين أنفه؟ أو طول قامته؟ - إنك رجل ماجن يا صالح، لا تترك المزح ما وجدت إليه سبيلا. ثم قامت في عجلة وهي تتصنع الاهتمام بإعداد العشاء.
ومرت أيام كان فيها المتنبي يزور كافورا في كل يوم، ويلقى من بشاشته وكرمه ما يغرس المحبة في القلوب، ولكن هيهات! فإن المتنبي لا يريد مالا، ولا يريد بشاشة، وإنما يريد من الأيام ما لا توده، ويسعى إلى منهل يعجز الطير ورده، وكان يلتقي في أثناء هذه الزيارات بابن الفرات، فيلبس كل منهما لصاحبه غير وجهه، ويتحدث بغير ما في قلبه، وكثيرا ما شهد المتنبي وفود الشعراء وطلاب الحاجات وهم يردون على ساحة كافور، وحدث مرة أن كان في حضرة الأستاذ وإلى جانبه أبو إسحاق النحوي، فدخل الفضل بن العباس على كافور يحييه، وما كاد يقول: أدام الله أيام سيدنا، حتى خفض «ميم» الأيام، فابتسم من بالمجلس، ولحظ كافور ابتسام القوم فابتسم، ووقف أبو إسحاق يعتذر عن الفضل ويقول:
لا غرو إن لحن الداعي لسيدنا
وغص من دهش بالريق والبهر
فتلك هيبته حالت جلالتها
بين الأديب وبين القول بالحصر
فإن يكن خفض الأيام عن غلط
في موضع النصب لا عن قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا
والفأل نأثره عن سيد البشر
يأن أيامه خفض بلا نصب
وأن أوقاته صفو بلا كدر
ونبتت أول بذرة للشقاق بين المتنبي وبعض أدباء مصر، وطارت أول شرارة للشر بينه وبين طائفة من شعرائها، حينما دعي مرة إلى مجلس أبي بكر بن صالح وزير كافور، وكان ابن الفرات حاضرا، وقد غص المجلس بالشعراء المتعصبين لأبي القاسم الأنصاري، الذي جاء لينشد أبا بكر قصيدة في مديحه، وكثر لغط الشعراء، وكثرت الإشارة إلى المتنبي، وهمس صالح بن مؤنس في أذن من بجانبه قائلا: سيكون هذا اليوم فاصلا في سمعة مصر في الأدب، ومكانتها في الشعر. - إن أمة أنت شاعرها يا ابن مؤنس لن تلقي بلوائها إلى شاعر أفاق. فظهر الغضب على وجه ابن أبي الجوع وكان صديقا وفيا للمتنبي، فأشار إليهما بيده في عنف وهو يقول: ليس للشعر وطن أيها الغبيان، والعربية وطن لكل عربي، وهنا وقف أبو القاسم الأنصاري وتهيأ للإنشاد بين نظرات الإعجاب من شيعته، وابتسامات الرضا من أبي بكر وابن الفرات ، وما كاد يبدأ قصيدته بقوله: «نظر المحب لدى الحبيب غرام».
حتى انبرى له المتنبي يخطئه في خشونة وجفوة صائحا: قف يا شيخ! إن العرب لا تقول نظر لدى فلان، ولا تقول غرام لدى فلان، وإنما تقول نظر إليه، وغرام له، إلا إذا كنت تريد أن تجعل من لغة الضاد لغة نبطية.
وهنا اربد وجه ابن الفرات؛ لأن أجداده كانوا من النبط، ولم تنل الدهشة من الأنصاري، ولكنه قهقه في سخرية وقال: لا تجزع يا أبا الطيب فقد فسد كل شيء في هذا الزمان حتى أصبح مثلك يتبجح بمعرفة لغة العرب، ويقول: قل كذا، ولا تقل كذا. إن سميك الكندي الفاجر الضليل، لا يجرؤ على أن يدعي أنه أحط بالعربية، فكيف بك وأنت لست من ذاك! إن العرب أيها الأصمعي الجديد تقول: نظر لديه وله وإليه، وتقول: غرام لديه وله وإليه، والكلمات ينوب بعضها عن بعض، وإلا فأين التضمين وأين المجاز؟ فقال المتنبي في حدة: تقول أكلت على الإناء؟ - أقول أكلت على الإناء وفيه ومنه، وهنا صفق أشياع الأنصاري، وتصايحوا في شماتة ونكر. فلما هدءوا قال ابن أبي الجوع: إذا كانت بعض الكلمات ينوب عن بعض فإن هذا معقود بشرط لابد منه؛ هو أن يكون الأسلوب جاريا مع الذوق العربي السليم، سائغا في أذن الأديب البصير بمرامي الكلام، وهنا تسارع القوم إليه فأسكتوه، وشرع الأنصاري في الإنشاد فأخذ أشياعه يبالغون في الاستحسان وطلب الإعادة. فلما أتم القصيدة خلع عليه أبو بكر وأجزل له العطاء، فانتحى ناحية من الحجرة، وأخذ يدون أبياتا حتى إذا أتمها طلب أن ينشدها، فأذن له، فكان منها:
لما تعرض لي بمقت حاسدي
أبدى الملام وكيف يرضى الحاسد؟
في مجلس أما الوزير فمنكب
فيه يؤيدني وأنت الساعد
ولى فما أنا شاكر لسؤاله
يوما ولا هو بالإجابة حامد
وهنا نظر ابن الفرات إلى أبي الطيب وقال: هذا شاعر هجاء سليط اللسان، فخذ حذرك منه يا ابن الحسين. - إنه أقل من أن ألقي إليه أذنا، أو أرفع له قدرا بالرد عليه، ولقد قلت فيمن هم أقدر منه وأشعر:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمد الداء العضالا؟
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
ثم وقف مغضبا، وانصرف مع ابن أبي الجوع، وقد عرف أن سخط الناس عليه وبغضاءهم له لا يفارقان ظله أينما سار، ولو أنصف نفسه لعلم أن نفسه هي مثار السخط، ومصدر هذه البغضاء، وود أن يرحل عن مصر، ولكن ماذا يعمل لهذا الأمل الطائر الذي لا يستقر في وكن، وذاك الخيال السابح الذي لا ينال بالأكف؟ ليصبر إذا، وليتحمل في سبيل غايته كيد الكائدين ودس الحاسدين، ووصل في هذا اليوم إلى داره وهو ينفخ من الغضب، ويزمجر زمجرة الليث، وينشد:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روى رمحه غير راحم
حب
وبنى كافور دارا جديدة بالقطائع بالقرب من الجامع الأعلى، واحتفل بافتتاحها، ودعا أبا الطيب أن ينشد قصيدة في الحفل، فقضى يومين وهو في تردد: أيشير إلى مطلبه الأسمى، أم يترك الأمر إلى حذق كافور وفطانته، فقد بدرت منه كلمات أمل المتنبي منها خيرا.
ويعقد الحفل، وينشد المتنبي قصيدته، فيبهر الناس بما فيها من جرأة وتدلل على الممدوح حين يقول:
إنما التهنئات للأكفاء
ولمن يدني من البعداء
وأنا منك لا يهنئ عضو
بالمسرات سائر الأعضاء
مستقل لك الديار ولو كا
ن نجوما آجر هذا البناء
وتسير القصيدة في الأندية والمحافل، وترددها الأفواه، ويرفعها نصراء المتنبي إلى قمة لم يصل إليها شعر شاعر، وينزل بها أعداؤه إلى وهدة ما لها من قرار، ومن العجب أن ما يستهجنه الأعداء هو بعينه ما يستجيده النصراء، وقف صالح بن مؤنس في جامع عمرو بين حشد من الطلبة وأخذ يصيح: اسمعوا أيها الطلاب، اسمعوا اسمعوا هذا الحديث الجديد في الشعر! وهذا الفتح المبين في عالم السخف! أسمعتم أيها الأنجاب بشمس منيرة سوداء؟ أسمعتم بمثل هذا التناقض، وبمثل هذا الخلف؟ شمس تضيء وهي سوداء، وليل يظلم وهو مضيء. أسمعتم برجل أعمى وهو يبصر؟ إن لم تكونوا قد سمعتم بشيء من هذا فاذهبوا واسألوا هذا الشاعر الدعي المتشدق، فإنه يقول ويخاطب مولانا:
تفضح الشمس كلما ذرت الشم
س بشمس منيرة سوداء
وهنا يقهقه بعض الطلاب ويصيح: هذا ابتداع جديد، لم تخلق له عقول مثل عقولنا!
ودخل صالح بن رشدين على أخته وكانت تنظر في رسالة من رسائل الغرام التي يبعث بها إليها أبو بكر بن صالح في كل يوم ملحا مستعطفا، فقذفت بها في تأفف وسخرية، ثم اتجهت إلى أخيها سائلة: ماذا في يدك يا أخي؟ - القصيدة الجديدة. لقد كان هذا اليوم نصرا مؤزرا لأبي الطيب يا عائشة. فقالت: في تطلع وشوق: كيف؟ - قصيدته في الدار الجديدة. - ليس عندي شك في أنها ستكون درة نادرة. - إن فيها بيتا لم يخفض جناحه لشاعر من قبل. أسمعت بمثل قوله وهو يخاطب كافورا:
تفضح الشمس كلما ذرت الشم
س بشمس منيرة سوداء - الرنين الرنين!! الرنين يا صالح!! - لا تقولي الرنين يا عائشة. قولي المعنى، قولي الخيال الغريب! أليس عجيبا أن يجرؤ شاعر على أن يطرق هذه الناحية الدقيقة المحفوفة بالمخاوف في مدح أسود؟ ولكن أبا الطيب طرقها غير هياب، وتحدى من قبله من الشعراء الذين أكثروا من تشبيه وجوه ممدوحيهم البيض بالشمس. فهو يقول إن كافورا يفضح الشمس كلما طلعت، بشمس منه من نوع جديد، هي شمس سوداء، ولكنها على سوادها تفوق شمس السماء في إنارة طريق الحق للضالين، وفي رفعة أوجها وبعد منزلتها. أرأيت شاعرا في القديم قال ما يشبه هذا؟ - لا يا أبا علي هذا خلق جديد. ثم أخذت منه الورقة، وجعلت تقرأ حتى بلغت آخرها، فقبضت على ذراع أخيها وهي تقول: اسمع يا صالح، إن الرجل بعيد المطامع، إنه يطلب من كافور شيئا عظيما فليت شعري ماذا يكون؟ ثم أخذت تقرأ:
يا رجاء العيون في كل أرض
لم يكن غير أن أراك رجائي
ولقد أفنت المفاوز خيلي
قبل أن نلتقي وزادي ومائي
فارم بي ما أردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
ماذا يريد يا صالح؟ فابتسم، ثم قال: إنه يقول: إن فؤاده من الملوك، وأخشى أن يجد أعداؤه من مثل هذه البوادر منفذا للكيد له عند كافور. فتجهم وجه عائشة وهزت رأسها وهي تقول: ما أكثر الدسائس في هذا البلد الخصيب! ثم التفتت إلى أخيها قائلة: علمت بما جرى للمتنبي من تألب الشعراء عليه في مجلس أبي بكر بن صالح، ومن انتصاره لهم، وا أسفاه للشاعر الغريب بين هؤلاء الكلاب السود! هلا دعوته غدا أبا علي؛ لنشعره بالأنس، ولنخفف عنه بعض ما يلاقي من الوحشة والضيق؟ - سأدعوه غدا، وسأدعو معه جملة من الشعراء والأدباء، وستكون ليلة لاهية عابثة ينسى بها كل ما ينتابه من هموم، وستطربنا «خمر» المغنية، وسننسى عقولنا، ونفر من هذا الوقار الملعون الذي أشاب نواصينا قبل الأوان. فضحكت عائشة وقالت: إنني لا أحب هذا الصخب ولا تلك العربدة، ولكنكم معشر الرجال لا تنسون أبدا أنكم كنتم أطفالا.
