الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
سيدة القصور
سيدة القصور
آخر أيام الفاطميين بمصر
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
كان النهار في صولة شبابه، وكانت الشمس تبعث بأشعتها وهاجة ملتهبة تكاد تشوي الوجوه، وكان الجو على حرارته كثير الرطوبة، والندى المتصاعد من البحر، وكأن النسيم الذي أكثر الشعراء من ادعاء أنه عليل، قد طالت علته فقضى نحبه، فلا تسمع له جرة ذيل، ولا همسة أنين.
وقد أضنى الناس بمدينة عدن هذا الومد، وهزل أجسامهم القيظ بعد أن توالت عليهم شهور الصيف شديدة لواحة، كأنما كانت تتنافس في مسهم بشواظها، فلا يجيء شهر إلا وهو أشد وأنكى من صاحبه.
وظن أهل المدينة أن العري يخفف عنهم بعض ويلات الحر، فتسلبوا من الملابس إلا أزرا قصيرة يشدونها إلى أوساطهم، ولو علموا لصانوا أجسامهم من هذا السعير اللافح، الذي كساهم ثوبا لماعا من العرق، كلما تساقط نسجت لهم الشمس ثوبا جديدا، وكلما مسحوه بأيديهم سال نبعه وتقاطر، حتى كأن كل رجل أصبح إنبيقا يتحول كل ما فيه ماء بالتصعيد والتقطير.
خلت طرق المدينة من السابلة إلا من دعته شدة الحاجة إلى المسير، وفزع المتعطلون إلى الظل والنجائر يتقون بها شدة الهاجرة، أما الأغنياء والموسرون: فلبسوا البيوت، وزرروا الأبواب، والتجأوا إلى سراديب عميقة في الأرض، ينفذ إليها الهواء من بناء إسطواني كالداخنة، يشق طبقات الدار، وتنفذ فوهته إلى سطحها، وكان علي بن مهدي - وهو من دعاة الفاطميين، وكبار رجالهم - في داره في هذا اليوم، ومعه جماعة من الأدباء والعلماء، بينهم أبو كاظم الحراني، والفقيه أبو الحسن النيلي، وأسامة الحضرمي. وكانت الدار على سيف البحر، فخمة شاهقة البناء، تدل على عظمة صاحبها، واتساع جاهه، وقد أسرع العبيد فبلوا دهاليز السرداب بالماء، حتى بدت فيها بحيرات صغيرة هنا وهناك.
وجلس ابن مهدي وأضيافه في حجرة كان أثاثها غاية في الحسن وجمال التنسيق، وقد كسيت فيها الأرائك بالحرير الأرجواني، واختيرت الستور من الخز التنيسي، وفرشت الأرض بالبسط الهندية، ودل كل شيء فيها على ذوق سليم وبذخ وإسراف، وقد وقف في نهاية الحجرة أربعة عبيد، يمسكون بحبال مروحة مستطيلة، عملت من القطيفة الغليظة النسيج، وعلقت بسقف الحجرة على طول امتداده، فهم لا يفتأون يجذبون الحبال ويرخونها، والمروحة تتحرك إلى الأمام والخلف؛ أملا في أن تجود على من بالحجرة بنفس من نسيم.
بدأ ابن مهدي فقال: هذا يوم لم تر عدن له مثيلا، وستصبح سنة تسع وأربعين وخمسمائة ذكرى خالدة لأهلها، يوقتون بها ويؤرخون.
فقال الحراني - وكان فكها: سيقولون زار الحراني عدن سنة الحر، فعاجله النيلي، وقال: وسيقولون سرق خرج النيلي سنة الحر؛ فضحك القوم، والتفت إليه ابن مهدي وقال: أسرق منك خرج حقا؟؟ - لا أدري ... أسرق؟! ... أم ابتلعته الأرض؟! ... أم تخطفته السماء؟! ...
وصلت القافلة من زبيد عند باب المدينة الذي يسمونه هنا (باب الصدقات)، أو هو باب السرقات على الأرجح، وحط رحلي، ووضع ما عليه من متاع وأثقال، وأنا أنظر إليه لا تكاد عيني تذهب عنه، وكان الخرج بين المتاع، وقد ازدحم حول السفار جماعات من الحمالين والمجتدين، وبينهم امرأة هزيلة شاحبة في أسمال - أو فيما كانت أسمالا - لا تكاد تستر جسمها، وكان وجهها يحكي وهو صامت حكاية مؤلمة للسغب، والفاقة، ومرارة الحاجة، وقد حملت بين يديها طفلا أو جعلا، تركه الجوع عظاما في جلد، أو جلدا على عظام، وأخذت تمد ذراعيها به في وجهي، فراعني سوء حالهما، وبحثت في جيبي عن درهم أمسك به رمقهما، وما كدت أمد يدي به إليهما، وأعود بعيني إلى أمتعتي حتى وجدت مكان الخرج خاليا!!
فقال الحراني: هذه هي اللعبة يا سيدي التي لم تدرسها في الكتب، ولم تجد لها مثيلا في كتاب الحيل الفقهية للخصاف، وكأنما كان أبو نواس اللئيم يشير إليك بسبابته حين يقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
هذه المرأة يا مولانا تعمل مع اللصوص والشطار، وهي آلتهم التي بها يصلون إلى غاياتهم، هي الطعم الذي يقذفون به إلى السمك لاصطياده، هي الحب الذي ينثر حول الفخ ليقع عليه الطائر الغر، هي البؤس المزوق الذي جاء يستلب مالك اضطرارا لما عجز البؤس المحقق عن أخذه منك اختيارا، هذه المرأة وأمثالها يرسلها العيارون إلى من ينكب بهم؛ ليثير منظرها المؤلم نفسه، فيصرفه عن النظر إلى ما حوله، وقد يكون مقدار ذهوله لحظة أو دونها، وهذه اللحيظة كافية لأن يسلبوه ما يشاءون.
فقال النيلي - وقد ظهرت في وجهه آلام من يشعر بالتفريط، أو من يتوقع أنه سيوصم بالغلفة والبلاهة: حقا إنهم شياطين!!
وهنا سأله ابن مهدي في شيء من الاستنكار: ألم تذهب إلى والي المدينة، وتقص عليه قصتك؟ فلعله يجد سبيلا إلى الوصول إلى ما سرق منك!! - ذهبت إلى داره، وهي تقع في محلة الحدادين إلى الجانب الشرقي من المدينة، فوصلت إليها بعد لأي وجهد، فلما طرقت الباب خرج لي أحد غلمانه، فلما سألته عنه، قال: إنه مريض منذ يومين، أكل لحم جزور زهمة فأصيب بالزحار.
فسألته عن وكيله، وأين مكانه؟ فقال: إنه أعرس بالأمس، وإنه نازل عند أصهاره «بذي جبلة»، وإن المسافة بين عدن وبينها سبعة عشر فرسخا؛ فحوقلت ورجعت، وقلت لنفسي: ضاع خرجك يا أبا الحسن بين معاناة الزحار، ومناغاة الأبكار!!
فضحك القوم، وأغرقوا في الضحك، ثم قال ابن مهدي في مواربة ودهاء: خل عن المزاح الآن أبا الحسن ... كيف حال الدعوة الفاطمية بزبيد؟؟ ... لقد جاءت رسالة من الخليفة الفائز إلى محمد بن سبأ ينعي عليه فيها التهاون في نشر الدعوة، ويستحثه على أخذ كل من نكل عنها بالبطش وقوة السلطان.
فأجاب الحراني: إن الدعوة الفاطمية بزبيد على خير ما يتمنى لها من القوة والانتشار، فإن الملك فاتكا لا يفتأ ناشرا لها، عاملا على بثها في كل نفس، ونائب داعي الدعاة هناك، ونقباءه، ونوابه لا يتركون سنيا حتى يضموه إلى حظيرتهم، فقال ابن مهدي: ذاك كلام أبا كاظم، فإن ما لدينا من الأخبار يجبه ما تقول، ولعل حبك لفاتك هو الذي دفعك إلى الذود عنه!
فأسرع الحراني قائلا: لقد صدقتك يا سيدي، وإذا كان لا بد من الحق الصريح الذي لا يخالطه استثناء، فإنني أوكد لك واثقا أن زبيد كلها فاطمية، إلا أسرة زيدان، وأسرة المثيب، وهما أعمام عمارة بن زيدان وأخواله.
فانبري له الحضرمي - وكان صديق عمارة الوفي - قائلا: ما لك أبا كاظم وعمارة؟! إنك في النيل منه والكيد له جد متهم ... وإن كنت لا أعرف أسباب نقمتك منه وحقدك عليه؟!
وهنا صاح ابن مهدي، وقد رأى الشر يتصاعد شرره: مه أيها الأخوان ... فإننا اجتمعنا للمحادثة والمحاضرة، لا للتنابذ والمهاترة ... أعلمتم أن عمارة بن زيدان، قدم منذ أيام وافدا على محمد بن سبأ صاحب عدن؟ أتعرفون سبب هذه الوفادة؟ فأسرع الحراني قائلا: إنه قناص سديد الرماية، فلعله اشتم هنا رائحة صيد جديد، ثم قال النيلي: إن عمارة اليوم يا سيدي غيره بالأمس، فقد كنا نعرفه بالمدرسة العصامية بزبيد فقيرا مملقا، يعيش عيشة طلاب العلم في عسر وشقاء، ولكنه بعد أن اتصل بأمير زبيد ومدحه أغدق عليه، فأصبح صاحب الحول والطول، وصار موضع الشفاعات، وقاضي الحاجات، ثم إنه تاجر فراجت تجارته، وسارت سفنه بين زبيد وعدن وجدة، لا تكاد تنقطع في ليل أو نهار، حتى لقد قال له يوما أبو عبد الله الحفائلي - وهو رأس العلم والأدب بزبيد: ته علينا أبا محمد، فقد أصبحت ولا مثل لك في الجاه والعلم والثراء! وليته بعد أن أسبغ الله عليه هذه النعمة الطارئة شكر الله عليها بقليل من التواضع، أو أدى زكاتها بشيء من اللطف والمجاملة! ولكنه صلف متكبر مغرور - وإن كره الحضرمي،. فأسرع الحضرمي وقال: كفى كفى أبا الحسن؛ لقد أكلتم لحم أخيكم ميتا، ومزقتم من الرجل وهو غائب ما تخرس دونه ألسنتكم وهو حاضر، إن عمارة لم يكن دعيا في جاهه، ولم يكن محدثا في نعمته، إن عمه علي بن زيدان أكرم من نثر مالا، وأشجع من جرد سيفا، وخاله محمد بن المثيب أشرف قومه، وسيد قبيلته، ولولا الجدب المحرق الذي أصاب «مرطان» سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فأهلك الحرث والنسل - ما احتاج عمارة إلى السعي في الرزق، والتنقل في طلب المال، وما سمعنا مثل أبي الحسن النيلي يلمزه اليوم بأن نعمته طارئة، وثروته محدثة. فقال ابن مهدي: إن عمارة رجل يجمع كل صفات الرجولة، وقد حادثته بالأمس في دار ابن سبأ، فرأيت فيه علما وأدبا ودهاء، والذي قرأته في وجهه، واستنبطته من خلال حديثه: أنه رجل عظيم الآمال، كبير النفس، طموح بعيد المدى، وهو يذكرني بالمتنبي شاعر كافور، وأرجو ألا تكون له مثل خاتمته.
ثم مدت مائدة الطعام، وقام الغلمان بالخدمة، وقدمت الألوان الشهية، وأنواع التوابل الهندية، فأكل القوم وشربوا، وهم يتنادرون ويتسامرون، ثم استراح الضيوف بعد الأكل قليلا، حتى إذا قاربت الشمس المغيب، ودعوا رب المثوى وانصرفوا.
الفصل الثاني
خرج الحراني والنيلي والحقد يأكل قلبيهما، لما سمعاه من إطراء ابن مهدي صفات عمارة، وهما يعلمان ما لابن مهدي من عظيم التأثير والكلمة المسموعة عند محمد بن سبأ، وأنه إذا ظفر عمارة بمودتهما، بعد أن فاز عند أمير زبيد بعظم المكانة لم يأمنا شره.
وأسفا على أن طعناه، ونالا منه أمام صديقه الحضرمي، الذي سينقل إليه صورة ما دار بالمجلس كاملة وافية، إن لم يزد عليها كثيرا من ألوان التحسين والتزويق.
بدأ الحراني الحديث قائلا: ما العمل أبا الحسن؟! فقد زلق لساني، وتجاوزت حد الحزم في ثلب عمارة، وتمزيق عرضه؟!
إن عمارة اللئيم الداهية استطاع أن يحافظ على مذهبه السني، وأن يجتذب هؤلاء الفاطميين من ناحية، ورؤساء زبيد من ناحية أخرى. حقا إن أمر هذا الرجل لعجيب! إن له في التأثير في الكبراء ما يشبه السحر، حتى كأنه بقوة روحه أنسى دعاة الفاطمية التشدد في إلزامه مذهبهم، وكأنهم يرونه خلقا عظيما فوق المذاهب والعقائد؟
إنه يمدح الفاطميين، ويمدح السنيين بشعره، ولو رأى مجوسيا لمدحه، وإذا خاطبه الناس في هذا ولاموه قال: إن تجارة السلع علمته التجارة في الشعر، وإنه ينسج من قصائده أثوابا مختلفة الأثمان، متنوعة الطول والقصر، يبيعها لكل من تقدم لشرائها، وإنه لم ير في حياته بزازا امتنع عن أن يبيع لوثني أو رافضي، ويظهر أنه بهذا الطريقة نجا بمذهبه السني. - هو في الحق شديد الحرص عليه، وهو في الحق يمتاز علينا في هذا، فإننا أظهرنا التمسك بالمذهب الفاطمي عند أول تهديد من داعي الدعاة. - هون عليك أبا الحسن، فإن قليلا من الرياء في هذه الدنيا ليس بالأمر الجلل، وهو سلاح خلقه الله فينا نتقي به الخطر، كما خلق الدرقة في السلحفاة، والقدرة على التلون في الحرباء، ولو أن سائلا سألني عن منفعة اللغة لأجبته بأن أعظم فوائدها: أنها لا تعبر عما في الضمير!! وهؤلاء السادة الذين تراهم، وهؤلاء العلماء، وهؤلاء الأثرياء لن يستطيعوا العيش بلا رياء.
إن الأطفال في هذا الزمان يراءون! ولست أدري أكان أكثم ين صيفي يدعو إلى الصدق، أم كان يدعو إلى الكذب حين قال: إن قول الحق لم يدع لي صديقا. - صدقت!! لو أن كل إنسان قال ما يجول بنفسه بشأن من يعرف من الناس، ومن لا يعرف - لفتك به الناس ... تخيل أبا كاظم أنني وثبت اليوم علي ابن مهدي مضيفنا، وأخذت بتلابيبه وصحت: إنك ثقيل ورب الكعبة!! إن كبرك لا يحتمل!! إن تعاقلك وزهوك، وتكلمك من أطراف أنفك فوق طاقتي!! اغرب عن وجهي إنك سمج دنيء!!
تخيل أني فعلت هذا، ثم تخيل ماذا يكون.
وهذا الشيخ الذي تراه الآن راكبا بغلته، وخلفه عشرة عبيد يلهثون من التعب، وهو ينظر في الناس يمينا وشمالا في بلاهة وعجب كأنه يريد أن يصيح فيهم: «انظروني أيها العميان، وانظروا ما أنا فيه من جاه وثروة» - ألا تحب أن تعدو خلفه، وتبصق في وجهه، وتعرفه أنه مأفون متبجح نذل؟! - إن أمثال هذا كثير، فدعنا الآن نفكر فيما ينجينا من عمارة وويلاته. - علمنا اليوم من ابن مهدي الأبله: أن عمارة اجتمع به في دار ابن سبأ، وفهمنا من حديث ابن مهدي الغر: أنه جاء إليهما ليتحدثا معه في أمر جسيم، ألم يقل ابن مهدي: «إن عمارة رجل عظيم الآمال، كبير النفس، طموح بعيد المدى»؟؟ - هذا صحيح، فماذا ترى كان موضوع الحديث؟؟ - إنه فيما يغلب على ظني لم يكن حديثا للمسامرة والتسلية، بل كان مفاوضة ذات شأن. - في أي شأن كانت المفاوضة يا أبا الحسن؟ - لا أدري، ولكن ألا تعرف «مفلحا» خادم ابن سبأ الخاص به، والأثير عنده؟ - أعرفه ... وهو صديق لي حميم ... وهو سني في الباطن، وكثيرا ما كان يرد إلى زبيد ليسألني في فقه الشافعي، و«مفلح» هذا إذا عرف شيئا من المفاوضة، ومما دار بين هؤلاء الثلاثة من الحديث - فلن يتوانى عن إخباري به. - هلم بنا إليه بحقك.
فيأخذ الحراني بيد صاحبه، ويخرجان من درب قذر إلى زقاق كريه الرائحة حتى يصلا إلى غربي المدينة؛ فيظهر لهما بناء شامخ كأنه الحصن، وحوله الحدائق المزهرة، والرياض الباسمة، فيشير الحراني إليه ويقول: هذا هو القصر المسمى بالمنظر، وهو قصر ابن سبأ صاحب عدن، والقائم بدعوة الفاطميين فيها، وخير لنا أن نذهب إلى الباب الخلفي؛ خوفا من أن نلتقي بالأمير.
دخل الشيخان من الباب الخلفي، فقابلهما غلام لمفلح لا يتجاوز الخامسة عشرة، وسيم الوجه، صبيح الطلعة، امتزج فيه الدم العربي بالهندي، فأخرج هذا الامتزاج للناس صورة من الإنسانية بديعة رائعة، فسأل الحراني عن صديقه «مفلح»؛ فأجلسهما الغلام في حجرة، وذهب لدعاء سيده، وأقبل «مفلح» وكان رجلا في الأربعين، وقور السمت، جميل الوجه، يلبس من الحرير والديباج ما لا يجد طريقه إلا حول أعطاف الملوك؛ فحيا الحراني وصاحبه في تجلة وإكرام، وانتقل الحديث إلى جو عدن، وشدة حرارته، وما سيصيب الناس في هذه السنة من الجدب؛ لامتناع المطر، وقسوة الجفاف.
وبعد قليل قال له الحراني: أيتفضل سيدي بأن أستفسر منه في خلوة عن أمر أراه خطيرا؟! - نعم نعم، وكرامة.
ثم يأخذ مفلح بيده إلى حجرة أخرى ، ويغلق بابها ويقول: ماذا تريد أبا كاظم؟؟ إني لا أنسى لك فضلك في شرح كثير مما التبس علي فهمه من مذهب الشافعي، ولم أجد من فقهاء زبيد من هو أكتم للسر، وأرعى للأمانة منك، فلو عرف ابن سبأ حقيقة مذهبي، ما أبقى رأسي بين كتفي. - يا سيدي، لقد وضعت سرك عند شقيق روحك، نجي نفسك، وكأنك والله ما نقلته إلا من ناحية صدرك اليسرى إلى ناحيته اليمنى ... إننا لا نزال يا سيدي نأمل لك عزا كبيرا، ولا نزال نرجو أن تتقوى السنية وتظهر، لنراك زعيمها المرجى، والملك الحاكم المسيطر في هذه البلاد. - تلك آمال أبا كاظم. - آمال وستحقق إن شاء الله ... أجاء عمارة بن زيدان لمقابلة ابن سبأ هنا بالأمس؟؟ - نعم، وقد كان معه علي بن مهدي، فقضوا وقتا طويلا في حديث طويل. - أتعتقد أنهم كانوا في مفاوضة بشأن أحوال الحكم في اليمن؟؟
فابتسم «مفلح»، وهز بلطف كتف الحراني وقال: إن عمارة شاب طماح، يريد أن يكون زبيبا قبل أن يكون حصرما. - أسمعت بعض ما قالوا يا سيدي؟
فأطرق «مفلح» مليا، ثم رفع رأسه وقال مترددا: الذي فهمته من كلمة تتناثر هنا، وأخرى تسقط هناك، وثالثة يرتفع بها الصوت قليلا: أنهم كانوا يتحدثون في شأن زبيد. - ماذا سمعت بالله يا مولاي؟ فإن حياتنا وآمالنا معلقة بما ينقض هؤلاء ويبرمون. - سمعت ما يفهم منه: أن فاتكا ملك زبيد عدو للفاطمية، وأنه يجتهد في إماتة دعوتهم، وأن ابن سبأ قد يجهز عسكرا بقيادة علي بن مهدي؛ لمحاربته والاستيلاء على المدينة، على أن يسبقه عمارة إليها للتمهيد لهذا الغزو، واجتذاب القبائل إلى ابن مهدي، وأن يقلد ابن مهدي حكم زبيد بعد زوال فاتك، وأن يكون عمارة شريكه ونائبه في الحكم، ثم رأيتهم يتعاهدون على الكتمان، حتى تأخذ أهل زبيد الصيحة وهم نائمون. - يا للداهية!! ضعنا بين جنون ابن مهدي، ودهاء عمارة! - كل شيء بقضاء وقدر يا شيخ، ولعلهم كانوا يتحدثون، واللوح المحفوظ يسخر ويقهقه!! - نحن لم نر اللوح المحفوظ يا سيدي، ولكننا نرى بين الرماد وميض نار، سيكون له تأجج وضرام، وليس لنا في رفع هذا المكروه عنا إلا الله وأنت.
ثم استأذن الشيخان في الانصراف وخرجا، فقال النيلي: أراك عابسا جازعا أبا كاظم، فماذا قال لك؟؟ - ماذا قال لي؟؟ إني لم أسمع كلاما، إنما سمعت رعدا وعزيفا وصواعق ... إنها مصيبة جارفة ... هلم إلى فندقنا، فإننا لا نستطيع الكلام في الطريق.
وصلا إلى الفندق واجمين، ودخلا حجرتهما، وأغلقا بابها، وحدث الحراني النيلي بما سمعه من مفلح، فاكفهر وجهه وقال: ضعنا وضاعت زبيد. - الرأي عندي: أن أذهب الليلة مستخفيا إلى زبيد، حتى إذا نزلتها أخذت سمتى قدما إلى قصر فاتك، وطلبت مقابلته وحده، حتى إذا نفضت إليه جملة الخبر عدت من ليلتي غير متوان، ولا معوق ... سأرحل الآن.
ثم قام وذهب إلى سوق البزازين، فاشترى إزارا ورداء، حتى إذا لبسهما لم يكن يميز من أعراب البادية، وودع النيلي، وذهب إلى محط القوافل ليستأجر جملا إلى زبيد.
الفصل الثالث
امتطى الحراني جملا شديد الأسر، موثق الخلق، مارس الصحراء ومارسته، وتحدته بوعورتها، وبعد شقتها، فتحداها بصبره وشدة جلده، حتى لقد أصبح الضرب في الفيافي جزءا من حياته، لا يكاد يجد له ألما، أو يشكو منه عنتا! سار الحراني وقد لفه الظلام برداء حالك السواد، طرز بثواقب النجوم، سار في صحراء لا يسمع بها إلا عواء ذئب برح به السغب، وشفه الظمأ، ولا يرى فيها إلا تهاويل من الخيال، دميمة الوجوه، فاغرة الأفواه، تتراقص أمامها كأنها تستهويه إلى موت محقق، وكان الحراني متجهم الوجه، منقبض الصدر، مضطرب الفكر، يخشى أن يكون بغض أسرة زيدان قد جاوز به حد الحزم، ودفع به إلى ما لا يجمل بالحذر الحريص، وكلما صور الحوادث التي زلقت بها رجله، وزجه فيها حقده، رأى أنها لم تكن من الإحكام ودقة التدبير بحيث يرضى عنها دهاؤه، أو يستسيغها ذوقه الفني في نصب الأشراك، وابتداع الجرائم، وقد كان في متناول ذكائه من ضروب الحيلة وأساليب المكر ما كان أدق صنعا، وأبعد عن العقول إدراكا، وأخفى على الباحث المنقب، ماذا فعل؟ وماذا قدر؟ وماذا دبر؟ مكيدة مكشوفة مهتوكة الستر، كأنها عبث أطفال، لقد نال من عمارة، وانتقصه أمام الحضرمي، وهو له أصدق صديق، وأوفى خليل، فإذا أصاب آل زيدان من فاتك أذى أو ضرر كان من الهين السهل أن تتجه العيون إلى الحراني، وأن تشير إليه بالأكف الأصابع، ثم ماذا فعل بعد هذا؟! ذهب مع النيلي إلى «مفلح»، ومن هذا المفلح؟! بائس تركه مبضع الجرائحي وسطا حائرا بين الرجال والنساء، فلا شهامة الرجل نال، ولا بدهاء المرأة ظفر، ثم إن الذي يفرط في سر سيده - وهو سر دولة - أجدر بأن يهب ما في صدره مسئولا أو غير مسئول، وأن يبعثر ما في نفسه في الأسواق على أن هذا الغر الأحمق مفتون بشيء اسمه السنية عدو خفي للفاطمية.
