زيد بن حارثة وزواجه بزينب
وحتى يحول النبي ﷺ هذه القيم والمثل العليا إلى واقعٍ ملموس، وإلى مجتمعٍ متحرك ذهب النبي ﷺ بنفسه ليطبق على نفسه وعلى آل بيته هذه القواعد الكبيرة، فأخذ النبي ﷺ مولاه وخادمه زيد بن حارثة ﵁ وأرضاه ليخطب له أشرف امرأة في مكة، ليخطب له ابنة عمته زينب بنت جحش ﵂ وأرضاه.
وانتبهوا أيها الأحبة في الله! أقول: ذهب النبي ﷺ ليحول هذه القواعد والمثل العليا إلى واقع ملموس، وإلى مجتمع متحرك، ذهب ليخطب ابنة عمته زينب بنت جحش ﵂ لخادمه ومولاه زيد بن حارثة ﵁ وأرضاه، والحق أقول: إن زيدًا لم يكن عبدًا من العبيد، ولم يكن رقيقًا من الرقيق، وإنما زيدٌ من كرام العرب الأفاضل الشرفاء، فما الذي جاء به رقيقًا وعبدًا إلى بيت النبي ﷺ؟ القصة بطولها ذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة وألخصها لكم: إن زيدًا خرجت به أمه في يومٍ من الأيام لتزور أهلها، فأغار عليهم قومٌ فأخذوا زيدًا وباعوه بعد ذلك في سوق عكاظ، فاشتراه في هذا اليوم حكيم بن حزام وأهداه بعد ذلك إلى عمته خديجة بنت خويلد ﵂ وأرضاها، ولما تزوج النبي خديجة ﵂ ورأى زيدًا عندها، أعجب النبي بأدب زيد وفطرته وذكائه.
فلما رأت خديجة ذلك قالت: [هو لك يا رسول الله] وأهدت خديجة زيدًا إلى النبي ﷺ فأعتق النبي من يومها زيدًا ﵁ وأرضاه، وأحبه النبي ﷺ حبًا شديدًا.
ولكن أبا زيد كان لا يهدأ في ساعة من ليلٍ أو نهار، وكان يسأل عنه الركبان في كل مكان ومن كل مكان.
ولما سمع أبوه أن ابنه عند محمد بن عبد الله بجوار الحرم في مكة -زادها الله تشريفًا- انطلق أبوه مع أخيه أي: مع عم زيد وأخذا الفداء وانطلقا إلى النبي ﵊، ودخلا على النبي في بيت الله الحرام وقالا للنبي ﵊: يا بن عبد المطلب يا بن سيد قومه! لقد جئناك في ولدٍ لنا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فقال النبي ﵊: ومن؟ قالوا: زيد بن حارثة، فقال النبي ﵊: أو غير ذلك -أي: هل تظنون أني أفعل غير ذلك- بل ادعوه وخيروه فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي يختار على الذي يختارني فداء فقال أبوه وعمه: لقد زدت على الإنصاف يا بن عبد الله، ودعا النبي زيد بن حارثة ﵁ وخيره النبي ﵊ بعدما قال له: يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم.
هذا أبي وهذا عمي، فقال له النبي ﵊: إن شئت ذهبت معهما وإن شئت ظللت معي.
أتدرون ماذا قال زيدٌ أيها الأحباب؟ نظر زيد إلى النبي ﵊ وقال: والله ما أنا بالذي يختار عليك أحدًا.
إن النبي ﷺ لم يبعث بعد، فما الذي جعل زيدًا ﵁ يختار النبي قبل البعثة؟ فما ظنكم به بعد البعثة؟ نظر زيد إلى الحبيب وقال: والله ما أنا بالذي يختار عليك أحدًا، ففزع أبوه وعمه، ونظر إليه أبوه وقال: يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهلك؟ فنظر زيدٌ إلى أبيه وعمه وقال: والله لقد رأيت من هذا الرجل شيئًا وما أنا بالذي يفضل عليه أحدًا قط.
فبالله عليكم ماذا يفعل الحبيب أمام هذه الأخلاق السامقة؟ ماذا يفعل الحبيب أمام هذا الخلق العالي الغالي الشريف؟ أمام هذا الشاب الذي أصم الجميع بخلقه وفصاحة لسانه وحبه الذي تمكن من قلبه لمحمد بن عبد الله؟ ما كان من صاحب الأخلاق ﷺ إلا أن أخذه من يده وذهب به إلى الناس ووقف في الحجر ينادي على الناس ويقول: أيها الناس! اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني وأرثه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فلما رأى أبوه وعمه ذلك انطلقا وقد طابت أنفسهما، فأي شرفٍ وأي فخرٍ أن يلقب زيد من هذا اليوم بـ زيد بن محمد؟ ومن يومها ما دعي زيدٌ إلا بهذا زيدٌ بن محمد، أي شرف وأي فخرٍ لك يا زيد؟ وأحب النبي ﷺ بعد هذا اليوم زيدًا حبًا شديدًا، حتى ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وابن سعد ورواته ثقات والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر في الإصابة أن النبي ﷺ قال لـ زيد: (يا زيد أنت مولاي مني وإلي وأحب القوم إلي) .