وذهب ابن رشدين إلى دار المتنبي فرأى عنده الشريف إبراهيم العلوي، وعبد العزيز الخزاعي زعيم العرب ببلبيس، ثم بعض المعجبين به من الشعراء كابن أبي الجوع وابن أبي العصام، وكان المتنبي يحدثهم في حروب سيف الدولة، وكيف خاض كثيرا منها، وكيف لاقى الموت في بعضها. فلما فرغ من الحديث اتجه ابن رشدين إلى من بالمجلس وقال: لقد جئت لأدعوكم مع أبي الطيب للعشاء بداري غدا، وترجو السيدة عائشة - التي تقدر أدب ابن الحسين وشعره - وأرجو معها، أن تنال هذه الدعوة منكم قبولا. فأجاب الشريف: إن السيدة عائشة زهرة مصر الناضرة، ونجمها الساطع، ومثلها في طيب عنصرها وعلو منزلتها في الشعر والأدب لا يرد له دعوة. سمعا وطاعة يا ابن رشدين، وقال المتنبي: إنني رجل جد وصرامة خلق، وأخشى أن مثلي لا يجد له نصيبا في مجلس ربات الحجال. فقال الشريف: إن أديبتنا تعشق النفوس قبل الوجوه، وترى جمال العبقرية فوق كل جمال. فلتكن خشنا كما تحب أن تكون، فإنها ستخلص ما فيك من ورد مما اشتبك به من أشواك، وابتسم المتنبي وهز رأسه لابن رشدين بالقبول.
وقدم المتنبي إلى دار ابن رشدين بعد الغروب فاستقبله صاحب الدار، وتقدمت إليه عائشة فمدت إليه يدها مرحبة محيية، ونظرت فإذا هي أمام صورة للعظمة العربية والرجولة المتوثبة، ورجعت البصر فرأت ملامح بطولة، ومظاهر عزيمة تتحطم دونها آمال النساء.
أخذت عائشة تحادثه وقلبها يخفق، ولسانها يتعثر، لقد هجم عليها شعور لم تعرف له من قبل مثيلا، وأصابت جسمها رعدة لم تدر لها تأويلا، إنها تحس بسرور يسري في أوصالها ولكنه سرور ممزوج بخوف، مصحوب بما يشبه الألم، وتتخيل كأن نارا تأججت في فؤادها فأخذ يضطرم بنوازع مجهولة مبهمة، وتدرك لأول مرة أنها أنثى، وأن عاصفة هوجاء تدفعها إلى التشبث بالرجل الجالس إلى جانبها؛ لتجد تحت جناحه الدفء والأمن والنعيم. ما هذه النازعة الجامحة التي جرفتها، وعبثت بها كما تعبث الرياح بأوراق الشجر؟ وما هذا الطارئ المفاجئ الذي دخل قلبها بلا استئذان فاستبد بكل ما فيه؟ أهذا هو الحب؟ إن كان إياه كان شديد البطش، سريع الأخذ، جبارا لا يرحم، وغازيا لا يبقي على جريح.
جلست عائشة إلى جانب المتنبي ذاهلة اللب مبددة الفكر، ولكنها بعد حين استطاعت أن تجمع أشتات خواطرها، وأن تنفض عنها قطرات الموجة التي غمرتها، ثم اتجهت إلى المتنبي وقالت: لعلك رأيت يا سيدي في مصر ما يسليك عن الشام؟ - لقد كان عيشي بالشام رغيدا، وكنت في كنف ملك عربي مجاهد، ولكن آدم ورث أبناءه السخط على النعيم، وعلمهم مفارقة الجنان. - متى تسمعنا قصيدتك الثالثة؟ - حينما تسنح الفرصة، وتهفو النفس إلى قول الشعر. - لو كنت أبا الطيب المتنبي، أو لو كان لي بعض تلك الهبة الغالية التي أنعم الله بها عليك؛ لملأت جنبات الوادي تغريدا، ولزاحمت الطيور في أوكارها، ولهززت الأغصان في أدواحها، ولأسمعت النيل في كل لحظة ألحانا تكاد ترقص لها أمواجه ويقف تياره. عجيب شأنكم أيها الشعراء! تضنون بفيض الله على خلق الله. لقد منحتم هبة ما بذلتم فيها جهدا، ولا مددتم لأخذها يدا، وهي نبع لا يغيض، وكنز لا يفنى، وهبها لكم واهب الجود وخالق الوجود، ومع هذا تمر الأيام أو الشهور فلا نسمع لكم إلا بيتا أو أبياتا قصارا! إني أعذر الشحيح بماله؛ لأنه جمعه ببذل الجهد، وإضناء الجسم والنفس، وإراقة ماء الوجه، ووصل الليل بالنهار، فهو به ضنين، وعليه حريص. أما أنتم فما عذركم في الضن؟ وما حجتكم على المنع؟ ثم ابتسمت لأبي الطيب، واستمرت تقول: دعني أعاتبك يا أبا الطيب: أقمت بيننا أشهرا فما اهتزت شاعريتك لوصف ما ترى من روائع المشاهد، ولا اجتذب نظرك جمال يوقظ فيك وسنان القريض! أين من شعرك النيل وأمواجه، وسفنه السابحات، وهو يتهادى بين الشاطئين كالملك بين رعيته يجود على الأرض بمائه تبرا، فتنثر عليه من أزهارها ياقوتا ودرا؟ وأين من شعرك تلك الأهرام العاتية التي لم ينحن ظهرها لعواصف الدهر وأحداث الزمان، والتي لو تحدثت بأخبار الملوك الذين أقاموا في ذراها، والجيوش التي مرت بها؛ لسمعنا حديثا عجبا يهدي إلى الرشد؟ أين من شعرك رياض مصر الباسمة، ومروجها الفاتنة، ونخيلها الباسقات، وأدواحها الظليلات؟ أحب يا أبا الطيب أن تكون شاعر الدنيا لا شاعر الملوك. أحب أن تصور لنا الحياة حلوة لذيذة كما نحب أن تكون. أحب أن يكون في شعرك أمل اليائس، وعلالة العاشق، وسلوة الحزين وهداية الحائر. إن الشعر دنيا جديدة خلقها الله للناس؛ ليفروا إليها كلما ضاقت بهم دنياهم، وجعل مفاتيحها في أيدي الشعراء، فافتح للناس يا سيدي من أبوابها ما ينقذهم مما هم فيه من بؤس وشقاء! صور لهم جمال الحياة يا أبا الطيب تصويرا يحبب لهم الحياة، واخلق لهم من رائع خيالك كونا جديدا فقد ضاق بهم على اتساعه هذا الكون اللعين.
كان أبو الطيب مطرقا معجبا بما يسمع، وكلما رفع بصره رأى جمالا أعجب مما يسمع وأروع، فثارت في نفسه ثائرة واهنة القوى من الميل، ولكنها لم تجد السبيل إلى قلبه المملوء بالمطامع والآمال. فاتجه إلى الفتاة وقال: إن فيما قلته كثيرا من الحق يا سيدتي عائشة، غير أنك ظننت أن الشاعر يستطيع أن يقول كلما أراد، ويستطيع أن يجيد كلما أراد، وصورت الشعر نبعا ليس على الشاعر إلا أن يملأ منه الوعاء ثم ينثره على الناس، ومزمارا يكفي أن ينفخ فيه الشاعر فيأتي بأبدع الألحان. لا يا سيدتي، إن الشعر صعب المرتقى، بعيد الملتقى. إنه طائر حذر خداع، طالما زحفت إليه على ركبتي ليلة كاملة في خفوت وتؤدة، ففر من يدي، ثم سمعته عند الصباح يغرد شامتا مع طيور الصباح، ورب قافية أعالجها في صبر وجلد كما يعالج الملاح سفينة في بحر مائج، فلا أكاد أظفر بها إلا بعد أن تكون قد تقطعت حبالي وتكسر شراعي. ليس الشعر بالسهولة التي تظنينها يا سيدتي عائشة، وإلا هان أمره، وكسدت سوقه؛ لأن قيمة كل شيء بما يبذل فيه من جهد، وكلما صعب منال الشيء غلا ثمنه وكثر التنافس فيه. أما أني لم أصف مشاهد مصر، ولم يهزني نيلكم الفياض، ولا هرمكم الرابض في ذيل الصحراء، ولا حدائقكم الزاهية الفيحاء، فلو تعلمين ما بي لأقللت من ملامي. أنا فارس يا سيدتي قبل أن أكون شاعرا. ثم نظر إليها طويلا وقال: أنا رجل جم المطامع بعيد المرامي. إن لي في الحياة مطلبا أسمى، طالما خفت أن يطغى عليه الشعر فيهدئ من عزمته، ويقصر من وثبته، وطالما خشيت أن أقنع عنه بالشعر فأخرج من هذه الدنيا ولم أ عمل شيئا إلا أن يقول الناس: كان أبو الطيب شاعرا مجيدا. أنا لا أريد هذا يا سيدتي؛ لذلك اقتصرت من الشعر على القدر الذي يكفي لبلوغ ذلك المطلب، ونيل تلك الغاية. هذا سر لم أذعه إلا لك. ثم ابتسم وقال: واعلمي أني لم أقصد الملوك إلا لأكون كالملوك. فنظرت إليه عائشة نظرة فيها ذهول وفيها حيرة وقالت: أنت بنيل هذه الآمال البعيدة حقيق يا أبا الطيب.
وهنا أقبل الجمع عليهما، ومدت الموائد وفوقها كثير من ألوان الطعام، فأكلوا بين الأفاكيه والطرف النادرة. ثم جيء بأواني الشراب، ومر السقاة على جماعة الشاربين، فأبى المتنبي أن ينال من الخمر شيئا، وألح عليه القوم فلج في الإباء، وطلبوا من عائشة أن ترجوه أن يشرب فأبت، واصطف القوم حول خمر المغنية فأصلحت عودها وغنت بقول ابن رشدين:
قل لمولاي منعما
لم هجرت المتيما؟
أنت أعطشتني إلي
ك وأبكيتني دما!
وكانت لؤلؤية الصوت، حلوة المذهب، فتملك الطرب القوم، وزادت النشوة في صخبهم، والمتنبي هادئ مطرق، كأنه لا يشعر بما حوله. ثم طلب منها الجمع أن تغني بشعر لابن أبي الجوع فانطلقت تغرد:
يا أطهر الناس روحا
وأطيب الناس راحا
هات اسقني أو تراني
لا أعرف الأقداحا
فماج القوم من الطرب، وقذف بعضهم بالعمائم، وقام سكران يلح على أبي الجوع في أن يشرب حتى لا يعرف الأقداح ثم غمز ابن رشدين لخمر بعينه متجها نحو المتنبي فأخذت تصدح:
لبسن الوشي لا متجملات
ولكن كي يصن به الجمالا
وضفرن الغدائر لا لحسن
ولكن خفن في الشعر الضلالا
وكان القوم يتمايلون مع الأنغام، لجمال المعاني وحسن الإيقاع، والتفتت عائشة إلى المتنبي وهمست: هذا غزل من القلب يا أبا الطيب، وليس تصوير فنان فحسب؛ لأني أحس فيه حرقة العاشق. فالتفت إليها وقال: هذا شعر الشباب يا سيدتي، فضحكت في دهش وقالت: عجيب أن تدعي مفارقة الشباب وأنت لا تزال في ربيع الشباب الزاهر. - ولكن مطامعي تغري بي الشيب والهرم، فأسرعت تقول: دع مطامعك الآن لأننا لم نتبذل هذه الليلة إلا لنذهب عنك الوحشة والهموم. - جزاك الله خير الجزاء يا سيدتي، وبعد أن طال به المقام طلب الإذن بالانصراف، فقام الجمع احتفاء به، وأمر ابن رشدين عبيده بالسير في ركابه، وخرج مشيعا بالإجلال.
