ولولا أني خشيت الإغراب أو الغموض لوضعت لهذه القصة عنوانا غير هذا هو التسويل، فهذه الكلمة تترجم العنوان الفرنسي ترجمة دقيقة حرفية. ولكني أقرأ في قاموس الفيروزأبادي: سولت له نفسه: زينت، وسول له الشيطان: أغواه. فليكن عنوان القصة: الإغواء، وليكن هذا الإغواء قد صدر عن النفس أو عن الشيطان؛ فالأمر سواء. وما أحسب إلا أن لكل نفس من أخلاقها وأهوائها وعواطفها شياطين يغوونها ويدفعونها إلى الشر، وملائكة يرشدونها ويحببون إليها الخير. ولقد كنت حين بدأت أقرأ هذه القصة، أعتقد أني سأحمدها لك في غير تحفظ، وسأثني عليها في غير حيطة. ولكني لم أكد أمضي في قراءتها حتى حسبت أن الكاتب لم يصل بعد من فنه إلى هذه المنزلة التي يحمد فيها دون تحفظ، وإنما هو في سبيله إلى هذه المنزلة.
أنت تعرف هذا الكاتب، فقد حدثتك عنه يوم لخصت لك قصته المعروفة «الأمير جان»، ولعلك تذكر أني أشرت في مقدمة هذا التلخيص إلى أن عناية كاتبنا هذا منصرفة إلى الحركة والعمل أكثر من انصرافها إلى الرأي والتفكير، فهو يريد أن يؤثر في النظارة بمؤثرات خارجية تصل إلى نفوسهم من طريق الحس، لا بهذه المؤثرات الداخلية التي تنشأ في طيات النفس وأعماق الضمير. أريد أنه يكلف الممثلين ضروبا من الحركة وألوانا من الاضطراب، وينقل الملعب من مكان إلى مكان، ويكثر من الأشخاص ومن أحاديثهم وينوع أخلاقهم وصفاتهم، ويفاجئ النظارة بما لم يكونوا ينتظرون، فيملك حسهم ويبهرهم، ويصل من هذا كله إلى ما يريد من تلهيتهم وتسليتهم دون أن يصل إلى شعورهم العميق. هو متصل بحسهم وبهذه الكلمات التي تمكن الإنسان من أن يلهو لهوا هادئا لا يثير في نفسه حزنا ولا يبعث في قلبه أسى. هو يضمن للنظارة أن ينفقوا في الملعب ساعات حلوة، لا يشكون فيها مللا ولا سأما، ولا يفكرون أثناءها في أنفسهم ولا فيما قضوا يومهم فيه من خير أو شر. ولكنه يضمن لهم إذا خرجوا من الملعب، أن يخرجوا منه كما دخلوه لا محزونين ولا مكتئبين ولا محتاجين إلى أن يفكروا فيما رأوا أو سمعوا.
قلت لك هذا أو شيئا يشبهه في العام الماضي، فلما عرفت أني سأتحدث إليك عن الكاتب نفسه في هذا الأسبوع، خيل إلي أن سيكون الأمر هينا؛ لأنك تعرف الكاتب، فلم يبق لي إلا أن ألخص قصته. ثم أخذت في قراءة القصة فتغير رأيي فجأة تغيرا يوشك أن يكون تاما؛ لأني رأيت الكاتب نفسه قد تغير: لا يهمل الحركة واضطراب الممثلين. ولكني رأيته يؤثر عليها الفكرة ويريد أن يتصل في هذه المرة بعواطف النفس ودخائلها. ثم مضيت في قراءة القصة، فتم اقتناعي بأن الكاتب قد تغير مذهبه، ولكنه لم يتغير تغيرا تاما، فهو محتفظ بحبه للحركة وإسرافه فيها، ولكنه قد أضاف إلى حبه للحركة هذا شيئا آخر جديدا، وإذن ففنه يتطور ولكن في بطء. وأكاد أثق بأن القصص التي سيقدمها لنا في الفصل المقبل ستكون أقل حظا في الحركة والاضطراب، وأنه سينتهي إلى العدول عن هذا الفن الشاب المسرف في النشاط إلى فن آخر هادئ رزين فيه تذكير وفيه نفع وفيه عناية بالعقل والشعور.
