Sawt Min Thallaja
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
Genres
قطع تفكيري الرذيل هذا صوت لرجل يبلغني ألا أتفاجأ. كان في نبرته ابتسامة مرحة، ودعوة للاطمئنان والثقة. دعاني الصوت إلى الاستماع إليه دون ذعر، فهي تجربة علمية جديدة - لم أدر له أم لأحد يعرفه - تقوم على التواصل مع بعضنا عبر الثلاجات. انبهرت كمن شهد نافذته مكسورة الشيش تتحول إلى غادة حسناء، أو جدرانه الكالحة تتحول إلى أشجار ناضرة، أو بلاط أرضيته الميت يتحول إلى رمال شاطئية رطبة، تقبلها أمواج حثيثة ثم تجري مبتعدة، لتقترب مقبلة إياها من جديد. كان كلامه مثيرا، وعرضه مغريا. اليوم الناس تتواصل في بيوتها بالبريد الإلكتروني والفيسبوك والواتس آب، وجميعها أكرهه بعنف. لكن هذه طريقة مبتكرة. استحليت الأمر كمكعب سكر من هذه المكعبات التي كنت أهنأ بأكلها طفلا عند خالتي، حتى تصفني ب «حرامي السكر». كم من السكر أكلت، يااااه. الآن لو فعلتها لعلا مستوى السكر في دمي، ورحت بلاش. يا أيها الصوت الغريب، من أنت؟!
جاوبني بأريحية، معرفا نفسه. إنه «محفوظ»، رجل من عائلة ميسورة الحال، ورث أرضا زراعية شاسعة، يتغذى من إيجارها المنتفخ سنويا. لم يحتج للعمل طيلة حياته، رغم تخرجه في كلية عليا. قدمت له نفسي، متذكرا صفحات من ملخص السيرة الذاتية، الذي يسمونه - لا أعلم لماذا -
CV ، والذي أضيف له كل أسبوع سطرا، خاصا بمقالة أو قصة صدرت لي. وحكيت له، كما لم أحك مع خطيبتي المزعومة، عما أحب وعما أكره. برامجي المفضلة وأفلامي المقدسة. في التجربة لطف تشعلقت فيه بجذل وإصرار. دق قلبي حنينا. ذكرتني نبرة صوته بصديقي العزيز الذي اعتزلني. لم تكن تشبهها، لكنها أعادتني إلى مساحة ألفة وصراحة جمعتنا معا، ثم تاهت في نفق السنين ذي الاتجاه الواحد. شعاع البرودة الخارج من الثلاجة لطف المكان كتكييف رقيق. ورغم علمي جيدا أن فتح الثلاجة لأكثر من اللازم يؤدي إلى مشاكل؛ من أول تسرب غاز الفريون إلى اتساع ثقب الأوزون، فإني لم أهتم. نقدت حذري مبلغا، وأرسلته لشراء سجائر من المريخ، وذابت كل همومي في ابتسامة عانقت شفتي من بعد فراق دام لشهور وشهور وشهور. •••
صار أول ما يعطر وجودي فور القيام من النوم هو التواصل مع «محفوظ»، والاطمئنان عليه، وتبادل الحواديت معه، وسماع قفشاته التي تضحكني. الضحكات كانت حلوى شحيحة جدا، لم أجدها في أي سوق منذ طفولتي تقريبا. ثم جاء صاحب الصوت ومنحني إياها بغزارة. كيف عرف نوعية المفارقات اللفظية التي أعشقها؟ مثل دعائه على من يستهجن، من أول المسئولين إلى الفنانين: «الله يهديهم ... ويهدهم» أو «ربنا يكرمهم ... ويأخذهم»! أحببت صوته العميق الوقور الذي تمازجه أحيانا حشرجة ما فتكسبه بساطة وطرافة. ومع تحول حديثه للتهريج يغلي إيقاعه، قاطعا المسافة من البطء للسرعة في تتابع خاطف تفتنني جاذبيته. بهرني ذكاؤه في إلقاء الإفيه. حينما تسمعه تظنه شيخا رصينا يلقي خطبة جمعة، ولكن ما يلبث أن يفاجئك بجملة راقصة السخرية، غنية الإضحاك. إنها مفارقة متقنة وفريدة، أجبرتني على الاشتياق إلى خفة دمه أكثر من أي نجم للهزل عرفته في الفن أو خارجه. وبدلا من تناول عشائي أمام مسرحية كوميدية في التليفزيون، أو فيلم أكشن على الكومبيوتر، أو مسلسل كلاسيكي على اليوتيوب، أتيت بالمائدة البلاستيكية ذات العجل، ورسوت بها أمام