وتفرق القوم، وانفض سامر اللهو، وصعدت عائشة إلى حجرتها؛ لتستريح بالمنام إذا ظفرت بالمنام، ولكنها جلست في سريرها ذاهلة اللب، مروعة القلب، تتقاذفها الأوهام، وتعبث بها الظنون، ما هذا الهجوم العنيف الذي غزا فؤادها دون أن تعد له العدة أو تأخذ الأهبة؟ لقد كانت طول حياتها تعتز بأن قلبها حصن لا ينال، ونجم لا تمتد إليه أمنيات الخيال، وتفاخر بأنها برئت من غرائز النساء التي تدفعهن إلى الاستجابة إلى إشارات الرجال الآثمة، وأعينهم الخائنة. تلك الغرائز التي تبيع الجمال رخيصا، وتمزق الحياء كما يمزق البرق حجب الغمام. كانت تخالط الرجال وتجالسهم في مجلس اللهو حينا، وفي مجالس الأدب أحيانا، وهي كأنها الملك السماوي الطاهر، الذي خلقه الله من نور، وطهر قلبه من وساوس الإثم ودنس الشهوات. فكانت العيون تغضي أمام جمالها إجلالا، والنفوس تسجد عند مشاهدتها خشية وخشوعا، ولم يخل مجلس من تحدث إلا بطهارتها وعفافها، وصون جمالها البارع من أن تمتد إليه يد طامع، وكانت نساء المدينة وبناتها - على رغم الحقد الذي يأكل قلوبهن - لا يملكن إلا أن يطأطئن لهذا الجمال المترفع عن أن ينزل في سوق المساومات، أو تنهشه أعين الخاطبات، وكم حام الشبان حول قدسها فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، وكم بذل أبو بكر بن صالح - أعظم رجل في الدولة بعد ابن الفرات - من وسيلة، وكم ساق من رجاء، وكم تساقطت دموعه على قدميها، فلم يجد منها إلا الرفض والجفاء.
طافت هذه الخواطر بعائشة وكانت تودع كل موكب من مواكبها بدمعة حزن وزفرة أنين، ثم عادت تقول: ماذا جرى لعائشة النافرة الشموس؟ كيف ذلت لسلطان هذا الرجل؟ وكيف قذفت بكبريائها؛ لتلاقي من كبريائه صخرا أصم، لا تزعزعه عواصف الغرام. إنها فتحت له قلبها هذه الليلة فأغلق في وجهها كل باب، وبدا من جمالها ما يكفي لإثارة أبي الهول، ولكنه ظل بجانبها جامدا كأنه كان ينظر إلى عجوز ورهاء، ويلي من الحب ويلي! لقد صنته عن كل محب معمود يستعذب الموت في حبي؛ لأقذف به بين يدي شاعر لا يحس! رفضت الجاه والمال والشباب والوسامة؛ لأبيع نفسي رخيصة مزجاة لرجل جواب أفاق جاوز الأربعين! ثم من هذا الرجل؟ إنه ينظر إلي كما ينظر إلى لعبة لم يحكم صنعها، ويستمع لي كما يستمع لبعوضة تطن، ويستدبر محراب حسني كافرا جحودا، لا يؤمن بجمال ولا تهزه عاطفة، ويلي من الحب ويلي! ماذا يقول الناس؟ وبم تتحدث السوامر؟ سأكون سخرية المجامع، ومتندر المحافل، وسيقول النساء إن عفافها كان رياء، وتبتلها كان مينا وزورا. ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها كأنها أفاقت من حلم مزعج، وقالت: وما لي أهتم بحديث الرجال وثرثرة النساء؟ إنني أحببت رجلا عظيما، وتعشقت فنا رفيعا، إنني نفرت من جمال المادة المظلمة، إلى جمال الروح الوضاءة. إنني لا أحب العيون الدعج، ولا الحواجب الزج، ولا الثغر اللؤلؤي، ولا القوام السمهري، ولكني أحب العبقرية المتلألئة، والنبوغ الفاتن، والرجولة الوثابة، والنفس الطموح. إن أحمد بن الحسين رجل لا كالرجال، فليس بدعا أن يكون حبي له حبا لا يشبهه حب، ولا يماثله غرام، وإذا كان قلبه اليوم لا يستجيب للحب فإن طول المعاشرة قمين بأن يلين قياده، ويروض صعبه، حتى يصبح طيعا ذلولا. إن بعد الليلة سيكثر من زيارتنا، وسيجد من الأنس بنا ما يرسل نفسه على سجيتها، ويطلق عواطفه المكبوتة، والزمان طبيب كل شيء في هذه الدنيا، وقاهر كل جبار، حتى لو كان أبا الطيب المتنبي. ثم أغمضت عينيها فسبحت في عالم فسيح من الأحلام.
ومرت الأيام، وكان أبو الطيب يمر بين الحين والحين بدار ابن رشدين، ويجد من رقة عائشة وأدبها وروعة جمالها ما يملأ قلبه سرورا، وجلس مرة إليها يسمعها قصيدته التي سينشدها كافورا، فلما بلغ قوله:
كم زروة لك في الأعراب خافية
أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
نظرت إليه وقالت: متى كانت هذه الزورة يا أبا الطيب؟ فالتفت إليها باسما وقال: هذه زورة الخيال يا سيدتي. فإن رجلي لم تحملني مرة إلى فاحشة، فضحكت وقالت: صدق الله العظيم:
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون
ثم انطلق يقرأ حتى إذا بلغ قوله:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
صاحت عائشة فيما يشبه الهلع وقالت: انظر أبا الطيب، فهل ترى في وجهي تزيينا أو تطرية؟ فأطرق قليلا، وكأنه ظن أن حديث الأدب سينحرف إلى غير وجهه، وقال: إن حسنك من صنع الله يا سيدتي، وأرجو أن يصونه الله. - إن هذا الحسن يهيم بحسن آخر لا يرى بالعين؟ - يهيمن بحسن لا يرى بالعين؟ - نعم يهيم بحسن الروح وجمال العبقرية. - هذا خير أنواع الحب. - ولكن صاحب هذه العبقرية نفور شامس لا يريد أن يلقي عنانا، فأطرق المتنبي ثانية وقال: يا عائشة، إن قلبي نهبته المطامع، وتقسمته الآمال، وأخشى ألا يجد فيه الحب متسعا للهو والمرح. - إن حبنا حب قدسي ملائكي، ليس فيه إربة للهو والمرح. - قد كنت دائما أذود عني طائر الحب خشية أن يصدني عما يعتلج في نفسي من مطامح، وحينما رأيتك أول مرة التمع في قلبي بصيص من الهوى فأخمدته، وصاح صوت في أعماق نفسي فأسكته، ذلك لأنني رجل وهب حياته للمجد، وألقى بنفسه بين شفار السيوف.
تغرب لا مستعظما غير نفسه
ولا قابلا إلا لخالقه حكما
ولا سالكا إلا فؤاد عجاجة
ولا واجدا إلا لمكرمة طعما
يقولون لي ما أنت في كل بلدة؟
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى! - إني لا أحبك إلا لهذا ومثله. أحبك حبا عذريا قدسيا تنزه عن دنس الدنيا، وسما فوق كل مأرب، فهل تعاهدني على هذا؟ - أعاهدك يا سيدتي، إن مثل هذا الحب هو الذي طلبه أكثر الناس فلم يجدوه فزهدوا في الدنيا، وزهدوا في الحياة، وإن مثل هذا الحب هو الذي ينفخ في المرء روحا علوية تدفع به إلى عظائم الأمور، وتنير له طريق المجد، الآن أصبحت مصر لي جنة بعد أن كانت جحيما، والآن أجد ما يعزيني في هذه النكبة الفادحة، التي قذفت بي إلى مصر لأمدح الأسود.
وبعد قليل خرج وعطفه يهتز، ووجهه يفيض بشرا، ولعله كان يقول:
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
دسائس
مرت شهور والمتنبي ينعم بحبه، ويكثر من ازديار صاحبته، وشاع بين الناس أمر حب عائشة له، وتحدث بذلك الأدباء في مجالسهم، ودهم الخبر أبا بكر بن صالح فصعق له، وغلى مرجل غيظه، وكان ذلك حين دخل عليه ابن الفرات يوما وهو يقول باسما: لقد طار عصفورك من القفص يا أبا بكر. - ماذا تقصد يا جعفر؟ - أقصد أن نسرا جارحا طار إلينا من الشام، ثم مازال يحوم حول العصفور حتى اختطفه، وأنشب فيه مخالبه. - أفصح بالله يا ابن الفرات. - إن المتنبي سبى قلب عائشة، أو هي التي سبت قلبه، وقد علمت أنهما يتقابلان في دارهما كل مساء؛ لرواية الشعر والتحدث في الأدب. - ممن علمت هذا؟ - من أهل مصر جميعا، فإن الأمر لم يعد سرا، وإن الصبيان في الأزقة يتغنون بهذا الحب، ويلفقون له أغاني وأهازيج يترنمون بها. أفق يا أبا بكر فما يوم حليمة بسر. - العابثة الماجنة! لقد قلت حينما ازدرت حبي، وسخرت من دموعي، إنها امرأة شاذة لا إربة لها في الرجال، فكيف تهفو الآن إلى هذا الأفاق، وتبذل له أغلى كنوز مصر؟ ويل لهما مني! - رفقا بالفتاة يا أبا بكر، فإن قلوب النساء من قوارير، وصعب النساء إلى مياسرة، كما يقول بشار الخبيث، وماذا تفعل أية فتاة حياة إغراء شاعر فتاك يمزق أفئدة النساء كما يمزق رسالة طال عليها العهد؟ - لابد من الانتقام من هذا الوغد اللئيم. - وكيف ننتقم منه؟ - الأمر في غاية اليسر، فإن في شعره الذي يتبجح بالإجادة فيه حبالا تكفي لخنقه. - كيف؟ - هذا ما ستعرفه يا ابن الفرات. أين مولانا الأستاذ الآن؟ - في قاعة الحكم. - هلم بنا إليه، وانطلقنا مسرعين وأبو بكر يتحرق غيظا، وابن الفرات يبتسم في شمامة، لدنو ساعة انتقامه من المتنبي؛ لأنه تعاظم عليه، وتسامى عن مديحه، ودخلا على العبد فابتسم لهما ابتسامة الأفعى. ثم قال: أهلا بالوزيرين! هل من حاجة؟ فانطلق أبو بكر يقول: هذا المتنبي الشاعر يا مولانا أخشى أن يثير قدومه علينا شرا مستطيرا. - وأين عيونك وجواسيسك؟ وأين أصحاب الأخبار الذين تباهي بأنهم يعلمون همسات الصدور، وخلجات الخواطر؟ - من هؤلاء يا مولانا علمت كل شيء. - ماذا علمت؟ - علمت أنه يتصل في السر بفاتك عدوك اللدود، وأن الرسل بينهما جائية ذاهبة، وأنه اجتمع به منذ أيام في الصحراء بين مصر والفيوم، في جنح الليل البهيم، وأنه جرت بينهما محادثات، وأخشى أن أقول مفاوضات. - فاتك المجنون؟ - نعم يا مولانا، هو فاتك نفسه الذي حاول أن ينازعك الملك والوصاية على ابن مولانا، فنفيته إلى الفيوم. - وفي أي شيء يفاوضه هذا الشاعر؟ - يفاوضه في الملك. يفاوضه على أن الدولة ستكون بينهما بالسوية: لفاتك قيادة الجيوش، ولهذا الأفاق حكم البلاد وسياستها.
