ليلة
فندق
تهنئة
عزاء
قتل
عبث
خيبة
ولاية
فجائع
دسيسة
Unknown page
هزيمة
معاهدة
ثورة
الزلاقة
ضيافة
أفول
أسر
ليلة
فندق
تهنئة
Unknown page
عزاء
قتل
عبث
خيبة
ولاية
فجائع
دسيسة
هزيمة
معاهدة
ثورة
Unknown page
الزلاقة
ضيافة
أفول
أسر
شاعر ملك
شاعر ملك
قصة المعتمد بن عباد الأندلسي
تأليف
علي الجارم
ليلة
Unknown page
في ليلة من ليالي ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة للهجرة، كانت مدينة باجة بالأندلس يلفها ظلام دامس بعد أن ظهر القمر في طليعة الليل قليلا، يرسل شعاعه في رعدة وضعف، حتى إذا دنا من الغرب، التقمته لجة الليل، فغاص فيها وترك وراءه المدينة في تجهم وسكون وحداد، وكانت الرياح تعصف من الجنوب والشرق شديدة عاتية، فتسوق السحائب أمامها بسياط من البروق، وتزجرها بهزيم من الرعد غاضب عنيف، وكانت النجوم لا تكاد تطل من بين ثنايا هذه السحائب الراجفة المسرعة حتى تختفي، كأنها لمحات الأمل الكاذب يلتمع في سواد الخطوب، أو تلويح الغريق جاءه الموج من كل مكان، فهو يرسب ويطفو، حتى يحول الموج بينه وبين الحياة.
فزع الناس إلى بيوتهم في هذه الليلة الليلاء، والتجأ المسافرون إلى فنادقهم، وخلت الدروب من السابلة، فلا يجد المطل من خلال نافذته، إلا العسس والحراس يذهبون ويجيئون، وبأيديهم العصي الغليظة يضربون بها الأرض في عنف وقوة، حتى يعلم من لم يكن يعلم من اللصوص وقطاع الطرق، مقدار صولتهم ومدى فتكهم.
وكان يسمع بين الحين والحين عواء كلب أضر به البرد، وآذاه المطر، فالتجأ إلى حائط يعصمه من الماء، وأخذ يرتعد ارتعاد المقرور، ويرسل صوتا مستطيلا حزينا، زاده سواد الليل وهدوءه هما وحزنا.
وسكتت الطيور في عشاشها فوق أشجار الزيتون والتين، إلا بومة سكنت في جحر من بيت خرب، راحت ترسل نعيبا مؤلما، تنقبض له النفس وتضطرب الأعصاب، ويوحي بالموت والفجيعة والدمار.
في تلك اللحظة - وكان الليل في منتصفه - التقى أحد العسس بزميل له في أثناء دورته، فما كاد يراه حتى سري عنه، وتولى من نفسه عارض الهم والخوف؛ لأنه في الحق كان خائفا، على أنه يرضى أن يموت بين براثن الأخطار المحدقة، ولا يرضى أن يقول قائل: إن أبا عوف الخزامي خاف مرة في حياته!
إنه جندي قديم خاض غمار الحروب الطاحنة المستمرة بين المسلمين ومغيرة الإسبان، وطالما قذف بنفسه بين الصفوف، والموت جذلان ينظر، فلم يبال بالموت، ولم يأبه للحياة.
كان أبو عوف قوي العضل، ضخم الجسم شعشاعا، دب الشيب قليلا في عوارض لحيته، ولكنه كان على قوته الجسمية التي كانت في مقتبل شبابه مضرب الأمثال، ساذجا بطئ الفهم قليل التفكير؛ كثير الغفلة، يؤمن بالخرافات إيمان الواثق، ويصدق أقاصيص الجن والشياطين تصديق العجائز.
وقد عرف مخالطوه فيه هذا الضعف، فأكثروا من تنميته واستغلاله.
أحس أبو عوف في هذه الليلة خوفا ورهبة، زاد فيهما نعيب البومة، وهدوء الليل، وانقطاع الطريق من السابلة، فبدت أمام عينيه أشباح مخيفة غريبة الخلق، مرة تبتسم له، وأخرى تعبس مهددة متوعدة، وهو بين ذلك يحاول أن يغمض عينيه؛ ليفر من هذه المخلوقات المنكرة، فلا يزيده الإغماض إلا نكالا؛ لأنه إذا أغمض رأى أصنافا أشد بشاعة، وأعظم نكرا. أخذ يهز رأسه هزا شديدا، وحاول أن يرفع صوته بأنشودة فلم يستطع، ثم شرع يضحك ضحك الهاذي المحموم؛ ليقوي من نفسه، وليدعو إليه شجاعته، وليظهر عدم مبالاته، فكانت الضحكات خافتة، أشبه بفحيح الأفاعي أو نقيق الضفادع، منها بضحك المرح والسرور.