الثلاجة، غير عابئ إن أطارت برودتها سخونة عشائي، المهم هو لقائي مع «محفوظ»، وارتوائي من سمره. كان رجلا لذيذا بحق، رغم كراهية أستاذي في الجامعة لاستخدام صفة «لذيذ» لأي شيء غير الطعام، أو الفاكهة، أو الحلوى، مؤمنا بأن استخدامها مع البشر - مع الإفراط فيه - دليل تغلغل للمادية في العلاقات الإنسانية على نحو خطير ومرفوض. سحقا لأستاذ الجامعة. كان باردا، ثقيل الظل، بلا مذاق . من يحب هذه الشخصيات، أو يشتاق إليها؟! يحكي لي عن أساتذته، وكيف كانوا يعاكسون زميلاته، بتلميحات عابرة أو بتصريحات وقحة. أحب الإطالة في أي موضوع رائحته شهوانية، وإطلاق النكات الجنسية بغزارة، مع تعمد وصف الآخرين بعوارتهم، أو بشتائم تمسها. تذكرت خالتي العزيزة، وكيف كانت تستعمل عبارات مثل «كبير المؤخرة» لوصف ضيف ثقيل الحضور لا يريد المغادرة. هذا في أحيان نادرة كانت ترفضها رقابتي بالطبع. لكن هنا الأمر يختلف. تعبيراته كانت مسرحية وضيعة التجارية، منطلقة البذاءة، لا تنتهي. وأنا أمقت ذلك. تحول رد فعلي مع الوقت من ابتسامة مجاملة، إلى ربع ابتسامة، إلى تجهم صرف. رأى ذلك كله في نبرة صوتي. وحينما يستمتع بما أكره، أستأذنه في غلق الثلاجة، لأن برودتها جثمت على صدري. هل يفهم ما أقصد؟ لا أظن؛ لأنه يعود إلى سلوكه - كما هو - في المرة التالية، ومن قبلها، أعود أنا إليه.
صوته مألوف جدا. أظل أفكر، وأتحرى؛ من في حياتي امتلك نبرة كهذه؟! أحب تمضية الوقت في تذكر شيء نسيته. أظنها محاولة للفخر بقدراتي الذهنية، أو الحفاظ عليها نشيطة. مرة بقيت ساعتين على فراشي، محاولا تذكر اسم فيلم غنائي قديم. كنت أذكر كل ما فيه، عدا اسمه. لم يكن وقتها هناك إنترنت، ولا ساعتها شخص متيقظ يجيب عن تساؤلي، ولا بجواري كتاب يطفئ ناري. وبعد الساعتين، تذكرت اسمه: «السعد وعد»، وكان له عنوان فرعي يتبعه دوما «محدش واخد منها حاجة». من قال إنه لا أحد ينال منها شيئا؟! إنه الحب يا سادة. هذا إن كان حقيقيا. حب الإنسان لربه، ونفسه، وغيره. إنه العمل الصالح الذي يجعل للكفن جيوبا تحمل ما سيشفع لنا في العالم الآخر. لكن يبدو أني أدركت هذا متأخرا ... بعد الأربعين. تعودت في كل علاقة إنسانية أن آخذ فقط، أمتص خير الآخرين، أو الآخرين أنفسهم. لم أعتد أن أرد على الخير بمثله. زهق صديقي السابق مني، ومن عدم تقديري لحبه. يقرضني كتابا، ولا أقرضه جريدة. يعزمني على غداء، ولا أعزمه على بونبوني. يتصل بي في عيد ، ولا أتصل به إلا لأحكي عن ضياع أعيادي. بئس الأفعال وساءت مرتفقا. لم يكن بخلا، وإنما غباء فهمته بعد وفاة الأوان. لكن فلندع الماضي يذبل؛ لن أسقيه ولو بزيارة واحدة. يؤكد صاحب الصوت ذلك، ويقص لي حكاية فتاة عرفها، وأحبها، وهجرته، ثم إدراكه المتأخر أنه السبب. كان يتكلم أكثر مما يفعل. الحب عنده كلمة يهمسها برقة بالغة، لكن لا يبدلها في أي يوم أو ليلة إلى فعل. أمضى الوقت متلذذا ببريق عينيها، ولمسة يديها. حاول أن يتلذذ بما هو أكثر من ذلك، لكنها لم تسمح له. الآن يحاول البحث عن مذاقها وسط تلال الفتيات اللائي يقضي معهن وقته. فلا يجد إلا سرابا أكد لي أنه ينتظره، ويسعى وراءه بكل تصميم. ورغم إخباره لي أنه يضع روبا صوفيا على كتفيه، فإنه اشتكى من «سقعة» ثلاجته، متعللا بذلك كي ينهي الجلسة. بينما أحسست في صوته باختناق بعيد، يتنكر كصخرة صلدة.