وهنا اكفهر وجه كافور، وأخذته رعشة من الغضب حاول كبتها. ثم قال: وأين يذهب كافور؟ - هذه يا مولانا أوهام لا يمكن أن تحقق، وإن سيوفنا وقلوبنا سور حول عرشك الكريم. - هذا المتنبي لم يفتر منذ قدم علينا من مضايقتنا، والإلحاح علينا في أن نوليه ولاية، كأنه جاء إلى مصر فاتحا لا شاعرا مستجديا. لقد أكرمنا وفادته، وأجزلنا له الصلات، ونثرنا فوقه الذهب والفضة، ولكن شيئا من هذا لم يقنعه، ولم ينهنه من عزيمته، وإني أعرف هذا الصنف من المخاطرين إنه - فيما يزعمون - ادعى النبوة، وهل يصعب عليه إذا نال ولاية أن يدعي ملك مصر كلها؟! - إن كل قصيدة له في مدح مولانا ليست إلا إلحاحا في طلب هذه الولاية، ولا يقصد اللئيم من هذا إلا أن يصارح الناس بأن مولانا لا يستحق المدح، وأنه إنما دفع إلى مدحه ليتوصل إلى مآربه. ثم إنه يتدرج في شعره مطالبا بهذه الولاية تدرجا خبيثا، وأعتقد أن مرماه البعيد أن يجعل من هذه الولاية ذريعة لالتهام مصر. يقول أولا:
يأيها الملك الغاني بتسمية
في الشرق والغرب عن وصف وتقليب
أنت الحبيب ولكني أعوذ به
من أن أكون محبا غير محبوب
ثم يلحف في قصيدة أخرى فيقول:
فإن نلت ما أملت منك فربما
شربت بماء يعجز الطير ورده
ووعدك فعل قبل وعد لأنه
نظير فعال الصادق القول وعده
إذا كنت في شك من السيف فابله
فإما تنفيه وإما تعده
وما الصارم الهندي إلا كغيره
إذا لم يفارقه النجاد وغمده
ثم تدفعه العجلة وتزجه المطامع إلى أن يقول في قصيدة أخرى:
ولو كنت أدري كم حياتي قسمتها
وصيرت ثلثيها انتظارك فاعلم
ولكن ما يمضي من العمر فائت
فجد لي بحظ البادر المتغنم
وقد بلغ القمة في الإلحاح وسوء الأدب في حق مولانا في قصيدة عيد الفطر حين يقول:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فإني أغني منذ حين وتشرب؟
وهبت على مقدار كفي زماننا
ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
فالتفت كافور إلى ابن الفرات، وقال: ما رأيك في هذا الشعر؟ - هذا شعر لا يسمعه سامع إلا اعتقد أن مولانا بخيل على شعرائه وقصاده، وأن شاعره في غاية الجرأة عليه، والاستهانة بمكانته. - إنه رجل قليل الأدب. - ثم إني أعتقد يا مولانا أن هذا الرجل يلبس بيننا غير ثوبه، وأنه جاسوس أرسله إلينا ابن حمدان؛ ليطلع على أسرار دولتنا، وينقل إليه مواطن الضعف فيها، وابن حمدان لا ينسى هزيمتكم له في دمشق، وهو - وقد أكل قلبه الحقد - يريد أن يثأر لنفسه، وان يمهد لجيشه سبيلا لفتح مصر. - ذلك أبعد إليه من نجوم السماء. - من غير شك، ولكن ما معنى أن يدعي هذا الشاعر أنه غاضب سيف الدولة، وناصبه العداء، وفر من حلب تحت أستار الليل، ثم لا يكاد ينشد قصيدة أمام مولانا إلا وفيها حنين لسيف الدولة، وأسف على فراقه. إن هذا في رأيي بدوات طفرت من الشاعر بعد أن بالغ في كتمانها فظهرت على الرغم منه في فلتات لسانه. ففي أول قصيدة أنشدها أمام مولانا ترك مصر وصاحبها، واتجه بتشوقه وهيامه إلى حلب وصاحبها. ثم جرى بعد ذلك في شعره على هذا النسق فهو يقول:
فراق ومن فارقت غير مذمم
وأم ومن يممت خير ميمم
رحلت فكم باك بأجفان شادن
علي وكم باك بأجفان ضيغم
وما ربة القرط المليح مكانه
بأجزع من رب الحسام المصمم
فلو كان ما بي من حبيب مقنع
عذرت، ولكن من حبيب معمم
رمى واتقى رميي، ومن دون ما اتقى
هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
ثم يرمي بآخر قناع فيقول وكأنه يخاطب ابن حمدان:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر الوصل أعجب
أما تغلط الأيام في بأن أرى
بغيضا تنائي، أو حبيبا تقرب؟
عشية أحفى الناس بي من جفوته
وأهدى الطريقين التي أتجنب
أتعرف يا مولانا من أحفى الناس به؟ هو ابن حمدان، وهل يعرف مولانا أهدى طريقيه التي يتجنبها؟ هي طريق حلب. - ويل للمرائي الفاجر؟ لقد كنت أظن أن الإنسان عبد الإحسان، ولكن يظهر أن من الناس من تطغيهم النعمة، وتبطرهم المودة، وكل هذا الشعر لا يساوي عندي هذه الذبابة الحائرة فوق زجاج النافذة، فإني لا آبه له، ولكن الذي يهمني حقا تلك المؤامرة التي ينسج خيوطها مع فاتك. خذ حذرك يا أبا بكر، وابعث جواسيسك حول الفيوم، وفي حواشي الصحراء، واجعل على كل عابر عينا حتى لا يمر طائر بين البلدين إلا عرفته. أما أنا فسأظهر للشاعر كأنني لا أعلم شيئا، وسأبالغ في إكرامه حتى تهدأ نفسه ويطمئن، فإننا نخشى أن يفلت من أيدينا، ومن الحكمة أن نعتقله من حيث لا يشعر، وأن نجعل له قيودا من الذهب لا من الحديد. إنه لو فر منا كما فر من ابن حمدان الأحمق؛ لملأ الأرض بهجائنا، ولأصبح اسم كافور سبة الأبد، وأضحوكة الأجيال. ابسط له وجهك يا ابن الفرات، وانثر الحب لطائرك حتى يقع في الفخ.
وما كاد يتم عبارته حتى دخل الحاجب يقول: إن المتنبي يطلب مقابلة مولانا. فالتفت كافور إلى وزيريه وهو يغمز بعينه في ابتسامة ماكرة، وقال. دعه يدخل.
دخل المتنبي فقابله كافور ووزيراه بحفاوة، فلما اطمأن به مجلسه قال: لقد بعث إلي أبو شجاح فاتك يا مولانا منذ قدمت مصر برسائل محبة وترحيب، ثم والى علي من هباته وصلاته ما أثقل ظهري، وأوهن كاهلي، حين رأيت أن ترك مديح مثله لؤم لا يليق بمثلي. لهذا جئت يا مولانا أستأذنك في مديحه وأداء هذا الدين، الذي أصبحت لا أستطيع احتماله. فهل يأذن مولانا لشاعره بأن يشدو بمديح أحد رجاله المخلصين؟
فالتفت كافور إلى ابن الفرات، وغمز بعينه بحيث لا يرى، وقال: ما عليك من بأس يا أبا الطيب. فإنه يسرني أن يستحق أحد قوادي مديح مثلك. قل فيه يا أبا الطيب ما تشاء، وأجد ما طاولتك الإجادة.
ثم اتجه إلى ابن الفرات، وقال: لقد جاءتني اليوم رسالة من أهل صيداء يشكون فيها من واليهم، ويعددون مظالمه، وأخشى أن يكونوا في شكايتهم صادقين؛ فقد سمعت من قبل كلاما كثيرا يدور حول هذا الوالي، وأنه يعبث بالحقوق ويأخذ الرشا. أسمعت بشيء من ذلك يا جعفر؟ - نعم يا مولانا، وقد حاولنا إصلاحه بالنصيحة والصبر، فكاد يفسد علينا أمرنا بالتمادي في ظلمه، وهنا التفت كافور إلى المتنبي وقال: ما رأيك في ولاية صيداء؟ إنها ولاية واسعة وافرة الخيرات.
فكاد المتنبي يطير من فوق كرسيه فرحا، ووقف خاضع الرأس أمام كافور كأنه الراهب في محرابه، وطفق يقول: إنني سأكون أعدل وال لها، وأوفى وال لك يا مولانا.
فابتسم كافور وقال: سننظر في الأمر يا أبا الطيب، والأمور مرهونة بأوقاتها، وسيكون كل شيء خيرا إن شاء الله.
وانصرف المتنبي وهو يكاد يخرق الأرض بقدميه تيها وكبرا، ويملأ الفضاء بصدره المنتفخ زهوا وعجبا. إن هذا النخيل التي يداعبها الهواء في طريقه إنما تميل نشوى للنبأ العظيم! وقمم المقطم المطلة عليه إنما تمد آذانها؛ لتتلقف الخبر الخطير! والأهرام ما صمدت لعوادي الزمان طيلة هذه القرون إلا انتظارا لذلك المجد الباذخ! والنيل لم تتهامس أمواجه إلا بأنباء هذا الحادث الجلل!! إنه قدم مصر لأجل هذا، وتدلى إلى مدح الأسود لأجل هذا، ولاقى صنوف الاضطهاد من عظماء مصر وعلمائها لأجل هذا، ولا شك أن العزة لا تنال إلا بشيء من الذل، والعظمة لا تقتنص إلا بخضوع النفس. لقد كان مصيبا حقا حينما هجر سيف الدولة وقصد كافور، ولطالما ظن أنه ضل السبيل، وتنكب الصواب، وأنه باع نفسه للأبالسة، وأن الأسود إنما احتال لاجتذابه إليه ليجرد سيف الدولة من أمضى سلاح هو سلاح الشعر، الذي تعتز به الدول، ثم ليحتبسه في مصر شاعرا ذليلا مأجورا. لطالما ظن هذا، ولطالما عنف نفسه، ولطالما جلس في فراشه في الليل البهيم وهو يقلب كفيه أسفا، ويرسل أنفاسه حسرات تلو حسرات، ولطالما صور له الخيال أن الأسود يعبث به ويمنيه الأماني كذبا وزورا، وأنه يشد رقبته بخيط من الوهم، ويرقصه في مجلسه على أنغام آمال هي أبعد من مناط الثريا، وأكذب من هذيان الأحلام. لقد ظلم العبد. لقد كان العبد مظلوما حقا. إنه رجل وفي صادق أمين. إنه كان يطاوله ليختبره ويبلوه، والولايات شأنهن عظيم، ولا تكفي أشهر لاختيار من يصلحون لها. فالآن وقد درس نفسي، وألم بنواحي عظمتي، أخذ يعلن ما أخفى، ويجهر بما كتم. ثم وقف المتنبي عن حديث نفسه ومال برأسه قليلا، شأن المفكر في أمر مفاجئ، وقال: ولكن ماذا سيكون أمري مع فاتك الذي عاهدته في الصحراء على أن أكون له عونا في انتزاع الملك من كافور برأيي وسيفي وشعري، ووعدني بأخصب ولايات مصر وأدرها خيرا؟ في الحق إني تعجلت المفاوضة مع فاتك، وكان من الحزم أن أصبر قليلا حتى أيأس تمام اليأس من كافور، ولكن ما لي أبيع حاضرا بغائب؟ وما لي أطلق أملا في يدي لأنتظر أملا حائما؟ وما لي أضيع حقيقة واقعة بوعد موهوم؟ لا لا إني سأخلص لكافور، وسأكون أوفى خلصائه وأصدق أمرائه.
وبينما هو في الطريق إذ التقى بصديقه عبد العزيز الخزاعي، فحياه تحية المحب المشوق، ثم سأله: من أين؟ وإلى أين؟ - قدمت بالأمس من بلبيس لزيارتك، وعرض لي أن أزور في الصباح شيخ الشافعية عبد الله الناصح بالجامع العتيق، وقد كنت الآن قاصدا إلى دارك. - وماذا رأيت في الجامع العتيق؟ - يا أبا الطيب، يجب أن تتقي علماء هذا الجامع، ويجب أن تتقي منهم خاصة هذا العالم الموسوس أبا بكر الكندي الذي يلقبونه بسيبويه. - وماذا أعمل له؟ - تخفض جناحك، وتنهنه من كبريائك قليلا. إن مصر يا أبا الطيب ليست كحلب. إنها عش العربية، وموطن العلم والأدب. فإذا كنت في حلب قد أرسلت أشعارك على فطرتها جريئا غير هياب ، ففكر هنا ألف مرة في كل بيت تقوله. - ماذا تريد بهذا يا ابن يوسف؟ - أريد يا سيدي أن أكون لك ناصحا، وإن غلظ عليك نصحي، وأريد أن أقول: إنني حينما دخلت الجامع في هذا الصباح، رأيت حلقة من الطلاب غاصة بمن فيها حاشدة، وقد توسطها أبو بكر الكندي وهو يصبح: اسمعوا يا أهل الفهم والمعرفة ما يقوله شاعرنا الجديد! اسمعوا ما ابتكره في فن المديح هذا المتنبي الكاذب! إنه لا محيد له عن إحدى خلتين: إما أنه يسخر من عقول أدباء هذا البلد، ويرى أنهم أغبى من أن يدركوا ما يقول، وإما أنه سخيف أبله لا يعرف مرامي الكلام، وهنا ضج المجتمعون صائحين: قل أبا بكر ولا تطل علينا. أسرع يا صاحب الحمار. هات ما عندك. فعاد يقول: يمدح هذا المتنبي مولانا بقوله:
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
أرأيتم شاعرا منذ أن قال امرؤ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» قال لممدوحه: إنني لم أعجب لطربي عند رؤيتك أيها الأمير؛ لأنني كنت أؤمل أني سأملأ الدنيا ضحكا حين أراك. إن المتنبي أيها الطلاب قدم إلى مصر؛ ليفرج عن نفسه برؤية أميرنا المضحك! إنه - جزاه الله بما يستحق - جعل من أميرنا قردا يتزاحم الناس عليه؛ ليروا ألاعيبه فيطربوا ويضحكوا، وهنا أغرق القوم في الضحك والجلبة، وارتفع صوت خبيث منهم يصيح: إن الأمير لا يفهم هذا الكلام الموجه وعلى علمائنا أن يفهموه، حتى ينال هذا الرجل ما يستحق، وما كاد يسكت حتى مد أبو بكر ذراعيه طالبا السكوت؟ وقال: ثم من علم هذا الشاعر العربية حين يقول: «لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب؟».