كان في تلك الحال حينما التقى بزميله أبي عبد الله الشنتمري، فما كاد يراه حتى أخذ يبل شفتيه بلسانه، ويمسح بيديه على وجهه مسحا عنيفا، كأنه كان يريد أن يمحو منه كل أثر للخوف، ثم تنحنح قليلا باحثا عن صوته الذي كاد أن يذهب به الفزع، وبعد أن حيا صاحبه قال: يا لهذه الليلة!! كأن أرواح الجن جميعا انطلقت فيها من قماقم سليمان بعد طول احتباسها. - أتصدق أبا عوف، أن سليمان بن داود كان يحبس الجن في قماقم؟ - أأصدق؟! إن هذا السؤال منك لعجيب. إن سليمان منح من الملك والقوة، ما لم يمنحه أحد فيما كان، أو فيما يكون. - هل كان الجن صغارا أقزاما ، لا يزيد الواحد منهم على قبضة اليد؟ - لا. إن الجن خلق ضخام الأجسام جدا، حتى إنهم ليستطيعون أن يصلوا بأيديهم إلى الشمس، ليقتبسوا منها جذوة إذا أرادوا. - وهل تظن أن هؤلاء - مع ما ذكرت من ضخامتهم - يستطاع حبسهم في قماقم لا تكاد تتسع لهريرة؟ - إن القماقم تتسع، أو هم يصغرون. - إذا اتسعت القماقم لم تكن قماقم، وإذا صغرت الجن لم تكن جنا. - إن لعقلك أبا عبد الله لفتات ودورات، وفروضا تدعو إلى الحيرة والارتباك، وإني لا أحب أن يتخذ الحوار هذه الطرق الملتوية؛ لأنني أفكر في طريق مستقيم، ولا أريد أن أجهد عقلي بهذا التشعب الذي لا يؤدي إلى شيء. الجن جن، والقماقم قماقم، وقد سمعنا من أمهاتنا، ومن شيوخ القصاصين: أن سليمان كان يحبس الجن في قماقم، وهذا كاف، فدعنا من هذا بحقك ... أرأيت في حياتك مثل هذه الليلة؟ - إنها - بلا شك - ليلة شديدة الأنواء، عاصفة الرياح منهمرة المطر، وقليلا ما نجد لها مثيلا في هذه الولاية من الجزيرة ... غير أني علمت من أبي: أنه في شتاء السنة التي حدثت فيها الفتنة بقرطبة، اشتدت الأنواء، وأنذرت السماء بالصواعق، وكاد المطر يهدم الدور، حتى ظن بعض الناس أن ذلك كان غضبا من السماء، وإنذارا بالويل والعذاب، لما شاع بين المسلمين - وبخاصة الأمراء والوزراء وجماعة المثرين المستهترين - من الانغماس في الشهوات، والاستسلام للنعيم، وإهمال شئون الدولة إهمالا كاد يذهب بريحها، ويلقي بها في أيدي أعدائنا الإسبان الذين يتربصون بنا الدوائر، والذين لا ينسون أن لهم عندنا ثارا. بعد هذه الحادثة السماوية، وقعت الفتنة بقرطبة، بين محمد بن هشام المهدي وسليمان الملقب بالمستعين، وقد كانت فتنة شعواء ضلت فيها العقول وانحطت الدولة، واستعان كلا الأميرين بالأذفونش (الفونسو) على صاحبه، واشتد الحصار على قرطبة ونهبها البربر وعرب زناتة والرعاع. - حقا إنها لحادثة مفجعة ... لقد كنت في الخامسة عشرة في ذلك العهد، وأذكر أن أبي كان كثير الاهتمام بالأمر، يستطلع الأخبار من البريد القادم من قرطبة في كل يوم، وكان أبي جنديا شجاعا، ولكنه كان مولعا بقراءة التاريخ، وقد أنفق نصف ماله على الوراقين الذين كانت لهم أساليب الأبالسة في اجتذابه إليهم، لشراء كتب عتيقة بالية، يزعمون أنها جاءت من المشرق، حتى لقد ضاقت نفسي بذلك الإسراف يوما فلم أستطع عليه صبرا، فقلت: يا أبي لقد أضعفت بصرك بقراءة هذه الكتب، وهؤلاء الوراقون لصوص أدنياء، وقد استلانوا منك مغمزا فأخذوك بحيلهم الخداعة، وكتبهم الكاذبة الزائفة.
Unknown page
فاتجه إلي ولمحات الغضب في عينيه، وقال: اعلم يا بني أن العقل عقلان: مولود، ومكتسب. فأخذتني الدهشة، وقلت: إذا كانت عقبى قراءة الكتب يا أبي، أن تزعم أن العقل عقلان، فهذا في الحق ما كنت أخشى عليك منه؛ فضحك أبي، وهزني من كتفي، وقال: هون عليك أبا عوف، أنت ثور وحشي صغير! - وقد أصبحت الآن ثورا كبيرا. - ذاك مزاح مضى وقته ... أليس من العجب ألا يفهمني الناس؟، وأنني كلما صدعت برأي، تهامسوا أو ابتسموا كأن الله أنزل عليهم حكمة داود دوني!! منذ شهرين عزم ابني محمد على التزوج بفتاة نصرانية شغفته حبا، فذهبنا إلى قاضي العقود، فلما هم بعقد الزواج طلب شاهدين، فبصرته بأنه يجب أن يكون أحدهما نصرانيا؛ ليكون المسلم شاهدا على الزوج، والنصراني شاهدا على الزوجة. فابتسم وصرف وجهه عني في صلف وغرور يعرف هؤلاء الفقهاء كيف يتقنونه، فلما ألححت، مد عينيه في من قمة رأسي إلى جوف أخمصي، وقال: ما لك ولهذا أبا عوف؟! إنما أنت رجل حرب وجلاد، فدع ما لغيرك لغيرك. فغضبت وقلت: لو لم أكن رجل حرب، ولو لم أدفع عنك وعن أمثالك صولة الإسبان بسيفي وبساعدي، لكنت اليوم من سكان القبور، وما استطعت أن تنظر إلي - كما تفعل الآن - نظراتك إلى حيوان عجيب الخلق، ولذهب علمك وفقهك اللذان تتبجح بهما طعمة للسيف والنار. فسكت الرجل على دخل، ومن العجب أنه تمسك برأيه، وعقد الزواج بشاهدين مسلمين. - دعنا من هؤلاء الفقهاء أبا عوف، فإن بينك وبينهم بعد ما بين باجة وأربونة ... أسمعت تلك البومة التي أخذت تولول بصوت مفزع مليء بالأحزان؟! - سمعتها وتشاءمت منها أشد التشاؤم، وأعتقد أنها نذير سوء. - تلك أوهام أبا عوف، فإن ما كان يكون:
وما غراب البين
إلا ناقة أو جمل
وبينما هما في حديثهما؛ إذ سمعا خطوات أشباح في الظلام، يدنو صوتها إلى حيث وقفا، فقال أبو عبد الله: لا بد أن أمرا ذا بال دفع هؤلاء الناس إلى النزول في هذه الليلة القاسية.
