طار خبر مقتل اليهودي في إشبيلية، وتنقل من لسان إلى لسان، وكان الناس قد سئموا حكم المعتمد، ولكنهم كانوا يكتمون غيظا تغلي في نفوسهم مراجله، وأسرع من نجا من فرسان الأذفونش إليه، يقصون عليه ما كان من المعتمد ويزيدون ويهولون، فأذهله وقع الخبر، وأقسم برأس أبيه أن يرسل عليه جيوشا لا قبل له بها، وألا يقل عددها عن شعر رأسه، وقد أنجز وعيده فأرسل جيشا لهاما لا يبلغ الطرف مدى آخره، وكان يقوده بنفسه، حتى وصل إلى شاطئ النهر الكبير، فعسكر قبالة قصر المعتمد بإشبيلية، وربض متنمرا كالليث الغاضب.
فلما وقعت الواقعة، ذهب الهوزني إلى دار عبد الله بن أدهم وقال له: لقد نضجت الثمرة اليوم يا سيدي، وأصبح قدوم ابن تاشفين قريبا، بعد أن نزل الأذفونش بطريانة. - كيف ذلك؟ - لقد أرسلا في هذا الصباح حمادا المريني ليخطب في العامة، ويثير كوامن غيظهم على المعتمد، وهو شاب ذرب اللسان، يعرف كيف يلهب النفوس، ويلعب بالعقول. - ماذا نفيد من هذه الثورة؟ إنها قد تقوي الأذفونش. - إن الأذفونش ستطول إقامته بطريانة قبل أن يهجم؛ لأنه سينظر جيشا آخر قادما من طليطلة لم يغادرها بعد، ثم إن هذه الثورة ستدفع المعتمد إلى الاستعانة بابن تاشفين على الرغم منه؛ لأنه سيصبح بغيضا إلى العامة فلا يتقدمون لنصرته. - وما كاد يفرغ الهوزني من كلامه، حتى دخل حماد المريني وآثار الإجهاد والتعب بادية عليه، فقال: إن إشبيلية الآن ثائرة كلها، يستوي فيها الرجل والمرأة، والطفل والشيخ.
فقال الهوزني: كيف ذلك؟ فقال المريني: لقد خطبت في الميدان الكبير وكان الجمع حاشدا يموج كالبحر الزاخر، وما فرغت من خطبتي حتى وقف الناس يخبطون، وصار كل واحد منهم حمادا المريني. - ماذا قلت لهم؟ - عددت مثالب ابن عباد: فذكرت إسرافه في اللهو والمجون، وجنونه بحب النساء والجواري الإسبانيات، وفتنته بأرماندا وبزوجه الرميكية التي كانت نكبة على الأندلس جميعها، ثم تبديده أموال الدولة على المتعطلين من الشعراء والمضحكين والمجان، ومعاقرته الخمر حتى لا يكاد يفيق من سكر، وتبذيره في بناء القصور، ثم تحقيره الفقهاء والعلماء، وإهمال شهود الجمع ومعاهدته مع الأذفونش التي جرت الخراب على البلاد، ثم ترك الجيش حتى فقد قوته، والأسطول حتى تعطن في الماء ، ثم طرح شئون الدولة وراء ظهره، وترك زمامها في يد ابنه الغر الجاهل الذي سماه بالرشيد. - مرحى مرحى أبا هاشم!!
ثم ودعهما الهوزني وانصرف إلى القصر، فرأى من فيه يموج بعضهم في بعض، ورأى المعتمد جالسا مع ابنه الرشيد، ومعهما أبو بكر بن زيدون، فقال له المعتمد: اجلس أبا القاسم ... إنما تعرف الرجال في الشدة ... هل لك في هذه النازلة رأي؟
فقال الهوزني: يا مولاي. رأيي أننا نحتاج إلى حليف قوي في هذه الشدة.
وقال ابن زيدون: يجب أن نكتب إلى جميع ملوك الطوائف؛ ليشاركونا بجيوشهم في دفع هذا البلاء فإن خطره يشملنا ويشملهم.
عندئذ قال الهوزني: إن ملوك الطوائف جميعا أضعف من الثمام، وهم يخافون الأذفونش ويتقون غضبه، حتى لقد بلغني أنهم أرسلوا إليه التهنئات والهدايا حينما ملكت جيوشه طليطلة ... إن ملوك الطوائف لا يصلحون.
فقال المعتمد: من يصلح إذا؟ فقال الهوزني: سمعت أن يوسف بن تاشفين رجل ليس له أطماع ألبتة، وأنه مجنون بشيء يسميه الغزو في سبيل الله، فإذا خدعناه بهذه الفكرة، جاء بجيش من البربر، فتمتع بالغزو الذي يحبه وتتوق إليه نفسه، ثم عاد من حيث أتى، وأعتقد أن ملوك الطوائف إذا وثقوا من انتصاره على الأذفونش - وهو أمر محقق - تدفقوا على مولاي ملحين في أن تشترك جيوشهم في الجهاد.
ثم إني واثق أن العامة إذا عرفوا أن مولاي يبذل أقصى جهد في استئصال شأفة الأذفونش - تقدموا لنصرته ملبين.
فظهر الاقتناع على وجه المعتمد، وحينئذ خرج الرشيد من صمته وقال: يا مولاي: إن هؤلاء البربر قوم جياع، جاءوا من الصحراء وفيهم الجشع والوحشية، وأخشى أنهم إذا نزلوا بلادنا، ورأوا ما فيها من أسباب الحضارة والنعيم، صعب عليهم مبارحتها؛ فنكون كمن يفر من الذئب، فيقع بين أنياب الأسد.
Unknown page