فيرفع الفعل «أطرب» وهو منصوب لا مناص؛ لأنك إذا جعلت الفاء عاطفة وجب نفسه بالعطف، على أراك، وإن جعلتها للسبب وجب نصبه بأن مضمرة. فكيف ساغ لهذا الرجل رفعه؟ فصاح طالب: قد يكون الفعل معطوفا على «أرجو» وهو مرفوع، وهنا قهقه الشيخ حتى سقطت عمامته، وأجاب: هذه حيلة العاجز يا ولدي؛ لأن الطرب مترتب على الرؤية لا على الرجاء.
ولم أطق يا أبا الطيب، أن أصبر على استماع أكثر من هذا، فأسرعت بالخروج من هذا المسجد. تدبر أيها الأخ في أمر تسكت به هذا المجنون. فإن الناس ينقلون أخباره ونوادره، وإذا وصلت هذه الأخبار إلى القصر ساءت العقبى.
كان عبد العزيز يحادث المتنبي، وهو سابح في بحر من الفكر عميق، وقد اصفر لونه، واختلجت عضلات وجهه؛ لأنه في الحق كان يخشى أن يفسد عليه هؤلاء السفهاء أمره مع كافور، بعد أن بلغ لديه منزلة الرضا، وأصبحت الولاية منه قاب قوسين، ثم اتجه إلى عبد العزيز وقال: سيكون لي مع هؤلاء شأن آخر، وربما أسكتهم عني بعد أيام سكوتي عن قول الشعر جملة واحدة. - كيف؟ فابتسم، وقال: ستعلم ذلك قريبا يا ابن يوسف، هلم بنا إلى دار ابن رشدين، وانطلقا حتى بلغا الدار فلقيا بها صالحا والشريف إبراهيم العلوي، وأقبلت عائشة مسرعة وكأنها البدر المشرق زحزحت عنه حجب الغمام، وكان المتنبي على غير عادته باش الوجه، منبسط النفس. فابتدره الشريف سائلا: أين كنت هذا الصباح يا أبا الطيب؟ - كنت عند كافور أستأذنه في مدح فاتك. فأطرق الشريف طويلا، ثم قال: لقد تعجلت في هذا يا أبا الطيب، إن كافورا لا يبغض في مصر إلا رجلين: ابن سيده وفاتكا، وقد نهى أن يذكر أحد في قصره اسم فاتك إلا أن يأتيه البشير بموته، وحينئذ يسوغ للبشير أن يقول له: مات فاتك. فكيف بحقك قذفت بنفسك في هذه الهوة، وألقيت بها في هذا المأزق؟ وبم أجابك؟
فبهت المتنبي وتلعثم، وقال: أذن لي بمدحه. - وهذه هي الطامة الكبرى، وهذا هو الشر المستطير، والبرق الذي يسبق الرعد، والسكون المخيف الذي يتقدم العاصفة. إن الهر الخبيث يداعب الفأر قبل أن يثب، والثعبان المكار يهز رأسه لفريسته قبل أن ينقض عليها. فأسرعت عائشة في وجل وهي تصيح: ماذا تقول يا سيدي؟ - إن الرائد لا يكذب أهله يا عائشة، ولقد علمت من دهاء هذا العبد وحيله ما فيه العجب العجاب . - كيف بالله؟ - لقد عودنا هذا الكافور أنه لا يضحك إلا إذا نوى الغدر، وعهدناه لا يلقي لصيده الحبل طويلا إلا ليرتكس فيه، وهنا وثب المتنبي واقفا وهو يقول: لقد بالغت في سوء الظن بكافور يا سيدي: إنه وعدني اليوم بولاية صيداء. فأسرع عبد العزيز سائلا: بعد أن استأذنته في مدح فاتك؟! - نعم. فقال الشريف: هذا يؤيد رأيي، ويحقق في الأسود سوء ظني، وكيف جاء ذكر هذه الولاية؟
قال كافور: إنه وصلت إليه رسالة من أهل صيداء يشكون فيها من واليهم، ويصفونه بكل ما يشين، وأيد ابن الفرات شكواهم، وأنه نصح لهذا الوالي كثيرا فلم يرعو عن غوايته، وحينئذ التفت إلي كافور باسما، وسألني عما أرى في ولاية صيداء، فقبلت وشكرت. - هل أسند الولاية إليك بالفعل؟ - كأنه أسندها إلي لأنه قال إنه سينظر في الأمر، وإن الأمور مرهونة بأوقاتها: فغمغم الشريف في ألم وحسرة وقال: كل هذا كذب من الأسود وخداع. فلا ظلم الوالي أهل صيداء، ولا شكا أهلها من واليهم، ولا عزم كافور على عزل الوالي وتوليتك مكانه، ولكنه ماهر في ابتكار الكذب وارتجال الأخاديع، ولو كنت لا أعرف هذا الوالي؛ لعلمت من أسلوب العبد في تناوله هذه الأمور أنه كاذب مائن، أما وأنا به جد عليم، وأعرف من أخلاقه وسيرته ما يرفعه إلى مرتبة العمرين، فلا يخالجني شك في أن الرجل خدعك بهذه الأخلوقة، والله وحده يعلم ما وراءها من كيد ومحال، وأكبر الظن أن بعض أعدائك دس لك عنده؛ لأن هذه المجاملة، وهذه الموادعة، لا تفسر عندي إلا بهذا. فخذ حذرك يا أبا الطيب، وكن معه كملاعب النمر، يقرب منه والخنجر لا يفارق يمينه. أما الولاية وأشباهها فأضفها إلى خيال الشعراء، فإن الرجل في هذه الناحية أمهر شاعر، وهنا تململ المتنبي، وقال حانقا: إن بيني وبينه أيام إن لم يف بوعده فيها عرفت أنه كاذب أفاك، وفي شعري علاج ناجع لأمثال هؤلاء. - احترس أبا الطيب، وقدر لرجلك قبل الخطو موضعها، فإن الصل المصري لا تنفع في لدغته الرقية ، ولا يجدي الدواء، وجامل الرجل حتى تجد من يديه مخلصا.
بدا الغم والحزن على وجه المتنبي ووجوه أصحابه، وتنهدت عائشة وقالت في صوت خافت: لعل شدة خوف الشريف على سلامتك يا أبا الطيب هي التي دفعته إلى أن يصور لك الخطب جسيما، والأمر عظيما، فانضح عنك الخوف، فقد يكون الوهم قد لعب بنا فخيل إلينا أن الهر أسد ضرغام. فأسرع الشريف قائلا: لا يا سيدتي عائشة، إن الأسود ماكر محتال بعيد الوثبة، فمن الخير لنا ولأبي الطيب أن نكشف له الطريق. ثم خاض القوم في حديث آخر، والمتنبي ذاهل في مهامه من الفكر، كلما خرج من فلاة تلاقفته أخرى، ثم استأذن في الانصراف، فخرج ومعه عبد العزيز الغزاعي. حتى إذا بلغا الدار أخذ المتنبي في خلع ثيابه وهو يسأل عبد العزيز: ما رأيك في حديث الشريف؟ - أكبر الظن أنه يقول الحق. - أخشى أن يكون قد طوح الخيال به قليلا. - إذا كان في حديثه بعض التهويل فإني أعتقد أنه لم يعد الحق. - بيننا وبين الأسود أيام إن لم ينجز فيها وعده فويل له مني في التيقظ والمنام! ثم أخذا في فنون شتى من الحديث، حتى إذا حانت ساعة النوم انصرف كل إلى سريره.
ومرت أيام، ومر شهر وأكثر من شهر، وكافور لم ينجز وعده ولم يشر إليه، وتحقق المتنبي من أن الرجل خدعه، وأن الشريف كان صادقا حين وصم الأسود بكل نكراء، ونظر أبو الطيب فرأى ما بناه من الآمال ركاما، وما صوره من المجد أحلاما، وأن الطائر الذهبي الذي طالما ناغاه فر من بين يديه في الهواء، وذهب إلى آفاق غير هذه الآفاق، ولم يعد يشك في أن العبد أغراه بالقدوم إلى مصر؛ ليحتبسه بمصر، وليجعل منه شاعرا مأجورا، يسبح بحمده في البكرة والعشي، في سبيل لقيمات يقذفها إليه في الصباح والمساء. ألا خسئ الأسود، وخسئ اليوم الأسود الذي شددت فيه رحالي إليه!
أيملك الملك والأسياف ظامئة
والطير جائعة لحم على وضم
من لو رآني ماء مات من ظمأ
ولو عرضت له في النوم لم ينم
خيبة
أفاق المتنبي من أوهامه، وتيقظ من أحلامه، وعلم أنه أخطأ حين ظن أن الناس يرون فيه ما يرى في نفسه، وأنهم يقدرون منزلته كما يقدرها. أفاق وقد ذهبت أمانيه بددا، وحالت مطامعه رمادا تذروه الرياح، فلم يبق إلا أن يعلق آماله بفاتك، وأن يتجنب الأسود ويعود إلى ما عوده من كبر وأنفة.
أنشأ أبو الطيب قصيدة رائعة في مدح فاتك تلقفها الناس، وسارت بها الرواة، وفهم منها الأدباء أنه يعرض بكافور، ويسخر من وعوده حين يقول:
واجز الأمير الذي نعماه فاجئة
بغير وعد ونعمى الناس أقوال
فربما جزت الإحسان موليه
خريدة من عذارى الحي مكسال
ودخل أبو بكر بن صالح على كافور وقال: إن الناس لا شغل لهم منذ شهر إلا إنشاد قصيدة المتنبي في فاتك، والترنم بأبياتها، وأخشى يا مولانا أن يترك هذا الشعر أثرا في نفوسهم، فقد خلع عليه الخبيث كل صفات النجدة والكرم، ولم يبق للأمير منها شيئا، وقد نفى أن يكون له في المملكة مثيل أو نديد حين قال:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لما يشق على السادات فعال
كفاتك ودخول الكاف منقصة
كالشمس قلت وما للشمس أمثال
فزفر كافور وقال: هذا الشاعر كاد يضيق به صدري، وكلما أرخيت له العنان زاد عربدة وجنونا. دعه الآن يا ابن صالح فإن يومه لم يأت بعد. خبرني، ألا يزال يذكر الولايات، ويتغزل في الإمارات؟ - لا يا مولانا، إنه عدل عن هذا، وعلم أن الله حق. فقهقه كافور، وقال: إني أجازي خيال هؤلاء الشعراء بخيال مثله. راقبه يا أبا بكر. فإني أخشى أن ينتهي أمره إلى شر غاية، وبينما هما في الحديث؛ إذ ثارت جلبة في القصر، وتعالت أصوات الهتاف، ودخل الحاجب وهو يقول: إن شبيبا العقيلي مات بدمشق يا مولانا! فوقف كافور اهتماما بالخبر، ورفع يديه إلى السماء في تعبد وخشية، وهو يتمتم: الحمد لله! الحمد لله! اللهم إني عبدك المسكين، فانصر عبدك على أعدائه الأقوياء. ثم مال إلى أبي بكر وهمس في أذنه: لقد شرب السم إذا. الحمد لله! الحمد لله! - من الذي بعثته إليه بالسم؟ - بعثت إليه الحارث التميمي، وهو شاب مجازف، وقد وعدته بخمسمائة دينار. - إنه يستحق. كيف توصل هذا الشاب إلى هذا الأسد الهصور يا ترى؟ وكيف استطاع أن يدس له السم؟ - لقد أخبرني قبل رحيله. بما اعتزم فعله، فقد كان ينوي أن ينضم إلى جيش شبيب، ويظهر من الحماسة في الحرب ما يقربه إلى قلب العقيلي، حتى إذا وثق من منزلته عنده، وسنحت له الفرصة، مزج له السم في الطعام. - هذا توفيق من الله. فكم من دماء حقنتها هذه القطرات القليلة من السم! وكم من أرواح أنقذتها! ونفوس ردت إليها هدوءها وسكينتها! لقد كان العقيلي شجاعا يا ابن صالح. - أما وقد مات، فقد كان رجلا لم تلد الأمهات مثله في الشجاعة والبطولة والكرم، ولقد كدنا نعيا بأمره؛ لأننا كلما أرسلنا إليه جيشا هزمه وفرق جموعه، حتى حاصر دمشق ودخلها دون أن يستطيع أحد أن يقف في طريقه، ولولا تلك الحيلة التي ابتكرها مولانا لذهبت منا الشام، وربما ذهبت بعدها ولايات أخرى. - إنه خارج علينا يا أبا بكر. لقد وليناه أول الأمر عمان والبلقاء، فلم يكتف بهما، ولم تقف به مطامعه عند حد، فاستهان بقوتنا، وأدل علينا بكثرة خيله ورجله. ثم ابتسم، كما يفغر الثعبان فاه، وقال: إن الله جنودا لم تروها، منها السم الزعاف.