وما كاد يأخذ في الحديث، حتى مرت بهما طائفة من حرس الوالي عباد بن أبي القاسم وبينهم امرأة متلففة بالصوف، مجللة بالسواد، وقد حملها الخدم في محفة غطيت بنسيج من الكتان الغليظ لا يكاد ينفذ منه المطر. فوقفت المحفة قليلا، وسأل أبو عبد الله عن الخبر، فأجابه جوهر السوداني: بأن امرأة الأمير جاءها المخاض في منتصف الليل، وأنهم أحضروا لها نزهة الغرناطية القابلة (وأشار إلى المرأة التي بالمحفة). حينئذ ساروا جميعا إلى قصر الأمير، وكان قصرا فخما بني على الطراز العربي، وزخرف بعجائب الصنعة ودائع الفنون، وقد أطل النور من جميع نوافذه ومشارفه، وكان الخدم والجواري في شغل شاغل يجيئون ويذهبون.
فدخلت القابلة القصر، وجلس أبو عوف مع الحراس في بناء أعد لهم، حتى إذا مضت ساعة أو ساعتان، علت الأصوات في القصر، وانبسطت الوجوه، ونزلت جارية تثب فوق درجات السلم وثبا، وهي تصيح في لغة عربية متكسرة تمتزج بالرطانة الإسبانية: البشرى ... البشرى ... ولدت الأميرة ... ولدت بنت مجاهد ... إنه غلام ... إنه غلام ... إنه جميل جدا. حينئذ سحب أبو عوف عصاه، وهو يردد: إنه غلام ... إنه غلام.
فندق
بزغت شمس اليوم الثاني مشرقة وضاءة، وانحسرت الغيوم عن السماء وصحا الجو، كأن لم يكن نوء، وكأن لم يكن أمطار، وكأن لم يكن رياح هوج، ومضى الناس في شوارع باجة مستبشرين بعد ما دهمهم من الغم والعرب في الليلة الفائتة.
ولم يكن لهم من حديث إلا ما كان حول السقوف وكيف نفذ منها المطر، والشرفات وكيف أطاحت بها العواصف، والبرق وما كان من خوف أولادهم ونسائهم من توهجه، والرعد وما ترك في النفوس من رعب وفزع ... وجلست طائفة من الشبان المثقفين بفندق يتناشدون الشعر ويتطارحون النوادر وطرائف الأحاديث، وكان يقيم بالفندق شيخ جاوز الأربعين هو العالم الزاهد أبو حفص عمر الهوزني، قدم من إشبيلية لينسخ بعض كتب الحديث التي بخزائن باجة.
جلس الشيخ في صمت وإطراق، تتحرك شفتاه بما لا يكاد يسمع من أدعية أو تسبيح، وقد كان عرفه أحد الفتيان حينما كان يدرس العلم بإشبيلية، فاتجه إليه سائلا: كيف كانت ليلة الشيخ أمس؟ فأجاب الشيخ: الحمد لله على كل حال ... صدق الله العظيم:
Unknown page
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .
هذا يا بني إنذار من الله لهذه الأمة التي نسيت الله فأنساها أنفسها، وانغمست في النعيم فغطى على أعينها فهي لا تبصر، وعلى آذانها فهي لا تسمع ... ولا تجد أينما سرت إلا مجالس لهو ومحاضر أنس ... خمر ونساء ... نساء وخمر ... هذا شعار هذه الأمة المنكودة، كأنما هي في حلم لذيذ لا تريد أن تستيقظ منه، وقد جاءتها المثلات وصاحت في آذانها العبر ... ولكنها سادرة عابثة تسير إلى الهوة التي لا قرار لها وهي لا تشعر.
إن هذه الأمة المسكينة كقطيع من الشاء. لا راعي له ولا حافظ، وقد أحاطت بها الأسود من كل جانب، والأمراء الأمراء؟؟ ... أين هم؟! ... إنهم في تصارع وتطاحن ... بعضهم أعداء بعض، لا تنطفئ نيران الحروب بينهم، يريد كل واحد منهم أن ينفرد بالقوة والسلطان، ويريد أن يمحو ملك أخيه، ويستأصل شأفته ولو أدى ذلك إلى الاستعانة بملوك الإسبان، وهؤلاء يغرون بعضهم ببعض، ويزينون لهم ما هم فيه من حقد وخلاف وحرب؛ ليضربوا هذا بذاك، حتى يضعفوا جميعا.
كان على هؤلاء الأمراء أن يلتف بعضهم حول بعض، وأن يكونوا حلفا عربيا قويا أساسه المحبة والتعاضد، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص، إذا فجأتهم صيحة، أو حلت بهم نازلة.
إن الله سبحانه وهب لأحط أنواع الحيوان غريزة تدفعه إلى التجمع والتعاون للدفاع عن النفس والحوزة: فالنمل تعيش أسرابا ... والنحل تعيش أسرابا ... والطير تصف في جو السماء أسرابا ... والظباء تسير أسرابا ... فما للإنسان المسكين يميت غريزته، وتتغلب عليه شهوة التملك والقهر، فيحارب من يجب أن يستعين بهم، ويبدد قوته في سبيل أن يعيش منفردا بعظمة موهومة وسلطان كاذب.