وبنو زيدان أقوى قبائل اليمن، وأشدها تمسكا بالمذهب السني، فليس في مجال الوهم ببعيد أن يبعث إليهم هذا الجاهل رسولا، يخبرهم بما كان من زيارتي، وزيارة النيلي لداره، ثم إن ما بيني وبين علي بن زيدان من الثأر القديم كفيل بأن يحمله على الاعتقاد بأن لي في هذه المكيدة يدا، وأني كنت أول ساع بعمارة عند فاتك، وأول مؤلب عليه، حقا إنها دسيسة لم تحكم أطرافها، ولم تستر فخاخها، ولكن ماذا أعمل الآن، وقد انطلق السهم الطائش!؟
ألا سحقا لعلي بن زيدان، لقد كان ما أوقعه بأبي منذ سنين من شديد العقاب والخزي الدائم سببا لهذا الحقد الذي يملأ صدري على أسرة زيدان، وكل من يتصل بها. وماذا كان فعل أبي في شبابه؟ أحب فتاة من حيهم وأحبته، فأبوا أن يزوجوه إياها كبرا وصلفا؛ لأنهم يرون الناس جميعا دونهم، ولأنهم لا يصاهرون إلا من كان من قبيلتهم، كأنهم يخشون على هذه السلالة الطاهرة أن تدنس بغير نسبهم، وكان يجدر بأبي - سامحه الله - أن يقابل كبرهم بمثله، وأن يخضع تلك النزوة الطائشة التي يسمونها الحب لسلطان الكرامة والاعتزاز بقومه وقبيلته، ولكنه لم يفعل، واختطف الفتاة من خبائها في ليلة سوداء ، فأحس به القوم فأدركوهما، وقتلوا الفتاة، وهموا بقتل أبي، ولكن شريرا لئيما منهم أشار بأن يستبقوه لحياة هي شر من الموت، أشار بأن يبقى حيا، وأن يوصم وصمة اللصوص؛ فاستطابوا الرأي، وأوقدوا النار، ووسموه فوق جبهته، وفوق خديه بعلامات يوسم بها السراق وقطاع الطريق، ثم تركوه بالصحراء يئن من الألم، ويئن من الخزي والعار. ووالله ما جلست بعد هذا اليوم مجلسا، ولا سرت في طريق إلا وكأني أرى جميع الأصابع تشير إلي: هذا ابن السارق الموصوم! لا ... لا ... لا بد من الانتقام من آل زيدان، كيفما كانت قوتهم، وكيفما كان عديدهم، وسأتخذ من ضعفي قوة للكيد لهم والوثوب عليهم؛ إن البعوضة لا تنال باليد، ولكنها تطن وتلسع، فإذا حاول من لسعته قتلها لطم خديه، وهذا عمارة صيد سهل، سريع الوقوع في الشرك، فإن ما جبل عليه من الصراحة والطموح والتهور في طلب ما يريد كفيل بأن يوقعه في أهون الدسائس حبكا.
كان الحراني يناجي نفسه وهو حزين مطرق، تتناهبه الأفكار، ويؤلمه طائف الذكريات، ويقبضه الخوف من الإقدام فيبسطه الحقد وشهوة الانتقام، وهو بين هذا وذلك يتسمع أحيانا لصوت ضئيل خافت يهتف به ضميره، أو ما بقي له من ضمير، فيقول: ما هذا الذي أنت فيه أبا كاظم؟! وما هذه العربدة التي ستعود عليك نكالا ووبالا؟! أنت تقف أمام أسرة زيدان! وأنت تكيد لها! وأنت تنصب لها الحبائل! لقد جاوزت طورك، وقذفت بنفسك بين براثن الأسود! وألقيت بيدك إلى التهلكة! إن عبدا من عبيد آل زيدان وحده عسي بأن يقضي عليك وعلى أولادك وأهلك، من غير أن يترك لفعلته أثرا، إن أباك مات منذ حين، ودفن معه عاره، ونسي الناس تلك العلامات البشعة الدميمة التي كانت تشوه وجهه، وطوي ذلك السجل المشئوم، سجل الذل والخزي والشنار. مالك تنبش الماضي؟ وكلما نبشته ملأت جيفته الجو خبثا. أنت تعادي آل زيدان!
هذا إذا عادت النمال الجبال، وصاولت الكلاب السحاب!
عد إلى صوابك أبا كاظم، ثم عد من حيث أتيت، واغسل تلك السخائم التي سودت صدرك بماء من التسامح والغفران، واقتل تلك الحيات التي أكلت قلبك، وأقضت مضجعك بسلاح من الصفح الجميل، فإن الحاقد ينال من نفسه فوق ما ينال من عدوه، وهو أشبه بالنحلة تلسع وتموت، والسهم يقتل ويتحطم، لم لا تعود إلى علمك ودروسك أبا كاظم، وإلى الضحك من ذقون الناس، فتنال من عقولهم وأموالهم، وتعيش بين أهلك هانئا سعيدا؟ دع الدسائس، ودع النمائم، فإن من يكثر من إيقاد النار يوشك أن يحرق كفيه. إن حديث أبيك مضى وانقضى ذكره، ولا يعرف الجيل الجديد عن الحراني إلا أنه شيخ المتأدبين، وزين المحافل. إن في الحياة أمورا كثيرة علاجها النسيان، والجرح إذا أكثرت من حكه التهب ونغل، الو زمام بعيرك أبا كاظم، وعد إلى زبيد، وتجنب فيها مواطن الشبهات حتى تهدأ الفتنة، وتسكن هذه الثائرة، ما لك وللنيلي! ومالك ولابن مهدي! ومالك ولفاتك! ... كل هؤلاء لا يستطيعون أن يدفعوا عنك شر بني زيدان. أنت تدعي الحزم، وهذا هو موطن الحزم. أتسمع؟ ... ولكن الحراني كان في ثورة من الغل غظت على عقله، فصاح: لا أسمع، ولن أسمع، ولن أترك عمارة، ولن أترك آل زيدان، سأنتقم لأبي، وسأذهب إلى فاتك، وسأكشف إليه سر المؤامرة، ولن يصدني عما اعتزمت عليه صاد مما يسميه الناس عقلا أو حزما.
ثم رفع الحراني رأسه كما يرفع الغائص رأسه من الماء بعد طول المكث فيه، وكأنه كان في عراك عنيف بينه وبين نفسه، خرج منه ظافرا منصورا، فبدد الظنون، وقضى على الشكوك، ثم رمى بعينيه أمامه؛ فرأى في ضوء النجوم شبحا يظهر ويختفي، مرة تبتلعه الوهاد، وأخرى تلفظه الآكام، فحدد النظر، واستحث بعيره، فإذا راكب يجد السير! فخاف الحراني أن يكون الرجل من عبيد عمارة، سبقه ليفتك به في الصحراء قبل أن يلقي بنميمته، وظن الرجل حينما رأى الحراني وراءه أنه من رجال ابن مهدي أسرع خلفه من عدن ليقضي عليه قبل أن يبلغ رسالته إلى فاتك. وبعد قليل التقيا على رأس أكمة، وكلاهما خائف ومخوف، فبدأ الحراني في خوف وتلعثم: السلام عليكم، لقد كنت أظن أن الصحراء لم تحمل في هذه الليلة إلا جنينا، فإذا هي تحمل توأمين. - إن الصحراء كالليالي تلد كل عجيبة.
رأى الحراني في صوت صاحبه رجفة، وفي لمحاته ما يشعر بالذعر، فقوى قلبه قليلا، واطمأنت نفسه، وقال: ولكنها أحيانا كالهرة تقتل بنيها. - إنها لا تقتل من أبنائها إلا الجبناء الرعاديد، وإن من كان قلبه أمضى من سيفه، وسيفه أثبت من قلبه، لن يموت إلا ميتة الأبطال.
وكأن الرجل لمح في الحراني ما يدل على الضعف، فتابع الحديث بقوله: ولقد يكون من أسباب التسلية والقضاء على السآمة في الصحراء أن يصادق المرء فيها وحشا يداعبه بسيفه، أو لصا فاتكا يلقنه برمحه درسا في الأمانة وصون الحقوق. - ليس بالصحراء لصوص، ولو كان بها الليلة لص لتاب إلى الله على يد رحلي، بعد أن يراه أفرغ من فؤاد الجبان. - إن الساري في مثل هذه الليلة يحمل ما يحرص عليه في صدره لا في رحله، ولعل في صدرك من الأسرار ما هو أغلى من الذهب النضار. - من أين لنا أن نصل إلى الأسرار يا ابن أخي، وإن من ضاق صدره بهموم الحياة أجدر بألا يزيده ضيقا بحفظ الأسرار. من أين الرجل؟ وإلى أين؟ - من عدن إلى الحديدة، اتجر في الإبل بين البلدين. وإلى أين أنت؟ - إلى صنعاء. اتجر في الثياب بين البلدين. - أخشى يا صاحبي أن تكون من ثياب الرياء التي تشف عما تحتها، ولكن ما لنا ولهذا! عم مساء. ثم ألهب بعيره بالسوط، فعدا به ينهب الأرض نهبا.
تنفس الحراني وأطال التنفس، وكادت تعود إليه وساوسه، لولا أن زجرها بالترنم بشعر البطولة، والاعتماد على النفس، والتشفي بأخذ الثأر، وما زال يطوي الصحراء وتطويه أياما، حتى بلغ زبيد في مساء ليلة، فسار قدما إلى قصر فاتك، فالتف عليه الحراس، وسألوه عن شأنه؟ فقال: إنه قادم من مكة برسالة من أميرها: قاسم بن هاشم إلى الأمير فاتك، وبعد قليل استؤذن له، فتقدم من الأمير، وقبل يده، ثم أخذته الرعدة، وهاله ما هو مقدم عليه من أمر خطير، فأخذ يتمتم بكلمات متقطعة يفهم منها الإخلاص للأمير، والنصح له، والاستهانة بالموت في خدمته؛ فهدأ الأمير من نفسه حتى أفرخ روعه وثبت جأشه، ثم قال فاتك: كيف حال أمير مكة؟ فعاد الذعر إلى الحراني، وطفق يفرك أصابعه في اضطراب عصبي عنيف، ثم قال: لم أجئ من مكة يا سيدي، وإنما جئت من عدن. - لم تجئ من مكة؟! هذه أول أكذوبة للمخلص لنا، المستهين بالموت في خدمتنا. - إنما دعاني إلى الكذب يا سيدي خوف أعدائي، فقد يكون بقصرك عيون لهم. - إن قصري أطهر مما تظن، وخدمي أعف وأشرف مما تصفهم به. أخشى يا رجل أن تكون من هؤلاء الدساسين، الذين يلبسون مسوح الزهاد، ويتقدمون بالنصح إلى الأمراء ليجعلوا منهم آلة للبطش بأعدائهم. إن بابي هذا يطرقه كل يوم كثير من أمثال هؤلاء، حتى لقد التبس علي الحق بالباطل، وكدت أغفل عن شئون الناس بالنظر في شئون هؤلاء الخادعين، والتحقق من أكاذيبهم، فإن كنت فقيرا أعطيناك، وإن كنت مستجيرا بنا أجرناك، وإن كانت لك ظلامة كشفناها، قل الحق يا رجل صريحا، ولا تنل من أحد في حضرتي. - إنني لم أجئ يا سيدي لأطلب مالا، ولا لأبتغي على نصيحتي للأمير أجرا، ولكني علمت بمؤامرة دنيئة تدبر لإسقاط الأمير عن عرشه وعرش آبائه، فأسرعت إليه من عدن أطوي الليل بالنهار، وللأمير بعد ذلك ما يشاء، إما أن يصدق ما أقوله، فيتخذ الأهبة، ويعد العدة؛ ليدفع الشر بالشر، وإما ألا يصدقه فيعرف بعد طول الندم أنني كنت صادقا مخلصا. - وما تلك المؤامرة؟! - المؤامرة: أن يفجأك علي بن مهدي، ومعه عمارة بن زيدان بجيش جرار، فيستوليا على زبيد، ويقتلا أميرها، ويبيدا أهله ونصراءه، ثم يجلس ابن مهدي على عرش المدينة، ويجعل عمارة وزيره ومشيره. هذه هي المؤامرة فصدقها أو كذبها، اللهم إني قد بلغت ونصحت!! - صدقتها، وقد جاءني قبلك رسول من قبل «مفلح» خادم ابن سبأ يبلغني أمر هذه المؤامرة على النحو الذي شرحته. - إذا هو ذلك الرجل الذي صادفته في طريقي. مفلح أرسله؟ هذا المفلح غربال أسرار! - إنه رجل يكتم إيمانه بالمذهب السني، ويحارب الفاطمية في الخفاء بكل ما يستطيع. آه! عمارة في المؤامرة ...؟! ويل له مني، وويل لقومه بني زيدان، ثم دعا خادمه، وأمره بإحضار صرة بها مائتا دينار، فأعطاها الحراني، وشكر له حسن بلائه.
خرج الحراني يتعثر خائفا من عواقب الشر الذي زج بنفسه فيه، وهو يرجو ألا يراه من يعرفه، ولكنه وهو في أحد دهاليز القصر، رأى إسماعيل بن محمد جليس فاتك مقبلا - وكان من أصدقاء عمارة وخلصائه - فعرفه إسماعيل، ودهش لما رأى من تغير زيه، فقال: خير ما جاء بك إلى القصر أبا كاظم؟ ولم هذا الزي الغريب؟! فبهت الحراني، وتلعثم وجف ريقه، وقال: جئت في نصيحة للأمير، وأرجو أن يبقى الأمر بيننا سرا. - إذا جئت في نصيحة فأدعو الله أن تكون خالصة لوجهه! أما السر في زبيد فكالسر في صدر المرأة، تفشيه لكل من تقابله بعد أن توصيه بكتمانه! عم مساء أبا كاظم، فإني لا أرى في زيك وأسارير وجهك ما يبشر بخير.
انصرف الحراني وهو يلعن إسماعيل بن محمد، ويلعن المصادفة التي أوقعته في طريقه، ويلعن نفسه على ما اندفع إليه من أمر لا يستطيع الخروج منه سالما.
ودخل إسماعيل على فاتك، فرآه يهدر كالبعير الصائل، وقد استأثر به الغضب، فحينما رآه صاح بصوت خشن أجش: أرأيت كيف انتهت بنا الدسائس والمؤامرات؟! أرأيت كيف يعمل هؤلاء الفاطميون أعمالهم في ظلام من الخبث والرياء، ثم يفجأون بها الوادعين الآمنين؟! أعلمت أن ابن مهدي ذلك الرافضي السفاح، سيدهم زبيد على حين غرة منا ليذل رقاب أهلها، ويثل عرشنا وعرش آبائنا؟ أعلمت أن عمارة بن زيدان ذلك اللئيم النذل، الذي أغدقنا عليه، وآويناه حتى أصبح من المقربين في القصر، ومن كبار رجال المال والجاه، هو الذي يمالئه ويغريه، ويرشده إلى مواطن الضعف ليكون وزيره في زبيد!! ويل للخائن المخاتل، دخل القصر فقيرا مملقا، لا يتشفع إلا بأبيات واهنة من الشعر، فما زال يخدعنا بمدائحه، ويستهوينا بعذب كلامه وسحر حديثه، حتى رفعناه بعد ذلة، ويل لعمارة ... ويل لعمارة ... - هدئ من غضبك يا سيدي، فقد يكون ما وصل إليك نميمة أفاك أثيم، وعمارة رجل ... - لا يا إسماعيل، إن الخبر وصل إلي من مصدرين، إن شككت في أحدهما فلن أشك في الآخر، جاءني به رسول من «مفلح»، ثم نقله إلي الآن أعرابي لا أعرفه، وكانت الرسالة واحدة لا تكاد تختلف. - إن الأعرابي الذي يذكره مولاي عالم من زبيد غير زيه، ولعل له مأربا في الكيد لعمارة. - له مأرب أو ليس له مأرب، إن رسالة «مفلح» تكفيني، ثم نادى خادمه، وأمره أن يدعو إليه الوالي، وقائد جيشه، فلما حضرا أمر القائد بجمع الجيش، واستكمال العدة، والأخذ في تحصين مواضع المخافة من المدينة، ثم أمر الوالي بمصادرة جميع أموال عمارة، وما له من ناطق وصامت، والقبض عليه وقتله أينما كان، وحيثما وجد.
مر إسماعيل بن محمد في صباح هذه الليلة بسوق البزازين، فرأى علي بن زيدان يمشي ووراءه عبيده وخدمه، فدهش لرؤيته، وتقدم للسلام عليه، ثم اجتذبه إلى ناحية، وقال: لقد نقل بعض الجواسيس إلى الأمير فاتك أمس نبأ مؤامرة تدبر لاغتصاب ملكه وقتله، وأن لابن أخيك عمارة يدا طويلة في هذه المؤامرة، فأمر بمصادرة أمواله، وأهدر دمه، وقد حاولت أن أسكت غضب الأمير، فلم أستطع. - إنها دسيسة على ابن أخي، إن عمارة أشرف وأنبل من أن يدنس بهذه الأقذار. نحن نقتل في الضياء، ولا نقتل في الظلام، ومن هذا الجاسوس الذي نقل هذه الفرية؟ - رجل من زبيد يسمى أبا كاظم الحراني. - الحراني! الحراني! لعله ابن ذلك الحراني لص الأعراض الذي وسمنا وجهه بميسم العار منذ أكثر من عشرين عاما؟! - أظنه قضى كل هذه المدة في انتظار الفرصة، حتى إذا لاحت اقتنصها ليشفي صدره بهلاك ابن أخيك، أيعرف عمارة هذه الحادثة؟ - لا، لقد أمرت عبيدي الذين اشتركوا فيها يومئذ، أن يبقوا الأمر سرا دفينا، فإن مثل هذه الفضائح يجب ألا تذاع، هل لهذا الحراني ولد؟ - له ولد في الخامسة والعشرين من عمره، يتجر في الغنم، ولم تسأل عن هذا؟ - لا لسبب، غير أني كنت أظن أن من ذاق حلاوة الأبوة يتردد في إيذاء الناس في أبنائهم. - وعلام عولت؟ - عولت على السفر إلى مرطان في الغد، ويفعل الله ما يريد.
ولما انصرف إسماعيل، عاد ابن زيدان مع عبيده إلى الفندق الذي نزل به، ثم اختلى بعبده مرداس، وكان أسود فاحم اللون، طويلا ممعنا في الطول، قوي العضل، كبير الرأس، أفطس الأنف، يخالط بياض عينيه حمرة قاتمة، فقال له سيده: يا مرداس، سنسافر غدا؛ فمر العبيد بإعداد الرواحل، أما أنت فستبقى هنا، ولن تعود إلى مرطان حتى تقتل رجلين: الشيخ الحراني، وابنه، وابحث عنهما، واستدرجهما من حيث لا يشعران إلى مكان لا يراك فيه أحد، ثم اقتلهما فإذا قتلتهما فأنت حر، أفهمت؟ اذهب.
وفي صباح الغد يسافر ابن زيدان، ويبقى مرداس بزبيد، يسأل ويبحث حتى يعثر بابن الحراني، فيدخل عليه بحيلة محكمة، يستهويه بها، حتى إذا خرجا إلى ظاهر المدينة وانفرد به في مكان موحش، قتله واختفى.
ويبقى الحراني منتظرا عودة ابنه فلا يعود، ثم يعثر بعض المارة بجثته في الصحراء، ويصل الخبر إلى أبيه، فيعصف به الحزن، ويتملكه الجزع، ويرى والدموع تتساقط من عينيه أن ما أصابه في ابنه إنما هو جواب رسالته لفاتك، وانتقام سريع من آل زيدان على إيقاعه بابنهم عمارة، وأنهم لن يسكتوا عنه، وأن ذراعهم ستمتد إليه بعد أن امتدت إلى ابنه، وأنه يجب أن يفر بنفسه وأهله بعيدا عن اليمن؛ فيجمع بقية ما لديه من مال، ويركب مع أهله سفينة من زبيد إلى جدة، ليأخذ منها سفينة أخرى إلى مدينة القلزم (السويس)، فقد رأى أن مصر خير مكان ينجيه من آل زيدان، ورأى أن يختفي بها رابضا حتى تحين له فرصة الوثوب.
الفصل الرابع
حينما غادر الحضرمي دار ابن مهدي، سار وحده في الطريق، واتجه نحو دار عمارة، فوجده لا يزال نائما، حتى إذا استيقظ حدثه بما دار في مجلس ابن مهدي من حديث، وبما قاله فيه الحراني والنيلي.
فهز عمارة كتفيه استخفافا، وقال: من الحراني هذا؟ فإني لا أعرفه، وعجيب أن يحقد علي من لا أعرف!! - إنه رجل من الفقهاء الجوالين، لا يعرف صبحه أين يستقر في مسائه، ولكنه فيما يظهر من عينيه، شديد البغض لك، والحقد عليك. فأجاب عمارة: عجبي من صعلوك ينافس الملوك! - هذا كلام تشم منه رائحة الإمارة!!
فابتسم عمارة ابتسامة ألم واستنكار، وقال: لا يا أسامة ... إنه كلام رجل يحب العدل، ويكره الظلم والظالمين ... رجل نصب نفسه لنصرة الحق، فوهب له دمه وأهله وماله، لا يهاب في سبيله - إذا جد الجد - أشفار السيوف ولا أسنة الرماح ... رجل إذا وفى لقوم نافح عنهم، وكافح دونهم، حتى يحبس الموت لسانه، ويعطل ساعده. - وقد يحتال أحيانا، ويلبس لكل حالة لبوسها. - وقد يحتال أحيانا يا أسامة!! وقد يمدح أحيانا من يصغر عن الهجاء، رجاء الوصول إلى الغاية التي رسمها لنفسه، وقد يصانع أحيانا أناسا أقل ما يستحقون ضرب السياط ... متى ترحل إلى زبيد؟ - بعد عشرين يوما، حتى أبيع جميع البن الذي جئت هنا لبيعه. - ربما رحلت بعد عشرة أيام، فإن الحر هنا لا يطاق.
وبعد عشرة أيام أو نحوها، قامت القافلة إلى زبيد، وكان بين المسافرين عمارة بن زيدان، وبعد ليال بلغت القافلة أسوار المدينة، وكان وصولها عند الغروب فاتجه عمارة نحو بيته، وبينما هو في طريقه مر به القائد إسماعيل بن محمد جليس الملك فاتك، وكان راكبا فرسا، فلما رآه أخذ يقرأ: «يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين».
فأسرع عمارة إليه، وأخذ بعنان فرسه، وقال: بحق مودتي عليك، إلا ما أفصحت يا ابن محمد!! فقال: أحاط فاتك بجميع أموالك وتجاراتك، وجعل لمن يأتيه برأسك ألف دينار. - ولم فعل هذا يا ابن محمد؟! - هبط عليه نمام أثيم من عدن، فنقل إليه أنك تتآمر أنت وابن مهدي وابن سبأ على قتله، واستلاب ملكه ... ارحل أبا محمد ... وأسرع، واتخذ الليل مركبا.
فدق عمارة بكف على كف، وقال: لقد أصابتني عين الحفائلي - عليه لعنة الله - فلطالما قال لي: أنت من كبار التجار ... أنت من أصحاب الوجاهة ... أنت في ثروة ونعيم ... فليهنه اليوم أني أصبحت الفقير إلى الله تعالى لا إليه ... عمارة بن زيدان اليمني الشريد الطريد.
قاتل الله العلم والأدب!! فإن عقارب الحقد لو أرادت أن تتخذ جحرا ما اختارت لها إلا صدور الأدباء.
ثم أسرع عمارة إلى داره، وجمع متاعه، وما بقي لديه من مال قليل، وأعد لأهله وأولاده أربعة من الإبل، وألح على الجمال أن يسرع في السير، فقال الجمال: إلى أين؟؟ قال: إلى مكة ... إلى أم القرى ... إلى البيت الحرام الذي من دخله كان آمنا.
وصل عمارة وأهله إلى مكة فقيرا بائسا، بعد أن كان في بسطة من الرزق، وظل من السعادة، يعيش عيشة الترف، ويتقلب في أكناف العز والنعيم، فاكترى دارا بالقرب من البيت المحرم، وأخذ ينفق على أهله في ضيق وشدة مما بقي له من مال، انتشله من يد الزمان، وجلس ذات يوم في المسجد، وبدأ درسا في التفسير، فأقبل الناس إلى الاستماع له، فسحرهم ببيانه وفصاحته، وقوة عارضته، ورنين صوته، فتحدث أهل مكه بالشيخ اليمني، وسار ذكره، وتنقل اسمه من لسان إلى لسان، وأقبل عليه عظماء مكة كبار تجارها، يبذلون له ودهم، ويتسابقون إلى إكرامه بالهدايا والأموال.
بقي عمارة على تلك الحال أشهرا، وفي أصيل يوم وهو في داره، أقبل عليه رسول أمير الحرمين - قاسم بن هاشم - يدعوه إلى لقاء الأمير.
فلبس خير ثيابه وتطيب، وأخذ يحدث نفسه ويقول: ليت شعري لم دعاك ابن هاشم؟؟ لقد جربت معاشرة الأمراء والملوك فلم تعد منها إلا بصفقة المغبون!! ... ولكنك يا عمارة لم تخلق لتلقي درسا في مسجد على أغرار مهازيل ... إنما خلقت لتكون زعيما، ولتترك في الدنيا دويا ... ولا بد لهذا من صحبة الأمراء والملوك، سر إليه يا عمارة، فلعل الدهر أراد أن يستغفر من زلته!! ولعله - وأنت من أبنائه - أراد أن يؤدبك تأديب الآباء لأبنائهم!! ثم عاد فأدركه عطف الأبوة وحنانها.