سرت البشرى في أنحاء المدينة، وعين يوم في القصر للاحتفاء بهذا النصر المبين، وجاء هذا اليوم فتوافد على القصر الوزراء والعلماء والقواد والأدباء وسراة المدينة، وأعد المتنبي قصيدة؛ لينشدها في هذا الجمع الحاشد، وكان حاقدا على كافور، بعد أن حطم آماله، وقطع أوتاره، فجاءت القصيدة ثورة محموم، وتنفس غيظ مكظوم، وكان أولها:
عدوك مذموم بكل لسان
ولو كان من أعدائك القمران
ولما أنشدها وانفض الجمع، قابله ابن رشدين وهو يقول: الشعر بديع يا أبا الطيب، ولكني في الحق لم أدر، وأنت تنشدها أكنت ترثي شبيبا أم تمدح كافورا؟ - كنت أرثي شبيبا ، وأعتقد أن هؤلاء الأوغاد غدروا به، ودسوا له السم. - وأنا أعتقد كما تعتقد، ولكني إذا طلب إلي كافور أن أقول قصيدة في ظفره بعدوه لا أقول ما قلت. - وماذا كنت تقول؟ - كنت آتي بأعذب الشعر وأكذبه. ثم جذب منه الورقة، وقال اسمع:
برغم شبيب فارق السيف كفه
وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه
رفيقك قيسي وأنت يماني
فإن يك إنسانا مضى لسبيله
فإن المنايا غاية الحيوان
وما كان إلا النار في كل موضع
تثير غبارا في مكان دخان
فنال حياة يشتهيها عدوه
وموتا يشهي الموت كل جبان
نفى وقع أطراف الرماح برمحه
ولم يخش وقع النجم والدبران
وقد قتل الأقران حتى قتلته
بأضعف قرم في أذل مكان
أتته المنايا في طريق خفية
على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طرق السلاح لردها
بطول يمين واتساع جنان
هذا أبدع رثاء لشبيب، وهذه أكبر تهمة لكافور باغتياله. أين يذهب بك يا أبا الطيب؟ أجننت؟ - إن عيبي عندكم أنني أقول ما في نفسي ولا أتملق تملق الإماء. - قل ما في نفسك لي وللكثير من أصدقائك، ولكن لا تقله في حشد من النقاد ينتظرون الفرصة للإيقاع بك. لقد نصحك الشريف فلم تنصت لنصحه. - إن شعري لا يطاوعني على الكذب الصراح، يا ابن رشدين. - غير من خلقك قليلا حتى تصرف عنك عين كافور. - أنا لا أبالي بكافور، ولا آبه لجبان يقتل الناس بالسم، وسأصون شعري عن هذا الأحمق حتى يصدق في وعده، أو يأذن الله برحيلي عنه. فجذبه ابن رشدين من يده، وقال: هلم بنا إلى الدار، وانطلق الاثنان صوب دار ابن رشدين فلاقتهما عائشة مرحة ضحوكا، وهي تقول: لا أشك في أنك أبدعت اليوم يا أبا الطيب؛ لأنك تعود اليوم إلى فنك الذي امتزت فيه، وهو وصف الوقائع وتمجيد الظافرين، وقد عشت بيننا عيشة هادئة ليس فيها إلا سلم دائم، واستقرار هنيء، وهذا الجو لم يخلق له شعرك الذي لا يجلجل إلا في قتام الحروب، وصليل السيوف، وكلما قرأت شعرك في وقائع سيف الدولة أسفت لأنك فارقته، ولكني لا ألبث أن أعود إلى الأثرة فأستهين بالشعر كله في جانب الظفر بمودتك. ليس عندنا هنا روم يغيرون على تخومنا، وليس عندنا قبائل متناكرة يخلعون طاعة الأمير كلما صاح بهم صائح. فنحن نعيش في جنة عالية، قطوفها دانية، لا تسمع فيها لاغية، وقد جبلنا على السمع والطاعة لأمرائنا، واجتمعت كلمتنا على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ لذلك كنت أفكر في شأنك يا أبا الطيب آسفة معتقدة أنك لم تخلق لهذا السكون الشامل، والأمن الوارف، وأتخيل أنك ولدت في ليلة عاصفة كثيرة الأنواء والأعاصير، كان الرعد فيها يصدع أقطار السماء، والصواعق تنقض كأنها رؤوس الشياطين! لقد صدئ سيفك في غمده هنا يا أبا الطيب، ومل جوادك من طول الوقوف. إن مثلك لم يخلق ليجلس في شمس الشتاء، أو يقضي أصيل يوم الصيف في زورق يقذف به نسيم النيل الواني من مصر إلى حلوان، وإنما خلقت للصراع والصدام، وأن تدخل من قتام في قتام؛ لهذا حين علمت أنك ستنشد اليوم قصيدة في تهنئة كافور بالظفر بشبيب، قلت في نفسي لقد جاء أوان صاحبي، وستسمع مصر اليوم شعرا جمعت تفاعليه من أسنة الرماح وشفار السيوف. فماذا قلت يا فارس الهيجاء؟ - قلت يا سيدتي قصيدة كان كل ذنبي فيها في رأي أخيك أنني كنت صادقا. - ما عليك من أخي. هات القصيدة. ثم جذبت الورقة من يده، وأخذت تقرأ، فلما أتمت قراءتها صاحت: إني لأجد ريح يوسف، وإني لأرى في هذا الشعر صاحبي القديم وهو يعود ثانية إلى عترته، فيصف الحرب ومواقع القتال، ولن يستطيع شاعر من شعراء الإنس والجن أن يصور قدرة ملك كما يصورها هذا البيت:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه
لعوقه شيء عن الدوران - ماذا تقول في هذه القصيدة يا صالح؟ - أقول: إنها ملأى ببدائع الفن، ولكنها فارغة من السياسة. فقهقهت عائشة طويلا وقالت: أنت يا صالح منذ لحقت بديوان الرسائل وأنت تخشى من كل شيء، وتتهم كل شيء. قاتل الله المناصب، فكم أذلت أعناقا، وأخرست أفواها. ليس في القصيدة شيء إلا أن يخرج بها المتعنتون إلى غير مخرجها، إن فيها مديحا رائعا لكافور لم يظفر الرشيد والمأمون بمثله. فماذا فيها يا صالح مما تراه خارجا عن سياج السياسة؟ - فيها يا أديبتي البارعة أبيات إلى الذم أقرب منها إلى المديح، ولا يعلم إلا الله ما تكون العاقبة لو تطفل خبيث ففسر لكافور معنى هذا البيت:
ولله سر في علاك وإنما
كلام العدا ضرب من الهذيان
ثم إن فيها عشرة أبيات كلها ثناء وبكاء على شبيب، وليس فيها من الإشارة إلى الانتصار شيء. لقد حادثت أبا الطيب في هذا وحذرته من الانسياق وراء سوء عقيدته في كافور. فإن الرجل غادر ماكر، ونخشى أن يثب وثبة مفاجئة، وأبو الطيب أعز علينا من أنفسنا، فليس من الوفاء له أن نتركه يقذف بنفسه في هذه الفتن الهوج، وأن يسقط فيما ينصب له من فخاخ، وهنا ظهر الحزن على وجه عائشة وقالت: صدقت يا أخي، إن الناس جميعا يداجون، ولا يظفر بحاجاته منهم إلا أبرعهم في المداجاة، ثم نظرت إلى أبي الطيب وقالت: إننا نعيش في جو كله سموم، حتى إن سمومنا جاوزت مصر ووصلت إلى قدح السويق الذي شربه شبيب بدمشق. إنك لا تستطيع أن تصاول الأسود في ميدان؛ لأنه يحارب بأسلحة لا تعرف منها سلاحا، والخروج اليوم من مملكته محال؛ لأنه لو أراد لجعل لك من مصر كلها قفصا قضبانه من الحديد. فلم يبق إلا أن تجاهل الرجل وتصانعه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. فزفر المتنبي طويلا وقال: هذا حكم القدر الساخر، وإذا رأيتما أن لابد من مصانعة الأسود، فلابد، مما ليس منه بد، ولكن ماذا أفعل لأتقي شر هذا الخبيث؟ - تترك ذكر فاتك أولا فلا يمر لك بلسان، ثم تزور القصر في كل يوم، ثم تركب في مواكب الأسود أينما ذهب وسار، ثم تجامل ابن الفرات وأبا بكر بن صالح، ثم ترقب فرصة تنشد فيها كافورا قصيدة خالصة له واضحة المعالم، ليس فيها التفاف ولا التواء.
فتأوه المتنبي وتململ، وقال: إنني يا سيدتي كدت أيأس من الحياة، وأستهين بنعيمها وبؤسها. ثم أنشد وهو يتحفز للقيام:
بم التعلل؟ لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن
أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
لا تلق دهرك إلا غير مكترث
ما دام يصحب فيه روحك البدن
مرض
استمع المتنبي لنداء عائشة فكان يزور القصر في كل يوم، ويبسط من وجهه لرجاله، ويتحين الفرص للقاء ابن الفرات وأبي بكر، ويبذل لهما ما يستطيع من بشر مصنوع، وكانت أبواب كافور أمامه مفتحة مرفوعة الحجب، فوجد المتنبي من سهولة الوصول إليه مجالا لاجتذابه، ووسيلة إلى العود إلى مطالبه، مرة بالتصريح ومرات بالتلويح، والأسود لغز مغلق، أو بيت من أبيات الفرزدق تعب فيه المعربون والشارحون، فهو دائما يبتسم، وهو دائما مهذب أنيس متواضع، وهو دائما إذا أشار المتنبي إلى مطامحه، سريع الإجابة على شرط ألا يفهم من إجابته شيء.
خرج المتنبي من عنده يوما وهو مهموم بعد أن مزق هذا الزنجي وسائله، وقطع حبائله، وبعد أن عبث بهذا العقل الحكيم المتفلسف كما يعبث الصبي بالأكر. خرج يتعثر في طريقه وهو يشعر بصداع شديد كاد يمزق جبهته وصدغيه، ويحس بردا يسري في أوصاله اهتزت له ذراعاه، وقضقضت أسنانه، فأسرع إلى داره وهو يمشي كالمختبل، وما كاد يصل إليها حتى دعا عبده مسعودا؛ ليساعده على خلع لباسه، فلما انتهى رمى بنفسه في فراشه وهو يصيح: غطني، زملني. لا تترك في الدار غطاء ولا مطرفا ولا حشية إلا وضعته على جسمي! أوقد النار يا مسعود. إن ثلوج الشام جميعا تتساقط على فراشي، وتنفذ إلى مسارب جسمي. لقد قتلني ابن سوداء الجبين بالسم، سأموت بهذا البلد النائي طريدا شريدا خائب الأمل مفصوم الرجاء.