انظروا كيف أضعف هذه الأمة صبية بني أمية الذين دعوا أنفسهم ملوكا، ثم خلعوا على أنفسهم ألقاب الخلافة أسوة ببني العباس!! فقد استعان بعضهم على بعض بالبربر والصقالبة وملوك الإسبان، فهلك أربعة منهم في نحو سبع سنين وأضاعوا ملكا عظيما، بناه آباؤهم الأولون بآرائهم وسيوفهم.
ثم ماذا حصل لما تفرقت الكلمة وكثر الأمراء، وانفرد كل أمير بولاية؟؟ المصيبة نفسها ... لهو وسرف، وإغراق في الشهوات، ثم تفرق وتخاذل وغدر.
ارجعوا إلى ما حصل في هذه المدينة منذ عهد قريب ... ثار فيها البربر واشتد فيها الخلاف، وتأججت نار العصبية بين البربر والعرب، فتنازع للتغلب عليها أبو القاسم ابن عباد وبنو الأفطس، وأرسل أبو القاسم ابنه عبادا لإخضاعها، فحاصر ابن الأفطس بها وأفنى رجاله، ثم أسره وتملك المدينة.
وكانت هذه الحادثة صائحة الشر بينهم، ولا يزالون إلى اليوم في حروب لا تنطفئ نارها، ولا يخمد أوارها، ومثل هذا من الشر والتنازع، ترونه في بقية الأمراء.
نحن يا أبنائي غرباء في هذه الأرض ... غرباء في مملكة قوية ملكناها من أهلها بقوة السلاح، ولا نستطيع أن نبقى فيها إلا بقوة السلاح. نحن غرباء فاتحون بين قوم أولي قوة وأولي بأس شديد، لا ينامون على الضيم طويلا، ولا يصبرون على ضياع ملكهم ... غرباء فاتحون نزلنا أرض الأندلس، وهي جنة وارفة الظلال، متدفقة الأنهار، كثيرة النعم، وافرة الخير، فكان علينا أن نشكر الله - عز شأنه - بالحرص على هذا الفردوس الأرضي، وأن نجاهد متواثقين لتنمية خيراته وإعداد العدة للذود عنه، وأن نستعيذ دائما من نزعات إبليس الذي أخرج آدم من الجنة، وما كان فيها من نعيم مقيم. كان علينا أن نعلم - وقد نزلنا أرض الإسبان، وأخضعنا أهلها ووضعنا الجزية على سادتها وكبرائها - أننا قد انعزلنا بديننا وقومنا - وهم فئة قليلة - في بلاد نائية، وفي جزيرة منقطعة عن المشرق، وكان علينا أن ندرك المرمى البعيد الذي ألمع إليه طارق حين أحرق سفنه وقواربه، وصاح في قومه: «البحر وراءكم والعدو أمامكم، وليس لكم إلا الجلد والصبر».
Unknown page
كان الشيخ يتحدث في تأن وصوت مرتعد، وكانت آثار الغضب والحزن بادية على وجهه، وكان الفتيان ينصتون إليه واجمين، كأن شيئا مما ذكره وأفاض فيه لم يخطر لهم ببال، ثم ابتدره أحدهم قائلا: «صدقت يا شيخ، إن أخلاقنا العربية ذهبت عنا منذ حين، وإني أعتقد أن العرب لا تسود إلا إذا تمسكت بعاداتها، عادات البداوة والخشونة، فإذا انصرفت إلى الحضارة أذهلها بريقها فتفننت في النعيم، واستنامت إلى الدعة وتجردت من الشجاعة والحمية، وضعفت فيها تلك العقيدة الإسلامية القوية التي هزمت بها الممالك وثلت العروش، أمام عدد أكبر من عددها، وقوة أضخم من قوتها، وأظن هذا معنى قول الله - وهو الصادق العليم:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
وقال ثان من الفتيان: أظن أن الشيخ صور داء الأندلس في كلمتين: التنازع على الملك والشهوات!
إن هؤلاء الإسبانيات وبال على الملك والملة معا ... إن فيهن لفتنة وسحرا يستلان من النفوس كل أخلاق الرجولة ويستعبدان القلوب ... وفي بيت كل أمير من هؤلاء مئات يتمتع بهن، ويلهو بين الكاس والطاس، وأعتقد أن كثيرا من هؤلاء الجواري جاسوسات لملوك قشتالة وغيرها، ينقلن إليهم أخبار كل أمير، وينفذن ما يأمرونهن به من كل ما يضعف الدولة ويذهب بصولتها.
إن جمال هؤلاء الإسبانيات ورقة حديثهن ولطف دلالهن، مما يعجز عنه الصف ويكبو دونه التعبير، حتى كثرت الأسواق التي يبعن فيها في كل بلد من الأندلس، وأقبل الشبان على التسري بهن، وامتنعوا عن التزوج بالحرائر، فكسدت سوق بناتنا وأصبحن يحتلن على الزواج بالتبرج وإظهار الزينة، واتخاذ وسائل الإغراء، واجتذاب الرجال، ففسدن وسقطن في حمأة من الرذيلة ذادت عنهن الرجال.
وهكذا عدن بالخيبة بعد أن حاولن الاستشفاء من داء بداء.
فقال الشيخ: إننا أتينا من ذلك الجنون الذي أصاب أمراءنا، وهو غرامهم بالتشبه بملوك بني العباس.