سار عمارة حتى بلغ دار الأمير ، فاستقبله عبيده وخدمه، وأوصلوه إلى حجرة ثمينة الأثاث، أنيقة الترتيب.
حتى إذا استقر به المجلس، أقبل الأمير بين حاشيته ورجاله، فحياه عمارة في أدب وخشوع.
وأمره ابن هاشم بالجلوس، فجلس بعيدا، فدعاه للجلوس إلى جنبه، وأقبل عليه يسأله عن حاله، وكثير من شئونه، ثم قال: إننا هنا لا نرى الدنيا إلا في موسم الحج، حتى إذا انقضى الموسم عدنا إلى عزلتنا، كأننا في صومعة راهب.
فقال عمارة: هذه يا مولاي نفحة من نفحات البيت الحرام، وبركة من بركاته، ألا ترى أن الدنيا جميعها تسعى إلى أهله وهم لا يسعون إليها؟! ... هنا يا مولاي نرى جميع أمم الأرض في أحسن حوالهم ... نرى هنا: اليمني، والمصري، والمغربي، والعراقي، والهندي، وأبناء كل قطر، ترف عليهم راية الإسلام. هنا البحيرة العظمي المقدسة التي تصب فيها أنهار الدين القيم الحنيف ... هذه يا مولاي دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حين قال:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . - حياك الله يا شيخ!! إن لحديثك لسحرا!! ولو أن علماء الإسلام كان لهم هذا البيان الرائع، وتلك القوة النادرة في التفكير، واتجهوا إلى هداية الناس وإرشاد الأمراء لكان للإسلام شأن غير شأنه اليوم ... أزرت مصر يا مولانا الشيخ؟؟ - لم أزرها يا مولاي، وقد عزمت على مجاورة بيت الله الحرام، حتى ألقى الله على عتبته. - لا ... لا ... أنت لا تزال في قوة شبابك، ومثلك - فيما أرى - من تضيق بآماله الدنيا إذا اتسع بها صدره.
حدثت في العام الماضي بموسم الحج بعض حوادث صغيرة للحجاج المصريين، بلغت إلي في حينها فلم آبه لها، ولكن يظهر أن الخلافة الفاطمية بالقاهرة، قد عدت وقوعها تعديا عليها، واستهانة بسلطانها؛ لذلك منعت في هذا العام الصدقات التي كانت تبعث بها لفقراء مكة، والمنقطعين إلى مجاورة البيت. - ماذا كان نوع هذه الحوادث يا مولاي؟ - حوادث تافهة ... أغار بعض خدمي على التجار المصريين، واستلبوا جميع أموالهم. - حقا إنها حوادث تافهة!! ... وما مقدار ما كان يرسله الخليفة إلى مكة في كل سنة من الصدقات؟؟ - كان يرسل عشرين ألف جريب من الحنطة، ومائة ألف دينار. - هذا مقدار عظيم. - نعم هو مقدار عظيم، أحس أهل مكة فقده، وقد جاءني وكيلي منذ أيام، يرجوني في عمل شيء لاسترضاء الخليفة الفاطمي، ووزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك، وقد توسمت فيك مما سمعت ورأيت أنك خير من يستعان به في مثل هذه الأمور. - إنني طوع أمرك لولا ... - لا تقل «لولا»؛ فإنني أعددت لك خمسمائة دينار، تعصف بكل ما تجره «لولا» من معاذير، ثم إنني أعددت الرواحل لك ولأهلك، وأمرت أن تصرف لك مئونة السفر بسعة وإغداق ... أرضيت أبا محمد؟؟ - رضيت يا مولاي شاكرا. - تذهب إلى سيدة القصور: عمة الخليفة الفائز، وإلى وزيره: طلائع بن رزيك، وتلقي إليهما بسحرك، وما وهب لك الله من فصاحة وبيان، وقوة حجة وبرهان، وكلما زاد ما يرسلان به إلى البيت الحرام زدناك. - وهل لسيدة القصور شأن كبير في إدارة شئون الدولة الفاطمية؟؟ - لها كل الشأن: فهي العقل المفكر، واليد الباطشة، ولها فنون من الحيل والخداع يعجر عن إدراكها أذكياء الرجال، ثم إنها تتخذ من أنوثتها ستارا لدسائسها، ومن جمالها البارع شباكا لاقتناص أعدائها، فقد سمعت من حجيج مصر: أنها في الحسن والرشاقة واجتذاب العقول آيه الله في خلقه، وأنها فتنة لكل من رآها، ولا يزال العهد قريبا بما كان من قتل نصر بن عباس لابن أخيها الخليفة الظافر، وفراره وفرار أبيه عباس الصنهاجي إلى الشام، أتدري ما فعلت سيدة القصور؟ لم تبك كما تبكي النساء، ولم تضرب كفا بكف كما تفعل العجائز، ولكنها أرسلت رسلها إلى قائد الإفرنج بعسقلان، ومعهم مائة ألف دينار على أن يقضي على عباس وابنه؛ فقتل القائد عباسا، وأرسل ابنه نصرا إلى سيدة القصور، وأظنه الآن في طريقه إلى القاهرة. - إنها حقا امرأة داهية!! - فوق ما تظن!! ... والخليفة الفائز الآن في يدها، وهو صبي لا تزيد سنه على ست سنوات، وهي لذلك تلعب برجال الدولة، هذا مرة، وذاك أخرى ... فاحترس منها أبا محمد. - وما حال الوزير طلائع بن رزيك معها؟؟ - لا أدري ... ولكنه لا يقل عنها دهاء وخبثا، وسنشهد قريبا صراعا بين ثعبانين.
وهناك رجل آخر أعيذك بالله منه ومن مكره ومحاله: هو مؤتمن الخلافة، خادم الخليفة وسيدة القصور، ورئيس الخدم والجنود السودانية. هذا رجل لو أراد إبليس أن يتخذ له خليفة في الأرض ما اختار غيره ... فاحذره أبا محمد!!
ثم قام وفتح خزانة، أخرج منها صرة بها خمسمائة دينار، فناولها عمارة، وقال: متى الظعن؟؟ - كما تأمر يا سيدي. - بعد ثلاثة أيام ... اكتب عن لساني كتابين: أحدهما للفائز، والآخر لابن رزيك، يمتزج فيهما الاستعطاف بالعتاب، ويلتبس فيهما الاستجداء بالشمم والإباء.
أنت تعرف أبا محمد كيف تكتب مثل هذا ... عم مساء.
الفصل الخامس
وصل الحراني إلى القاهرة بعد أن أجهده السفر، ونال منه بعد الشقة، إلى ما كان ينتابه من أحزان على ابنه، وأحقاد على عمارة وأهله، وهو بين هؤلاء وأولئك مطرق الرأس دامع العين، يدركه الضعف فيرجع ويحوقل، ويثور به الغضب فيهز قبضته في عنف وقوة: لا ... لا ... لن أبكي بكاء النساء، ولن أستكين استكانة الإماء، وهذه اليد التي لم تخلق لهز السيوف، ولا للعب بالرماح، أعاضني الله بها عقلا يهزم الجحافل، ويدك المعاقل. ولأمر ما يقول المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
ولأمر ما يقول:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان
إن المستعين بالقوة يحارب بسلاح مكشوف، والمستعين بالعقل يحارب بسلاح خفي مستور، وصاحب القوة قد يزل فيهزم، وصاحب الحيلة إن أخطأ استطاع أن يتدارك خطأه بحيلة أخرى، وصاحب القوة يتقيه عدوه فلا ينال منه منالا، أما صاحب الحيلة فهو صديق عدوه، وموضع أمانته ومكان ثقته.
إن الله خلق الإنسان، ومنحه القدرة على التشكل، فهو يستطيع أن يكون أسدا، ويستطيع أن يكون ثعلبا، ويستطيع أن يكون ثعبانا، ويستطيع أن يكون ذبابة تطن وتطير، فلم لا نتشكل؟ ولم لا نقابل كل حالة بحيوان مما في أنفسنا؟ إن البله هم الذين لا يستطيعون أن يستروا غضبهم بالضحك، وحزنهم بالسرور، وكراهتهم بالبشاشة والتسليم، والعاقل هو الذي يستطيع أن يقف أمام المرآة، بعد أن يقطع الحبل بين وجهه وقلبه، ثم يصور ملامحه كما يشاء ويهوى.
تجول هذه الخواطر بصدر الحراني، فينتعش ويعود إليه نشاطه، ويثوب إليه أمله في الحياة.
أنزل أهله بدار بحي الروم بالقرب من الباب المحروق، وأول شيء أوحى إليه به دهاؤه أن يغير اسمه، فسمى نفسه زين الدين بن نجا، وأن يظهر الزهد والقناعة والتبتل، وأن يدعي أنه من الطائف بالحجاز، ثم رأى أن خير وسيلة تقربه إلى قلوب العامة والخاصة أن يظهر غيرته على المذهب الفاطمي، وشدة التمسك به، وإذاعة محاسنه وفضائله، فتنقل في المساجد والجوامع يخطب في فضل المذهب، ومناقب آل النبي، وكان فصيح اللسان، قوي الحجة، حاضر البديهة، قصاصا بارعا، فكه الحديث جذابا؛ فالتف عليه الناس، وجاء بعض رجال القصر ليستمعوا له بعد أن طارت إليهم شهرته، وكان أحفل أهل القصر به وأكثرهم به ولوعا: إبراهيم بن دخان رئيس ديوان الرواتب بالدولة الفاطمية، وكان ابن دخان في نحو الأربعين، معتدل الطول، نحيف الجسم، أسمر اللون، له عينان شديد سوادهما، بيسراهما حول خفيف لم يذهب بما لها من تأثير نافذ وقوة مسيطرة. وكان أنفه كأنوف أكثر المصريين، كاد يكون أفطس، لولا أن تداركه ارتفاع وبعض استواء في قصبته، وكان بشفته السفلي بعض الغلظ دفعها إلى التدلي قليلا، وكأنه أحس هذا النقص، فهو لا يفتأ يجمع شفتيه كلما خطر له هذا الخاطر. وكان وجهه في جملته يدل على الشره والشهوانية، والختل والأثرة، وكان ابن دخان عارفا بتاريخ مصر واسع الاطلاع فيه، وكان يحب مصر، أو يحب نفسه، ويحب المذهب الفاطمي، أو يحب نفسه، فكلما استطاعت مصر أن تدر عليه الأموال، وتهيئ له عيشة البذخ والنعيم أحبها، وكلما استطاع المذهب الفاطمي أن يمنحه الجاه والنفوذ أحبه ونافح دونه. دعا ابن دخان مرة الحراني إلى داره أو زين الدين بن نجا - كما اختار أن يسمي نفسه - وبعد أن نالا من طعام العشاء جلسا في روشن يطل على خليج أمير المؤمنين، وتنقلا في ضروب من الحديث، فقال ابن دخان: كيف رأيت القاهرة يا سيدي الشيخ؟ - إنها اليوم زينة العواصم، وموئل الدين، وعش العلماء، وقبلة الشرق. - إن الفاطمية يا سيدي مظهر تلك العظمة، ومبعث ذلك الجمال، وإن مصر لم تر منذ عهد ابن العاص عهدا كعهد الفاطميين، فهو عهد رخاء وعدل، وطمأنينة وثروة، وابتهاج وسرور، أتعرف أن خراج الدولة لا يقل عن ألفي ألف ومائتي ألف دينار؟! وأن ما ينفق على القصر ورجال الدولة، وفي الهبات وإظهار عظمة الملك، يزيد على ثمانمائة ألف دينار؟! - إن مصر يا سيدي هي الجنة التي وعد المتقون، أكلها دائم وظلها، وقد يدهش المرء لما يرى بها من كثرة العلماء والطلاب، وكثرة ما يؤلف من الكتب في العلوم على شتى أنواعها. - لقد كثر العلماء الوافدون على مصر، حتى تضاعف ما تنفقه الدولة عليهم، ولو كانوا جميعا مثلك في الزهد والتقشف، والبعد عن مطامع الدنيا، ما أخذت عليهم مأخذا، ولكن أكثرهم يفد للاستجداء، وانتهاب الغنائم والرواتب!
لم أدعك الليلة للتحدث في شأن الدولة، ولكني دعوتك للائتناس بك، والتمتع بمجالستك، ولأخبرك أن المشرف على خزائن الكتب بالقصر الحسين بن زيد قد انتقل إلى جوار ربه منذ أيام، وأني قد رأيتك خير من يصلح لهذا المنصب؛ لما عرف بين الناس من علمك، وفضلك، وتعصبك للفاطمية. - إنني أزهد الناس يا سيدي في هذه المناصب، وإني أكره أن يكون رزقي محدودا معينا، فأفقد فضيلة التوكل على الله توكلا مطلقا خاليا من الشوائب، ولا أحب من رزق ربي إلا ما كان مجهولا مغيبا. - إن قاضي القضاة، وداعي الدعاة، وجميع زهاد الفاطمية لهم رواتب محدودة معينة، فاقبل هذا الراتب يا مولانا، وتصدق به إن شئت. - هذا حل معقول. - لقد أخبرت مؤتمن الخلافة بك، واقترحت أن يسند إليك هذا المنصب، فقبل مسرورا، ورأى أن يكون الراتب ثلاثين دينارا. - أرجو أن نوفق جميعا إلى الخير.
ثم نهض زين الدين وقال: سبحان الله وبحمده!! اللهم بجاه فاطمة وابنيها الشهيدين، وخلفائك الطاهرين من عترتها أن تملأ هذا المكان أمنا وإيمانا ونورا وبركة.
ثم ودعه وانصرف، وفي الصباح ذهب إلى القصر، وعرفه ابن دخان بكبار الأساتذة والقواد، وبدأ عمله الجديد.
وكانت خزائن الكتب تشغل بهوا واسعا وحجرا كثيرة، قد قسمت رفوفها أقساما: لكل علم قسم خاص به، وكانت تشتمل على أكثر من مائتي ألف كتاب في الآداب والعلوم، كتبها بالذهب كبار الخطاطين كابن مقلة، وابن البواب، وبها أكثر من ألف نسخة من تاريخ الطبري، منها نسخة بخط الطبري نفسه، وأكثر من مائة نسخة من الجمهرة لابن دريد، وأكثر من ثلاثين نسخة من كتاب العين للخليل بن أحمد، إحداهن بخط الخليل، وجملة القول وقصاراه: أنها كانت أعجوبة الدنيا، بزت جميع دور الكتب في بغداد والأندلس.
بقي الحراني في هذا المنصب الجديد وادعا هانئا، لا يكدر عليه عيشه إلا فجيعته في ابنه، وقصر يده عن أن تنال عمارة أو أحدا من أهله بانتقام.
الفصل السادس
غادر عمارة وأهله مكة، ومعه كتابا الأمير: قاسم بن هاشم، وسارت به النجائب تشق أديم الصحراء، كأنها ساريات الأحلام في الليل البهيم، وقد بدت الكثبان وسني يوقظها وخد الإبل، وأراجيز الحداة، فتصحو قليلا ثم تغفي.
هدوء وسكون، وصمت، وجلال ورهبة.
هذه هي الصحراء ... من صخورها خلقت أخلاق العرب، ومن أطيافها تلقوا وحي شعرهم، ومن مداها الفسيح المترامي استمدوا خيالهم، وفي جدبها نبت الإباء العربي، والاعتزاز بالنفس، والكرم، والحمية، والصبر على المكاره.
نظر عمارة أمامه - وهو فوق قتب بغيره - فرأى بحرا مائجا من الكثبان والرمال، ورأى فضاء لا تبلغ العين غايته، ورأى نجوم ليل الصحراء وقد زدن لألاء والتماعا وقربا، كأنها اللؤلؤ اللماح علق بخيوط القدرة بين الأرض والسماء؛ فتنهد وقال: آه أيتها الصحراء!! أين أبطالك الذين ملأوا الدنيا عمرانا وعلما، وشرائع وفنونا؟! أين أبطالك الذين كانوا ملائكة العروش، وشياطين الهيجاء!!
علميني يا صحراء تلك الدروس التي تلقاها خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح!! بوحي أيتها الصحراء لي بسرك الدفين ... فإني عليه جد أمين!!
إني يا صحراء أود أن أكون لك ابنا، فأوصيني بما تشائين ... لي آمال أوسع من مداك، ومطالب صعبة المرتقى كجبالك، فهل أنا بالغ آمالي، فائز بمطالبي؟؟ قولي يا صحراء ماذا يجب أن أفعل!! واهمسي في أذني كما همست في آذان أبنائك الأولين ...
وهكذا ظل عمارة يحدث نفسه، وظلت الإبل تطوي الفلاة، حتى بلغت جدة، فنزل الركب، وتقدم من عمارة نائب الأمير قاسم - وقد سبق إليه خبر قدومه - فأنزله خير منزل، وغمره بصنوف من الحفاوة والإكرام، ثم أعد له سفينة تنقله إلى مصر فأبحر بها في بحر «القلزم»، وكان الجو صحوا، والريح رخاء، فوصل بعد أيام إلى مدينة القلزم «السويس»، ومن ثم استأجر إبلا تحمله، وتحمل أهله ومتاعه إلى القاهرة، وكانت القاهرة في هذا العهد تمتد من ناحية الشمال إلى باب النصر وباب الفتوح، ومن ناحية الجنوب إلى باب زويلة الجديد، ومن الشرق إلى باب البرقية، والباب المحروق، ومن الغرب إلى خليج أمير المؤمنين، وبهذه الجهة باب سعادة، وباب الفرج، وباب القنطرة.
وكانت مزدحمة السكان، واسعة العمران، بها كثير من الجوامع، والربط، والدور العظيمة، والمساكن الجليلة، والأسواق المملوءة بأنواع التجارات، والخانات، والفنادق المكتظة بالمسافرين.
وصل عمارة إلى القاهرة في ظهر يوم من ربيع الأول، سنة خمسين وخمسمائة، وهو شاب في الثلاثين، وسيم الطلعة، مشرق الديباجة، رائع القسمات، معتدل الطول، شديد الأسر، قوي العضل، فسار بأهله من الريدانية إلى باب الفتوح، ونزل في دار تشرف على جامع الحاكم بحارة الريحانية، حتى إذا استراح من لغوب السفر أياما بعث برقعة إلى الوزير ابن رزيك، يطلب فيها شرف المثول أمامه، وأمام الخليفة الفائز، وكتب في آخرها:
دعوا كل برق شمتم غير بارق
يلوك على الفسطاط صادق بشره
وزوروا المقام الصالحي فكل من
على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى
فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها
فكل امرئ يرجى على قدر قدره
فأرسل إليه ابن رزيك رسولا يخبره بأن المقابلة يوم الاثنين بالقصر الكبير، فأعمل عمارة خياله، ودعا إليه شيطان شعره، وكتب قصيدة طويلة أعدها للإنشاد أمام الخليفة.
فلما جاء الموعد استأجر بغلة أوصلته إلى القصر الكبير، فرأى من عظمته، وضخامة بنائه، وإبداع نقوشه، ما أدهشة وأطار لبه، وقصور الفاطميين وما كان لها من سموق بنيان، وبراعة نقوش، وجمال أثاث، وحسن تنسيق - يكل القلم دون وصفها، ويعجز البيان أمام سناها وسنائها - فليس في طوق الخيال أن يلم بما كانت توحي به من عظمة ملك، وقوة سلطان، وضخامة ثروة، وسطوة دولة، وإسراف في الترف، وإغراق في النعيم.
لا يستطيع القلم أن ينقش، ولا البيان أن يرسم، ولا الخيال أن يصور، فخير لنا أن نلقي القلم، ونسكت البيان، ونحبس الخيال، ونترك للقارئ أن يتخيل ما يشاء ويرسم من صور العز والملك والسلطان ما يريد.
وصل عمارة إلى القصر الكبير، فاستقبله الأستاذون المحنكون، وعلى رأسهم مؤتمن الخلافة، يتسلمه أستاذ ليوصله إلى آخر حتى انتهى إلى قاعة الذهب، وكأنها بنيت من الذهب حقا؛ لكثرة النقوش الذهبية التي تملأ حيطانها وسقفها، وهي قاعة العرش التي يستقبل فيها الخليفة رجال دولته في أيام المحافل والأعياد والمواسم.
دخل عمارة خاشعا مطرقا، وكلما حاول أن يرفع من طرفه قليلا رأى مهابة وجلالة، وملكا يبهر العيون، ويهول النفوس. رأى الخليفة الفائز على العرش في أثواب كلها ذهب وديباج، رآه صغيرا لا يتجاوز السادسة، نحيل الجسم، مصفر الوجه، له عينان واسعتان كعيني النمر كلهما بريق والتماع، ورأى الأستاذين المحنكين حوله في رهبة وخضوع، كأنهم يحرسون سرا سماويا مقدسا، ورأى وزيره الصالح بن زريك واقفا إلى يمينه في خشية وقنوت، كأنه في معبد صلاة وتبتل، وإلى يساره داعي الدعاة، وقاضي القضاة، والأمراء، وكبار الرؤساء والقواد، وفيهم الأوحد بن تميم، وشاور بن مجير، وضرغام اللخمي، ومجد الإسلام بن صالح، ونقباء المعلمين.
أما كبار الكتاب، ورجال القصر فجلسوا خلف هؤلاء، وكان بينهم: ابن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، والجليس بن الحباب، والمهذب أبو محمد الأسواني، وزين الدين بن نجا، وإبرهيم بن دخان، رئيس ديوان الرواتب.
وكان الصمت يملأ النفوس هيبة، فتقدم عمارة من الخليفة، فقبل يديه وقدميه، ثم تقهقر قليلا، وأنشد بصوت ندي، ونبرات ساحرة أخاذة:
الحمد للعيس بعد العز والهمم
حمدا يقوم بما أولين من نعم
قربن قرب مزار العز من نظري
حتى رأيت إمام العصر من أمم
فهل درى البيت أني بعد فرقته
ما سرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
بين النقيضين: من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوار ... مقدسة
تجلو البغيضين: من ظلم ومن ظلم
وللعلا ألسن تثنى محامدها
على الحميدين: من فعل ومن شيم
أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا
فوز النجاة وأجر البر في القسم
لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما
وزيره الصالح الفراج للغمم
اللابس الفخر لم تنسج غلائله
إلا يد الصانعين: السيف والقلم
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
وكان الصالح شديد التأثر بالشعر الرائع، يؤديه صوت رائع، فاهتز طربا، وأخذ يطلب الإعادة بين بيت وبيت، وملك حسن الشعر على الأستاذين، ورجال الدولة وأدبائها شعورهم، فلم يستطيعوا إلا أن يجهروا بالاستحسان والإطراء.
وكان بقاعة الذهب باب عليه ستار من الحرير المطرز بالذهب، كان ينفرج أحيانا فتطل منه عينان ساحرتان، في وجه يمتزج فيه ماء النعيم بماء الفتنة والجمال، وما كاد عمارة يتم إنشاده، حتى أفيضت عليه الخلع المذهبة من أثواب الخلافة، ووصله الملك الصالح بخمسمائة دينار، وجاء بعض الأستاذين إليه يحمل صرة بها خمسمائة دينار، وهو يقول: إن سيدتي سيدة القصور، قد أعجبت بك وبشعرك أعظم الإعجاب، وهي تبعث إليك بصلتها هذه، وقد أمرت أن تخلى لك «منظرة الغزالة» المشرفة على خليج أمير المؤمنين، ثم ابتسم وقال: على شرط أن تعيد أمامها إنشاد قصيدتك الرائعة؛ لأنها لم تستمتع خلف الستار بكل ما فيها من جمال.
ثم أقبل عليه المهذب أبو محمد الأسواني - وكان زعيم الشعراء بمصر، وسيد كتابها - فشد على يديه مهنئا، وقال: أيها الشاعر اليمني، هل أطمع في أن أكون لك صديقا، فإنني عندما رأيتك أحسست بحبي لك، وحينما سمعتك أحسست بإكباري لأدبك، لقد ألح علي مولاي الملك الصالح ألا تنقطع عنه، وألا تحرمه زيارتك، وأن تنثر عليه من حين إلى حين فرائد شعرك، فإنه كريم أريحي يهتز للمديح، ويجزل الثواب عليه، وقد أمر أن أن يخلع عليك لقب: شاعر القصر، وأن تمنح راتبا كل شهر يقرب من رواتب كبار الدولة.
فما استطاع عمارة إلا أن يشد على يدي صديقه الجديد، بحماسة وإخلاص صادق، ورجاه أن يبلغ عظيم ثنائه، وجميل شكره للملك الصالح على جزيل ما وهب، وكريم ما أعطى.