وعصفت الحمى بالمتنبي، واجترفه تيارها فتصبب جسمه عرقا، وراح في سبات مضطرب قلق، وأخذ يهذي ويصرخ بألفاظ تقطع نياط القلوب. فقد سمعه عبده وابنه وهو يقول: جئت مصر يا أبا الطيب؟ ... اضرب هذا الكلب يا محسد قبل أن يثب علي ... مرحى ... مرحى ... كنت ترجو أن تنال كل شيء، فلم تظفر بشيء ... أبعد الكلب عني يا مسعود. مسكين مسكين ... حلب حلب أين منك حلب ... مرحبا بمولاي سيف الدولة!
نهبت من الأرواح ما لو حويته
لهنئت الدنيا بأنك خالد
لقد كاد يقتلني هذا الفرس الجامح ... لا تكثر من الكلام يا ابن رشدين ... جئت إلى الأسود فعاقبني الله على يد الأسود ... يا للخزي ويا للعار ... ذهب مجد أبي الطيب ... كافور! أنت الشمس وأنت القمر ... معد بن عدنان فداك ويعرب ... ها ... ها ... معد بن عدنان فداء هذا الزنجي الحبشي الذي بيع بثمانية عشر دينارا ... ها ... ها ... ثمانية عشر دينارا ليس غير ... ليس غير ... من يشتري؟ ... سنبيع العبد أيها السادة ...
ثم تشتد به الحمى فيغط في نوم عميق.
أصيب المتنبي بالحمى الأجمية (الملاريا) وكانت إصابته شديدة، وحينما أفاق في الصباح زالت عنه آثار الحمى وخمدت نارها، ولكنها خلفت وراءها آلاما في العظام، وضعفا في الجسم شديدا. فقضى النهار في سريره، وما كادت تختفي الشمس ويرسل الليل على الكون سدوله، حتى عاودته الحمى أشد ما كانت، وسبح في بحر مضطرب من الهراء والهذيان.
ومرت ثلاثة أيام لا يزور فيها المتنبي دار ابن رشدين، فقلقت عائشة، ودخلت على أخيها شاحبة مضطربة، وهي تقول: هل رأيت أبا الطيب؟ - لم أره منذ ثلاثة أيام. ماذا بك يا عائشة؟ - ليس بي شيء إلا أنه لم يعودنا أن ينقطع عن زيارتنا يوما واحدا، وأخشى أن يكون قد أصابه مكروه. - لا تراعي يا حبيبتي، فقد يكون ذهب إلى بعض أصدقائه بالجيزة، وقضى عندهم أياما، وسأذهب الآن إلى داره وآتيك بالخبر اليقين. - اذهب يا صالح وعد إلي بجلية الأمر، فإن الشك يكاد يقتلني.
وخرج صالح مسرعا حتى بلغ الدار، والشمس مائلة للمغيب، فلما دخل وجد العبيد صامتين واجمين، وأحس بسكون الموت يلف الدار، ويرف بجناحه البارد على كل ركن من أركانها. فمر حتى بلغ حجرة المتنبي فرأى محسدا ومسعودا جالسين حول سريره في حزن وإطراق، ورأى المتنبي مسجى يتنفس تنفسا قصيرا مضطربا. فمشى على أطراف أصابعه كأنه يمشي فوق أرض مقدسة، ثم لمس كتف محسد لمسا خفيفا، وأشار إليه أن يخرج ليسائله. فلما خرج سأله مذعورا: ما الخبر يا محسد؟ - لا ندري يا سيدي. فقد جاء أبي من القصر مساء السبت وهو يشعر ببرد شديد، ثم انتهى هذا البرد إلى سخونة كأنها من لفح الجحيم، ثم حسنت حاله في الصباح، ولكن الحمى لا تزال تراوحه كل مساء. - سيشفى قريبا إن شاء الله. لا تجزع يا محسد، فإننا اعتدنا هذه الأمراض في مصر حتى ألفناها. سأمر عليكم في الصباح لأراه، وأرجو أن يكون قد أبل.
ويذهب قدما إلى عائشة فيفض إليها الخبر، فتطير نفسها شعاعا، وتسرع إلى ثيابها لترتديها، فيصيح بها أخوها: إلى أين يا عائشة؟ - إلى أبي الطيب. هلم معي إليه فوالله ما يمنعني من الذهاب وحدي إلا أني امرأة، ولن يليق بنا يا أخي أن نترك الرجل الغريب المسكين يموت وحده منكودا محسورا. إن من اسمه يملأ فم الدنيا، وشعره تتغنى به الآفاق، يرقد الآن مسجى في قاعة مظلمة، يطلب العطف فلا يجده إلا في قسوة الأقدار، والحنان فلا يراه إلا في مخالب الموت! هلم يا أخي إليه، فلعلنا نستطيع أن نعمل له شيئا إن بقي هناك شيء يعمل.
ويصلان إلى الدار، ويدخلان حجرة المريض وهو يصلى بلهيب الحمى، ويئن أنينا، وقد عاوده الهذيان فجعل يصيح: حاذر سيف الدولة ... إن العلج وراءك وسيفه في يده ... لقد قتلت الملعون برمحي ... قتلته ... قتلته ... ما هذه النيران التي ترسلها علينا الروم كأنها قطع الجحيم؟ ... أبعدوا هذه القرود عني ... أنا اليوم والي صيداء ... أقبلوا أيها الوفود ... هل من ظلامة؟ ... الصل الأسود! ... أبعدوا الصل الأسود عني ... إنه كاد يقتلني ... مدحته ... مدحته ... وماذا في يدي؟ ... لا شيء ... لا شيء ... آمالي؟ ... أطماعي؟ ... طموحي؟ ... هواء ... هواء ... هواء.
وغلبته الحمى فحبست لسانه، وسمعه صالح وعائشة فغلبهما البكاء، وأخذت عائشة تهز رأسها في حزن ممض وتقول: وا حسرتاه على البطولة الوثابة، والرجولة الغلابة! وا حسرتاه على الخلق الراسخ، والمجد الشامخ! على مثلك أبا الطيب تشق الجيوب وتمزق القلوب. أسفي على ذلك اللسان العضب الذي كان ينثر فرائد الحكم، كيف أصبح يهذي كما يهذي الممرور! وعلى ذلك العقل القهار، كيف اضطرب ميزانه والتهمته النيران!
ثم قامت متعثرة متخاذلة، وهي تقبض على يد أخيها وتقول لمحسد: لابد له من طبيب. لا يصح أن نترك شاعر الدنيا وحكيمها يموت دون أن نبذل كل شيء في سبيل شفائه. سأذهب أنا وأخي إلى الطبيب.
ثم يخرجان في عجلة حتى يصلا إلى دار بزقاق القناديل، كان يسكنها «نسطاس بن جريج» أشهر أطباء مصر في هذا العهد، حتى إذا طرقا الباب وأخبرا الطبيب الخبر، لبس ثيابه على عجل، وخرج معهما حتى بلغوا دار المتنبي، وبعد أن اختلى الطبيب بمحسد وأخبره بكل شيء، دخل على المريض فجس يده، وهز رأسه وقال: إن المرض شائع معروف بمصر، وهو سليم العاقبة إذا عني بالمريض. ثم التفت إلى عائشة فرأى الدموع تنهمر من عينيها، فضحك طويلا، وربت كتفها وهو يقول: لا تخافي يا سيدتي على شاعرنا، فإني عالجت آلافا من أمثاله، وقد شفوا جميعا، والذي أوصي به أن تبعدوا عنه اللحم والسمك، وأن تقصر غذاءه على اللبن، وأن تسقوه إذا عطش ماء السكر الممزوج بعصير الليمون، وسأبعث إليكم بقارورة دواء يشرب منها نصف كأس ثلاث مرات في كل يوم. إنه سيجد الدواء مرا، ولكنه دواء شاف سريع الأثر. ثم التفت إليهم وقال في سخرية تحب دائما من الأطباء: لا تخافوا يا أولادي، فإنه سيشفى بعد أيام، ثم حياهم وانصرف، وقد ملأ نفوسهم آمالا، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، والتفتت عائشة إلى محسد كالمستأذنة المتهيبة، وقالت: هل من بأس في أن أبيت أنا وأخي هنا الليلة؟ فأجاب مسرعا: لا يا سيدتي، إن ما تبثينه حول المريض من رحمة وحنان سيكون أشفى له من كل دواء.
واستيقظ المتنبي في الصباح مضنى منهوكا، فلما فتح عينيه ورأى صالحا وعائشة جالسين إلى سريره كاد ينكر ما أبصر، فحملق في دهش، وقال في صوت خافت: أنت هنا يا صالح؟! أنت هنا يا سيدتي؟!! الآن لا أحس بأوجاع الداء. جزاكما الله عن الغريب المسكين خيرا! لا تخافا علي، فإني لا أظن أني مائت في هذه الرقدة؛ لأن الله أكرم من أن يقضي علي قبل أن أنال من آمالي شيئا.
وبعث الطبيب بالدواء، ومرت أيام على أبي الطيب كان يشعر فيها بدبيب الشفاء يسري في أوصاله، فلما استطاعت يده أن تقبض على القلم طلب من محسد ورقا، ثم وضع يده على جبهته، وسرى في بادية من الخيال، وأخذ يكتب، وعاد بعد حين صالح وعائشة إلى زيارته فمد إليهما يده بورقة فاختطفتها عائشة ونظرت فيها مليا، فإذا قصيدة من أروع ما تنفس به الشعر العربي! بدأها بالشكوى وضعف الثقة بالناس. ثم ثنى بوصف الحمى التي أصابته، ثم عاد إلى ذكر سوء حاله بمصر، وإلى تمني الرحيل عنها، في أسلوب يستنزل العصم، ويذيب الصخور الصم. نظرت عائشة في القصيدة ثم قرأت بصوت عال:
ولما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام
ولست بقانع من كل فضل
بأن أعزى إلى جد همام
عجبت لمن له قد وحد
وينبو نبوة القضم الكهام
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
أقمت بأرض مصر فلا ورائي
تخب بي الركاب ولا أمامي
وملني الفراش وكان جنبي
يمل لقاءه في كل عام
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
أراقب وقتها من غير شوق
مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها، والصدق شر
إذا ألقاك في الكرب العظام
أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام؟
جرحت مجرحا لم يبق فيه
مكان للسيوف ولا السهام
يقول لي الطبيب: أكلت شيئا
وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
تعود أن يغبر في السرايا
ويدخل من قتام في قتام
فإن أمرض فما مرض اصطباري
وإن أحمم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن
سلمت من الحمام إلى الحمام
فلما انتهت صاحت: لقد غفرت للحمي كل ذنوبها! وإذا كانت الكوارث تخلق مثل هذا الشعر، فمرحبا مرحبا بالكوارث!