سمعوا كثيرا عن إغراق هؤلاء في اللهو والمجون، واقتناء القيان والغلمان، وتبديد الأموال في العظمة الكاذبة، فأبوا أن يكونوا دونهم في شيء من هذا: خمر وقيان وغلمان، ولهو وعبث ومجون، ثم قصور شامخات، وحدائق باسمات ... أما الدولة والأمة ... فلها رب يحميها.
فانبرى ثالث وقال: إن روح اللهو والمجون هذه سرت إلى كثير من الناس، حتى جازت الحد.
دعاني مرة أبو منصور السلامي للتنزه بمنية الفرح، وهي على بعد فرسخين من المدينة، وكان قد صنع صنيعا دعا له طائفة من الأدباء والشعراء والتجار وبعض الفقهاء، فلما استقررنا بالمنية - وكان قد سبقنا غلمانه وعبيده إليها مدت الموائد فلنا منها طعاما شهيا، ثم رفع الطعام، وصفت أواني الشراب، وأخذت القيان في الغناء والرقص، ولعبت الخمر برءوس أصحابي، وعلا ضجيجهم، فكانت قهقهة الإبريق تمتزج بقهقهة المرح، ورنات العيدان والطنابير تختلط بأغاريد طيور الربيع، وخطوات الرقص تساير الألحان فتثير الأعصاب وتهيج الأشجان ... بين نكات وطرف، وفرائد من الشعر تتناثر هنا وهناك:
Unknown page
كما نثرت فوق العروس الدراهم
أما القوم: فقد خلعوا عذارهم، وأرسلوا للهو عنانهم، فطاروا إلى اللذات، وأغرقوا عقولهم في الكاسات، والقيان تمشي بينهم وكلهن فتن وإغراء، يرسلن الشباك لاصطياد العقول، بين غمزة بالعين، ومدة للشفتين في دلال يشبه الغضب، وكلام هو السحر أو دونه السحر.
وإذا بماجن يستخفه الطرب فيصيح منشدا:
لا تنم واغتنم ملذة يوم
إن تحت التراب نوما طويلا!
وثان ينشد:
يقولون: تب والكأس في يد أغيد
وصوت المثاني والمثالث عالي!
وثالث ذهبت الخمر بصوابه، فأخذ يغني في تلعثم:
أفنيت عمري شربا
Unknown page
على وجوه الملاح
أحيي الليالي طروبا
في نشوة ومزاح
ولست أسمع ماذا
يقول داعي الفلاح
ورابع يغني، ويقول:
سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا
جبال حنين ما سقوني لغنت
ثم قام شيخ جاوز الستين، وأخذ يرقص وهو متوكئ على عصاه، وقد غلبه السكر، ثم شرع يترنم بأبيات ابن شهيد، التي أنشدها حينما رقص في مجلس المنصور ابن أبي عامر:
هاك شيخا قاده عذر لكا
Unknown page
قام في رقصته مستهلكا
عاقه عن هزها منفردا
نقرس أخنى عليه فاتكا
من وزير فيهم رقاصة
قام للسكر يناغي ملكا؟
أنا لو كنت كما تعرفني
قمت إجلالا على رأسي لكا
قهقه الإبريق مني ضاحكا
ورأى رعشة رجلي فبكى
وبينما نحن على تلك الحال، إذا غلام قروي خبيث يصيح: الإسبان ... الإسبان ... إنهم قادمون مع جيش من البربر للوثوب على باجة.
Unknown page
فأطار الخوف الخمر من رءوس القوم، وأخذ منهم الذعر والهلع كل مأخذ، واصطدم بعضهم ببعض، وداسوا فوق العيدان والكئوس، واجتذبوا ذيولهم من القيان اللاتي حاولن الاحتماء بهم ... ثم تبين بعد قليل أنها فرية دنيئة، وأن الغلام اللئيم أراد أن يكدر صفوهم، ويفرق جمعهم.
فأسرع الشيخ قائلا: إن إنذار الغلام لم يكن كاذبا، وستأتي إليهم الإسبان حتما، إن لم يكن اليوم فغدا.
ويحي على الأندلس ويحي!! أين أيام عبد الرحمن الناصر؟، حينما كانت راية الإسلام تخفق على أرجاء الجزيرة في عزة وشموخ، وحينما كانت الوفود من ملوك الإسبان تأتي إلى الزهراء فتحسر عن رءوسها إجلالا وهيبة؟!
فهز أحد الفتيان رأسه في تحسر، وقال: هذا كلام صحيح، ولكني أنصح للشيخ أن يكتم السخط على أمراء هذا الزمان في نفسه، فإن أميرنا عبادا رجل بطاش ظالم، يسبق السيف كلمته، ويصطاد العصفور من بين براثن النسور، وهو كثير الجواسيس، ينقلون إليه أخبار الناس وأحاديثهم حتى ليقال: إنه يعرف ما يحصل في كل دار، ويكاد يعرف ما يجول في كل نفس.
فأجاب الشيخ: هون عليك يا فتى ... إن الله كتب لكل نفس أجلها، وإنما ضيع الناس الرياء، والنفاق، والسكوت على الداء وهو يدب ويستشري.
وبينما هم في الحديث، إذ دخل شاب من طلاب العلم بالمدينة وهو يقول: إن عظماء المدينة وعلماءها وشعراءها يذهبون إلى القصر لتهنئة الأمير بمولود جديد.
فنظر الشيخ في السماء ... وأخذ يردد:
بشر الدهر بمولود جديد
ليت شعري أشقي أم سعيد؟
تهنئة
Unknown page
أعد العبيد كرسيا للأمير عباد إلى جانب سرير زوجه، طاهرة بنت مجاهد العامري أمير دانية، وكانت أحظى زوجاته عنده وأقربهن إلى قلبه .
