ومما يذكر في هذا الصدد، أن إبراهيم عدلان اقترح عليه إنشاء محطات خاصة للبريد على طول الخطوط الرئيسية المعروفة.
ولكن الخليفة رفض قبول هذا الاقتراح بشيء من الضجر، بعد أن قال لإبراهيم بأنه عني قبل كل شيء بالأوامر الشفوية التي يلقيها «الخليفة» على الأخصاء من رجال البريد، الذين لم يتأخروا مطلقا في تنفيذ أوامره بإخلاص وأمانة، علاوة على أن الخليفة كان يتلقى من أولئك المقربين إليه تقارير وافية عن أعمال الحكام التابعين له.
لم يقتصر أمر البريد الخاص على الخليفة، بل تعداه إلى الأمراء؛ كل في منطقته؛ حيث كان للأمير رجال مخصوصون وعدد معين من الجمال لحمل البريد، مع تعليمات خاصة لأولئك المتجهين إلى أم درمان. ومهما يكن الأمر فلم تكن هناك طريقة للمراسلات البريدية العامة؛ أي للمراسلات بين الأشخاص من عامة الشعب السوداني، ولكن على رغم ذلك كان الحمالون يحملون رسائل من بلد إلى آخر بطريقة سرية.
لم يكن الخليفة في جميع أيام زعامته واثقا بغريب عن دائرته؛ فدعاه ذلك إلى التشديد على الرجال المحيطين به، حتى إنه لم تكن تصدر رسالة من أحدهم إلى الخارج إلا بعد أن تمر على كاتم سر الخليفة. ومما يذكر عن الخليفة عبد الله أنه كان يجهل القراءة والكتابة، فحدا به ذلك إلى الشك في كثير من الكتابات الواردة من الخارج إلى الأمراء القريبين منه، وتبعا لذلك كان يصدر أوامره المشددة بمرور الرسائل على سكرتيريه الخصوصيين، ومن أهم أولئك في نظره اثنان؛ هما قاسم ومدثر، اللذين كانا مضطرين دائما لشرح محتويات الخطابات لسيدهما الخليفة، على أن الخطابات الواردة لمركز الخلافة ذاته لا يرد عليها السكرتيرون من ذواتهم، بل يتلقون أوامر الخليفة في كل ما يكتبونه. ولم يكن جهل الخليفة القراءة والكتابة مانعا له من الوصول لبغيته بواسطة المفتشين الذين يراقبون تلك الردود البريدية.
أما هذان السكرتيران فقد عاشا مع الخليفة حياة تعسة مملوءة بالأوامر التي تنم عن ريبة عبد الله فيهما. وقد كان ذانك الرجلان على ثقة تامة من أن الخليفة لن يغتفر لهما أصغر هفوة، والويل كل الويل لأحدهما أو لاثنيهما في حالة إذاعة سر من أسرار الخليفة، حتى لو كانت تلك الإذاعة غير مقصودة بسوء نية من جانب السكرتيرين. ولم يكن الخليفة يقصر في حالة من تلك الحالات عن معاملة ذينك الرجلين بما عامل به الأحمدي وأشقاءه الأربعة، الذين نفذ فيهم حكم الإعدام بعد أن اتهموا باتصالهم بالأشراف.
إذا خلا الخليفة إلى نفسه ونزع إلى شيء من الراحة أو التحدث للناس، فإنه لم يكن يرتاح لشيء أكثر من التحدث مع القضاة الذين لم يكونوا - في أغلب الأحيان - غير آلات صماء في يديه؛ بحيث لم يكونوا يترددون في إصدار أقسى الأحكام الاستبدادية ضد من يمقتهم الخليفة أو يرتاب فيهم، فإنك كنت ترى أولئك القضاة يجلسون أمام الخليفة في وقت راحته في شكل نصف دائرة على الأرض العارية من كل فراش، ولم يكن يتجاسر أحد أولئك على رفع رأسه أمام الخليفة، فإذا جلسوا أرهفوا آذانهم وصمتوا انتظارا لأوامر الخليفة المطاعة. وقد كانت الأوامر المذكورة في أغلب الأحيان تلقى بصوت خافت هادئ، والعجيب في الأمر أنهم لم يكونوا بحال من الأحوال يستطيعون رفع أصواتهم، وبطبيعة الحال لم يتوقع شخص معارضة أو اقتراحا من جانب أي قاض. وسواء أكان الخليفة مصيبا في رأيه أم غير مصيب، فإن القاضي ملزم بالإذعان للأمر والتأمين على ما سمع.