وتسامع الأدباء بالقصيدة، وأقبلوا زرافات على دار المتنبي يستنسخونها، وأجمعوا على أنها خير ألف مرة من رائية عبد الصمد بن المعذل في وصف الحمى، ووصلت نسخ منها إلى القصر، واجتمع رأسان لقراءتها؛ ليستخرجا منها ما يصلح لدسيسة جديدة، هما رأس ابن الفرات ورأس أبي بكر بن صالح، ولكن روح المتنبي كانت تحوم حولهما وهي تهمس:
ومراد النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
فرار
أبل المتنبي من الحمى، وعادت إليه قوته، وأخذت آماله تطل برءوسها من جديد، وعاد أصدقاؤه وخلصاؤه ينصحون له بمجاملة كافور، واستجلاب مودته، بعد أن أساءته قصيدة الحمى وزادته سخطا على الشاعر. فعاد المتنبي إلى زيارة القصر، وإلى مجازاة الابتسام بالابتسام كما يقول، حتى إذا كان شهر شوال سنة ثلاثمائة وتسع وأربعين أوعز كافور إلى أحد ندمائه أن يدعو المتنبي إلى مديحه، وأن يمنيه الأماني، وكان كافور يريد أن يزيل بالقصيدة الجديدة ما تركته قصيدة الحمى من سوء الأثر في نفوس المصريين، واستجاب المتنبي لما طلب منه، وعاوده الأمل في أن الأسود سيفي بوعده آخر الأمر، وأنشأ قصيدة كانت آخر سهم في كنانته، والقصيدة - كما عودنا أبو الطيب عند مدح كافور - ليس فيها من مدح كافور إلا التافه اليسير، فإنه تحدث فيها عن نفسه في ثمانية عشر بيتا، وألح في إنجاز ما وعد به في عشرة أبيات، وكان منها:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب
ولما أتم المتنبي القصيدة أمام كافور، قال له ابن الفرات في خبث ودهاء: أجدت يا أبا الطيب وأحسنت! غير أن قصيدتك في مدح فاتك كانت أجزل من هذه، وأطول نفسا، ولكن لعلك تريد أن تحقق ما قلته في قصيدة فاتك:
وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التنبال تنبال
فوجم المتنبي لهذا السهم النافذ، وعلم أن لا مخلص له من الدسائس ما دام بين هؤلاء المناكيد.
وانتظر المتنبي وعد كافور فطال انتظاره، وكان الأسود قد أذن لفاتك بدخول الفسطاط للاستشفاء بعد أن ألحت عليه العلة بالفيوم، فجدد أبو الطيب الاتصال به، ورأى بعد أن يئس من كافور أن ينزل حاجاته بواديه الخصيب، وتوثقت المودة بين الصديقين، وهب الجواسيس وقالة السوء ينقلون إلى القصر كل يوم أخبارهما، وربما غالوا في الأخبار وزوقوا الأحاديث، بما يضيفون إليها من زور وبهتان.
ومر عام وأكثر من عام على هذه الحال؛ فطالت الجفوة بين المتنبي وكافور، واتسعت الهوة، وأصبح المتنبي لا يمشي خطوة إلا ووراءه جاسوس يرقب كل ما يقول ويفعل، ويكاد يعد عليه أنفاسه.
زار مرة ابن رشدين فاستقلته عائشة، وعلى وجهها مسحة من كآبة، وهي تقول: أهلا بالشاعر الكسل! أتمر سنة لا نسمع فيها منك شيئا؟! - إن البلابل لا تغني وسط حفيف السهام. إني قدمت إليك وورائي جاسوس صحبني من داري إلى هنا، وأخشى أنه لا يتحرج من أن يكون بعد قليل ثالثنا. - كيف ذلك يا أبا الطيب؟ - جيراني أصبحوا علي عيونا، وصاحب الأخبار يطرق داري كل ليلة؛ ليتحقق من أنني لا أزال بمصر، وأنني لم أفر.
وبينما هما في الحديث؛ إذ دخل ابن رشدين ومعه الشريف إبراهيم العلوي وعبد العزيز الخزاعي، فلما رأوا المتنبي أقبلوا عليه يحيونه، وقال عبد العزيز: ما لي أراك واجما يا أبا الطيب؟ - إن حبل كافور يضيق حول عنقي قليلا قليلا، فلم يبق إلا أيام حتى أختنق. فأسرع الشريف يقول: هذا صحيح، ويجب علينا جميعا أن نفكر في هذا الأمر الجلل. فصاحت عائشة في ذعر: ما الخبر؟ - الخبر يا سيدتي أن حاجب الوزير أبي بكر بن صالح شيعي شديد التمسك بمذهبه، وهو لهذا يخلص لي الحب والمودة، ثم هو يعلم صلتي بأبي الطيب، وقد زارني اليوم وأكد لي أنه سمع كلاما دار بين أبي بكر وابن الفرات يدل على أن هناك مؤامرة دنيئة تحاك خيوطها للإيقاع بالمتنبي بعد عيد الأضحى. فقالت عائشة: بقي على العيد أيام ... - في هذه الأيام نستطيع أن نعلم عملا حاسما. فقال عبد العزيز: الرأي عندي أن يستعد أبو الطيب من الآن للفرار. ثم طلب منهم إغلاق الأبواب والنوافذ، وعاد إلى الحديث، فقال بصوت خافت: يقوم العبيد غدا بدفن الرماح في الرمل وراء المقطم، وقبل الرحيل بقليل تحمل على الإبل قرب من ماء النيل تكفي لعشر ليال، ويحمل زاد يكفي لعشرين يوما حتى إذا كانت ليلة عيد الأضحى تسلل أبو الطيب إلى الصحراء بعد أن يتسلل إليها قبله ابنه وعبيده، وسأكون في رفقة الشاعر، وسنهتبل فرصة اشتغال رجال القصر بالعيد وبما يوزعه عليهم كافور من الهدايا والصلات، فنفر دون أن يشعر بنا أحد، حتى إذا فرغوا من العيد ومن منح الهبات، ولن يكون ذلك إلا بعد يومين نظروا يمنة ويسرة فلم يجدوا لطريدتهم أثرا.
فقال الشريف: هذا حسن، ولكن كافورا إذا لم يجده بعد يومين من فراره أرسل خلفه شياطين جنده فوق سوابق الخيل فأدركوه ولو كان فوق بساط سليمان. فقال عبد العزيز: إننا سنغادر الفسطاط قبل فجر يوم الأضحى، وسنمتطي جوادين من سلالة الجواد الذي وصفه أبو الطيب:
رجلاه في الركض رجل واليدان يد
وفعله ما تريد الكف والقدم
فلن يدركنا الظهر إلا ونحن أمام بلبيس، وهناك أرسل مع أبي الطيب بعض عبيدي الذين يعرفون مسالك الصحراء. فقال ابن رشدين في حدة: أي طريق يسلكون؟ إن سلطان كافور يمتد إلى كل طريق توصل إلى العراق. - إنهم سيسلكون طرقا غير معروفة، ويطرقون مفاوز مجهولة، وينزلون حول مناهل لم يطرقها طارق، وإنه جنود كافور بعد طول البحث والنصب سيتطلعون إلى السماء، ويظنون أن أبا الطيب قد اتخذ إليها سبيلا. فتنهدت عائشة ونظرت إلى المتنبي، ودموعها تنهمر انهمارا. ثم عادت تفكر فرأت أن حياته في ميزان القدر، وأنها يجب أن تنسى نفسها لقاء نجاته من كارثة محققة، فحاولت أن تجفف دموعها، وتبسط من وجهها وقالت: ولكن حتى يحين موعد الفرار يجب على أبي الطيب أن يظل متصلا بالقصر حتى يصرف الأنظار عنه. فقال الشريف: نعم، وفوق هذا أرى أن يذيع بين رجال القصر أنه سينشد كافورا قصيدة بعد أيام العيد. فصاح الجمع: هذا حسن هذا حسن ...
وقام المتنبي إلى داره ومعه عبد العزيز، وأشرق عليهما الصباح حتى شرعا في إنفاذ خطتهما في دقة وإحكام، وكان المتنبي في غضون هذه المدة يروح ويجيء مطرقا حزينا يتمتم بكلمات، ثم يخرج من كمه ورقة ويدون فيها ما تفيض به شاعريته، وتسلل محسدا والعبيد متفرقين من الفسطاط إلى بلبيس، فلم يشعر بهم أحد، وانتظر المتنبي وعبد العزيز ليلة العيد حتى إذا هدأت الأصوات، ونامت العيون، وخلت الطرق من السابلة، خرجا من الدار في إسراع وصمت، كأنهما طيف خيال أو خطرة ببال، وما جاوزوا باب الصفاء، حتى طار بهما الجوادان فلم تستبن العين لهما أثرا.
ولاح فجر العيد سنة خمسين وثلاثمائة، وذهب كافور في موكبه الحافل للصلاة بالجامع العتيق، وشغل رجال القصر بعد الصلاة ببذل العطايا للعلماء وكبار الجنود، ومضى يومان ذهل فيهما القوم عن المتنبي وعن تقصي أخباره، وحدث بعد ذلك أن دخل أبو بكر بن صالح على ابن الفرات وقال: لم نر المتنبي أيام العيد، ولم يزرنا في خلالها فماذا جرى له؟ - لعله مريض. فأرسل بعض الأعوان للسؤال عنه.
فأسرع أبو بكر وأمر طائفة من الجند بالذهاب إلى دار المتنبي والتحقق من أمره، وسار الجند إلى الدار فرأوا بابها مغلقا ففتحوه ودخلوا فلم يجدوا بالدار ديارا. فأخذتهم الدهشة، وأخذوا يبحثون في كل حجرة، وبلغ أحدهم حجرة نوم المتنبي فرأى سريره وكأن فوقه شيئا قد التف بغطاء، فصاح في جذل: هنا الشاعر يا إخواني! هلم إلي! إنه نائم في فراشه، وجاء الجند، ورفع أحدهم الغطاء فلم يجد تحته إلا ورقة كتبت فيها قصيدة طويلة فأخذها، وبعد أن يئس الجند من العثور على الشاعر ذهبوا إلى أبي بكر وأخبروه. فأسرع إلى كافور وهو يرتعد من الغضب ويصيح: لقد فر المتنبي يا مولانا! لقد فر من أيدينا على الرغم من كل ما بذلنا من حيطة وحذر! فصاح كافور في صوت يخنقه الغيظ: أية حيطة وأي حذر؟ ويل لنا منه إن لم نقبض عليه!! سيخلد هجونا على الدهر، وسيجعل من اسمنا سخرية ترددها الأيام! ابعثوا خلفه الجنود. ابعثوهم وراءه في كل مكان يمكن أن ينفذ منه: في الصعيد، وفي طريق الشام، وفي طريق برقة، وفي الماء، وفي الهواء. فر مني الفاجر وضحك مني ولعب بي! وكنت أظن أني ألعب بألف من أمثاله المغرورين! وبينما هو في حدة غضبه يزمجر كما يزمجر النمر الجريح، إذ مد الجندي يده إلى أبي بكر بالورقة التي رآها في فراش المتنبي فأخذها منه ويده ترتعد، ورآه كافور فسأله ما هذه؟ فلمح منها أبياتا وقال: يا مولانا هذه قصيدة وجدها الجنود في فراش الشاعر البغيض، ولن أستطيع قراءتها. فصاح كافور في غضب مخيف: اقرأ ويلك كل ما فيها، ولا تترك منها حرفا! فقرأ وهو يتصبب عرقا:
عيد بأية حال عدت يا عيد؟
بما مضى؟ أم لأمر فيك تجديد؟
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد!
لولا العلا لم تجب بي ما أجوب بها
وجناء حرف، ولا جرداء قيدود
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما؟
أم في كؤوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا ما لي لا تحركني
هذي المدام ولا هذي الأغاريد
إذا أردت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيت من الدنيا؟ وأعجبه
أني بما أنا باك منه محسود!
أمسيت أروح مثر خازنا ويدا
أنا الغني، وأموالي المواعيد!
إني نزلت بكذابين، ضيفهم
عن القرى وعن الترحال مصدود
جود الرجال من الأيدي، وجودهم
من اللسان. فلا كانوا ولا الجود!
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد؟!
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد!
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء بي فيه عبد، وهو محمود!
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا
وأن مثل أبي البيضاء موجود!
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصود
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود؟ •••
وعاد الجنود بعد شهر فدخلوا إلى كافور يخبرونه في دهش، بأنهم لم يتركوا منفذا إلا سلكوه، ولكنهم لم يقفوا للمتنبي على أثر، كأنه ابتغى نفقا في الأرض أو سلما في السماء. فصعق كافور، وكاد يسقط من كرسيه. ثم حملق مذعورا كأنه كان ينظر إلى المتنبي وهو يفرقع بإصبعيه في وجهه ساخرا ويقول:
فربتما شفيت غليل صدري
بسير أو قناة أو حسام
وضاقت خطة فخلصت منها
خلاص الخمر من نسج الفدام
Unknown page