فدخل الأمير باشا يتلألأ وجهه بشرا على غير عادته التي اعتادها من مظاهر الجد والعبوس، وما نظر إلى طاهرة، وهي في سريرها تهش لمقدمه، وتصوب إليه عينيها الناعستين في حب وجذل - حتى عاجلها بقوله: أتذكرين يا طاهرة يوم قلت فيك:
رعى الله من يصلي فؤادي بحبه
سعيرا، وعيني منه في جنة الخلد
غزالية العينين شمسية السنا
كثيبية الردفين غصنية القد
شكوت إليها حبها بمدامعي
وعلمتها ما قد لقيت من الوجد
فصادف قلبي قلبها وهو عالم
فأعداه، والشوق المبرح قد يعدي
Unknown page
فقاطعته: نعم أعداه يا مولاي ... والشوق المبرح قد يعدي!
ولكن عبادا استمر ينشد:
فقلت لها هاتي ثناياك إنني
أفضل نوار الأقاح على الورد
فجلست طاهرة وقالت: والله يا مولاي ما عذبتك بصد، ولا روعتك بهجر ... ولكنها عادة الشعراء كأنهم لرغبة التمتع بلذة الوصل يقرنون إليها ألم الهجر وذل القطيعة؛ ليشعروا بكل ما في الوصل من سعادة ونعيم!! أتراني صدقتك يا مولاي - وأنت صادق دائما - حين قلت:
تنام ومدنفها يسهر
وتصبر عنه ولا يصبر
لئن دام هذا وهذا به
سيهلك وجدا ولا يشعر
فعبث الأمير بخدها، وقال: أين الغلام؟؟ وكيف الطلى وأمه؟؟
Unknown page
فحملته بين ذراعيها في رفق وحنان، وكشفت عن وجهه غطاء من الحرير الرقيق، وقالت: إنه جميل وسيم يا مولاي ... إن فيه كثيرا منك، وكثيرا مني.
فنظر الأمير إلى وجهه، وقال: نعم يا جارية. هذا أنفك بعينه لا يكاد يخطئ الشبه من ينظر إليهما ... أنف إسباني ورب الكعبة.
فتكلفت طاهرة الغضب في دلال وفتنة، وقالت: ألا يزال الأمير يعيرني بأبي؟! والله إن إصهارك منه لأكبر دليل على شرف محتده ونبل منزله.
نعم، إن أبي كان مولى إسبانيا من موالي المنصور بن أبي عامر، ولكن نسبه يرجع إلى أسرة عريقة من ملوك الشمال، ثم زاده الإسلام شرفا على شرف، وأضاف إلى مجده التليد مجدا طريفا. - أنا أعرف ذلك يا طاهرة، وإنما هي مزحة أردت أن أثير بها غضبك. أرجو أن يكون هذا الغلام سعيدا، كما أرجو السعادة لأخويه: إسماعيل وجابر، فإنني يا طاهرة دائم القلق على ذريتي، وعلى ذلك الملك الذي أثلناه بعزم يدك الجبال، ولاقينا في توطيده وتوسيع رقعته ما يشيب نواصي الأطفال.
إنك قوي الخيال يا مولاي، تجري وراءه فيصور لك التصاوير المزعجة، ويقض مضجعك كأنه حلم مزعج حتى إذا صحوت منه لم تجده شيئا. - لا يا ابنة مجاهد. إن المنجمين يكادون يجمعون على أن زوال ملكنا يكون على أيدي قوم يطرءون على الجزيرة من غير سكانها، وأغلب الظن أن يكون هؤلاء هم البرازلة، الذين طرأوا على الأندلس في عهد المنصور بن أبي عامر؛ لذلك صممت - إن تنفس لي العمر، وامتد الأجل - أن اكتسح غرب الجزيرة، وألا أبقي من ملوكه ملكا على عرش. - زادك الله يا مولاي قوة وتمكينا، وأمتع بحياتك.
عند ذلك تهيأ الأمير للقيام، وقبل زوجه قبلة في جبينها، ثم مشى نحو الباب وهبط من السلم والعبيد حوله، والحراس أمامه وخلفه، حتى إذا وصل إلى البهو، قام الناس جميعا في هيبة وخوف وإجلال، وتقدم إليه رجال الدولة، ورؤساء الجند، وعظماء المدينة، بالتهنئة والدعوات بتمام الإقبال وسعادة المولود. ثم تقدم الشعراء فأنشد كل منهم ما كان أسرع في إعداده، وكان فارس حلبتهم في هذا اليوم أحمد الأنصاري الشاعر، الذي أنشد قصيدة سينية كانت غاية في الإبداع. منها:
أصاخت الخيل آذانا لصرخته
واهتز كل هزبر عندما عطسا
وآثر الدرع مذ شدت لفائفه
وأبغض المهد لما أبصر الفرسا
Unknown page
وبعد أن انصرف القوم، دعا الأمير بالمنجمين ليروا طالع المولد، فاجتمعوا والرعب يملأ قلوبهم، فقد كانوا يعلمون أنهم دعوا لأمر جد خطير، وكان بينهم أبو مسلم الحضرمي الإشبيلي.
وبعد أن نظروا في أسطر لاباتهم وقلبوا في كتبهم، أقبل بعضهم على بعض يهمسون: ماذا نقول للأمير؟ فقال أحدهم: إن الطالع سيئ، وهز آخر رأسه في أسف قائلا: إن ما تقوله حق أبا الحسين ... ولكننا عاهدنا صناعتنا ألا نقول الحق إلا إذا كان سارا، أو تضمن شرا يمكن اتقاؤه.