اكتشفت مرة أن تغييري للمبة الثلاجة بأخرى أقوى منها زاد من وضوح الصوت. ورغم ذلك لم أسمع أي أصوات مميزة حوله، كأنه يتحدث في غرفة مصمتة. ربما وصلت إليه زقزقة عصافير شارعي، أو جانب من موسيقى مذياعي، أو حتى خطوات الصاعدين والهابطين على سلم عمارتي من وراء باب الشقة؛ الذي يفصل بينه وبين الثلاجة متر واحد. الحق أني لم أخبره بمسألة اللمبة، ولم يخبرني هو ما إذا كان أحس باختلاف كما أحسست. مساحة الحذر بين الأصدقاء من جديد. وهي نفس المساحة التي فرضناها من البداية. فلا تبادل لأرقام الهواتف، أو معلومات عن مكان السكن، أو حتى وصف للشكل. ربما يكون هذا مطلب مثل مطالب ما يدعونها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تدعوك لتسجيل معلومات معينة، قد يكذب أصحابها في أعمارهم، وجنسياتهم، بل جنسهم ذاته! في زمن آخر كان الضيق سيحوم حولي بخصوص مساحة الحذر هذه، ويدعوني لتجاوزها. لكن في زمننا العليل هذا، أعجبت بهذه المطالب. ليس لما فيها من غموض قد يمنحك قدرة على الكذب، أو متعة في التخيل، وإنما لأنها تحتفظ لك بخصوصية ، وبدون الصورة يرجع الكذب إلى أيام براءته، أيام كان الصدق لا يزال بصحته وسطوته، له وجود وأتباع، والهرب منه صعب أو غير مستحب.
أقلقتني مسألة انحلاله الأخلاقي. هذه الكلمة نفسها كانت تثير الضحك وسط زملاء الجامعة، مثل قنبلة تفجر الكل ضحكا. لماذا رأى هؤلاء الجهلة الأغبياء أن اللغة العربية أمر يستحق الهزء؟ ليس ذنبي أنكم مشوهون. قدوتكم في الحياة سلطان السكري من مسرحية العيال كبرت. فاشل مسطول مبسوط دائما، يسخر من كل إنسان حتى نفسه، دون أي نية للانصلاح. أنتم النكتة وليس لغتي، لكنها نكتة محزنة للغاية. على أي حال، ذلك أحزنني بالأمس، ومن رحمة الله أن الأمس مضى. ما يحزنني اليوم هو علاقاته النسائية المتعددة؛ صديق الثلاجة يروي عن مغامراته مع نساء الليل والنهار بشكل يقززني، بل يؤلمني. نعم، أعرف، جيدا، جدا، أن لكل إنسان أخطاء، ولا أحد كامل، وأن الله هو الذي يحاسب ... وإلى آخر محفوظات الحرية التي لا بد أن يلتزم بها الناضجون. لكن هذه خطايا وليست أخطاء. وأنا أحب «محفوظ». صرت أشتاق إليه، وأطمئن إلى حواره، وأحفظ كلامه، وأشعر بأشجانه. حينما نحب، يسكننا من نحب، ونسكنه. يصبح الخوف عليه واجبا كالخوف على روحك تماما. والانزلاق في الخطيئة على إغوائه مخيف، يوسخ البيت بنجاسة هادمة. لا بركة في عيش نحصد به غضب الله. بالأحرى، لا عيش مع غضب الله، وإنما عمر أغلبه يابس، ثم موت نلاقي فيه أسوأ ما يمكن أن نصنعه؛ أبدية من العذاب. أعرف أن ترديد ما أقول أمام 90٪ ممن أعرفهم سيؤدي، أو يودي، إلى رد فعل زملاء الجامعة إياه. لا أعلم لماذا صارت الجدية، أو لعلها الحقيقة، كوميدية هكذا. ربما لأن عالم الجهل حاكم، وهواء الكذب ممتع، وسيقهرنا اليأس إذا ما حاولنا إصلاح كون من الفوضى، أو تشييد نظام وسط أطلال. إذن لا حل إلا في الحياة والتلذذ. أما رضا الرب ... فشاق. سنستغفر في الوقت المناسب الذي لن يجيء أبدا، وسنحاول إخراج نقود للغلابة أحيانا، وترحمات ندمائنا علينا بعد موتنا ستتكفل بالباقي.