وخرج ابن دخان صاحب ديوان الرواتب، وزين الدين بن نجا، فمال ابن دخان على صاحبه، وقال: ما هذه الشعوذة التي شهدناها اليوم يا سيدي؟! شاعر مستجد متكسب بشعره ... يلقي أبياتا سمجة غثة، فينال من الجوائز والعطايا ما لم يستطع المؤرخون ادعاء مثله في عهد الرشيد؟! ماذا قال يا صاحبي بالله عليك ...؟! ماذا قال ...؟! «بين النقيضين: من عفو ومن نقم»؟! ... «تحلو البغيضين: من ظلم ومن ظلم»؟! ... ما أسخف!! ... وأنا أقول له: يا ابن الشقيين: من عاد ومن إرم!! ... وسارق الهاربين: النوق والغنم. وكان زين الدين مربد الوجه حزين النفس، بعد أن رأى عدوه الذي طالما تمنى له الغوائل، يصل إلى هذه المنزلة، ويحظى بذلك الإقبال، فتكلف الابتسام وقال: ما كنت أظنك شاعرا أبا الفضائل، يجب أن تحمد الرجل لا أن تذمه؛ لأنه أول من ألهمك الشعر. - أحمده؟! أنا لا أطيق يا أخي هؤلاء الأفاقين الذين يردون مصر من كل صوب لامتصاص دمائها، واشتفاف لبنها، كأنها بقرة حلوب خلفها لهم أبوهم آدم، هذا يأتي ببيت من الشعر فنسميه سيد الشعراء، وهذا يجيء بحفنة من علم، فنصيح: إنه أعلم العلماء، وهذا متبتل ناسك قطع الفيافي والقفار إلى مصر، ليزور مشهد الحسين رضي الله عنه فنصب عليه العطايا والنعم حتى ننسيه نسكه وتبتله ... ما هذا يا ابن نجا؟! أليس في مصر شاعر يفوق هذا اليمني المحتال؟ أليس بمصر عالم يفوق هؤلاء الذين يسقطون علينا كل يوم من كل نواحي الأرض؟!
وغدا يا سيدي غدا، يجيء هذا الصعلوك ليطالب براتبه الذي رتبه له الملك الصالح في كل شهر ... وما راتبه؟؟ مائة وخمسون دينارا، أنت تكدح وتنصب، وتعمل نهارا وليلا في خزائن الكتب، ولم يزد راتبك على ثلاثين دينارا، أنا لا أدري ماذا سيكون من شأن الخزانة إذا استمررنا في هذا الإسراف؟!
فابتلع الحراني ريقه من هول ما دهمه من قدوم عمارة والحفاوة به، وقال: هون عليك أبا الفضائل؛ إن مصر كثيرة الخيرات، واسعة الثروة، وإن من المحتوم عليها أن تكرم أبناء العربية، وأن تحسن لقاء الوافدين عليها، ثم إني لا أعرف سببا لبغضك هذا الرجل، وهو وسيم الطلعة، خفيف الروح، وإن كان وجهه يدل على الخبث والدهاء واللؤم؟! - لا أدري لم أبغضه يا ابن نجا؟! لقد سمج في عيني منذ رأيته، وأحسست ببغض له يملأ قلبي، وهذا وحي يا أخي، وإذا كان «لهوى النفوس سريرة لا تعلم» فإن لبغضها سريرة لا تعلم كذلك ... لا أدري والله! ولكنني أشعر أنه يجب أن يزول هذا الرجل من طريقي، حتى لكأن غرائز النمر تتحرك في نفسي للوثوب عليه والتهامه. - هذا ما أحس بقليل منه، ولكن ما لنا وللرجل! دعه إلى الأقدار ... دعه إلى الأقدار.
الفصل السابع
بعد عشرة أيام من إقامة عمارة بالقاهرة، أرسلت سيدة القصور إلى عبدها «راجحا» ليدعوه إليها، فركب حصانا أشهب أهداه إليه الوزير طلائع، وصحبه راجح على جواد عربي كريم، فسارا من حارة برجوان، وكانت طويلة كثيرة التعاريج، والمنحنيات، حتى وصلا إلى طريق باب الفتوح، وبدا لهما الجامع الأقمر إلى اليسار، فانحدرا جنوبا إلى ما بين القصرين، وتقدم راجح بجواده نحو باب الزمرد: وهو أحد أبواب القصر الكبير، يمتاز بحسن بنائه، وجمال زخرفه، وكثرة ما به من أعمدة الرخام الضخمة، دهش عمارة لفخامة الأثاث وجماله: فالأبسطة الفارسية تغرق فيها الأرجل، والستائر المذهبة تذهب العين من جمالها، والأرائك والكراسي كلها من خشب الصندل، والعود المضبب بالذهب، المرصع بالجواهر الكريمة، وقد فرشت بأنواع الحرير الثمينة، والمخمل والخسرواني، والديباج الملكي.
واتجه عمارة إلى يمينه، فرأى حائطا مغطي بنسيج من الحرير الأزرق التستري، وقد طرز بالذهب، وعليه صورة أقاليم الأرض، وجبالها وبحارها، ومدنها وأنهارها ومسالكها، وفيه صورة مكة والمدينة ظاهرتين للناظر، وقد كتب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، فاقترب عمارة من هذا المصور العظيم، فرأى أنه كتب في حافته: «مما أمر بعمله المعز لدين الله، شوقا إلى حرم الله، وتنويها بمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار».
أما الستائر فكانت من الحرير الأخضر، وعلى كل ستارة صورة لملك أو خليفة أو قائد لكل بلد من بلاد المسلمين، وقد كتب تحت كل صورة اسمه، ومدة حياته، ومجمل تاريخه.
بهت عمارة لهذا الملك العظيم وهذا العز السامي، وذلك الترف الذي بلغ الغاية وجاوز حدود الوهم والخيال، فلم يشعر بالجواري الذاهبات هنا وهناك، من روميات، وصقلبيات، وتركيات، وجركسيات، وقد زادتهن الملابس جمالا، أو زدن الملابس جمالا.
أصيب عمارة بالذهول، أو بما يشبه الجنون، وما شعر إلا براجح يرفع ستارة من الديباج المطرز باللؤلؤ، ويقول له: تقدم.
فتقدم عمارة ورفع بصره قليلا، فرأى سيدة القصور في صدر البهو على كرسي مرتفع يشبه العروش، وقد كان ما لمحه من جمالها فوق ما يصوره الشعراء، ويجسمه المثالون، خلقها الله لتكون فتنة للعيون، وجوى للقلوب، وحيرة للواصفين، هي جميلة كلها، فإذا أخذتها قطعة قطعة كانت أروع وأجمل.
تقدم عمارة فقبل يدها، ثم قبل طراز ثوبها، ووقف مطرقا خاشعا؛ فأعجبت سيدة القصور بجميل طلعته، واعتدال قامته، وبما يبدو في عينيه من صفات النبل والرجولة؛ فمال إليه قلبها وخفق فؤادها، وشعرت بقوة تجذبها إليه، قد تكون ما يسميه الناس حبا، ولما رأت حيرته وارتباكه أرادت أن تخفف عنه، وتبسط ما انقبض من نفسه فقالت: كيف أنت يا يمني؟؟ لعلك رأيت في «قاهرتنا» ما يسليك عن «صنعاء» و«زبيد»!! فقال عمارة: يا مولاتي، إن الذي يعيش في وارف ظلكم، وعزيز كنفكم، ينسي وطنه وأهله ولو كان في صحراء قاحلة، فكيف والقاهرة بكم سيدة الحواضر، ومدينة المدائن ؟! ... إن مصر يا مولاتي لم تر منذ أن خفقت فوقها راية الإسلام دولة كهذه الدولة: قوة ومنعة، وعدلا، وجودا، وإحسانا، وإن الناس اليوم إذا أرادوا توكيد أيمانهم، لا يقولون إلا: «وحق سيدة القصور»، فمن غير الفاطميين يا مولاتي نشر في مصر الأمن، واليسر، والسرور، والثروة!؟ حتى لو كان الفقر رجلا، وسألني عن صديق يصاحبه لقلت له: لن تجد يا صاحبي لك هنا رفيقا، ولكن عليك باليمن؛ فإنك تجد هنالك أصدقاء بالألوف.
فابتسمت سيدة القصور، وقالت: هذا دأبكم أيها الشعراء تلبسون الحق بالباطل!! - إن وصف مصر في أيامكم يا مولاتي يعجز الشعراء، وكل ما يقال فيها دون ما يجب أن يقال. - أنت لم تر الفاطمية في ذروة مجدها، أظنها الآن تسير بقوة من الماضي. - يا مولاتي: الفاطمية بك، وبمولاي الخليفة دائما في ذروة مجدها. - إن آمالي يا عمارة أبعد ما تناله يدي، ولو استطعت لأعدت أيام «المعز» و«الحاكم»، ولكني أجد الطريق وعرة، والمرمى بعيدا، وأنى تستطيع امرأة ضعيفة مثلي أن تعمل شيئا، ودرعها الخمار، وسيفها البكاء، وعليها جر الذيول لا قيادة الجيوش؟! ... إنني في الحق سررت بمقدمك؛ لأن القصر كان في حاجة إلى شاعر يذيع مآثره، وينشر مفاخره، وينقل صوته من الخاصة إلى العامة، فيزيدهم بالخلافة تمسكا، ولها نصرا وتأييدا. - إن شعري يا مولاتي سيكون جيشا بجانب جيوشكم، وسأكون لكم كما كان «حسان» للمسلمين الأولين. - حياك الله أبا محمد ... هذا ما ترجوه منك الخلافة، إن الخليفة لا يزال صغير السن، وأرى الأعداء يرمقون مصر من كل جانب؛ فالإفرنج نزلوا الشام، وملكوا كثيرا من بلادها، وقد أصبح خطبهم شديدا، وهؤلاء الغز الذين ستروا مطامعهم في اغتصاب الأمم، بدعوى الغزو والجهاد في سبيل الله، والذين يقودهم نور الدين بن زنكي يتحرقون شوقا إلى مصر، وإلى الارتواء من نيل مصر، وهذه الدسائس التي تحاك هنا حولي في سراديب مظلمة في جنح الليل المظلم، تنذر بالخراب والدمار، فماذا تفعل امرأة ضعيفة مثلي يا شيخ في وسط هذه الزوابع والزعازع؟! كان صوت الأميرة حزينا متهدجا ، وقد فرت دمعتان من عينيها أسرعت إلى مسحهما بمنديل في يدها، ثم كأنها أنفت من هذا الضعف النسوي، فضربت بقدمها الأرض، وقالت: أريد أن أنقي هذا الجو حتى أستطيع أن أتنفس ... أريد أن أنام ملء عيني في قصور المعز من غير أن أشعر أن الكيد والخديعة والأعداء من الخارج تنقبها من قواعدها ... - إن قوادك ووزراءك يا مولاتي طوع أمرك، والملك الصالح طلائع الذي قدم بجيشه من «منية ابن خصيب» لنصرة الخلافة، لا يزال كما كان للخلافة أمينا مخلصا.
فظهرت على وجه الأميرة كدرة خاطفة سريعة من الحقد والغضب لم يدركها عمارة، وابتسمت وقالت: صدقت يا عمارة، ما أعلمك بأخلاق الرجال!! ... إن ابن رزيك قوام هذه الدولة، وهو سيفها القاطع، ورأيها النافذ، وإني أسد أذني عما يقول كثير من حساده، يقولون: إنه أرمني اتخذ الإسلام ذريعة للدنيا لا للآخرة، واتخذ المذهب الفاطمي ذريعة للملك ... قاتلهم الله فهم كذابون أفاكون!! لن تجد مصر رجلا كابن رزيك، ولو كان للإخلاص والوفاء صورة لكانت ابن رزيك ... أما «شاور» و«ضرغام» فلا أعرف عنهما إلا أنهما كبيرا الآمال، ولعل هذه الآمال تتجه إلى إعزاز كلمة الخلافة!!
ثم ضحكت وقالت: أتعبتك من الحديث في شئون الدولة، وكل حديث فيها ممل ثقيل، ما أجمل قصيدتك التي أنشدتها يوم استقبالك!! وأجمل ما فيها:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
المعنى قديم مطروق يا أبا محمد، ولكنك أحسنت صياغته، فإيه بالله عليك أبا محمد ... ادن مني قليلا ... ما لي أراك مستوحشا؟! ... انفض عنك هذه الرهبة، وحدثني كما تحدث الناس، فقد سمعت أنك حلو الحديث، عذب المحاضرة والمفاكهة ... اسمع يا عمارة: أتريد أن نكون أصدقاء؟؟ - تلك منزلة لو رأيتها في المنام يا مولاتي ما صدقتها. وأين الثريا من يد المتناول. - لا، صدقها ونحن في اليقظة لا في المنام، وأمامك سيدة القصور بنت الخلائف، وملكة مصر.
فأكب عمارة على يديها، فتركتهما له، فاستمر طويلا يغمرهما تقبيلا ولثما، وقد أحس كهرباهما تسري إلى جسمه، فتملؤه نشوة وانتعاشا ، ثم قال: أنا عبد مولاتي وخادمها، وإن قلمي، ولساني، وسيفي - إن شاءت - ملك يمينها. - لا ... أنت صديقي، ولكننا قبل أن نبني هذه الصداقة، يجب أن نجعل أساسها ميثاقا مقدسا، وعهدا أكيدا. - ألف عهد وألف ميثاق أبذلها تحت قدميك، وأنثرها أمام هذا الجلال الرائع ... ولولا رهبة الملك لقلت أمام هذا الجمال الفاتن ... فابتسمت الأميرة وقالت: لم تطق أن تصبر لحظة عن شاعريتك فحننت إلى الغزل، كما يحن الطائر إلى التغريد عند سفور الصباح! - يا مولاتي أنا شاعر، والشاعر ليس إلا مرجلا يغلي بضروب الإحساس والوجدان، فإذا لم يجد متنفسا انفجر وتحطم، إننا معاشر الشعراء نرى الصور بعيون من الفن لا يبصر بها سوانا ... نرى الجمال فنذهب بخيالنا في روضاته، فيتكشف لنا عن بدائع لا تراها العيون ... نحن نعيش في دنيا غير دنيا الناس، ونفهم من أسرار الحسن غير ما يفهم الناس، إن الحسن أحيانا قد يتحدى الشعر، وقد يعجز الخيال، وقد يبهر العين كما بهرني، ولكنا لا نلقي أمامه السلاح أول مرة، ولا نستسلم خاضعين، بل نأخذ في إطلاق الشعر حوله رصينا أو غير رصين، مبينا أو غير مبين، ثم نصيح كما يصيح المحموم، حتى نخفف من ثورة قلوبنا، وإلا قتلنا الحب، ورحنا شهداء النظرات الفاتكة، والبسمات الفاتنة. - قصيدة منثورة يا أبا محمد!! إن لبيانك سحرا عجيبا!! ثم تهانفت وقالت: نسينا العهد والميثاق. - صوغي العهد يا سيدتي كما تشائين، ولا تبقي شيئا من الأيمان المحرجة، فإني أكرر بعدك كل ما تقولين. - إن عهود الفاطميين ليست هينة يا عمارة، فهي شديدة قاسية، ووراء كل كلمة منها إسماعيلي فدائي، يغمد سكينه في قلب كل من نكث بها. - إن دمي لك يا مولاتي، وهل أقول قلبي؟؟ - قل ما تشاء. - دمي، وقلبي، وحياتي لك يا مولاتي، فهاتي العهد، وتشددي ووثقي كيف شئت كما يوثق كتاب العقود. - ولكني قبل العهد أريد أن أتحدث معك قليلا: أتعلم أن أهل مصر تحولوا جميعا إلى المذهب الفاطمي، وأصبحوا من أشد الناس غيرة على نشره، والمحافظة على تعاليمه ومراسمه ... إنهم قوم يحبون البهجة ومظاهر السرور، وحفلات الأنس والطرب، وضجيج المواسم، وقد أكثرنا من ذلك لهم ... أتعلم أن مواسم الفاطميين تزيد في السنة على ثلاثين موسما؟! هذا إلى ما يعمل في رمضان والعيدين من الحفلات الشائقة، وضروب البذخ والإسراف، أتعلم أننا جعلنا سيف المعز وذهبه شعارا لدولتنا؟! أسمعت بقصة جدي المعز في أول اجتماع عام له بالقاهرة، حينما طالبه ابن طباطبا نقيب الطالبيين في مصر بما يثبت نسبه وحسبه؟ فنثر جدي الذهب على الناس، وقال: هذا نسبي!! ثم جرد سيفه من غمده وصاح: وهذا حسبي!! ومن ذلك الحين أصبحت دولتنا تقوم على هاتين الكلمتين: الذهب لمن أطاع وأصلح، والسيف لمن عصى وأفسد. - هذا يا مولاتي هو العز الباذخ، والملك الشامخ، فبأبناء فاطمة تتيه مصر، ويسعد أهلها.
فمالت إليه الأميرة باسمة، وقالت بصوت عذب النبرات: بعد هذا، وبعدما سمعت منك أبا محمد عن سماحة الفاطمية، وجودها، وعدالة حكمها أحب أن تكون فاطميا. - أنا فاطمي يا مولاتي ... أحب فاطمة الزهراء، وأحب عليا - كرم الله وجهه - وأحب أولادهما، وأعتقد أن حبهم قربي إلى الله وشفاعة. - لا يا عمارة ... لا تغالطني بحقك ... أنت تعلم ما أريده، ولكنك تروغ روغان الثعلب، ولولا ميل أحسه نحوك ما طاولتك هذه المطاولة، ثم ظهرت في وجهها شراسة النمرة فقالت: إن لمثلك عندنا إحدى خلتين: إما أن تعتنق مذهبنا، وإما أن تسيل نفسه على سيوفنا ... أتريدنا الآن يا يمني على أن نعود إلى الانحلال، والتجاوز المميت؟! لا ... لا ... لا بد من إحداهما، إما أن تكون فاطميا، وإما ألا توجد.
فارتعدت فرائص عمارة، وقال في تلعثم: فهمت من مولاتي أنها لا تريد من الحياة إلا إعلاء المذهب الفاطمي، وتثبت أركانه، وفهمت أنها لهذه الغاية نفسها تدعوني إلى اعتناق المذهب، فما رأيك يا مولاتي في أننا متفقان في الغاية؟! ... متفقان تمام الاتفاق!! ... سأكون خير عدة في نشر المذهب الفاطمي ... سأكون له لسانا ناطقا، وقلبا خافقا ... سيكون شعري أغنيته التي يطرب لها كل سمع، ويتفتح لها كل قلب ... سيحسدني داعي دعاة المذهب على حسن ما أبليت في إنهاض الفاطمية، وإعلاء لوائها ... سيرى النقباء الاثنا عشر أنهم لم يعملوا شيئا بجانبي ... سيردد الأطفال في الحارات أناشيد الفاطمية، وستغرد النساء في بيوتهن بمجد الفاطمية، وسيرى الأدباء والعلماء في شعري صورا ساحرة لجمال الفاطمية وسماحتها ... سأعمل كل هذا لأنني أحب مولاتي، ولأنني رأيت من كريم وفادتكم، وجزيل عطائكم، وعميم إحسانكم إلى الناس ما بهرني، وملأ قلبي حبا لكم، ولكل ما يتصل بكم. أما عقيدتي أنا ... التي تنطوي عليها جوانحي، فدعيها لي يا سيدتي ... دعيها بالله فإنها بقية ما يصلني بأهلي الذين فقدتهم ... دعيها فإنها إرث الماضي البعيد ... دعيها فإنها جزء من نفسي، ثم وثب قائما وفي وجهه شهامة العربي الكريم، وقال: لن أغير عقيدتي، ولو طلبت ذلك أجمل امرأة أظلتها السماء، وهي سيدة القصور. - اهدأ أبا محمد. - يا مولاتي، إني أعتقد أنني لو غيرت عقيدتي أول ما تطلبين مني لهزئت بي وسخرت مني، وقلت في نفسك: تعسا له من رجل سقيم الإرادة، هزيل العزيمة!! ثم هبيني كنت رجلا إمعا لا خلق له، ولا عزم، ولا دين، أتظنين أن ذلك يقربك من غايتك؟! لا. سيضحك الناس مني في أكمامهم إذا ناديت فيهم بفضل الفاطمية، ويقولون: يا له من شقي أفاق مأجور!! اشترت منه الخلافة عقيدته بدراهم معدودة، فجاء يدعونا إلى الحرص على مذهبها! وربما همس أحدهم في أذني بخبث وشماتة قائلا: إن رجلا يفرط في مذهبه أولى به أن يتوارى عن الناس، وألا يحثهم على التمسك بمذهبهم، ثم إن الوفاء أظهر خلائقي، وأقوى شيمي، فإذا لم أف لعقيدتي فأجدر بي ألا أفي لمخلوق ... سأعيش للوفاء، وسأموت للوفاء، ولن يقول إنسان: إن ابن علي خان عهدا، أو أخفر ذمة.
فانبسطت أسارير سيدة القصور وقالت: أحسنت أبا محمد، إن هذا البيان وهذا الفكر الواسع لا تستغنى عنهما الفاطمية. - اطمئني يا مولاتي، فسأكون لك عونا، ولمذهبك سيفا ودرعا، وسأكون فاطميا بلساني، سنيا بقلبي، فماذا تريدين مني فوق هذا؟؟ - اكتفيت أبا محمد، فإن لروعة منطقك، إلى وسامة طلعتك، إلى كريم خلقك ، وكمال رجولتك سحرا وفتنة: أيرضيك هذا الإطراء أبا محمد من امرأة كانت تظن أن الأرض أقفرت من الرجال حتى رأتك؟؟
فوثب عمارة على يديها يقبلهما، ويرتفع بفيه قليلا قليلا حتى يصل إلى معصميها، ثم قال: يرضيني يا مولاتي؟! أنا لا أدري: أأنا فوق الأرض، أم سابح فوق السحاب؟! - لا ... لا تعد إلى شاعريتك، أنت معي هنا في قصر الزمرد ... هلم إلى العهد، فتنهد عمارة وقال: هاتي يا سيدتي، هاتي ... فأخرجت سيدة القصور ورقة من منديلها، وأخذت تتلو وهو يعيد: «أقسم وأحلف بالله المنتقم القاهر، وبرسوله الكريم، وبوصيه ووليه، وببنته الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، وبكريم نسلها وشريف عترتها على أن أكون للفاطمية عونا ولها ناصرا، ولدولتها مؤيدا، وعلى أن أعاضد أولياءها، وأحارب أعداءها، وأتخذ كل وسيلة، وكل أداة، وكل ذريعة لرفع شأنها، وإماطة الضر عنها، وعلى أن يكون دمي، وشرفي، ومالي هدرا مباحا إن خنت لها عهدا، أو نكثت بوعد، أو توانيت عن وفاء».
وبعد حلف اليمين كان جبين عمارة يتصبب عرقا، فرفع عينيه وقال: بقيت مسألة يا سيدتي، وهي أني شاعر، وقد أمدح قوما تضمرين لهم سوءا، فهل ذلك ضائري عندك؟؟ - لا يا عمارة، أيد بمدحك من تشاء منا، واخدع بمدحك من تشاء من غيرنا، ولا تخش شرا فأنت موضع ثقتي ... هلم إلى الطعام والشراب.
ثم قامت سيدة القصور إلى بهو آخر، أعدت فيه مائدة ملكية يحير وصفها الألباب، وبعد الطعام تقدمته الأميرة إلى بهو الأغاني، وقد كانت الجواري أعددن آلات الطرب، فجلست الأميرة، وجلس عمارة بعيدا، وجلست إلى جانب الأميرة جاريتها «باسمة»، وهي جارية جركسية بارعة الحسن، رائعة الطلعة، تفور فيها الأنوثة، وتصطخب في نفسها ثورات الشباب، لمحت عمارة، فرأت فيه محيا عربيا، ووجها صبيحا، وقامة فارعة، فاضطرب له فؤادها، وأخذت تخالسه النظر، وتتحين الفرصة لمحادثته واجتذابه، واستمر الطرب إلى الهزيع الأخير من الليل، حينئذ وقفت الأميرة وسلمت على عمارة، وهمست في أذنه: سأرسل إليك راجحا في كل ثلاثاء. ثم أمرت «باسمة» أن تسير معه إلى الباب الكبير ، وأن تأمر راجحا أن يصحبه إلى داره.
فسارت «باسمة» معه من سلم إلى سلم، ومن بهو إلى بهو، وقد جاذبته الحديث طويلا في هذه الأثناء، ورمت إليه بكثير من شباكها، وألقت إلى قلبه بالمجرب النافع من سحرها، ولكن عمارة كان عنها وعن فنونها في شغل شاغل، فلم يقابلها إلا بالصد والعبوس؛ فحزنت «باسمة» ولكنها لم تيأس، وقالت في نفسها: ويل لهذا المهر الحرون مني!! سيأتي إلي خاضعا، وسيلقي عنانه بين يدي ذلولا، ثم قابل راجحا فودعته «باسمة» وانصرفت، فركب عمارة وراجح جواديهما، وإذ هما يخرجان إلى الطريق سمع عمارة مؤذن الصبح من مئذنة الجامع الأقمر، وهو يردد بصوت رنان: حي على خير العمل!! ... حي على خير العمل!!
أقام عمارة بالقاهرة طويلا في عز وثروة وهدوء بال، وكان يستدعيه راجح في كل أسبوع للقاء الأميرة، فزاد هيامه بها، وبجودها وذكائها، وحرصها على حياطة الدولة، وكانت «باسمة» في كل زيارة تغازله على أن تصبيه، فيصرفها عنه في تعفف واستنكار.
