136

Sayf Wa Nar

السيف والنار في السودان

Genres

أشرت في الفصل السابق إشارة عامة إلى موقف الخليفة عبد الله من القضاء والقضاة، والآن أفصل قليلا ما أجملته؛ فأقول إن القضاة هناك آلات صماء في يدي سيدهم الماكر النبيه، فلم يكن الخليفة يسمح لهم بالفصل في القضايا الكبرى، وكل ما يمكنهم من بحثه هو ما يختص بالمنازعات العائلية وقضايا الإرث وتوزيع الأملاك وما شابه ذلك. وعلى أية حال فهم في جميع أحكامهم الكبرى في القضايا الهامة كانوا ملزمين بالرجوع إلى الخليفة قبل إصدار الحكم النهائي، ولا حاجة بنا إلى القول بأن الخليفة كان في كل ما يدلي به من آراء إلى أولئك القضاة لا ينظر إلى شيء خلاف مصالحه الشخصية وأهوائه وأغراضه، ولكنه في الوقت نفسه كان يجتهد - بما أوتيه من حذق ودهاء - من الظهور أمام الشعب بمظهر المدافع عن الحق والراغب في اتباع نصوص القانون، وإذن فالقضاة أمام مهمة شاقة جدا؛ فهم من ناحية مضطرون إلى إرضاء أهواء الخليفة وتنفيذ أوامره التي لا تتفق - في غالب الأحيان - مع العدالة في شيء، ومن الناحية الأخرى مضطرون إلى صوغ أحكامهم في قوالب قانونية تبعث الشعب على الاعتقاد في تمسك الخليفة بالحق. ومهما يكن الأمر، فإن تسعين في المائة من أحكام أولئك القضاة لم تنطبق حتى على أبسط مبادئ العدالة.

أما الدين في السودان حسبما أرشدني الاختبار إلى استنتاجه - فيتمشى مع المبدأ القائل «الغاية تبرر الواسطة». ومما أذكره في مدة إقامتي أن الدوائر الدينية كانت بين آن وآخر تصدر إعلانات ورسائل صغيرة تحض فيها المسلمين على التقيد بأوامر الدين، وتأدية الواجبات الدينية - وفي مقدمتها الصلاة - على الوجه الأتم، ثم الابتعاد عن جميع الملذات العالمية والتوجه إلى عالم الخير الأعلى، ولم تكن الأوامر الدينية المذكورة قاصرة على السودان، بل تعدته إلى جميع نواحي أفريقيا وبلاد العرب وبورنو ودار فلاتة ومكة والمدينة.

اعتبر الخليفة شخصه قدوة للمسلمين عموما في السودان، فكان - ما دام في صحته الكاملة - يشهد الصوات الخمس يوميا؛ ليظهر أمام الناس متمسكا بأهداب الدين، مع أنه في الواقع كان أبعد المسلمين عن التمسك بأوامر الدين؛ ففي جميع السنوات التي كنت فيها على اتصال وثيق جدا بالخليفة لم أشاهده على الإطلاق يصلي إلى ربه في داره الخاصة، ولم أسمعه يكرر - ولو بصوت خافت - بعض التعاليم الدينية التي يعرفها المسلمون جميعا، سواء أكانوا ممن يقرءون ويكتبون أم من الجاهلين.

لم يكن ادعاء عبد الله التقوى من الإحكام بحيث يصدقه البعيدون عنه؛ لأنه رغم ظهوره بالتقى كان لا يتردد في إصدار أمره بإلغاء حفلة دينية وعدم تأدية فرض مذكور، إذا كان في تأدية الفرض ما يحول دون تحقيق غرض أو طمع من أطماعه الشخصية. وهنا نعود فنقول إن الخليفة كان يتذرع في مثل هذه التعديات بالقضاة حتى يجيء الإلغاء من الجانب القانوني، وفي ذلك الموقف الحرج لا يتردد القضاة في إعلان أن ذلك الإلغاء لازم في سبيل الاحتفاظ بالدين في حالة خاصة، فإذا ما صدرت تلك الفتوى ارتاح الخليفة واطمأن، إلا أن القضاة في بعض الأحايين يقفون من أطماع الخليفة أمام حالات لا يستطيعون معها بحال من الأحوال أن يصدروا أمر الإلغاء؛ وإذن يضطرون إلى التمويه فيدعون بأن الإلهام الديني أمرهم بالقيام بهذا العمل الشاذ لحكمة قد تغيب عن أذهان البشر.

اعتاد الخليفة عبد الله مخاطبة أتباعه من منصة المنبر في المسجد الكبير، ولكن بما أن عبد الله يجهل الفقه الديني الإسلامي ويعرف الشيء القليل من قواعد الدين وأصوله، فإن مدى خطبه الدينية محدودة، وبمعنى آخر لا يتعدى تلاوة جمل كتبها له أحد سكرتيريه.

ألغى عبد الله عادة الحج إلى مكة واستعوض عنها بدعوة المسلمين إلى الحج لقبر المهدي ممثل النبي الكبير. وأنا على الرغم من مشاهدة كراهية السودانيين لهذه البدعة الجديدة نراهم مضطرين إلى الرضوخ لأمر عبد الله. وما زال أولئك السودانيون على نظامهم الجديد حتى أصبحوا الآن (عام 1897) ساعين من غير قصد إلى تحقيق رغبة عبد الله، راغبين في الحج دائما إلى قبر المهدي. وقد ذهب بهم حبهم في التقليد الجديد إلى حد أنهم يسخرون ممن لا يوافقهم في طريقة الحج هذه. وإنه لمن النزاهة والعدل أن تقول بأن السودانيين في تشبثهم هذا لا يعبرون عن عقيدة ثابتة، بل يرمون إلى تحقيق رغبة مولاهم عبد الله.

أما فيما يختص بالتعليم والأوامر الدينية، فمن الحق أن نقول إنهما في حيز العدم من الوجهة العملية الواقعية، وكل ما في الأمر أن بعض الأولاد والبنات يتلقون معا آيات قرآنية وبعض جمل من الحديث المقدس لدى المسلمين، ويكون ذلك الإلقاء بواسطة شيوخ دينيين في معاهد صغيرة مجاورة للمسجد. ولئن قلنا إن الشيوخ يلقون الآيات على أولئك الصغار، فإنا لا ننسى بأن نذكر إلى جانب ذلك أن الذي يحفظ من الآيات قسم صغير، والمتبع في زمن الخليفة عبد الله أن يرسل عدد قليل من أولئك الأولاد إلى بيت المال بعد إتمام دراستهم الأولية في المساجد، فإذا ما ساروا إلى ذلك البيت أصبحوا تلاميذ تحت التمرين لموظفي الحكومة الأقدمين، وهناك يتعلمون مقدارا محدودا من المراسلات الكتابية العامة.

نتدرج الآن إلى التجارة في السودان، فنقول بأن ذلك العهد الذي كان زاهرا، والذي امتدت فيه الطرق التجارية في السودان، قد اضمحل فأصبحت الطرق - التي كانت تجتازها القوافل الكثيرة العدد - شبيهة بالصحراء المقفرة؛ حيث محت الرمال المكومة معالمها أو حلت بقايا جذور النبات في بعض نواحيها. وفي صدد ما نذكره يحسن بنا أن نضع بيانا للطرق التجارية الرئيسية الأربع:

أولا:

الطريق الأربعينية من دارفور إلى أسيوط أو من كردوفان عن طريق بيوضة الصحراوية إلى دنقلة ووادي حلفا.

Unknown page