طاردتني فكرة مواجهته برأيي، لكن تجمد لساني في حلقي. فعلتها سابقا وخسرت من أحب، وأنا لا أريد خسارته. إنه ما تبقى لي من كل هذا الزمان. إلى من سأتكلم، وأنصت إليه، بعد ذلك؟ سيقيدني الصمت، ويرميني في زنزانة غرفتي، ليجلدني الشتاء الدائم. قلت حسنا، سأرمي وسط حديثي النصيحة كنكتة، ولا مانع من إضفاء بعض السكر على نبرتي ساعتها. ولما فعلت ... صمت كأب شتمه ابنه. داس على صدري الخوف. لكن بعد لحظات، عبرتني مثل سنة، ضحك راميا عبارات مثل: «هو انت جاي تربيني؟!» تنفست الصعداء، رغم أني أكره هذا التعبير، واستأذنته في خطف طبق بامية طبختها، وتصادف أنها شهية، كي أعيد تسخينه، طالبا منه انتظاري، ففعل مغنيا: «أنا مالي ... أنا في حالي ... سيبوني في وحدتي ديا ... أنام خالي ... وأقوم خالي ... ولا فرحة عزول فيا ...» كانت أغنية عتيقة لعبده السروجي، لا أدري لماذا تسلى بها في أثناء غيابي.
حين عودتي، وتغميس البامية خلال حوارنا، صدمني بجملة قالها ... جملة نالت من كرامتي. كان يسخر من وحدتي، وكيف أنه - على عكسي - يلمس ويعتصر، يتشمم ويحتضن، يلثم ويضاجع. توقفت عن الأكل، حزينا من كلمته أكثر من حزني على وحدتي. اشتبهت في مراهقة مقيتة دفعته أن يرد لي التدخل في تفاصيل حياته الشخصية، بتدخل في تفاصيل حياتي الشخصية. هناك قواعد سنها العرف بين الأصحاب. تكلم، وتدخل، لكن هناك أمورا، وأفعالا، وأماكن، لا يدخلها الحوار. ربما في علاقات ولحظات وشخصيات استثنائية. لكن في علاقاتي، وكل من عرفتهم، لا. معظم أبناء الطبقة المتوسطة لهم عادات وتقاليد قديمة لكن فعالة. أومن بها عن اقتناع، وأمارسها بحرص. هنا حدث تجاوز لما نسميه الخط الأحمر. دفعت أول ما دفعت بتقبل الآخر، ذلك الذي يكملك ولا يشبهك. لكني رفضت أن تكملني هذه البذاءة، فهي لا تنتمي إلي. أغلقت باب الثلاجة مرة واحدة. وظللت واقفا بشفة مال طرفها لأسفل كأنما أثقلها قفل أوصدته. شعلة من سواد تتأجج في قلبي، وتخرج محتلة المكان من حولي. أهرع لفعل أي شيء، أي شيء، إلا فتح الثلاجة مجددا ، وتركت طبق البامية على المنضدة وجبة هانئة لأي ذباب أو نمل. •••
مرت أيام وأيام لا أحادثه فيها. حسنا، كان ألما قاسيا. لم أعلم أكان هو صاحبه، أم كرامتي، أم واقعي، أم ماذا بالضبط؟ تعجبت من كون كلمة «عذاب» قريبة من كلمة «عذب». المسافة بين الحزن والسعادة تكون بحذف حرف. الحذف مفيد إذن. لما سألوا روبرت دي نيرو، الممثل الأمريكي الكبير، ما نصيحتك لكل الشباب الذين يريدون العمل في مجال التمثيل، رد بثلاثة كلمات فقط
Unknown page