وبينما كانت تودعه إلى باب القصر في بعض زوراته، دخلت به إلى إحدى الحجرات، وسألته في رشاقة تستنزل العصم، وفي دلال يلين الصخور الصم أن يكتب لها بعض أبيات رقيقة قالها في الغزل، وكانت تحدثه وهي ترفع خصلة متهدلة من شعرها الذهبي اللماح، وتصوب إليه عينيها في ضعف وفتور، يوقظ الفتنة النائمة، ويثير العاطفة الخامدة، والجمال يستعين دائما بقوته إذا ملك، وبضعفه إذا حاول أن يملك، والجمال الهادئ المستكين أقوى أنواع الجمال تحكما في قلوب الرجال، وهو أحبولة المرأة، وأداة وثوبها، ودرع دفاعها، عرفت المرأة بفطرتها الصادقة، وغريزتها النافذة، ما في الرجل من غرور وكبرياء، واعتزاز بحوله وطوله؛ فهي دائما تأتيه من هذه الناحية، فتتوسل بضعفها إلى قوته، وبأنوثتها إلى رجولته، وبلينها إلى خشونته، وبأنها تريد أن تتخذ من قلبه حصنا تلجأ إليه من عواصف الأيام، ومن عطفه حمى تلوذ به من أعاصير الحياة، ثم تبعث بجمالها الوادع الذليل شفيعا إليه، فلا يزال به حتى يجتذب عطفه، ويستهوي حنانه - والحنان أول مراتب الحب ، والإشفاق أول مراحل الغرام - حتى إذا فازت بعطفه، أخذت في إنمائه بالإيحاء، وبأساليب يعرفها النساء وحدهن: أساليب كأنها غير مقصودة، وهي مقصودة، وكأنها من المصادفات، وليست من المصادفات، وكأنها تصدر على الرغم منهن، وليست إلا من قصدهن، وهنا يقع الرجل في الشرك، وهنا يتغلب الحب، وهنا تتحكم المرأة، وهنا يعود ذلك الضعف المتصنع قوة وجبروتا!!
قالت «باسمة»: إنها ليست أبياتا يا سيدي، إنها همسات الحب في أذن العاشق المهجور، أتعرف أنني كلما سمعت «طروب» تغنيها لم أملك دموعي!!
إن الشعراء يجتذبون المرأة بمثل هذا الشعر الذي لا يخطئ سبيله إلى القلوب، فإذا اهتزت مشاعرها له جاء الحياء فكتم ما تحس ودفنه بين جوانجها حيا، لا لشيء إلا لأنها امرأة يجب ألا تتكلم، ويجب ألا ينم وجهها عن السخرية بالغزل، وأغاني الغرام، أما الرجل فمباح له أن يبوح بما في نفسه، ومباح له أن يغري من يشاء بما شاء، ولقد يكون خداعا، ولقد يكون ماجنا عربيدا، يلهو بقلوب الحسان كما يلهو الطفل بلعبه، حتى إذا سئمها داسها بقدميه، وتركها حطاما.
ليس للمرأة المسكينة أن تقول: أحب، وليس لها أن تجيب عن ابتسامة بابتسامة، ولا عن زفرة بزفرة، وإنما عليها أن تصرف وجهها عن مائدة الحب، ونفسها تشتهي كل ما عليها من ألوان؛ لأنها صنم من جمال، وتمثال من حسن، لا يتكلم ولا يريد، فإذا ضحكت أحيانا ضحكة فيها رنين، أو انزلق لسانها بكلمة تصور خلجة من خلجات النفس الحائرة، أو أدلت برأي في معنى الحسن - سلقتها الألسنة، وحملقت نحوها العيون، وترحم الناس على الحياء والفضيلة، وهزت العجائز رؤوسهن في رعب ودهشة، وبكين ماضي أيامهن، حين كانت البنت ترى ولا تسمع، ثم ينتقلن بالحديث إلى فساد الزمان،. واضطراب الأوضاع، وضياع آداب السلف.
ويا ويل الشباب من المشيب!! فإنه حينما يرى أنه تسلب من القوة، وماتت فيه غرائز اللهو، وقعدت به السن عن الاستمتاع بلذائذ الحياة - يمتلئ صدره على الشباب حقدا، وتغلي نفسه منه غيظا، ويرميه بالجنون والطيش، وتمزيق ستار الأدب، وتمريغ الفضيلة في التراب، ولو أن شيخا هب من نومه، فأحس بالشباب وقد عاد إليه، والفتوة وقد تمشت في عروقه الواهنة الذابلة، ونظر في المرآة فرأى شيبه، وقد ارتد سوادا، ووجهه وقد صقله الصبا، ومحا منه الغضون - لغير رأيه في الفضيلة، وكان أوسع أفقا، وأكثر تسامحا، وأسرع إلى داعي اللهو استجابة، ولضحك مما كان يراه بالأمس من وجوب التحرج والتزمت، والابتعاد عن التمتع بزينة الله التي أخرج لعباده. - هذه صحيح يا فتاة، ولكن ما لك تعذبين نفسك بهذا التفكير الذي لا يجر إليك إلا الحزن والبلبال؟! - إنني يا سيدي لم أخلق نفسي، ولو خيرت لاستبدلت بهذه النفس التي أشقى بها نفسا جامدة بلهاء، لا تشعر بالمعاني السامية، ولا تهتز للجمال الروحي الذي فيه غذاؤها وريها وحياتها، أنا يا سيدي فتاة منكوبة، أعيش حبيسة في هذا القصر، بين سادة يسومونني الذل والخسف؛ لأنني في أعينهم أمة اشتروها بمالهم، واشتروا معها في زعمهم كل ما فيها من حس وإدراك وشعور، فيجب ألا تحس وألا تدرك وألا تشعر، وبين خدم يحسدونني على منزلتي من سيدة القصور، ويدبرون لي المكايد، وينصبون الحبائل، أرأيت يا سيدي أسوأ من هذه الحال؟ أمة ذليلة محسودة، أمة تضطهد في ضوء النهار، وتحاك لها الدسائس في ظلمة الليل.
أمة ...؟ وهل أنا أمة ...؟! ولكنهم أماتوا روحي، وقتلوا ما كان في نفسي من عزة، فلن أستطيع أن أتكلم!! - إني أتألم لألمك يا فتاتي، تكلمي ... تكلمي ... فلن يزيح عن النفس أحزانها إلا البوح والبكاء. - لك يا سيدي أبوح، ولمثلك أشكو، فإن لك قلبا لا يضيق بفتاة بائسة مثلي، تلتجئ إلى ركن فيه لتعتصم من ويلات الزمان.
أنا لست أمة أبا محمد، إن لي قصة تستنزف ماء الشئون، وتثير لواعج الشجون، ولكن لساني لم ينبس بها لأحد، وماذا في أن تكشف ذات نفسك لقوم لا يلقونك إلا بالسخرية والتكذيب والمراء! أنا لست أمة، ولكن أبي كان حاكما ببلاد الجركس، ولم يكن له من ولد غيري، وكنت ريحانة حياته، وفلذة كبده، وحبة قلبه، وكان بي مشغوفا ، وبحبي كلفا، وكان أبي شديدا في مطاردة اللصوص، مستقصيا لهم، صارما في عقوبتهم، فقبض مرة على زعيم من زعمائهم فأذاقه صنوف العذاب، ثم وسطه في ميدان المدينة، ويظهر أن أحد رجاله أراد أن ينتقم له، فرأى أشد ما ينتقم به منه أن يختطف ابنته، وأن يذيقه لوعة فقدها - فخطفت في السابعة من عمري، ونقلت إلى الشام في بيت نخاس، كان يحفني بعناية فائقة، ويشملني بعطف سابغ، ويدللني تدليل الأب الشفيق. وقد أحضر لي عجوزا كانت تختلط بنساء الأكابر، لتلقنني آداب السلوك، وآيين القصور، وكنت وأنا بين هذا الترف الكاذب، والنعيم الزائف أسكب الدمع في خلواتي مدرارا، وأكاد أبخع نفسي على أهلي حزنا.
وقد أقمت عند صاحبي طويلا حتى بلغت مبلغ الأنوثة الكاملة، وتفتحت في أكمام الشباب الناضج، وأظهرت مني الخامسة عشرة مكنون الجمال، ومستور الفتنة، وإذا كان الشباب جمالا، فأجمل منه أن يكون جميلا، وكلما تبلج حسني زاد صاحبي بي حفاوة ولي إكراما، وذاع في دمشق أن لدي حسين الدفاني النخاس فتاة لم تحو قصور الملوك مثلها، فتزاحم على بابه سماسرة العبيد والجواري، يغرونه ببيعي، ويزيدون في ثمني بالمئات من الدنانير، وكان الرجل يقابل إسرافهم في العرض بإسراف في الإباء، وكنت في أثناء هذه الضجة وهذه المغالاة بقدري، لا يفارقني خيال أبي، ولا تنأى عني ذكراه، وكان قلبي بالحنين إليه خفاقا، وبالشوق إليه دائم الوجيب، حتى زارتنا في عصر يوم امرأة من بلاد الجركس، فجاذبتها أطراف الأحاديث، ثم انفلت في حذق ولباقة إلى السؤال عن أحوال البلاد، وعادات أهلها، كأني لا أعرف من أمرها شيئا، فانطلقت المرأة في القول، وأسهبت فيما يصيب البلاد من فوضى، وما فيها من عصابات ضارية، مردت على اختطاف البنات وبيعهن في أسواق الرقيق، وعلمت منها أن أبي بعد أن نكب في ابنته، برح به الحزم فمات كمدا، حينئذ يئست من الحياة، وعرفت أني خلقت للذل والمهانة، وأن هذه الحلي التي تزين معصمي وصدري، والحرائر الثمينة التي أرتديها، إنما هي من عبث القدر وأضاحيكه، وأنها أشبه بزخرف القبور، منها بزينة فتاة تستقبل الحياة.
ثم جاء والي دمشق ذات صباح، وطلب من صاحبي أن يسافر بي إلى مصر؛ ليبيعني لسيدة القصور، على أن يتحكم في الثمن كما يشاء، فسافرنا إلى القاهرة، وعرضت على سيدة القصور، وكان العرض مؤلما ... ثم سئلت عن اسمي، فأطرقت وتبسمت ابتسامة حزينة واجدة، فصاحت سيدة القصور: سميتها «باسمة»، ثم طلبت إلى الخدم، والجواري أن يدعوني بهذا الاسم، فبقيت في القصر منذ ذلك الحين أعامل معاملة الدمى حينا، ومعاملة الإماء الذليلات أحيانا، ارحمني يا سيدي ... ارحمني ... فإنني أتحرق إلى صدر رفيق يجيب خفقات قلبي، وأشعر في دفئه بالحب والحنان. - يحزنني يا فتاتي أنك طرقت قلبا مشغولا، ملأ الحب كل حجراته فلم يترك فيه مكانا لحب جديد. - لك ألا تسمي ما أدعو إليه حبا، سمه عطفا إن شئت. - إن العطف أول الحب، وإذا رضيت بالعطف أول الأمر، فلن ترضي به إذا طال الزمان، إن قلبي يا فتاتي موحد لا يؤمن بالشريك. - لقد حرمت يا حبيبي حب الأب، وحب الصديق، وأريد أن أعيش إنسانة تجتذب الحبيب، ويجتذبها الحبيب، تصبي الحسن وتصبو إليه، إنني من جيل تعنف فيه الغرائز وتشتد، وتسيطر فيه نزعات القلب على حكمة العقول، أريد يا حبيبي أن أحيا ساعة واحدة أشعر فيها أنني لست أمة رقيقة!! - أليس لك في زوجك يا باسمة ملاذ يسكن إليه قلبك، وتهدأ في كنفه جوانحك؟ - زوجي؟ لا تمزح يا سيدي! بالله عليك لا تمزح! إنه ناطور الزواج كما يضعون في البستان ناطورا ليذود الطير عن ثمره، زوجي؟ ذلك الذي أرغمتني سيدتي على التزوج به؛ لتصونني من رجال القصر الذين كادوا يفترسونني بأعينهم، والذين كانوا يلاحقونني في كل مكان، ومن هو الذي ألزمت الزواج به؟ فدم، جاهل، مغفل، غبي متعاقل، سريع الغضب، بطيء الهمة، هذا هو الزوج الذي اختارته لي سيدتي، واختيارها وحي من الرحمن يجب ألا يرد، ولا يجادل فيه، ولا يسائل المرء نفسه عن سره! فهل لي في أن أطمع في عطفة منك تضيء ظلام حياتي!؟ - لا أكاد أفهمك يا باسمة، ولا أكاد أفهم معنى لهذا التشبث بعدما أظهرت لك من الانصراف عن كل ما يسميه الناس حبا، وقد أكرمتني سيدة القصور بحفاوة لم يظفر بها سواي، وليس من شيمي أن أعبث بهذه الكرامة. - أنت تحب سيدة القصور، وتؤثر حب السيدة على حب الجارية؛ لأنك تظن أن حب السيدات سيد الحب!
فظهر الغضب على وجه عمارة. وصاح: كفى يا جارية، فإن سيدة مصر أقدس من أن تصبح حديثا للإماء!! ولقد صبرت على ثرثرتك طويلا، وتركت نار قلبك تأكل حطبها لتنطفئ، ولكن يبدو لي أن الرفق زادها استشراء، وأضاف إلى جذوتها حطبا، اعزبي عني فقد طال بنا المقام، وأخشى أن ينالني من الجلوس إليك أشنع المكروه. - أعزب عنك بعد أن كشفت لك عن ذات نفسي، وفضحت لك خبيئة صدري؟! بعد أن طرحت حبي على أقدامك فقذفت به كما تقذف النعل الخلق؟! وبعد أن سكبت دموعي على قلبك الصلد فما زاده الماء إلا صلابة ويبسا؟! أعزب عنك بعد أن أهنت أنوثتي، ودست بقدمك على أشرف ما أعتز به وتعز به كل امرأة من حياء وخفر وإباء؟ ويل لك مني! إن كل شيء عندنا - معشر النساء - أمم، إلا أن تجرح المرأة في كرامتها، وإلا أن تقدم جمالها الفاتن لجلف مثلك، فينحيه عنه بالأكف في سخط وأنفة، كأنه كأس مسمومة أو طعام ولغت في الكلاب! ويل لك مني، وويل لكل من يناصرك! لن تفلت من حبائلي، إننا - بنات الجركس - نقتل الرجال: إما بالحب والاستهواء، وإما بالكيد والدهاء، فخذ حذرك فإنك لن تنجو مني يا رجل! ثم قامت غاضبة، وتركت عمارة في ذهول وعجب، وهو يتطلع في أنحاء الحجرة كالمشدوه المأخوذ، ثم ضحك ضحكة جافة مضطربة، وضرب كفا بكف، وقال: حقا إن مصر بلد العجائب!! ماذا كان شأني بهذه الفتاة؟ ومن رماني بهذه المجنونة؟ إنها ستكون البعوضة التي تدمي مهجة الأسد، وستعمل على تكدير عيشي، وتنغيص حياتي، وربما أشعلت بيني وبين سيدة القصور فتنة لا أستطيع لها إطفاء، وربما نشرت بين رجال القصر أسرار حب قدسي أبالغ في كتمانه، أكان يجب أن أجاريها وأن أخدعها، وأن أظهر لها كالمحب المفتون بها المدله بجمالها؟ لا، إن شيئا من ذلك أو دونه لو ظهر لأفسد ما بيني وبين سيدة القصور، ماذا أعمل؟ إني بالغت في اتقاء دسائس الرجال، ولم أحسب لدسائس النساء حسابا، إن من ضروب العداوة ما لا يستطاع درؤه، وإن من المصائب أن يكون عدوك ضعيفا؛ ولكن سأدرع بالحذر، ثم يكون بعد ذلك ما يكون، وقام وصدره مثقل بالهموم، ثم غادر القصر.
وفي تلك اللحظة التقى ابن دخان بباسمة في أحد أبهاء القصر، وكان لها عاشقا، وبها صبا مفتونا، وكانت تصد عنه في إغراء، ثم تجتذبه لتعرض عنه من جديد، وهي في قرارة نفسها تنفر منه، وتستنكر تصابيه، وطرائق غزله، فلما اقترب منها قال: كيف أنت اليوم يا نور عيني؟ ألا تزالين في دلالك القديم؟! - كما أنك لا تزال في ضلالك القديم، دعني بالله أسر في طريقي، فإني كرهت الدنيا ومن فيها!! - الدنيا بخير يا جنتي، والرواتب تصرف في كل شهر لجواري القصر، وفوق كل راتب قبلة إلا منك، فقد أعيتني فيك الحيل! - أنت رجل فارغ القلب، لا تأبه إلا للرواتب، ودخل الدولة وخرجها، أما ما يصيب صديقا، أو يمس شرف فتاة ضعيفة فقدت الحامي والنصير، فليس من شأنك في قليل أو كثير!! أنني سأغادر القصر إلى الأبد، إن هذا اليمني الأفاق المسمى بعمارة، أطغته منزلته عند سيدة القصور، فاتخذ عطفها عليه سلاحا للعربدة والفجور، لقد ضقت بهذا الرجل ذرعا، إنه يلاحقني أينما رآني في القصر، ويضايقني بإلحاحه وتغزله السمج، ويريد أن يفرض علي حبه فرضا، ويظن المغرور أن الله اختصه برواء الحسن وكمال الظرف، وأن امرأة لا تهيم به مدخولة العقل فاسدة الحس، قابلني في هذا الصباح فحاولت الفرار منه فلم أستطع، وأخذ يصب علي شواظا من غزله المفضوح، فلما زجرته وسخرت منه احتدم غضبه، وتكشف لؤمه، وتوعدني بالشر والإيقاع بي عند سيدة القصور، وبطردي من القصر!! - طردك أنت من القصر ؟! ... أنت ... وماذا يبقى فيه إذا غابت عنه شمسه؟! ماذا يبقى فيه وأنت بهجته وزينته؟! ولكن هذا اليمني الثقيل الوقح، هو الذي يطرد من القصر، ويزجر منه كما يزجر الكلب. - إن سيدتي متعلقة به ... - ومن هذه الناحية ستأتيه النكبة، دعي هذا الأمر لي يا بنية، فلن يضايقك اليمني الأحمق بعد اليوم. - وكيف؟ - سأفكر، وستكون المؤامرة محكمة لا يجد منها اليمني منفذا، ولكني أطلب أن تزيدي في التودد إلى زوجك؛ فإني أعتمد عليه في مثل هذه الأمور، وكيف حالك معه؟ - إنه زوج شرعي وكفى! - لا يا باسمة ... صانعيه واخدعيه، وأظهري له الحب والميل حتى يتم كل شيء. فظهر الابتهاج على وجه باسمة ... ولكن ابن دخان عاجلها قائلا: ولكني أطلب أجرا على هذا العمل المحفوف بالمخاطر. - ما هو؟ - قبلة واحدة من فمك الحلو. - قبلت على أن يؤجل هذا الأجر إلى أجل غير بعيد، ثم فرت من بين يديه كالظبي النافر، وذهبت إلى مسكنها الخاص بالقصر، ولما رأت زوجها مجاهدا الرملي ألقت بنفسها بين ذراعيه ضاحكة معربدة، عابثة بشاربه ولحيته؛ فدهش «مجاهد» لهذا التغير المفاجئ، وقد كانت منه شديدة النفار، ممعنة في الدلال، فما استطاع إلا أن يضمها ضمة العاشق المهجور، ويملأ وجهها بقبلاته، ثم قال: ما هذه النشوة يا باسمة؟ فقالت: هل على فتاة في أن تحب زوجها من حرج؟ - لا، غير أنه حب مرتجل! - إنه ليس مرتجلا يا مجاهد، إن العجائز - قاتلهن الله - علمتني أن الرجل لا يحب إلا إذا جفته المرأة وتمنعت عليه، وقد أخذت أعمل بنصيحتهن، وأظهر لك النفور والبغض؛ لتزيد بي شغفا، حتى لم أعد أقوى على هذا الرياء، وعزني الصبر، ووهن الجلد، وطغى سلطان حبك على قلبي فلم أستطع له كتمانا ... فارحمني يا حبيبي؟ - أرحمك؟ أرحمك بمائة قبلة وألف ضمة، وبأن أكون لك عبدا مدى حياتي؟ - وأن تدفع عني شر الأشرار، وكيد الكائدين! - بروحي ... - إنني لم أرد أن أخبرك منذ حين بشأن هذا الشيخ اليمني نزيل القاهرة، الذي أخذ يتردد على القصر. - ما شأنه؟ - شأنه أنه أخذ يضايق زوجتك، ويبالغ في احتقارها، ويدس لها عند سيدة القصور، وقد اتفقت مع ابن دخان على إبعاده عن القصر، وسيخبرك إذا قابلته بكل شيء، وستكون هناك مكافأة جزيلة لمن يقوم بهذا الأمر. - عظيم، كسبنا مالا، واسترجعنا رضا زوجة رائعة الحسن في صفقة واحدة.
ثم مرت أيام قضاها ابن دخان في تدبير المؤامرة، واختيار من يشترك فيها، وعقدت عدة مجالس حضرها مجاهد الرملي، وبعض الجنود، وأكد ابن دخان لهم أنهم لن يصيبهم منها ضرر ألبتة، وأنهم على الضد من ذلك سينالون رضا سيدة القصور، وترتفع عندها منزلتهم، والتقت باسمة به يوما، فقص عليها المؤامرة مفصلة، ووكل إلى دهائها وحذقها طريق الشروع فيها، والإفضاء بها إلى سيدة القصور، ثم قال: إنها ليس من صنعي يا باسمة، وإن عقلي لا يستطيع أن يصل إلى هذه الغيابة.
فقالت في استنكار: من صنع من إذا؟ وهل كان من الحزم أن يطلع عليها غير ذلك العدد القليل الذي اشترك فيها؟! - إن الذي وضع المؤامرة أشد مني حزما، وأكثر احتراسا؛ لأنه لم يرض أن يمد فيها إصبعا إلا بعد أن حلفت له بكل محرجة ألا أبوح باسمه.
فنظرت إليه في سحر وفتنة وقالت: حتى ولا للمدينة لك بقبلة؟ فانهزمت في الرجل كل خصائص الرجولة وقال: أنا حلفت، ولكن القبلة تعدل آلافا من كفارة اليمين ... تعدل الدنيا وما فيها، اعلمي يا فتاتي - وفقك الله - أن مدبر المؤامرة هو الشيخ زين الدين بن نجا المشرف على خزائن الكتب. - ذلك الشيخ الورع الزاهد، الذي لا يتبسم! والذي كلما رآني همهم بأدعية واستغاثات، كأنما رؤية الجمال إثم من أشد الآثام!!
ثم انطلقت باسمة إلى القصر، فرأت سيدة القصور تقرأ بعض الصحف التي يرسلها إليها جواسيسها في كل صباح، فلما رأتها قالت: أين كنت يا باسمة؟ ولم أراك عابسة حزينة؟ - إن حبك يا مولاتي والخوف من أن تمسك هبة من نسيم، هما اللذان يشغلان قلبي، ويكدران صفوي. - فقهقهت سيدة القصور وقالت: لا تتعبي رأسك الجميل يا فتاة، ولا تجني على جمالك الفتان بالخوف علي، فإنك إن فعلت أذبلت أجمل زهرة بالبستان الكافوري. ما الخبر؟ - لا شيء، أو هو شيء يكفي فيه التحرز والاحتراس. - أي احتراس؟ ومن أي شيء؟
عند ذلك استنجدت «باسمة» بأدق مواهبها، وأروع أفانينها، وأخذت في الحديث في تحرج وتلعثم، وكان صدرها يخفق، وعيناها تتحير فيهما الدموع، وصوتها يرتعد ... ثم قصت على سيدتها ما اتفقت عليه مع ابن دخان من تفصيل المؤامرة المزعومة، وأن عمارة الذي يبغض المذهب الفاطمي بقلبه، ويناصره بلسانه - إنما استدعاه طلائع بن رزيك من مكة؛ ليكون آلته في الكيد والقضاء على الفاطمية، وأنه قد تآمر مع بعض الجند على اغتيال الخليفة الفائز، والقضاء على سيدة القصور، وإجلاس ابن رزيك على عرش مصر. - من الذي كشف عن هذه المؤامرة؟ - إبراهيم بن دخان. - هذا غير معقول يا فتاة؛ إن عمارة عاهدني ألا يخونني، ثم إن في الرجل صفات تأبى عليه أن ينغمس في هذه الحمأة. - إنه داهية يا سيدتي، وهو يتخذ من سحر شعره ولطف حديثه، وظهوره بمظهر الرجولة والنخوة ستارا يخفي به مكره ومحاله. - أنا لا أكاد أصدق، عمارة؟! ... يدس لي؟! ويعمل على قتلي وتقويض ملكي ...؟! لا ... لا ... هذا إذا عاد الصباح ظلاما، والأسد ثعلبا، والدواء سما زعافا ... - أأنت واثقة يا باسمة؟ - تمام الوثوق، وقد كان من أسباب حزني خوفي من أن تماريني وتنفضي عنك الحذر، والقضاء على الجريمة والمجرمين. - قد يكون، إن هؤلاء الغرباء الذين يفدون على مصر لا تخلو حقائبهم من دسائس ومؤامرات، إذا فمبالغته في التقرب إلي والإخلاص لعرشي كانت رياء في رياء. - لو لم يكن الرجل دساسا ما لفظته بلاده، وهو يدعي أن له فيها الأموال، والأتباع، والجاه العريض. - هذا صحيح، دعيني وحدي قليلا يا فتاة، فإني أريد أن أفكر.