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن عمر ﵄ لما ولى النبي أسامة بن زيد بن حارثة إمرة الجيش طعن الناس في إمارته، فقال النبي ﵊: (إن تطعنوا في إمارته فلقد طعنتم في إمارة أبيه زيدٍ من قبل، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإنه لمن أحب الناس إلي، وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إلي بعده) هذه مكانة زيد في قلب النبي أيها الأحباب.
أخذ النبي ﷺ زيدًا وذهب ليخطب له شريفةً عظيمةً كريمة طاهرة من شريفات مكة، زينب بنت جحش ﵂ وأرضاها ابنة عمة النبي ﷺ أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، ودخل النبي على زينب، وكلم النبي زينب وحدثها وحدثته وقال لها: (يا زينب لقد جئت اليوم أخطبك لـ زيد بن حارثة قالت: لا.
أنا أيم قومي، وبنت عمتك، وأنا أشرف منه نسبًا والله ما أنا بفاعلة، قال لها الرسول ﵊: ولكني قد رضيته لك يا زينب، قالت: ولكني لا أرتضيه لنفسي) قوة عجيبة! ولكني لا أرضاه لنفسي، وظل النبي يحاورها وترد عليه بمنتهى القسوة والشدة والغلظة أنا أشرف منه نسبًا يا رسول الله، وما نست زينب أن زيدًا ﵁ ما دخل بيت أهلها إلا عبدًا وتنظر إليه من هذا المنظار، أنا أشرف منه نسبًا وإن رضيته أنت لي زوجًا يا رسول الله فلن أرضاه لنفسي، ووالله لن أفعل ذلك، فنزل قول الله جل وعلا الذي يعلم السر وأخفى، ويسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، إن كل شيء في هذا الكون لا يغيب عن بصر الله ولا عن سمع الله.
نزل قول الله جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٣٦] الله أكبر! أي بيانٍ هذا؟ وأي إنذار؟ (وما كان لمؤمنٍ) أي: زيد، (ولا مؤمنة) أي: زينب، ﴿إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:٣٦] .
إذا قال الله وقال رسوله ﷺ فيجب على كل مؤمنٍ ومؤمنة أن يقولا لله ورسوله: سمعنا وأطعنا، لا يختار لنفسه بعد اختيار الله، وبعد اختيار رسول الله ﷺ ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:٣٦] واسمع إلى هذا التهديد الرهيب: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٣٦] فلما قرأ النبي الآيات على زينب ﵂ وأرضاها، وهي صاحبة القلب التقي النقي نظرت إليه ﷺ وقالت: (قد أطعتك يا رسول الله فاصنع ما شئت) .
إنه الاستسلام المطلق لأوامر الله ورسوله، ولا خيار، إنه الإيمان أو لا إيمان؛ إما إذعان لأوامر الله وإذعان لأوامر رسول الله ﷺ وذلك هو الإيمان في أجل وأعلى مراتبه، وإما إعراض عن أوامر الله وإعراض عن رسول الله ﷺ وعدم الطاعة لهما، وهذا هو الكفر بعينه.
(قد أطعتك فاصنع ما شئت يا رسول الله)، إن هذه العبارة تحتاج منا إلى جمعة كاملة، ذلكم المقوم الكبير مقوم الاستسلام لله جل وعلا الذي به استحقوا أن يكونوا أهلًا لحمل هذه الأمانة بقوة وجدارة واقتدار.
فزوج النبي زيدًا زينبَ ﵄، ولكن إذا تنافرت القلوب تنافرت الأبدان، وإن الحياة الزوجية إن خلت من الحب والمودة والرحمة أصبحت كالجسد الميت إن لم يدفن فاح عفنه ونتنه، ودفنه هو: الطلاق، تلبدت سماء هذا الزواج بالغيوم الداكنة السوداء التي زادت يومًا بعد يوم، ولم تنس زينب ﵂ أن زيدًا ما دخل إلى بيت أهلها إلا عبدًا، وأحس زيد ﵁ استعلاء زينب وترفعها عليه، وزيدٌ العربي الكريم الأبي لا يقبل هذه العزة وهذا الاستعلاء أبدًا.
ويذهب زيد إلى حبيبه رسول الله ويشكو إليه عيشته مع زينب، والرسول ﷺ يقول: (أمسك عليك زوجك واتق الله) ويرجع
5 / 7