وكانت هزيمة يوسف باشا سببا في خضوع كردوفان كلها للمهدي، فصار في إمكانه الآن أن يهيئ لنفسه العدة التي كانت تنقصه، فأخذ في جمع الأموال والأسلحة والخيول وسائر الغنائم يوزعها على رؤساء القبائل التي انضمت إليه، وكانت هذه القبائل تعتقد أنه المهدي المنتظر الذي لا تحدثه نفسه إلا بإقامة الدين ولا قيمة للأموال والأمتعة في نظره.
وفشت أخبار المهدي في كل ناحية، وكانت هذه الأخبار إذا تنوقلت بين أهالي كردوفان الذين لم يصيبوا إلا قليلا من التعليم يبالغ فيها مبالغة عظيمة، وخرج من الأهالي عدد عظيم تركوا بيوتهم يؤمون جبل غدير الذي كان يسمى الآن جبل ماسة، وبعض من الأهالي تجمعوا حول رؤسائهم لمقاتلة موظفي الحكومة المشتتين في أنحاء البلاد.
وكانت هذه الأحوال توافق أهواء العرب الرحل، فكانوا بدعوى الحرب الدينية يقتلون وينهبون الأهالي وكانوا يتهمونهم بالولاء للأتراك، وفي الوقت نفسه أيضا وجدوا في هذه الحالة طمأنينة من حيث عدم دفع الضرائب لتلك الحكومة المكروهة.
واتصل المهدي بتجار الأبيض الذين كانوا بواسطة ثروتهم ونفوذهم يحكمون البلدة بل جزءا كبيرا من سائر البلاد، وقد أدركوا هم الحالة تماما، وكانوا يعرفون ضعف الحكومة وتوانيها واستعد كثير منهم لمشايعة المهدي، وكان إلياس باشا من أعظم المستائين من الحكومة، وكان يكره أحمد بك ضيف الله صديق محمد باشا سعيد؛ ولذلك جد واجتهد في السر في جمع الأنصار للمهدي، وكان عدد كبير من صغار التجار ينتظرون تحسن الأحوال التجارية إذا سقطت الحكومة، وكان هناك قليل من التجار يكرهون المهدي ولكنهم كانوا يترقبون فوزه؛ فلم تكن لهم حيلة سوى الانضمام إليه؛ لئلا تقع زوجاتهم وأملاكهم غنيمة لرجاله عندما يعقد له النصر.
أما مشايخ الدين فقد رأوا في هذه الحركة ما يرفع مقامهم، وكانوا يفخرون بأن واحدا منهم قد تجرأ على أن يعلن عن نفسه أنه المهدي، وكانوا يترقبون الوقت حين يطرد هذا المهدي جميع الأتراك من البلاد ويبقى هو الحاكم لها، وكان هناك عدد قليل - قليل جدا - من أولئك الذين كانوا يقدرون الخطر الذي تستهدف له البلاد إذا فاز المهدي وقد فعلوا كل ما يمكنهم لتنبيه الحكومة، ولكن عدد هؤلاء كما قلنا كان قليلا فلم يكن لهم أثر في الحركة.
وأرسل إلياس باشا ابنه عمر لكي يقف المهدي على الحالة ويدعوه إلى المجيء إلى الأبيض، وكان محمد باشا سعيد ينتظر مجيء المهدي للأبيض؛ ولذلك حفر خندقا حول المدينة ظنا منه أن السكان سيصمدون للحصار، وأشار عليه أحمد بك ضيف الله بتحصين مباني الحكومة ففعل وبنى حولها جدارا بارتفاع الصدر، ولكنه لبخله وقع في خطأ فاحش؛ إذ بدلا من أن يختزن الحبوب استعدادا للحصار ويشتريها بأثمان عالية رفض أن يشتريها إلا بالأثمان التي تباع بها وقت السلم، ولم تمض مدة حتى بيعت الحبوب لأولئك الذين شعروا بالانقلاب في الحالة وعرضوا ثمنا أكبر مما عرضه محمد باشا سعيد.
وفي هذه الأثناء كان الأهالي يقتلون في كل مكان، وكان العرب السفاكون لا يلتقون بجباة الضرائب أو شراذم الجنود أو الموظفين المتفرقين حتى يقتلوهم، وأغار عرب البديرة على سكان أبي حرز وكادوا يبيدونهم، وكانت أبو حرز على سفر يوم من الأبيض، ولم يتمكن من الهرب إلى الأبيض سوى عدد قليل من الأطفال والنساء والرجال، أما باقي السكان فإما أنهم قتلوا أو أخذوا أسرى وقت فرارهم في الصحراء المحرقة، وكان العرب يسقون الفتيات إذا عطشن أما النساء المسنات فكن يلاقين الأهوال؛ فقد كان هؤلاء العرب لكي يحصلوا على خلاخيلهن وأساورهن يقطعون أيديهن وأرجلهن!
وبعد أيام قلائل أغار العرب على بلدة أشاف في شمال كردوفان فنهبوها، وقد دافع عنها نور أنجرة الذي كان هناك في ذلك الوقت وساعده سنجق محمد أغا يابو الذي كان قواص غوردون، ولكنهما اضطرا إلى التقهقر، وكان يابو هذا كرديا وقد فعل العجائب في تقهقره، فقد جمع النساء والبنات في الوسط وأمرهن بأن يغنين غناء الحرب، وكان يقول إن هذا الغناء ينفي الخوف عن القلوب، وكان يكر على العرب من وقت لآخر حتى نجح في استرداد جميع الفارين تقريبا ووصل سالما إلى دارة.
وأغار العرب على دارة هذه، ولكنهم ارتدوا عنها أولا، ثم عادوا وجمعوا جموعهم يقودهم الشيخ رحمة الله فطوقوا البلدة ومنعوا عنها المؤن.
واجتمع جمع آخر من العرب في كشجيل، فأرسل إليهم محمد باشا سعيد فصيلة من الجند فرقتهم، ولكن الفصيلة فقدت من أفرادها عددا كبيرا حتى ليصح أن يعد انتصارها هزيمة، واجتمع هؤلاء العرب ثانيا في بركة، وكانت بها حامية مؤلفة من ألفي رجل فقتلوا، وحدثت نكبة أخرى مشابهة لهذه في الشط على النيل الأبيض؛ حيث قتل مائتا جندي، وأغار العرب أيضا على الدويم فارتدوا عنها وخسروا ألفي رجل.
Unknown page