وبعد ساعة أو ساعتين أمرت راجحا أن يدعو إليها ابن دخان، فلما دخل انكب يقبل أطراف قدميها، ثم وثق مطرقا واجما وهو في سمت الخدام المخلصين، فسألته سيدة القصور عن مجمل الخبر، فقال: جاءني خادمي «عيد» السوداني يوما، وعليه آثار الخوف والاضطراب، وفي وجهه لمحات من التردد والحيرة، فسألته عن شأنه؟ فراوغ وتلعثم؛ فلما أثقلت عليه قال: إننا جميعا عزمنا على أن نلقي إليك جملة الخبر، فانتظرني حتى أعود، ثم عاد ومعه من الجنود: عمران النهري، وعكاشة الحداد، ومجاهد الرملي، فأخبروني أن عمارة أغراهم بالمال، ووعدهم بالمناصب، وذهب معهم إلى قصر ابن رزيك، فزادهم هذا إغراء، وأقسموا أمامه على قتل سيدي الخليفة ومولاتي، ولكنهم بعد أن وزعت عليهم الأموال خارت عزائمهم، وعاودهم إخلاصهم المكين للخليفة ولمولاتي، ورأوا - كما قالوا - أن خزائن الدنيا جميعا لا تغري بأن تمس شعرة من رأس مولاتهم، وألحوا علي في كتمان الخبر، ولكني خفت أن تكون خيبة عمارة وصاحبه في هذه المؤامرة دافعا إلى الشروع في غيرها، فأسرعت إلى جاريتك: باسمة، ورجوتها أن تبلغك أمرها. - لقد أحسنت يا ابن دخان، ثم أشارت بكفها فخرج، وبينما كان ابن دخان يمر بأحد دهاليز القصر رآه مجاهد الرملي، فاختفى وراء ستار؛ لأنه كان مع اشتراكه في الدسيسة يكره الكلام فيها، وفي تلك اللحظة مرت باسمة، فقال لها ابن دخان: الآن وجب قضاء الدين يا فتنة العين، وريحانة النفس، ثم وثب عليها فطوقها بذراعيه، فلم تمانع ولم تعمل على إبعاده، فانكب على وجهها بشره يملؤه قبلا، يزيدها الحب لذة ورنينا.
رأى مجاهد كل هذا فغلى دمه من الغضب، وظهر في عينيه السخط والحنق، وتحركت في صدره أفاعي الانتقام، ولكنه كظم غيظه، وانتظر حتى انصرفا، فخرج من وراء الستار كالمجنون الذي طار عقله وهو يتمتم: ويل لها! ... ويل له! ... ألأجل مال هذا الدميم كانت تتدلل علي وتنفر مني وتزور عني، وتقابل توسلات حبي بالسخرية والاستهزاء؟ والله لأبطشن بهما معا!!
قضت سيدة القصور أياما تقلب الرأي في أمر عمارة. حتى انتهى بها العزم إلى وجوب البطش به، ورميه في بئر القصر المعروفة ببئر الصنم، التي كثيرا ما ابتلعت أعداء الفاطميين، فنادت مؤتمن الخلافة، وأمرته بدعوة عمارة إلى قصر الزمرد.
وفي غد ذلك اليوم جاء عمارة إلى القصر، وهو خائف يرتعد، ودخل بهو الأميرة، فرآها جالسة في الوسط، وإلى جانبها مؤتمن الخلافة، وجاريتها «باسمة»، ورأى ابن دخان واقفا ومعه ثلاثة من جنود القصر، فتقدم ليقبل طراز الأميرة، فزجرته وأمرته بالوقوف بجانب ابن دخان، فوقف مبهوتا لا يدري لكل ما يرى ويسمع سببا، ثم التفتت سيدة القصور إلى ابن دخان، وقالت: قدم دعواك يا ابن دخان، فأخذ يقص ما حاك من دسيسة، وعمارة في ذهول، يرى البهو يدور بمن فيه، ثم ينقلب فيراهم في سقفه لا في أرضه، حتى إذا أتم ابن دخان دعواه، اتجه إلى الجنود وقال: وهؤلاء الجنود المخلصون الذين أرادوا أن يستغووا المتآمرين حتى يوقعوهم في الشرك، سيقدمون إلى مولاتي ما يؤيد وقوع هذه المؤامرة الخسيسة. فقالت سيدة القصور: وأين مجاهد الرملي؟؟ ... فإذا صوت يصيح في دهليز البهو: هأنذا قادم إليك يا مولاتي. ويدخل مجاهد، فينظر مرة إلى «باسمة»، ومرة إلى ابن دخان، ثم يصيح: هذه دسيسة كاذبة ملفقة يا مولاتي ... إن زوجتي باسمة هذه هي التي نسجت خيوطها الواهية مع ابن دخان، وهؤلاء الجنود الكاذبون وعد كل واحد منهم بمائة دينار؛ لقاء كذبه وزوره، وقد وافقتهم على الاشتراك معهم، ولكني رأيت آخرا أن هذه الوشاية قد تحدث فتنة، وقد تدفع الناس إلى التحدث عما يسمونه: دسائس القصر، فأسرعت إليك يا مولاتي لأعيدها إلى الرمس الذي نبشت منه، ولأقتلها في مهدها.
شمل الصمت والذهول جميع من حضر، وأحس عمارة أن هاتفا يهمس في أذنه: لقد نجوت، واصفر ابن دخان، وارتعدت أوصاله، وصاحت الأميرة في غيظ وحنق: وما برهانك يا مجاهد؟! - برهاني: أنك تجدين في خزانة ديوان الرواتب أربع صرر، بكل واحدة منها مائة دينار، وقد كتب على كل صرة اسم واحد منا؛ لأننا لعلمنا بمخاتلة ابن دخان ومخادعته، خفنا أن يماطلنا في نقد المال بعد إتمام الدسيسة، فحتمنا أن يكتب بيده اسم كل واحد منا على صرته.
فاتجهت الأميرة إلى مؤتمن الخلافة وقالت: اذهب مع هذا الرجل (وأشارت إلى ابن دخان) وأحضر الصرر إن وجدتها.
فذهبا وابن دخان يجر ساقيه، ثم عادا ومعهما الصرر الأربع ، وقد كتبت عليها أسماء الجند كما قال مجاهد. فقالت الأميرة: لقد انجلى الحق، وأمرت بأن يطرد ابن دخان من رياسة ديوان الرواتب، وأن تطرد باسمة من القصر، وأن تضرب عشرين سوطا، وأن يضرب الآخرون خمسين سوطا.
ثم اتجهت إلى عمارة وقالت: أسأنا بك الظن أبا محمد، وطفقت تعتذر إليه وتستعطفه، وتشكو إليه ما حولها من الدسائس التي تحاك في ظلمة الليل وظلمة النفوس، فتقدم عمارة يقبل يديها وقدميها وهو يبكي ويقول: والله يا مولاتي لو وسوس إلي فؤادي مرة أن أمس شعرة لفاطمي أو فاطمية لخلعت فؤادي من صدري؛ فمست كتفه بلطف وقالت: أعود إلى ما كنت لك ... وتعود إلي ما كنت لي ... وننسى هذه العاصفة الكاذبة التي كانت سببا في توثق ودادنا.
الفصل الثامن
مرت شهور وأيام، مات في أثنائها الخليفة الفائز، فقد أصابته حمى لم تمهله أياما حتى قضى، وما كادت سيدة القصور تمسح أول دمعة عليه حتى أشارت بتولية عبد الله ابن أخيها يوسف؛ لأنه كان صغير السن، وفي ذلك تمكين لسلطتها في الدولة.
فقد كان في الحادية عشرة، فلقبه ابن زريك: بالخليفة العاضد بالله، وقامت له البيعة بقاعة الذهب في يوم حافل، ووقف عمارة بين الحشد الجامع من المبايعين ينشد:
لئن قل صبر فالمصاب عظيم
وإن جل شكر فالنوال جسيم
لئن عرضت للفائز الطهر نقلة
فأنت أمير المؤمنين مقيم
وإن سلبتنا جنة الخلد قربه
فقربك منا جنة ونعيم
ثم عدد مآثر الفاطمية والفاطميين، فأجاد وحلق.
وبعد أيام ذهب عمارة للقاء سيدة القصور، فرآها في حزن مقعد مقيم، فأخذ يعزيها في الفائز، ويهدئ من ثورة حزنها، فقالت: والله ما على الفائز أبكي يا عمارة، وإنما أبكي على دولتنا؛ لأنني منذ تولية العاضد وأنا أشعر شعورا غريبا لا أعرف كنهه بأنه سيكون آخر خلفائنا، وقد كنت أبيت أن ألقبه بالعاضد، ولكن هذا الأرمني ابن رزيك أبى إلا هذا اللقب ... أتدري أنني لشدة ضيقي بهذا الأمر، ولخفاء سببه علي ذهبت إلى خزانة الكتب بالقصر؛ لأبحث في الأوراق القديمة الخاصة بدولتنا، فعثرت على ورقة كان طلب جدي المعز من قاضي مصر إذ ذاك - أبي طاهر محمد بن أحمد - أن يكتب له فيها ألقابا يلقب من يأتي بعده من الخلفاء، فكتب القاضي له ألقابا كثيرة، وكان لقب العاضد آخر هذه الألقاب؟! فحزنت حينما رأيت الورقة، وعلمت السر في تطيري ... إن روح الإنسان يا عمارة تلتقط الغيب أحيانا، وكثيرا ما يسر الإنسان بغير سبب ظاهر، فتفد عليه أسباب السرور، وكثيرا ما يحزن كذلك، فيلتقي بما يحزنه في الطريق ... قاتل الله هذا الإنسان! ... لقد وضعه الله في برزخ من الآلام: فلا هو من البهائم؛ فيعيش في ظلام الجهل هانئا، ولا هو من الملائكة؛ فيعيش في صفاء من النور سعيدا. - هذه أوهام يا مولاتي، وإن الخلافة بك وبالمخلصين من أنصارك في حصن حصين. - أرجو أن يكون الأمر كما تقول!! آه!! ليتني كنت رجلا!! ... إن القدر أحيانا يضع نفوسا في غير أجسامها، ويهب السيف لغير حامله ... علمت أن ابن رزيك في هذه الأيام يتبجح بالعظمة، ويكثر من الأعوان، ويلوي لحيته إلى أنفه ليشم رائحة الخلافة، وخير له أن يرعوي ويزدجر، فإن دمالج سيدة القصور أقوى من رماحه وسيوفه، وإن سيدة القصور لا تحارب بالرجال، وإنما تحارب بجيش من الآراء، يأخذ أعداءها بغتة وهم لا يشعرون ... آه!! أريد أن أكون رجلا؛ لأبرز لهؤلاء القوم من وراء الستار ... ثم تضحك وتقول: ما هذا الجنون الذي أصابني؟! وهل أجد رجلا كابن رزيك بين رجال دولتي؟! إنه الملك الصالح!! ... إنه أبو الغارات!! ... إنه ناصر الفاطمية بيده ولسانه وجنده!! ... حقا إن النساء ناقصات عقل ناقصات دين، ولأمر ما حرمت المرأة النبوة والإمامة والقضاء.
أما عمارة: فإنه يتحير في أسباب اضطرابها وتناقضها، وتلويحها باسم ابن رزيك مرة بالسخط، ومرة بالرضا، فيستأذن وينصرف.
ثم يأتي شهر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة، فتحتفل القاهرة باستقباله، وتظهر المدينة بالليل كأنها شعلة من نور؛ لكثرة ما يسرج فيها من المصابيح التي تعلق فوق المآذن والدور والحوانيت، وفي كل مكان، ونشاهد في القصر حركة غريبة، ونجد سيدة القصور في شغل شاغل، ونرى اجتماعات كثيرة تقام في سراديب القصر، تحضرها الأميرة، ومؤتمن الخلافة، وابن قوام الدولة صاحب الباب، والأستاذ المحنك عنبر الربعي، وفي أحد هذه الاجتماعات أخذت الأميرة تعدد سيئات ابن رزيك، وتذكر مطامعه في الدولة، وتهول فيما أصاب الخلافة من الضعف في أيامه، وأنه يضعفها قصدا ليلتهمها، فقال مؤتمن الخلافة: إن الخلافة ضاعت هيبتها منذ أن سيطر عليها بدر الجمالي الأرمني في أيام المستنصر، وقد زاد ضعفها بهذا الأرمني الجديد المتبجح، الذي يلقب نفسه بالملك الصالح. وقال ابن قوام الدولة: إن مظالمه عمت مصر جميعها، حتى أصبح المصريون يتمنون موته. فقالت سيدة القصور: وكيف نستريح من شره؟؟ - إنه يزور القصر في كل ليلة بعد العشاء الآخرة، وهو يدخل من باب العبيد إلى الدهليز الموصل إلى قاعة الفضة، حيث يجلس الخليفة في رمضان، وإني سأخلي الدهليز ليلة غد من المارة قرب وصوله، ثم إن بالدهليز خزانة يمكن الأجناد أن يختفوا بها مع رئيسهم ابن الراعي، فإذا مر ابن رزيك شغلته ببعض الحديث، وأصابتني نوبة سعال يسمعها الجند في الخزانة، فينقضون عليه بسيوفهم.
فقال عنبر الربعي: هذا حسن ... ولكن أترون أن أتباعه وجنوده لا يثورون إذا علموا بقتله؟!
فقال مؤتمن الخلافة: دع هذا لي، فإن عندي من جنود السودان عددا يحيل نهار القاهرة ليلا.
وقالت سيدة القصور: إن من السهل أن ندعي أننا لا نعرف من قتله، ويجب لأجل ذلك ألا يكون الجنود من السود، كما يجب أن يغيروا أزياءهم، وأن يلبسوا ثياب عامة المصريين.
فقالوا جميعا: نعم الرأي يا مولاتي، وسيطهر أديم مصر من ابن رزيك غدا، ثم نهضوا للقيام، وكررت الأميرة وصيتها بالكتمان والتدبر، وإحكام المؤامرة.
وفي الليلة الخامسة من رمضان جاء طلائع على عادته يصحبه ابنه مجد الإسلام، ودخل من باب القصر، ونفذت المؤامرة كما صورها ابن قوام الدولة، لم يخرم منها حرف، وهجم جندي على مجد الإسلام بسيفه فشطر عضده، ثم وثب ابن الراعي على طلائع فطعنه في نحره، ولما وصل الخبر إلى سيدة القصور أمرت الجواري والغلمان بالولولة والصياح والاستغاثة، وأمرت الجنود بإظهار الألم، وبالجري هنا وهناك للقبض على المجرمين، وبثت أعوانها السريين بالقاهرة، يشيعون أن جماعة نقبوا سور القصر واغتالوا ابن رزيك، ثم إنها أرسلت إلى مجد الإسلام ابنه، فجاء إلى القصر، وقابلها في حشد من الأستاذين، فلاقته باكية نادبة، وأشارت من بعيد بأن شاور بن مجير والي قوص، وأكبر منافس للملك الصالح هو مدبر هذه الجريمة. ودخل عمارة وقد أذهله الحادث، وأبكته المصيبة، فأنشد قصيدة طويلة في رثائه، وكانت الأميرة تبكي بعد كل بيت بكاء الثاكل، وتتلوى من الحزن، حتى اضطر الأستاذون إلى إسكات عمارة، وانفض المجلس. وبعد أيام اختلت الأميرة ببعض الأعوان السريين، فأخبروها أن جنود ابن رزيك وأنصاره يتأهبون لثورة جامحة، فدعت رجالها لمشاورتهم في الأمر، ورأت لدرء الفتنة أن يتولى مجد الإسلام رزيك مكان أبيه، ثم نظرت إلى مؤتمن الخلافة وقالت: أشغل دائما عدوك عنك بمحاباته، حتى يدع لك وقتا تستأصل فيه شأفته، وليس بالثمن الغالي أن يحكم رزيك شهورا، لكيلا يبقى رزيكي بأرض مصر، ولكي يستقل العاضد بأمور الخلافة غير مزاحم ولا معارض، إن الأمر يتطلب زمنا طويلا للتفكير، وشر الرأي الفطير.
الفصل التاسع
خرجت «باسمة» من القصر مطرودة مجلودة، فحملها بعض الجند إلى مسكن زوجها، فمكثت به أياما وزوجها محزون حنق، يأنف من النظر إليها أو القرب منها، حتى إذا نقهت أرسل إلى ابن دخان، فلما حضر قال له مجاهد: أنت أيها الشيطان سبب إغواء هذه المرأة وإفسادها، فاحمل خطيئتك على كتفيك، فليس لي بها من حاجة، خذها لا بارك الله لك فيها، فإنها طالق، وإن الكريم لا يشرب من إناء ولغت فيه الكلاب؛ فزأرت «باسمة» كما تزأر اللبؤة الهائجة، وقالت: لقد رميتني بالإفك ... وإنني والله ما فرحت بزواجك، ولقد سرني طلاقك، ولو كان الطلاق من حق المرأة لكنت البادئة به منذ حين ... عجبا للرجل منكم!! يلوي رأسه للمرأة كبرا ويقول: أنت طالق، ولو كشف عنه الغطاء لعلم أن المرأة طلقته قبل ذلك ألف مرة ... إن الطلاق نعمة من نعم الله إذا تزوجت امرأة بمثلك، أما أن يأخذني ابن دخان أو لا يأخذني فذلك ما لا شأن لك فيه، ولن أريد أن أكشف لك عن طهارتي مع ابن دخان، فإنك عندي دون من تبسط له حجة، أو يقدم إليه اعتذار ... هلم يا ابن دخان خذني إلى حيث شئت.
خرجت تتعثر هي وابن دخان، فقال لها وهما في الطريق: أنا لا أريد أن أبدأ الحديث يا باسمة؛ فإني أخشى أن أزل، فأنا رجل صناعته جمع الأرقام لا تزويق الكلام، ولكني عبدك وطوع يمينك، أمد يدي إليك مد الخادم يده لسيدته، لا مد الآمل إلى أمنيته، وأين أنا منك يا باسمة؟! أنا كلب باسط ذراعيه بالوصيد ليحرس سرا سماويا وملك وملكا أرضيا!! فأرسلت «باسمة» ابتسامة خفيفة اقتحمت طريقها من بين شفتيها العابستين، وقالت: إن الكلاب تعض أحيانا. - أنا كلب أليف أمين يا أميرتي. - ولكني أكره نباح الكلاب كلما رأت شخصا غريبا. - كلبك تكفيه الغمزة والإشارة، فلو رأى الدنيا كلها حولك، وأشرت إليه بإصبع لربض راضيا مغتبطا. - أنت لطيف يا إبراهيم!! - أنا لطيف ... لطيف جدا ... وسعيد ... سعيد جدا ... لأنني لطيف، أعلمت أن مؤامرتنا على عمارة اليمني نجحت؟! - نجحت!! إن جسمي لا يزال يلتهب من السياط!! ... فكر كما يفكر الناس يا إبراهيم لا كما يفكر الكلاب. - إن كنت كاذبا فلا أبقى الله لي رأسا ولا ذنبا ... لقد نجحت المؤامرة، أليس من أكبر آثارها أني أتحدث الآن إليك، وأن آمالي التي طفقت أكتمها في صدري سنين طوالا أخذت تطل برؤوسها؟! هلم إلى منزلي لنفكر في شئون الزواج. - قبل أن تفكر في هذا يجب أن أتحدث معك طويلا ...
دخلا منزل ابن دخان، حتى إذا استقرا في حجرة مطلة على الخليج، التفتت «باسمة» إليه وقالت: أرأيت كيف كان جزاء خدمة هؤلاء الفاطميين؟! انظر كيف بعنا أنفسنا لهم، وكيف عادينا الناس لأجلهم، وكيف تجسسنا، وكيف وقفنا خلف الأبواب نسترق الأحاديث، وكيف عرضنا أنفسنا للسم والقتل من أعدائهم؟! ثم انظر ماذا كان الجزاء الأوفى على هذه الخدم؟! ... كان أن نطرد ونجلد!! سحقا لهم ولدولتهم!! والله لأنتقمن منهم. - أنا طوع أمرك، فانظري ماذا تأمرين. - ثم هذه الصلفة المنتفخة سيدة القصور، التي تدعي حكمة سليمان، ومكر هامان، وأن فيها أسرار المعز، وسطوة الحاكم، والتي لا تعيش إلا لنصب الأشراك، ودس الدسائس، هؤلاء الفاطميون قتلوني بغرورهم وجنونهم، كأن الله لم ينشئ الكون إلا لهم، ولم يخلق الفضائل إلا انتظارا لقدومهم ... احتفالات ومهرجانات، وأعياد، وطبل وزمر: هذه هي دولتهم، وهذه هي ألاعيبهم التي يلهون بها العامة، ويشغلونهم عما يحيق بهم من الظلم، والعسف، واغتصاب الأموال، وإلا فمن أين هذه الجواهر المكدسة في القصر، وهذه الكومات من الذهب والفضة؟؟ ... ولقد بالغوا في المظاهر إلى حد البله، حتى لقد كدت والله أفضح نفسي، وقد ملكني الضحك حين أخذنا نلبس الخليفة الفائز شعار الخلافة ... تصور غلاما في الخامسة يلبس عمامة أبيه، وجبته وطيلسانه!! ... لقد ملأنا العمامة قطنا، حتى إذا وضعناها على رأسه مال عنق المسكين، ولم يطق لها حملا، فحملها أستاذ لتنوب يده عن رأس سيده، أما الجبة: فقد غرق البائس فيها، واختفى بين حليها وذهبها. لا ... لا ... إن دولة الباطل ساعة، وأرجو أن تكون قد دنت نهاية هذه الساعة. - لقد صورت ما في نفسي يا باسمة، فقد أصابنا من الفاطمية ومن سيدة القصور - بعد طول الخدمة وإخلاص النصح - ما لم يصب أحدا، ولكن الوقت لم يحن بعد لتسديد السهم. - هل رأيت زين الدين بن نجا؟ - لم أره منذ حين، وأظنه فر من مصر بعد أن زين الدين بمؤامرته على عمارة.
ثم مضت فترة من الزمن بني فيها ابن دخان بباسمة، ومضت فترة أخرى مات فيها الفائز، وقتل طلائع بن رزيك، وتولى ابنه مجد الإسلام، وهنا تيقظ نائم الأحقاد بصدر «باسمة»، فقالت لزوجها: أصدقت تلك الأكذوبة التي تشيعها العامة؟؟ وهي أن أنصار شاور بن مجير نقبوا جدار القصر وقتلوا طلائع؟! - هذا كلام يقال لغيري وغيرك، على الرغم من بكاء سيدة القصور عليه وطول عويلها؛ لأنها كما تقول العامة: «تقتل القتيل وتمشي في جنازته». - هذا لا شك فيه، وما أظن أن رزيك بن طلائع صدقها، ولكنه جبان جشع، اكتفى بمكان أبيه من الوزارة ثمنا لرأسه، وسيبقى ألعوبة في يد سيدة القصور ورجال القصر؛ لأنه خائر العزم، ضعيف النفس، ليس فيه صفة من صفات أبيه، التي كبحت جماح الأميرة، وكسرت شوكتها، وألزمتها حدها، وستتركه سيدة القصور قليلا، حتى تحين الفرصة لاغتياله، واغتيال أهله وأنصاره، وحينئذ تستقل بالملك والخلافة، وتعيد - كما كررت على سمعي كثيرا - أيام الحاكم بأمر الله. - إني أنظر بعيني، فلا أرى بين كبار قوادنا من يستطيع أن يكون ندا لهذه المرأة الجبارة، فقد قتل طلائع بن رزيك جميع منافسيه ليخلو له الجو، وكأنما قتلهم ليخليه لها!! - نعم، قتلهم جميعا إلا واحدا، وهو شاور بن مجير والي قوص، وقد كنت صديقة له في القصر، أو كما كان يسميني وكيلته، أو كما كان يقول الناس جاسوسة له، وشاور رجل شجاع قاس، طماح كثير الأتباع والأنصار، فلماذا لا ندفعه إلى اهتبال الفرصة، والقدوم بجيشه إلى القاهرة لاستئصال أبناء رزيك، وقتل الخليفة وسيدة القصور، والجلوس على عرش الخلافة؟! - يا حبذا لو صحت الأحلام!! إذا سيكون لك ولي المقام الأول في القصر.
استمرت هذه الفكرة تدور في رأسيهما أياما، حتى إذا اختمرت غادرا دارهما بالقاهرة، وخرجا إلى الفسطاط مع بعض الخدم، واستأجرا سفينة إلى قوص.
صعدت السفينة، وكان الوقت خريفا، والجو إلى البرودة أميل، وكانوا كلما وصلوا إلى قرية أو مدينة رست السفينة، وخرج الخدم فابتاعوا ما يريدون من طعام، وشراب، وفاكهة، وعاش ابن دخان وباسمة في السفينة شهرا أو بعض شهر، في أنس ونعيم وطرب، حتى لقد قال لها ابن دخان يوما - وقد رأى الشمس غاربة، وقد نفذت أشعتها إلى سحب خفيفة حولها، فأرسلت ألوانا يحار اللغوي في تسميتها والرسام في تكوينها، ثم رآها تسقط رويدا بين النخيل المتكاثفة، فتظهر من خلالها صافية براقة، كأنها سبيكة من نضار: يا باسمتي ... حرام أن نقضي حياتنا في هذا اللغو، وأن نعمى عن التمتع بجمال الكون، وبهجة الحياة، إن عندي من الأموال ما يكفل لنا العيش الناعم المترف، فلماذا نكدر هذا العيش بالغم والحزن والكيد لفلان، والحقد على فلان؟! انظري إلى الشمس!! - إنك أبله!! - صدقت يا حبيبتي!! أنني أصاب بالبله عند كل مغيب شمس.