إلى جانب أولئك القضاة كان الخليفة في كثير من الأحايين يجتمع بالأمراء وبعض الأشخاص ذوي النفوذ الموثوق فيهم عنده، وكان الخليفة على وجه عام يقف على شئون الرعية وأحوال البلاد بواسطة أولئك الأشخاص القريبين. ومما يذكر عن عبد الله أنه كان ماهرا في بث الفتنة بين أولئك المقربين منه؛ حتى لا تتم الصلة بينهم، وحتى يصل كل منهم إلى إذاعة ما عنده إذاعة دقيقة لمولاه الخليفة.
وكانت مناقشات الخليفة ومباحثاته عقب صلاة العشاء كل يوم، وتلك المباحثات الخاصة مع يعقوب وبعض أقربائه الأقربين، وكانت تستغرق مباحثاتهم في كثير من الأحيان بضع ساعات، وفي أيام خاصة تظل إلى ما بعد منتصف الليل، وعلى وجه عام كانت الاجتماعات العائلية البحتة خاصة بالبحث في أنجع الطرق للتخلص من الأشخاص غير المرغوب في وجودهم أمام الخليفة بصفة خاصة، وأمام ابنه وبعض أقربائه بصفة عامة. وإنه لمما يجدر بنا ذكره أن أولئك الأشخاص كانوا لا يتطلعون - في ذلك الحقد على المكروهين - إلى مصالح عامة، بل إلى ما قد ينجم عنه ضعف لقواهم أو التقليل من أثرهم البارز في الدولة.
كان الخليفة في كثير من الأحيان يقوم برحلات صغيرة داخل المدينة أو في الجهات المجاورة، على أنه في أيام خاصة من الشهر كان يقوم ببعض زيارات لأخصائه في أم درمان. وليس هناك ما يدعو إلى بذل جهد من الشعب خارج أو داخل المنازل لتعرف ميعاد مرور الخليفة؛ فإن الأصوات المرتفعة من الحشم ودق الطبول والنفخ في الأبواق أمام ركب الخليفة؛ كل ذلك كاف لأن يسمع الناس ذلك الصوت الخاص على بعد مئات من الأمتار، فيهرع السكان لتقديم التحية لمولاهم الكبير.
كان إلى جوار بيت الخليفة مكان فسيح للحرس، ودار مسقوفة بقش يظل فيها الخيل بعد أن ينظفها الحرس. فإذا ما قال الخليفة إنه يعتزم الجولان في المدينة، أسرع حراسه إلى خيولهم وأسرجوها. فإذا ظهر الخليفة في رحبة داره الخارجية، خرج الضباط والحرس الخاص من كل النواحي المحيطة وأسرعوا لحماية سيدهم. وكان النظام المتبع في تلك الرحلة أن يتقدم الضباط وحرس الخليفة، ثم يتبعهم عبد الله ممتطيا جواده الخاص وحوله من النواحي الأربع دائرة من الحرس الموثوق في إخلاصهم له. وإنك لتكاد تظن الناس الخارجين من منازلهم لمشاهدة الخليفة مجموعات متتالية من الكتائب الحربية، أما الجنود فكل فصيلة تسير على انفراد مكونة من اثني عشر متجاورين، ووراء أولئك جميعا يسير الموكب اللاحق والمؤلف من الأمراء والأخصاء على ظهور الخيل ثم آخرون من الأقرباء.
Unknown page