فقال أبو مسلم: إن رءوسكم لا تكفي لإسكات غضب الأمير لو جبهتموه بسوء طالع ابنه ، ثم إن قتلكم لن يغير مما كتب في صفحة القدر حرفا، ولن يقول الناس إن تغيبوا في القبور: برد الله مثواهم، لأنهم كانوا شجعانا لا يبالون في الحق صولة أمير جبار ... وهبوهم قالوا شيئا من هذا، فماذا يفيدكم قولهم وأنتم تراب؟! رحم الله ذلك الأعرابي الذي قيل له حين فر من القتال: ألا تخشى العار؟ فقال: لأن يقولوا: فر لعنه الله خير عندي من أن يقولوا: مات رحمه الله!
فقال أبو الحسين: وماذا ترى أبا مسلم؟ قال: أرى أننا خوفنا الأمير منذ سنتين من خطر يدهمه، من قوم يطرءون على الجزيرة من غير سكانها، فيجب أن نستمسك بهذا، وأن نظهر البشر والابتسام وحسن التفاءل، ونبلغه بأن الطالع سعيد، غير أننا لا نزال نلح في اتقاء خطر الطارئين.
فخرجوا على هذا الرأي، ولما ألقوا كلمتهم للأمير أطرق مرددا: يفعل الله ما يشاء ... الطارئون ... الطارئون ... دائما الطارئون!!
ثم دعا بصاحب البريد، وطلب إليه أن يسير توا إلى إشبيلية لينقل الخبر إلى أبيه.
وما كاد حمدون اللخمي يتلقى أمر مولاه، حتى أسرع إلى خيل البريد فاختار أكرمهم سلالة، وأسبقها عدوا، وأقواها جلدا.
ومضى به يسابق الريح بين غياض فيح، وحدائق نضر، وأشجار فينانة مختلفة الثمار، حتى أدركه الصباح عند «لبلة» وظهرت له أسوارها المنيعة القديمة، وما يحيط بها من أشجار الزيتون ومروج القرنفل والعصفر، فاجتاز القنطرة التي فوق النهر، ودخل المدينة تعبا ساغبا منهوك القوى، فأخذ سمته إلى فندق في سوق التجار، وما كاد الطعام يقدم إليه حتى طفق يلتهمه التهاما، وكان بالفندق فتاة إسبانية تنظر في شئون المسافرين، امتزجت فيها الصحة بالجمال، فكونت منها إنسانة حسانة فاتنة عربيدة، تعرض عمن يهيم بها، وتدعو المعرض عنها يهيم بها، حتى إذا اقتنصته أرته الدلال كيف يكون.
فلما رأت حمدونا لا يرفع عينيه من وعائه، يضع اللقمة في فمه ويعد أخرى، وينظر إلى الثالثة ... قالت له في رشاقة تتخللها ضحكة خفيفة: يظهر أن الطعام صرفك حسن طهوه عن جميع الناس!!
فرفع عينيه إليها في بله أو تباله وقال: ماذا تقولين يا فتاة؟؟ - أقول: إن طعام «لبلة» أو طعام فندقنا خاصة، يستهوي البطون ويحظى بغزلها وصبابتها.
Unknown page
فأعاد فيها حمدون النظر، فرأى ما بهره وأطار صوابه، أو أنه كان قد شبع قليلا فتنبه قلبه بعد طول غفلته. فقال لها: انتظريني يا فتاتي حتى أسكت صياح تلك العصافير التي ملأت بطني ... إن غزل القلوب يأتي بعد غزل البطون. - هذا أضعف الحب. - أتؤثرين الحب الصائم؟؟ - إن الحب الصحيح لا يدعك تحس جوعا أو عطشا. - أنا أقبل أن يمسني هذا الحب، بشرط أن يتساوى فيه الطرفان: أنا، وأنت. فما رأيك في أن يسد علينا باب حجرة من هذا الفندق مدى الحياة، نستقي من رضاب الشفاه، ونقضم تفاح الخدود ... ورمان النهود؟؟ فتهانفت الفتاة في دلال، وقالت: انتظر حتى أصاب أولا بحبك، ثم اقترح ما تشاء. - آه منك يا فتاة ... إنني أحتاج في اجتذابك إلى وقت أطول من وقتي، فإن ساعة لا تكفي لاقتناص مثلك.
فأجابت الفتاة، وهي تلقي بسحرها، وتعبث بعيونها: ساعة لا تكفي!! إنك مغرور عظيم التفاؤل يا فتى ... ألا قلت: شهرا ... ألا قلت: سنة ... ألا قلت: دهرا.
إن لين الكلام ولطفه، وتجاذب النظرات، وتبادل الضحكات شيء، والغرام شيء آخر. إن كل فتاة تحييكم بكلمة طيبة أيها الشبان تظنونها قد تدلهت في حبكم، ووقعت في شباككم؟؟
لا يا سيدي، لا ... أنا لست من هذا الطراز. - من هذا الطراز أو من غيره ... كلكن بنات حواء. عمى صباحا أيتها الفتاة، واحتفظي بجمالك حتى أعود.
ثم وثب على جواده وهو لا يصرف عينيه عنها. حتى حال البعد بينهما، وأخذ جواده يمر بجبل الشرف، وهو تل أحمر التربة، دائم الخضرة، يمتد من الشمال إلى الجنوب نحو أربعين ميلا، به كثير من القرى، لا تكاد تشمس من أرضه قطعة لالتفاف أشجار الزيتون به.