فابتسمت «باسمة»، وقالت: لو وقف جوهر القائد وقفتك هذه، وتغزل في الشمس وجمالها كما تتغزل، لتفرقت جيوشه وما فتح مصر، وإني لم أقرأ في التاريخ عن أمير أديب أو شاعر إلا جاءته نكبته من أدبه، وإغراقه في حب الجمال، إن الله خلق في الإنسان وجدانا وفكرا وإرادة، ولكي يكون الإنسان كاملا يجب أن تتوازن فيه هذه وتتعادل؛ لأن من يتحكم فيه وجدانه كان بعد شهواته، ومن يتحكم فيه فكره بقي حزينا عاجزا، أما من تتحكم فيه إرادته فمجنون معربد ... أفهمت يا زوجي المفتون بالجمال؟! - فهمت درسا يعجز عنه كل الشيوخ الذين يدرسون بدار الحكمة.
وصلت السفينة إلى قوص، وذهبت «باسمة» وابن دخان قاصدين قصر شاور، فما إن دخلا وأخبرت «باسمة» الخدم باسمها، حتى أرسل إليها شاور، وبذل في تحيتهما وإكرامهما خير ما يبذل العربي الكريم، ثم سأل «باسمة» عن القاهرة وأحوالها، وعن مجد الإسلام رزيك ووزارته، فأجابته بعبارات مبهمة، وكان يظهر على شاور الغيظ من رزيك، والألم من بعده عن تقلب الأمور بالقاهرة، حتى لكأنه أسد شرس حبيس. وبعد أيام اختلى شاور بباسمة وابن دخان طويلا، فقال شاور لباسمة: كنت أظنك لا تزالين بالقصر!! - سئمت يا سيدي مكايد الفاطميين ودسائسهم، واستبداد سيدة القصور بأمور الدولة، وسئمت تحكم الأستاذين، والجنود السودان في أشراف العرب. - وبم تشيرين علي الآن؟؟ - إن رزيك الآن أضعف من ثمامة، وهو لعبة في يد سيدة القصور، فإذا لم تقتنص الفرصة لدخول القاهرة، والجلوس على عرش الخلافة، ضاعت منك إلى الأبد. - أعتقد أن العامة يحبون الفاطميين، ويحبون أموالهم حبا جما، وأنهم يدافعون بأرواحهم عن خلافتهم. - إذا نثرت أموالك على جيوشهم ألقوا السلاح ليلتقطوا الدراهم ... - ثم هناك الجنود السود، وهؤلاء وحوش، إذا سمعوا قعقعة سلاح طارت رؤوسهم، وقذفوا بأنفسهم كالفراش المتهافت على النار ... لا يا باسمة، إن الأمر ليس بهين، وإن الوقت لم يحن بعد لهدم الخلافة الفاطمية، ورأيي: أن نصل إلى الغاية في مرحلتين لا في مرحلة واحدة: نهجم على القاهرة أولا مدعين أننا جئنا لنصرة الخلافة، واستنقاذها من أيدي الأجانب، حتى إذا قضينا على آل رزيك وأنصارهم، واسترحنا قليلا اختلقنا أسبابا لاستئصال الخلافة، بعد أن نكون قد أعددنا العدة. - لا يا سيدي، إن سيدة القصور لن تتركك تستريح، والثعبان إذا قطع ذنبه زادت ضرواته. - إن نصف التوفيق توفيق. - ونصف الكمال نقص. - وما تقولين في أن ثلاثة أرباع جيشي الذي سأدخل به القاهره فاطمي النزعة والعقيدة!! وأنني لا أستطيع بحال أن أوجهه إلى هدم الخلافة، ولو أشرت إليه ما أطاعني، دعي لي تدبير هذا الأمر يا باسمة، وسترين أننا بعد شهر أو شهرين من استقرارنا بالقاهرة سينادى بخلافتنا، وستؤخذ لنا البيعة في القصر الكبير، وستكونين سيدة وصائف القصر. - ليكن ما تريد يا سيدي ... ومتى يزحف الجيش من هنا؟ - بعد خمسة أيام.
الفصل العاشر
زحف شاور بجيشه إلى القاهرة، ومعه ابناه: «طي»، و«شجاع»، وكان الجيش لهاما خضما، خطب فيه شاور خطبة ضافية مثيرة، ودعاه إلى إنقاذ الخلافة الفاطمية من أيدي الأرمن الغاصبين، وبعد فترة طويلة أشرف على أرباض القاهرة.
علمت سيدة القصور بتحرك جيش شاور من قوص، ونقل إليها أصحاب الأخبار مقدار قوته، وعدد رجاله، فلم تحرك ساكنا؛ لأنها رأت أن في اختلاف اللصوص نجاة القافلة، ورأت في شاور أنه - على الرغم من جفوته، ويبس أخلاقه، وشرهه في حب المال - لا يزال عربيا. وعرضت الأمر على عمارة - وكان محبا لرزيك، صديقا لشاور - فروى في الحكم، وغم عليه وجه الصواب. فقالت له سيدة القصور: إني لا أوثر أحدهما على صاحبه، فكلاهما غاصب للدولة معتد على سلطتها، وأرى أن في معاضدة أحدهما زوالا للخلافة، وأن الأمر لا يخلو من إحدى اثنتين: إما أن ينتصر من ساعدناه بجيوشنا، وإما أن ينهزم، فإن انتصر فلن يصل إلى النصر إلا بعد أن تكون جيوش القصر قد ضعفت، وقل عددها، وحينئذ نراه بعد أيام قد انقلب علينا واستلب عرشنا؛ لما يعلم من عجزنا عن مقاومته، وإما أن ينهزم وينتصر خصمه، وتلك الكارثة العظمى؛ لأن الخصم المنتصر لا يكتفي بهزيمة عدوه، بل يدفعه الانتقام إلى استلاب ملك مناصريه.
لا يا عمارة ... يجب أن نقف من هذين الخصمين وقفة المشاهد، ولا نميل بجانب إلى واحد منهما، وأن نقول كما يقول العرب: الكلاب على البقر!! فاقتنع عمارة، وما هي إلا أيام حتى دخل شاور القاهرة، وفر رزيك إلى إطفيح، وتمكن منه شاور وقتله، ثم أعمل سيفه في آل رزيك، واستولى على أموالهم، ودخل على سيدة القصور فقابلته بخير ما يقابل به الفاتح العظيم، ونثرت فوقه ألقاب الشرف والبطولة، ودعت عمارة إلى مدحه، وولاه الخليفة العاضد شئون الوزارة، واجتمع حفل عظيم بقاعة الذهب عند توليته أنشد فيه عمارة قصيدة رائعة.
استمر شاور في الوزارة، وكان جشعا خبيثا سفاكا للدماء، فأغضب العامة والخاصة، وطالما نصحت له «باسمة» - التي أصبحت ولها أكبر مكانة في قصره - بالرفق، وصرف الناس عن التعلق بالخلافة بما يبذل من مال، وما ينشر من عدل، ولكنه لم يلق لها سمعا؛ لأنه كان بطبعه جافا شريرا سيئ التدبير، وكان أخوه «نجم» مسيطرا عليه، فزاد حكمه فسادا على فساد.
ضج أهل القاهرة من ظلم شاور وعسفه، فاجتمعت جموعهم، وتلاقت حشودهم عند باب زويلة، وكان زعيم الجمع ورئيسه الشيخ عبد الحكم الغفاري المدرس بجامع الحاكم، وكان جهير الصوت، قوي التأثير، فأخذ يرسل فيهم صوته بمخازي شاور، وإرهاقه الأمة بأنواع العسف والقوة الجائرة؛ حتى هاج كوامن أحقادهم، ثم دعاهم إلى السير إلى القصر الكبير، فساروا كالبحر المائج، وكان صياحهم: يا شاور ظلمت!! ... يا شاور طغيت!! ... الله الله فينا! ... بالخليفة نستنجد!! وكانت النساء تطل من النوافذ يحيين الجموع بالأغاريد والدعاء، ولما قربوا من القصر أمرت سيدة القصور عمارة أن يخرج إليهم، ويهدئهم، ويكلمهم كلاما عائما، ويعدهم ويمنيهم، وقد تم كل هذا، وأظهر عمارة براعة في اجتذاب الجموع إليه، وفي تسكين غيظهم من غير أن تند منه كلمة تغضب صاحب الحكم، أو تغضب الثائرين، وما زال بهم حتى تفرقوا مطمئنين مغتبطين.
وبعد يومين عقدت سيدة القصور مجلسا بالقصر، حضره الأستاذون، ومؤتمن الخلافة، وضرغام بن عامر اللخمي صاحب الباب، ورئيس الجنود البرقية، وتداول من بالمجلس فيما صارت إليه الأمور في عهد شاور من الفساد والعفن، ورأوا أنه لا بد من استئصال شأفته، وتطهير البلاد من شره.
وكان ضرغام فارس عصره، شجاعا جميل الطلعة، أديبا شاعرا، فوقف وقال: يا سيدتي إن لدي من الجنود البرقية عشرة آلاف، وهي تكفي لمحو هذا الطاغية، ومحو عصابته، فقالت سيدة القصور: أني لا أقنع إلا برأس شاور.
خرج ضرغام وقضى أياما في إعداد جيشه في الخفاء، حتى إذا تمت أهبته، وثب فجاءة على شاور، فجمع شاور جيشه، ولكنه لم يستطع الوقوف أمام ضرغام، بعد أن ناصره أهل القاهرة، وجمع له الشيخ عبد الحكم جموعا من أحياء العطوف، وبرجوان، والفرحية، والريحانية، فهزم شاور، وقتل ضرغام ابنه طيا، وفر شاور بجيشه إلى الشام للاستنجاد بنور الدين محمود بن زنكي.
وعاد ضرغام إلى القاهرة فائزا تدق أمامه الطبول، وترفع له الرايات، ووصل إلى القصر، وقابلته الأميرة مرحبة مهنئة، وولاه الخليفة الوزارة.
وكان ابن دخان في ذلك الوقت في داره، فالتفت إلى باسمة وقالت: لقد أكثرت من نصح شاور يا باسمة، ولكنه لم يسمع!! - ما دام حيا فلن أفقد أملا ... إنه صل مخادع يعرف متى يدخل جحره، ومتى يخرج منه، ويجب علينا أيضا أن ندخل جحرنا الآن حتى تزول هذه العاصفة. - أتظنين أن لشاور عودة؟؟ - إنه لما حزبه الأمر، وضايقه جيش ضرغام، دعاني فنصحت له بما يعمل، وقد استجاب لنصحي في هذه المرة. - حسنا ... هلم ندخل جحرنا الآن لنعيش سعيدين متعانقين، فقد شغلتك المؤامرات عني.
الفصل الحادي عشر
ترك شاور بعد هزيمته جيشه بالفرما، واتجه مع أخيه نجم، وابنه شجاع، وبعض خاصته إلى دمشق، فدخلها في أصيل يوم من أيام الصيف، ورأى جنود ابن زنكي منتشرين بخيامهم وأثقالهم وخيولهم في أرباضها، ولهم ضجيج وعجيج وحركة. وما زال يسأل عن خيمة العادل محمود نور الدين حتى بلغها، وكانت في غوطة دمشق بين أشجار الفاكهة والرياحين، فنزل شاور ومن معه بخيمة الحاشية، وطلب من حاجب نور الدين أن يعلمه بقدومه، فجاء الإذن بعد ساعة.
ودخل شاور فرأى نور الدين جالسا القرفصاء في صدر الخيمة، وفي يده سبحة تتحرك حباتها بحركات لسانه، وقد جلس إلى يمينه العلماء والفقهاء والمحدثون، وإلى يساره القواد وكبار الجند، وكان نور الدين طويل القامة، أسمر اللون، وسيم الطلعة، فأدى شاور التحية فحياه العادل ورحب بمقدمه، وأخذ العلماء يتناقشون في تفسير آيات في الجهاد، ونور الدين يشاركهم بعض المشاركة، حتى عجب شاور وكاد يظن أنه في صومعة زاهد لا في عرين قائد، حتى إذا انفض المجلس؛ التفت نور الدين إلى شاور وقال: كيف حال مصر؟؟ - مصر يا مولاي في اضطراب مستمر، وأخشى أن ينتهز الإفرنج فرصة ضعفها فينقضوا عليها من الساحل، فإن ضرغاما اللخمي - وهو نصير الفاطميين وعدو أهل السنة - غدر بي وأخذني على غرة، ففزعت إليك، وقد علمت من أيام وأنا في الطريق أنه يراسل الإفرنج ليمدوه بجيش يستعين به على محاربة كل من تحدثه نفسه بإنقاذ مصر. - لا حول ولا قوة إلا بالله!!
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . صدق الله العظيم. - ثم إن الخليفة العاضد ضعيف الرأي، مهزول العزيمة، وعمته سيدة القصور تسيطر على الدولة، وهي حقود مستأثرة، تنظر إلى انتصارات مولاي هنا على الإفرنج بعين البغض والضغينة، وكأن الإفرنج أبناء عمومتها، أما العقيدة الفاطمية التي أكرهت عليها العامة إكراها، فسيدي أعلم بدخائلها وبدعها، وإذا كان مولاي العادل قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، ومحاربة أهل الزيغ، فمصر تدعوه لإنقاذها من الظلم والإلحاد، ومصر تدعوه لحمايتها من غزو الإفرنج، الذي أصبح منها قاب قوسين. - ولكني في شغل شاغل بمحاربة الإفرنج، ولو أرسلت معك جيشا إلى مصر لوثب علينا الإفرنج هنا، واستعادوا ما استنقذناه من أيديهم من البلاد. لا يا ابن مجير ... كل إنسان أولى بمداواة جراحه. - إني لا أطلب إلا جيشا صغير العدد، ينضم إلى جيشي المرابط في مدينة الفرما. - ولا هذا يا ابن مجير، فقد جئت في وقت توالت فيه الأمداد على أصحاب الصليب وقويت شوكتهم. - ما كنت أحسب قبلك يا سيدي أن إنسانا يرفض ملك مصر!! لأكن معك صريحا ... أتحب أن أكون نائبا عنك في حكم مصر، وأن أبعث إليك بخراجها في كل سنة، وأن يخطب الخطباء باسمك فوق كل منبر؟؟
فحملق نور الدين في وجه شاور، ولكنه رأى وجها سمحا متواضعا، ليس فيه أثر للكذب ولا للخديعة، فأطرق وقال: يكون خير إن شاء الله!! وفي الصباح دعا نور الدين أسد الدين شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين، وأخبرهما بما كان من أمر شاور، وأمرهما بتجهيز جيش للذهاب إلى مصر بعد أربعة أيام، وقد حاول صلاح الدين أن يدعو نور الدين إلى التريث في الأمر؛ حتى يظهر صدق شاور، أو إلى أن يطلب من شاور ودائع ثمينة لتكون ضمانا لصدقه، ولكن هيبة ابن زنكي والرهبة منه حبستا لسانه فلم يستطع تكلما.
سافر الجيش الشامي مع شاور وعلى رأسه أسد الدين، وصلاح الدين، والتقى عند الفرما بجيش مصر، ووثب الجيشان على القاهرة، وجمع ضرغام جموعه ووثب في مقدمة جيشه على جيش شاور، فطالت الحرب بينهما، ودمر كل منهما كثيرا من مباني المدينة، وأحرق كثيرا من قصورها، وظفر شاور في النهاية بضرغام فقتله، وشتت جموعه، واستولى على القاهرة.
وقبل أن يدخلها اختلى بأسد الدين وصلاح الدين، وقال لهما: إن من الخير لكما ألا تدخلا القاهرة الآن؛ لأن القاهريين إذا رأوا جنود الشام ظنوهم غزاة فاتحين، فجمعوا لهم وقتلوهم، وليس لكم من كثرة العدد ما يمكنكم من المقاومة، والرأي عندي أن تعودا إلى دمشق، وأن تحملا إلى مولاي الملك العادل كريم تحياتي وجزيل شكري. فقال صلاح الدين: إن هذا يخالف ما اتفقت مع الملك العادل عليه. - هو نفس ما اتفقت عليه معه يا قائدي الصغير ... لم تتعد المسألة أن تكون مجاملة بين أميرين ... لقد استنجدت بالعادل ليساعدني على إطفاء ثورة في مصر فساعدني، وهذا يحصل بين الملوك كل يوم. فقال أسد الدين: ألم تتعهد بأن يكون له ملك مصر، وأن تكون نائبه عليها؟؟ فابتسم شاور ابتسامة دهاء وسخرية وقال: ملك مصر الذي باهى به فرعون ملوك الدنيا، يمنح في مقابل خمسة آلاف جندي يسيرون من دمشق إلى باب الفتوح؟! لا يا سيدي ... إن مصر أغلى من ذلك جدا ... لم يحصل اتفاق على شيء من هذا، وحينئذ ظهر الغضب على وجه صلاح الدين وقال: إننا سنعسكر في «بلبيس»، وسننتظر أوامر مولانا نور الدين، وربما التقينا قريبا يا شاور، ولذلك نرجئ تحية الوداع إلى تحية القدوم!!
دخل شاور القاهرة فاتحا منصورا، ولكن القاهرة لم تستقبله استقبال الفاتح المنصور، وللقاهريين غريزة صادقة في الحكم على الرجال، ومقابلة الحوادث.
وأرسلت سيدة القصور تحياتها للقائد العظيم، فمثل شاور بين يديها، وشكت إليه ما لاقت مصر أيام ضرغام من الظلم والعسف والاضطراب، وخلع عليه الخليفة العاضد خلعة النصر، وقلده سيفا أثريا كان لجوهر الصقلي فاتح مصر، ثم ذهب إلى داره فقابلته «باسمة»، وابنه شجاع، واختليا به، فقال شجاع: أين أسد الدين، وصلاح الدين؟ فقال شاور: أرسلت بهما إلى الجحيم. - أين هما حقا؟؟ - رجعا إلى الشام، فقالت باسمة: يا للعار!! أيطرد العربي أضيافه عند باب داره؟! فظهر الغضب على وجه شاور، وقال: نعم يا حاتمتي الرعناء، يفعل العربي ذلك إذا رأى أن أضيافه سينقلبون لصوصا. وقال شجاع: هذا خطأ يا أبي، قد كان يجب، وقد تعجلت في تعهدك لنور الدين أن تكرم قواده، تزودهم بالهدايا والأموال، وتعدهم وتمنيهم، ثم تتخلص من عهودك في لطف لا يحس. أما الآن، فأخشى أن يعود إليك القائدان بجيوش لا قبل لك بها، فلا نكون قد ضعنا وحدنا، بل ضيعنا مصر معنا. فقال شاور: إن هذه أوهام يا فتى ... فإن الإفرنج بالشام لم يتركوا لنور الدين لحظة يفكر فيها في فتح مصر.
وتركهم شاور غاضبا، ودخل حجرة، فرأى أخاه نجما، فنفض إليه الأمر كله. فقال له نجم - وكان ألأم من شاور، وأشد خبثا: عملت كل ما يجب أن يعمل، ولو أن هؤلاء الجنود وضعوا أقدامهم في القاهرة ما استطاعت قوة أن تخرجهم منها. - ولكن ماذا نعمل يا نجم إذا بعث القائدان رسولا من بلبيس إلى نور الدين، وبالغا في الشكوى مني، ومما قد يسميانه خيانتي، فأرسل إليهما جيشا جرارا لا نستطيع له دفعا؟؟ - هذا صحيح يا شاور ... وإن له عندي دواء، ولكنه قد يكون مرا!! - ما هو؟؟ - أن نرسل في الخفاء رسولا إلى القائد مري ملك الإفرنج بساحل الشام، لنطلب منه أن يزحف بجيوشه على مصر لطرد الغز من بلبيس، وأن نغريه بقدر كبير من المال ... هذا هو الدواء ... وهو مر حتما، ولكن ألا تظنه قاتلا؟؟ - لا ... إن الإفرنج نستطيع أن نخدعهم، أما هؤلاء الغز: فلا ... أين ثعلبة الشماخ؟؟ فدخل فتى قصير القامة، متين العضل تدل ملامحه على الشراسة والقسوة.
فكتب شاور رسالة طويلة وسلمها إليه، وقال: تسير الليلة مبالغا في الاختفاء، ولن تستريح حتى تصل إلى عسقلان، فتقدم هذه الرسالة إلى الملك مري، ثم نزع خاتمه وقال: وهذا علامة صدقك إن شك الملك في رسالتك ... خذ أسرع خيلي، وعد إلي بعد عشرة أيام.
وذهب الرسول، وقدم الإفرنج إلى مصر في جيش لهام، ووثبوا على أسد الدين ببلبيس فصالحهم بمال، وعاد أدراجه إلى دمشق، ولكنهم لم يقفوا عند بلبيس، بل أخذوا طريقهم إلى القاهرة، ودخلها قائدهم بقسم من جيشه، فأكرم شاور وفادتهم، وأعد لهم منازل وأسواقا، وقرر لهم مائة ألف دينار في السنة، فأقاموا إقامة المحتل، وطغوا وظلموا، وعاثوا في القاهرة فسادا.
الفصل الثاني عشر
مضت أربع سنوات أو تزيد، والقاهرة في هم ناصب، وكوارث متتابعة، تقاسي من ظلم شاور وعسفه، وولعه بسفك الدماء، واغتصاب الأموال، وتقاسي من تحكم الإفرنج، واستبدادهم بالناس، وتسلطهم عليهم بضروب من الأذى والإرهاق.
وكانت «باسمة» حيرى مضطربة النفس، فقد كانت تريد زوال الدولة الفاطمية، ولكنها لم ترد أن تزول بمثل هذا الحكم الأرعن الأحمق، الذي وضع فيه السيف والسوط والنهب، موضع العدل والحق.
وكان شاور إذا اختلى بنفسه، تيقظ في نفسه رسيس من ضمير مهزول، فهمس في أذنه: ماذا فعلت يا ابن مجير؟! ... ما هذه الدماء التي لا تزال تقطر من يديك؟! ... لقد تثلم سيفك من قطع الرؤوس، وخدرت يدك من انتهاب الأموال!! ... طلبت الحكم بالقوة والخديعة فلم تهنأ به، وهزئت بالغز فوقعت في يد الإفرنج الذين دخلوا القاهرة ضيوفا مناصرين، فأقاموا بها حكاما غاصبين!
وكانت سيدة القصور وعمارة في ذهول بشبه الحمى، لما أصاب مصر والدولة الفاطمية من نكبات على يد شاور الشرير المعتوه، كانا يريدان حماية الفاطمية من تسلط الوزراء، وكانا يريدان جمع أمورها بيد الخليفة دون غيره، فكانت المصيبة مضاعفة؛ لأن شاور بن مجير لم يغتصب سلطة الخليفة وحده، بل قاسمه الإفرنج فيها؛ فوقع الشعب المسكين ين براثن قوتين من قوى الشر، تسوقانه إلى الدمار والفناء.
واحسرتاه!! ... القاهرة المضيئة، الفرحة المرحة، التي ما كانت تنتهي لها أعياد أو مواسم تصبح مظلمة، حزينة، عابسة، مرتعدة، تخشى في الصباح ما يجئ به المساء، وتترقب مذعورة في المساء ما يجئ به الصباح، القاهرة المعزية التي كانت حاضرة الإسلام، ومعقل المدنية، وأم القرى، وسيدة المدائن، والتي كانت جيوشها لا يفارق النصر راياتها تصير نهبا مقسما بين الظلم والطغيان، ويصبح أهلها أذل من عير ووتد!!
فجع القاهريون لهذه النوازل، وتكونت جماعات سياسية خفية، واجتمعت إحدى هذه الجماعات بمنزل عمارة اليمني، وكان من المجتمعين: المهذب الأسواني، ومحمد بن قادوس، وداعي الدعاة ابن عبد القوي، وغيرهم. قال داعي الدعاة: أرأيتم كيف آلت بنا الحال، وكيف أصبحت القاهرة مجزرا عاما تذبح به الناس مرة لشهوات شاور، وأخرى لنزوات الإفرنج؟! فقال عمارة: والمصيبة يا سيدي أن الخليفة أصبح مغلوبا على أمره، يرى مصر وهي ميراث آبائه الأمجاد تعتصر وتهتضم، ويرى الرعية تسام صنوف العذاب، ثم لا يستطيع أن يعمل شيئا، وسيدة القصور تنظر بحسرات إلى آمالها الكبار، وقد ذهبت مع الهواء، فلا تستطيع إلا أن تردد الزفرات. وقال ثالث: مررت بالأمس بسوق البزازين، فرأيت الإفرنج وقد انتشروا فيها، وهم سكارى يغتصبون ما في الدكاكين، ويؤذون كل من مر بالطريق، والناس في كرب وذعر، ثم إن النساء في بيوتهن يرتجفن ليل نهار؛ خوفا من هجمات الإفرنج عليهن. فقال داعي الدعاة: وقد سمعت أن مري ملك الإفرنج بساحل الشام وصل منذ أيام إلى أرض مصر بجيش عظيم؛ به أجناس مختلفة من الإفرنج، وأنه نزل على بلبيس وحاصرها، وأخذها عنوة، وسبى أهلها، وهو الآن قاصد إلى القاهرة؛ لأنه لم يكتف ببقاء بعض جنوده بها، بل طمع في امتلاك ديار مصر كلها.