فسار حمدون في ظل دائم بين هذه الأشجار، حتى انتهى بعد خمس ساعات إلى «طريانة» وهي إلى الشاطئ الأيمن من نهر الوادي الكبير، تقابل من شاطئه الآخر مدينة إشبيلية، وما وصل حمدون إلى «طريانة» حتى سلم قياد جواده إلى أحد رجال البريد هناك، ونزل قاربا اجتاز به إلى إشبيلية، ثم أخذ طريقة إلى القصر. فلما مثل بين أبي القاسم محمد بن عباد - وكان رجلا داهية في الرجال، قد جلله الشيب وأطفأ منه الهرم كل قوة إلا قوة عقله، وقوة إرادته، وقوة نفوذ عينيه وشدة بريقهما - ابتدره أبو القاسم قائلا: خير ما جاء بك. - خير إن شاء الله يا مولاي ... ولد غلام لسيدي عباد أمير باجة.
فاستشهد أبو القاسم:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدينا - وهل مررت بطريقك على بطليوس؟ وهل سمعت شيئا عن المظفر بن الأفطس أميرها؟ - لا يا مولاي، إني اتخذت أقصر طريق.
ثم أراد أن يتملقه فقال: ولكني سمعت بباجة: أن المظفر لا يزال عاكفا على تأليف كتابه، وقد بلغ فيه - فيما نقل إلي - إلى الجزء الرابع والأربعين. - وي وي ... دعه يؤلف ... إننا نؤلف له كتابا سطوره صفوف الجيوش، ونقطه أسنة الرماح.
Unknown page
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
عزاء
دار الفلك دوراته ... ومضى نحو سنتين من ولادة محمد بن عباد، والدنيا مقبلة على دولة بني عباد، والأيام تضاحك آمالها.
حتى إذا كان يوم من أيام الربيع، أقبل على قصر باجة فارس يحث جواده وقد تصبب منه العرق وجلله الغبار، فلما دخل الفناء تواثب إليه الحراس والجنود من كل مكان، فعرفوا فيه الحارث بن ربيعة، موضع ثقة الملك أبي القاسم صاحب إشبيلية. فابتدرهم الفارس وهو يلهث: أين مولاي عباد؟ فأشاروا إلى داخل القصر، فقفز الحارث حتى إذا مثل بين يدي الأمير، أدى كريم التحية، وقال: يا مولاي. إن سيدي أبا القاسم قد اشتد به المرض منذ أيام، وقد طلب إلي أن أسرع إليك لتراه.
فوجم عباد عند إلقاء الخبر إليه، وبدا على وجهه مزيج من حزن وأمل وخوف وتفكير، ثم قال: أتراه بارئا يا ابن ربيعة؟؟ فقال: يا مولاي إن المرض لشديد.
وما كاد يسري الخبر في القصر، حتى سرى النحيب والنشيج بين الجواري؛ فغضب عباد وقال: إنهن فاجرات يملكن عيونهن ... مر صاحب بريدي أن يعد «داحسا» فإنه أقوى خيلي على العدو. ثم قام وودع زوجه، وتأهب للسفر إلى إشبيلية، وأمر أن ترحل الأسرة والحاشية بعد يومين.
عدا الفرس بعباد كأنه البرق الخاطف، حتى لقد عجز الحارث عن مداركته، وما كانت إلا ليلة وبعض نهار، حتى وصل عباد إلى إشبيلية وكان في حجرة أبيه. فرأى شبحا نهكته الأيام وافترسته الأمراض، يردد أنفاسا قصارا، ويرسل أنات خافتة فلما رآه أبو القاسم ابتسم ابتسامة ترحيب، وأشار إليه بالجلوس، ثم قال في عبارات متقطعة: إننا ملكنا يا عباد بالدهاء والحيلة، ثم ثنينا بعد ذلك بالقوة والبطش والجبروت ... أملك الجزيرة كلها أبا عمرو، وأبدأ بالأدارسة، فإنهم أعداؤك وأعداء أبيك ... إنك لخمي يا بني ... إنك من بني المنذر بن ماء السماء، فلست بمحدث في الملك ولا واغل فيه. عند ذاك أقبل يحيى بن إسحاق الطيب، وفي يده كأس بها دواء، فصرفه عنه أبو القاسم، وقال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
Unknown page
ثم مال برأسه على وسادته ومات.
دفن أبو القاسم، وأصبح عباد ملك إشبيلية وغرب الأندلس، وسمى نفسه بالمعتضد، وكان عباد باقعة في السياسة، داهية في اقتناص الفرص، حولا قلبا.
وكان بعيد الهوى والمدى
يكون الصبا ويكون الدبورا
أسد يفترس وهو رابض، وينصب المكايد وهو بين جواريه وكاساته وندمائه ... قاس أشد القسوة، وعنيد أشد العناد، ومخيف أشد الإخافة ... لا يرحم قريبا، ولا تقصر ذراعه عن بعيد، وطد دولته وقوى جيشه، ووسع بغزواته ملكه، ونصب في حديقة قصره خشبا ربط بأعلى كل خشبة رأس ملك، أو أمير، أو قائد ممن ظفر بهم في غزواته، وقد أكثر من الجواسيس حتى خافت الرعية أن تهجس بما في نفوسها، فدانت له الرقاب، وذلت الصعاب، وقهر ملوك غربي الأندلس، وقد صور نفسه بنفسه حين يقول:
حميت ذمار المجد بالبيض والسمر
وقصرت أعمال العداة على قسر
ووسعت طرق المجد طبعا وصنعه
لأشياء في العلياء ضاق بها صدري
فلا مجد للإنسان ما كان ضده
Unknown page
يشاركه في الدهر بالنهي والأمر
ثم أعطى نفسه صورة أخرى حين قال:
لعمري إني بالمدامة قوال
وإني لما يهوى الندامى لفعال
قسمت زماني بين كد وراحة
فللرأي أسحار وللطيب آصال
فأمسي على اللذات واللهو عاكفا
وأضحي بساحات الرياسة أختال
ولست على الإدمان أغفل بغيتي
من المجد، إني في المعالي لمحتال
Unknown page