فقال المهذب: إن الخبر وصل إلى سيدي متأخرا. فإن جيش مري نزل في هذا الصباح ببركة الحبش، بالقرب من الفسطاط، ولا يخفى على سيدك أن بالفسطاط جميع مخازن الحبوب والغلات التي تمون القاهرة، وأن بها جميع ذخائر الحرب، فإذا استولى مري عليها سقطت القاهرة في ساعات.
وفي هذه اللحظة دخل الشيخ عبد الحكم الغفاري وهو يلهث من التعب، وقد تصبب وجهه عرقا، وأخذ يصيح: ضعنا وضاعت مصر!! ... إنها كارثة الكوارث، وفادحة الفوادح! هذا شاور المجوسي، أرسل بعض جنوده ينادون بالفسطاط: بأن يرحل عنها جميع سكانها، وألا يقيم فيها رجل ولا امرأة ولا طفل؛ لأنه عزم على إحراق المدينة، وقد أرسل إليها بالأمس عشرين ألف قارورة من النفط، وعشرة آلاف من مشاعل النار؛ لتنثر في جميع أرجائها. وقد رأيت وأنا قادم إليكم ما يفتت الأكباد: رأيت سكان الفسطاط وقد هرعوا إلى القاهرة، بنسائهم وأطفالهم ومرضاهم، معولين صائحين، كأنهم في يوم الحشر الأكبر، بعد أن تركوا دورهم، ومتاجرهم، وأمتعتهم، وذخائرهم ليحرقها شاور الطاغية بالنار، يا للمصيبة!! ماذا جرى على مصر؟؟ وهل كان ذلك مكتوبا لها في لوح القدر؟! وإذا احترقت الفسطاط، واستشرت النار، وسرت إلى القاهرة فالتهمتها في طرفة عين، أتجلسون هنا صامتين حتى تأخذكم الصيحة؟! أليس في مصر رجال؟؟ أليس فيها عقول؟ أليس فيها من يرى رأيا في هذه الداهية الدهياء؟! ليس لنا ملجأ إلا القصر، وإلا الخليفة، وإلا سيدة القصور، فإذا خابت آمالنا في هؤلاء، ذهبنا إلى دورنا، وأغلقنا أبوابها لنكون حطبا للنيران.
فدهش القوم للخبر المفجع، وكاد يعصف الحزن بقلوبهم، وصاح داعي الدعاة: هلم إلى القصر، دخلوا القصر في صمت وذهول، فرأوا ظلاما مخيما، ورأوا الأستاذين ذاهلين واجمين، يذهبون ويجيئون في اضطراب وحيرة، فتوجهوا إلى غرفة سيدة القصور، فرأوها جالسة وعلى وجهها آثار الغم المكبوت، فأحسنت استقبالهم، ونقلوا إليها ما عندهم من أخبار السوء، فابتسمت ابتسامة اليائس وقالت: علمت كل هذا في الصباح فلم أغادر غرفتي، وبقيت كل هذه المدة أفكر فيما يجب أن يعمل، وقد وصلت في النهاية إلى رأي قد يكون فيه استجارة من الرمضاء بالنار، واستشفاء من الداء بالداء، ولكن تنوع البلاء خير من استمراره، والمصيبة المشكوك فيها خير من المصيبة المحققة. فقال عمارة: على أي شيء عولت يا مولاتي؟؟ - عولت على الاستنجاد بنور الدين بن زنكي. فقال داعي الدعاة: هو خير من شاور، ومن الإفرنج على أي حال، فقال عمارة: هل نضمن بقاء المذهب الفاطمي إذا دخل مصر هذا السني المتعصب؟؟ فقال داعي الدعاة: إنه سيأتي إلى مصر ليحارب الإفرنج لا ليفتح مصر. وقالت سيدة القصور: أرجو ومهما يكن من شيء فبعض الشر أهون من بعض ... أتوافقون على الاستنصار بنور الدين. - نوافق ...
دعت سيدة القصور خادمتها «تغريد» وأمرتها بإحضار مقص، فلما أحضرته قصت شعرها، وأمرت أن تقص شعور جميع نساء القصر من شريفات وجوار، وأن ترسل هذه الشعور مع رسالة استغاثة واستصراخ لنور الدين، فكتب عمارة رسالة موجزة مبكية قوية التأثير، على لسان سيدة القصور، يستثير فيها شهامة نور الدين ورجولته وإسلامه، ويدعوه إلى إنقاذ مصر وإنقاذ المسلمين، ثم سلمت سيدة القصور الشعور والرسالة إلى أحد رجال البريد؛ ليستبق الريح في الوصول إلى نور الدين.
ووقفت سيدة القصور أمام نافذتها تنظر إلى النيران مصعوقة باكية، وهي تصعد زفرات الغيظ، والحقد، والألم ... وتقول: أيتها النيران ماذا تأكلين؟! إنك تأكلين فؤادي وتتأججين في صدري!! أي مسجد تهدمين محرابه، وتحطمين جدرانه؟! وأية دار كان يضيئها الأنس، ويشع في أنحائها السرور، أصبحت بك اليوم ركاما؟! ويحي لما أصاب قومي وأهلي!! كانوا بالأمس في منازل تسامق السماء وتتحدى الجوزاء، فأصبحوا الليلة ولا مأوى لهم، ولا وزر. ليت شعري أين الليلة بناتهم المحجبات، وعجائزهم الضعيفات؟؟ وأين ما كان لهم من سعادة وعز ونعيم؟ أيتها النيران، التهميني قبل أن تلتهمي رعيتي، وخذيني قبل أن تأخذي ملكي!! أنا فداء لمصر، وفداء لأهلها البررة الأطهار ... ما أشدك أيتها النيران وما أقساك!! كأنك من حقد شاور اشتعلت، ومن لؤمه تأججت ... أما تكفي لإطفائك دموعي وهن غزار؟! لا ... لا ... لن أيأس في حياتي ... إن آمالي وآمال مصر تلتهب فيك، وهي ذهب نضار، وستزيدها النار صفاء وخلوصا من الأوضار!!
الفصل الثالث عشر
طار البريد إلى نور الدين فحزن على مصر، وبكى على أهلها، وأرسل جيشا لجبا يقوده أسد الدين شيركوه، وصلاح الدين، وما كادا يلتقيان بجيش الإفرنج، حتى تراجع عن مصر عائدا أدراجه إلى الشام، ودخل أسد الدين القاهرة، فلاقته لقاء الفاتح المنقذ، وتنفس أهلها الصعداء.
ودخل جيش القاهرة وفي أخرياته شيخ يتوكأ على عكازه هو أبو كاظم الحراني، أو زين الدين بن نجا، فإنه بعد أن خابت آماله في الإيقاع بعمارة، وكشفت المؤامرة التي دبرها لفتك سيدة القصور به التجأ إلى نور الدين بدمشق، وأظهر النسك والعبادة، فعينه نور الدين واعظا لجنده، وأصبح من المقربين في دولته، فلما عزم الجيش على السفر إلى مصر، وتحرك فيه ذنابي الشر، وثارت فيه غريزة الأخذ بالثأر، والانتقام من عمارة، وجال بخاطره أنه إذا لم يظفر به مرة فسوف يظفر به أخرى، لذلك استأذن نور الدين في أن يلحق بجيش مصر، فأذن له.
وبعد يومين استدعى الخليفة العاضد أسد الدين إلى القصر، وخلع عليه خلعة الوزارة، ولقبه بالمنصور؛ فغضب شاور لعزله من الوزارة، والتقى بابنه شجاع وقال: ألا ترى كيف فعل الغز المغتصبون ... جاءوا لينقذوا البلاد من الإفرنج فاستولوا عليها؟! - يا أبي: من الخير لنا أن نتوارى في دورنا، وألا ترى الناس وجوهنا، فإن القاهريين لو تصدقوا علينا بدمائنا لكانوا أكرم الناس. - أكرم الناس!! هؤلاء البله المفاليك الذين يصفقون لكل غالب!! ... إنني عزمت على مكاتبة جميع ملوك الساحل من الإفرنج؛ ليهجموا على مصر من طريقين: طريق بلبيس، وطريق دمياط.
فلمع الغضب في عيني شجاع وقال: والله لئن لم تنته عن هذه الأمور؛ لأكشفن الأمر لأسد الدين. - كفكف من غربك يا شجاع، إني إن لم أفعل هذا قتلنا الغز عن آخرنا. - وإذا جاء الإفرنج قتلونا أيضا، ولأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الإفرنج.
ثم دارت الأيام، ولم يستطع صلاح الدين صبرا على بقاء شاور حيا، يحوك الدسائس ويبث الفتن، فقتله بيده، وبعد قليل مات أسد الدين، فولي الخليفة صلاح الدين الوزارة ولقبه بالملك الناصر.
تولى صلاح الدين الوزارة وهو شديد الحذر من سيدة القصور لا يؤمن ببشاشتها، ولا يحسن لقاءها، وكأنه رأى بعين بصيرته ما ينطوي عليه قلبها له: من الحقد، والضغينة، والكيد، فهم لعبتها فعزم على تفاديها بلعبات أخرى: علم أنها لم تؤثره بالوزارة مع وجود كبار الرؤساء والقواد بالجيش الشامي، وإلا لتوقع الخلاف والفرقة بينه وبين هؤلاء القواد، حتى يصبح بأسهم بينهم شديدا، وحينئذ تتحكم سيدة القصور في الموقف، وترضى عمن ترضى عنه منهم، فيكون صنيعة نعمتها، ومنفذ أمرها. علم صلاح الدين هذا فتملق القواد، وأغدق عليهن، واسترضاهم، وجعل نفسه أداة منفذة لإرادتهم، ثم اتجه إلى القصر، فأخذ يجرده من كل قوة فيه تستطيع أن تقاومه، أو تقف في وجه غايته: فأبعد كثيرا من رجاله، وأخذ يرهق سيدة القصور بطلب الأموال حتى كاد يستنفد ما عندها، ثم رتب بهاء الدين قراقوش - وهو من أشد رجاله عنفا وأكثرهم له إخلاصا - حارسا على القصر، حتى لا يدخل إليه شيء، أو يخرج منه شيء إلا بإذنه.
ضاقت سيدة القصور بهذه الحال، وسدت أمامها سبل الحيلة، ورأت أن ملكها ومذهبها الفاطمي يترنحان تحت ضربات قاسية متتابعة، وأنه من العار عليها أن تقف صامتة مغلولة اليدين، والأعداء يقتلون دولتها بسم بطيء، فطلبت أن يدعى إليها عمارة، فلما حضر قالت: أرأيت أبا محمد ما فعله بنا ذلك الكردي الوضيع؟ كأن وحيا يهبط عليه بما في نفسي، فكلما فكرت له في مكيدة رأيته قد أعد لها ما يحبطها!! - هذا الرجل كارثة على مصر وعلى الفاطمية، وقد حاولت أن أجتذبه بشعري، وأختدعه بمديحي، فلم أجد منه إلا جفاء وإغفالا، ومن مصيبة مصر أن يكون عبد الرحيم البيساني - الذي يسمونه بالقاضي الفاضل - وزيرا لهذا الرجل الجامح، وهو لا يشير عليه إلا بكل ما يهدم الدولة الفاطمية، ويعصف بها.
ولما ضاقت حيلتي مع هذا الكردي أرسلت إليه بهذه القصيدة:
أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي
لنفثة مصدور وأنة موجع
نزلت بمصر أطلب الجاه والغنى
فنلتهما في ظل عيش ممتع
وفزت بألف من عطية فائز
مواهبه للصنع لا للتصنع
وكم طرقتني من يد عاضدية
سرت بين يقظى من عيون وهجع
فقل لصلاح الدين - والعدل شأنه -
من الحكم المصغي إلي فأدعي؟
أقمت بكم ضيفا ثلاثة أشهر
أقول لصدري كلما ضاق: وسع
أمن حسنات الدهر أم سيئاته
رضاك عن الدنيا بما فعلت معي؟
ملكت عنان النصر ثم خذلتني
وحالي بمرأى من علاك ومسمع
فلم أتلق منه إلى هذه الساعة جوابا، وقابلني البيساني فهز رأسه في خبث، وقال: لم أر أعجب من قصيدتك للناصر، لقد غلبت فيها مدحك للفاطمين على مدحه. - استمر في هذه الطريقة أبا محمد، ولا تيأس من اجتذاب هذا المهر الشموس صلاح الدين، وأن هذه الخائنة تخبره بأسرارنا، وبما تعرف من مخابئ القصر وذخائره. - نعم قابلني ابن دخان منذ يومين، وفي عينيه نظرات الشامت، وعلمت منه أن زوجه لا تقيم عنده إلا قليلا، وأنها دائبة العمل مع رجال صلاح الدين. - ويل لها مني!! اسمع يا عمارة ... لم يبق في كنانتي إلا سهم واحد للخلاص من صلاح الدين. - ما هو؟؟ - ستعرفه الآن ... يا «تغريد» ... مري مؤتمن الخلافة أن يقابلني.
فيقبل مؤتمن الخلافة حزينا، فتقول له سيدة القصور: كم عندك من الجنود السودانية؟ - عشرون ألفا يا سيدتي أو يزيدون. - هل تستطيع أن تهجم بهم مفاجأة على جنود الغز، وتطهر البلاد منهم؟؟ - ذلك ممكن يا مولاتي إذا استمر الخلاف الذي أراه بين قوادهم. - أعد العدة، واهجم عليه متى شئت وأين شئت، والله معنا، فقال عمارة: إذا هزمنا هذه المرة يا مولاتي، ذهب منا كل شيء!! - ليكن ما يكون، فإن آخر الدواء الكي، خلياني وحدي.
انفض المجلس، وخرج عمارة من القصر، وبينما هو في الطريق قابله المهذب الأسواني ومعه شيخ غريب عليه سيما الصلاح والزهد لا يفتأ لسانه متمتما بالتسبيح والأدعية، فسأله عمارة عنه، فقال: إنه زين الدين بن نجا، وهو رجل تقي يعظ جنود الغز، ثم مال على أذن عمارة وهمس: ويبغضهم أشد البغض، فحياه عمارة ودعاهما إلى داره، ورأى من حديث زين الدين وسوء عقيدته في الغز، ما حببه إلى نفسه، وقربه إلى قلبه، ووثق عرا الصداقة بينهما، وبعد أيام ثار السود على الغز، واشتد القتال بينهم، وطال أمد المعركة، وكادت صفحة التاريخ تتغير لولا أن تآلف قواد صلاح الدين، وصدقوا في الحملة، ولولا أو وثب صلاح الدين وأخوه توران شاه على القصر، وقبضا على مؤتمن الخلافة وقتلاه، فسقط في أيدي السودان، وانطفأت حميتهم.
بعد ذلك؛ زاد تمكن صلاح الدين في مصر، وتحكمه في الخليفة، فأغار على ذخائر القصر وكنوزه، ولها من القيمة فوق ما يقدره الخيال، واستولى على قصور الخلافة، وأخرج أبناء الخلفاء وبناتهم منها، وأسكن كل فريق في دار على حدة تحت حراسة قراقوش، وتصرف في العبيد والخدم، ومنع الخليفة من مغادرة القصر، ووهب إقطاعات المصريين إلى أصحابه وجنوده، وعزل قضاة الشيعة، واستناب قضاة الشافعية، وأزال شعار الدولة الفاطمية، وأبطل من الأذان «حي على خير العمل»، ومنع أن يدعى للعاضد على المنابر.
قدف صلاح الدين بهذه السهام دفعة واحدة، فصعقت سيدة القصور لهول هذه المصائب المتتالية، ورأت ملكها ومذهبها يذهبان طعمة للقوة والدهاء، فبكت كما تبكي النساء، وعادت إليها غرائز الضعف والأنوثة. أما العاضد، فقد دهمه الغم وأحرقته الحمى، فألح في أن يراه طبيبه عبد الله بن السديد، ولكن الطبيب أبى أن يذهب إليه، فمات حزينا بائسا منبوذا.
سرى خبر موته في القاهرة، فشاع الحزن عليه في كل مكان، وزاد في بكاء القاهريين عليه ما أصاب الخلافة من نكبات، بعد أن عاشوا في ظل جناحها في أمن، ودعة، ومواسم، وأعياد، كانت بهجة الدنيا وزينة الدهور، ومر عمارة على القصر فإذا هو طلل دارس، بعد مجد طاول الفرقدين، وعز ملأ الخافقين. فقال:
لي بالديار غداة البين وقفات
أبكي رسوما خلت منهن سادات
يا رب إن كان لي في وصلهم طمع
عجل على فللتأخير آفات
فاجتمع حوله الناس فبكى وبكوا، وثارت ثائرته فأنشد:
أيها الناس والخطاب إلى من
هو من حيث عقله إنسان
هذه خطبة إلى غير شخص
نظمت عقد نثرها الأوزان
لم أخصص بها فلانا لأني
في زمان ما في بنيه فلان
ذمنا للزمان ذم لمن في
ه وحق ألا يذم الزمان
ونظر من خلال دموعه، فرأى زين الدين بن نجا يبكي وينتحب، ورأى «باسمة» تبتسم في جذل وخبث، فجذبها من عضدها: تعالي واسمعي يا فتاة، فإن عمارة اليمني لا يخاف الجواسيس، بلغي سيدك صلاح الدين ما تسمعين:
قلب الزمان على الخلافة قاسي
ما للزمان جري بغير قياس!!
أسقي لملك عاضدي عطلت
حجراته بعد الندى والباس
أخذت بنان الغز من أمواله
ورجاله بمخانق الأنفاس
أبني علي والبتول وأحمد
وكواكب الدنيا وخير الناس
هذي حصون الروم عطل غزوها
وغزت دياركم بنو العباس
واشتد بكاء الناس وعويلهم، وكادت تكون فتنة، لولا أن جاء داعي الدعاة، فجذب عمارة من يمينه، وانطلق به.
الفصل الرابع عشر
أسرعت باسمة إلى قصر الأيوبيين، وكان قد سبقها إليه زين الدين بن نجا، ولما قابلت صلاح الدين، والقاضي الفاضل، نقلت إليهما ما كان من جرأة عمارة، وما كان من بكائه الفاطميين، واستثارة قلوب الناس على من هدم ملكهم، والتلويح أو التصريح بذم صلاح الدين، ثم أنشدته ما حفظت من أبيات عمارة، وأخرج زين الدين من جيبه ورقة وقال: وهذه قصيدة طويلة لعمارة يتناقلها الناس ويستنسخونها، وشرع يقرأ منها:
رميت يا دهر كف المجد بالشلل
وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة
على فجيعتها في أكرم الدول
بالله زر ساحة القصرين وابك معي
عليهما لا على «صفين» و«الجمل»
وقل لأهلهما: والله ما التحمت
فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة
في نسل آل أمير المؤمنين علي؟
فغضب صلاح الدين، والتفت إلى القاضي الفاضل وقال: ماذا نعمل في هذا الرجل الذي يسبنا جهرا؟! - إنه يا مولاي شاعر ثائر، وقد أكثر من مدح آل أيوب فأهملتموه، ولو أن مولاي قتله لهذا الشعر لأغضب العامة، وما زالت الأشراف تهجي وتمدح. وأرى أن ثورة عمارة لن تصل به إلى سلامة؛ فاصبر عليه حتى يرتكب من الذنوب ما يسوغ قتله. فقال زين الدين: إن له شعرا صريحا في الخروج على الدين، وعلى مذهب أهل السنة، ألا يكفي هذا لقتله؟! فقال القاضي الفاضل: دعه يا ابن نجا فإن من مزايا الشاعر أن يغتفر له ما لا يغتفر لغيره.
مرت أيام وشهور، وثورة عمارة لا تنطفئ، وعزمه على محاربة الدولة الصلاحية لا يكل، فكون جماعة سرية، واشتعل سخط بعض قواد صلاح الدين عليه فضمهم إلى جماعته، ومنهم خاله، وكان بين أفراد الجماعة: داعي الدعاة عبد الجبار بن عبد القوي، وقاضي القضاة، وعبد الصمد الكاتب، ونصر الله بن كامل، وزين الدين بن نجا الواعظ الذي كان عبقريا في الجاسوسية، نابغة في النفاق، وكانت هذه الجماعة تجتمع في داره؛ لأنه كان من المقبولين في دولة صلاح الدين، لا تحوم عليه أية شبهة.
وفي ليلة بينما كان هؤلاء مجتمعين، إذا طرق خفيف على باب الدار، فذعروا جميعا، وظنوا أنهم أحيط بهم، وفتح أحدهم الباب، فرأى امرأة زرية الهيئة في أثواب الخدم، وما إن اجتازت الدهليز، وكشفت عن وجهها، حتى عرف القوم فيها سيدة القصور؛ فظهر عليهم الدهش فابتسمت وقالت: لقد استطعت أن أفر من أسر قراقوش السمج بهذه الحيلة، وكان أقصى ما أريد أن أشهد اجتماعكم، فلعل أن يكون لي رأي فيه، فحياها القوم تحية الإجلال، ثم أخذوا في الحديث والمناقشة.
وطال الكلام واشتد الجدل، وانتهى الأمر إلى أن تكون المؤامرة ذات شعبتين:
الأولى:
أن تكتب رسالة إلى سنان بن سليمان صاحب الحشيشة بالشام، ورئيس الإسماعيلية، يوصف بها ما حل بالدولة الفاطمية، ويبين فيها ما بين المذهب الإسماعيلي والمذهب الفاطمي من الصلة والقرابة، وأن نصر الفاطمية إنما هو نصر للإسماعيلية، ثم يلح عليه في ندب أحد الفدائيين من الإسماعيلية لقتل صلاح الدين.
الثانية:
أن تكتب رسائل إلى قواد الإفرنج بالشام وصقلية يدعون فيها إلى القاهرة للاستعانة بهم على صلاح الدين، فإذا جاءوا وخرج صلاح الدين لقتالهم أقام المصريون بالقاهرة ثورة؛ فتقسمت قوة صلاح الدين بين الإفرنج والثوار، والخارجين عليه من جنده وقواده.
ولما هم القوم بكتابة الرسائل، قال زين الدين: من الخير أن نرجئ الكتابة حتى نروي فيها، وحتى تكون قوية مؤثرة.
بعد ذلك قامت سيدة القصور، وكانت الشمس قد علت في الأفق، فالتفت بثيابها المستعارة وقالت: الآن أعود إلى محبسي الذي سأخرج منه إلى قبري، أو إلى قصري!!
ذهب الحراني إلى داره فأقام بها نهاره، حتى إذا أظلم الليل قام ولبس ثيابه، وخرج متجها إلى دار القاضي الفاضل، وكان يتمتم وهو يتعثر في الظلام قائلا: اليوم أشفي غيظ نفسي منك يا ابن زيدان ... اليوم أنتقم لابني، وأبي اللذين قتلهما عمك ظلما وعسفا ... لقد كتمت هذا الغل في صدري عشرين عاما، فاليوم يجد صدري متنفسا ... لقد كنت أنتهز كل فرصة فتطير من يدي، أما اليوم فلن تطير أبدا!!
ولما بلغ الدار، قابل القاضي الفاضل، وقص عليه خبر المؤامرة، وأسماء المتآمرين، فأخذه القاضي من يده وذهبا إلى قصر صلاح الدين، فلما سمع الخبر الخطير، أمر كبير حراسه أن يرسل جماعة للقبض على كل متآمر أينما كان، ولم تتم ساعتان حتى قبض عليهم، وأودعوا خرانة البنود، وكانت سجن الفاطميين.
دخل عمارة السجن مستريح النفس ثابت القلب، يخالجه شعور بالطمأنينة، وإحساس بأنه أدى واجب الوفاء كاملا للفاطميين، ولسيدة القصور.
ونام ليلته هادئ البال، حتى إذا تنفس الصبح دخل عليه الحراني، وجماعة من الجنود، فلما رآه عمارة قال له: أهكذا تشترى الدنيا، وتباع الآخرة بالنفاق والختل يا زين الدين؟ - لست زين الدين ... أنا أبو كاظم الحراني الذي باع حياته للشيطان لينتقم منك ومن عمك ... اليوم يزول همي، وتطمئن نفسي، حين أراك مصلوبا بين القصرين.
فصاح عمارة: اخسأ أيها الكلب النابح! وسلم نفسه إلى الجند، وأمرهم أن يمروا به على دار القاضي الفاضل، فلما رآه القاضي مقبلا دخل وأغلق بابه؛ فضحك عمارة ساخرا وقال:
عبد الرحيم قد احتجب
إن الخلاص من العجب
ثم أخذ إلى مجلس القضاء، فاعترف غير هياب بكل ما صدر منه، فحكم عليه بالصلب هو وأصحابه، وبينما كان عمارة على خشبة الموت، مرت جنازة يمشي خلفها فقراء القاهرة وعامتهم باكين معولين، فسأل الجند عن صاحب الجنازة فقيل: هذه سيدة القصور ... سدت أمامها منافذ الأمل، وتجهم لها وجه الزمان، فتجرعت سما زعافا ماتت به لساعتها.
فصاح عمارة بالجند: عجلوا بي!!! ... عجلوا بي!! ... فسيقول الناس غدا: إن اليوم الثاني عشر من رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة كان يوم الشهداء، ماتت فيه شهيدة العزة والإباء، ومات فيه شهيد الكرامة والوفاء!! ... ثم صاح:
نحن في غفلة ونوم وللمو
ت عيون يقظانة لا تنام
قد فزعنا من الحمام سنينا
واسترحنا لما أتانا الحمام
Unknown page