والحق أني لم أبرأ من الأسف حين فرغت من قراءة هذه القصة، فأنت تعرف رأيي، وتعلم أني أوثر من قصص التمثيل ما يجد العقل والشعور فيها معا لذة ورضا. وأكره من هذه القصص ما يتصل بالحس وحده ويكاد لا يقصد إلا إلى العبث وإنفاق الوقت. وكنت أقدر بعد أن قرأت الفصل الأول والثاني أني بإزاء قصة رأي وتفكير، وكنت معجبا بموضوع القصة وبهذه الفكرة التي أراد الكاتب أن يستغلها، وكنت أريد ألا يشغلني الكاتب بحركته واضطرابه عن هذه الفكرة وعن أطوارها وعن آثارها ونتائجها، فلم أظفر من ذلك إلا ببعض ما كنت أريد. ولقد أجد النقاد يذكرون صلة بين هذا الكاتب وبين كاتب آخر حدثتك عنه في العام الماضي غير مرة، وهو «هنري باتاي»، وربما كان بين الكاتبين شيء من الشبه غير قليل، ولكن من الخير أن نحدد هذا الشبه إن كان إلى تحديده سبيل، فنلاحظ قبل كل شيء أن الكاتب الذي نحن بإزائه اليوم يشبه «هنري باتاي»، من حيث إنه يعبث بالنظارة ويستأثر بحسهم ويلهيهم كما يريد، دون أن يتيح لهم من الوقت ما يمكنهم من الأناة والتفكير وكشف القناع عن حيله وألاعيبه الفنية. هو مسرع يعدو فيعدو وراءه النظارة حتى تكاد تنقطع أنفاسهم. وهو بارع في هذا العدو، يلهي نظارته فلا يحسون ألما ولا تعبا، ويصرفهم عن أنفسهم إلى فنه. ولكن الفرق عظيم جدا بينه وبين «هنري باتاي»، فلم يكن هنري باتاي عابثا لاعبا ليس غير، وإنما كان شيئا آخر. وسواء أرضيت الأخلاق والفلسفة عن تمثيل هنري باتاي أم سخطت عليه، كانت قصصه كلها أو أكثرها تجارب علمية نفسية؛ ذلك أنه لم يكن يعبث بالحس وحده، وإنما كان يعبث بالعواطف والشعور أيضا، ولم يكن يريد أن يلهو ولا أن يلهي ليس غير، وإنما كان يريد شيئا آخر: كان يريد أن يثير الحس والعاطفة ما استطاع ليعرف أقصى ما يمكن أن ينتهيا إليه. ومن هنا لا تستطيع أن تخرج من الملعب هادئا مطمئنا كما دخلته، وإنما أنت متأثر شديد التأثر بما رأيت وسمعت. ينقضي الليل وربما انقضى اليوم أو الأيام دون أن ينقضي هذا التأثر، ذلك شيء تجده في «هنري باتاي»، ولكنك لن تجده في كاتبنا هذا. وإذن فليس الشبه بينه وبين صاحبه قويا ولا عميقا، وإنما هو شبه عرضي إن صح هذا التعبير.
وقد يكون من الخير أن أبدأ في تلخيص هذه القصة، ولكني ألفتك قبل كل شيء إلى أن هذا التلخيص سيكون موجزا؛ لأني لن أتابع الكاتب في حركته واضطرابه، فقد تكون متابعة الكاتب فيها لذيذة في الملعب دون التلخيص. •••
نحن في ضواحي مدينة جنيف، في فندق هناك من فنادق الترف، وقد أقبل المساء أو كاد، وأخذ الناس يجلسون في طنف الفندق يتناولون الشاي وما إليه مما يتناول في المساء. ونحن نرى في ناحية من هذا الطنف رجلين قد جلسا إلى مائدة يتحدثان، ونرى قريبا منهما رجلا وامرأة يهمسان وكأن الأمر يعنيهما. فلنعرف هؤلاء الأشخاص جميعا؛ أما أحد الرجلين فهو «موريس برونو» شاب، ضخم الثروة عظيم النشاط، يعمل عامه كله في غير راحة ولا هدوء، حتى يجهده العمل فيفر من باريس إلى حيث يستريح أسابيع. وهو شديد الحياء يضطرب لأقل شيء، قليل التجربة، ولعل هذا هو مصدر حيائه واضطرابه. وأما صاحبه فهو «لوثار» صديق له من هؤلاء الناس الذين تظهر عليهم آثار النعمة ويسيرون في الحياة سيرة المترفين، ولكنهم في حقيقة الأمر فقراء لا يستمدون نعمتهم أو ترفهم من ثروة يرثونها أو يكسبونها، وإنما هم عيال على أصدقائهم الأغنياء، يعتمدون عليهم ويعيشون منهم. وهم لا يريدون أن يؤمنوا بهذا ولا أن يظهروه، وإنما هم يخفونه حتى على أنفسهم، بل يخفونه حتى على أصدقائهم هؤلاء، فهم يأخذون من أصدقائهم ما يحتاجون إليه لا على أنه هبة أو عطاء، بل على أنه قرض، وهم يقترضون في تمنع وإباء وفي عزة تكاد تكون طبيعية، حتى إن الذين لا يعرفونهم يجهلون من أمرهم كل شيء.
وأما المرأة فهي «إيرين دي برج»، لم تبلغ الثلاثين بعد. رائعة الجمال كأكثر نساء القصص. كل شيء فيها حلو خلاب: صورتها، حركاتها، ألفاظها، زيها، مذهبها في الحوار أو الكلام. هي فتنة تتحرك، نشأت من أسرة متوسطة، من أبوين يؤثران المنفعة على كل شيء، وقد أتيح لابنتهما خطب شريف ضخم الثروة، فقبلاه ودفعا إليه الفتاة دفعا دون أن يحفلا بعواطفها وهوى نفسها. وكان هوى نفسها هذا مع شاب آخر كان صديق صباها، فأحبها وأحبته، وخطبها وقبلته. ولكن أبويها رفضا؛ لأن هذا الشاب لم يكن نبيلا ولا غنيا بحيث يلائم جمال ابنتهما من جهة ومطامعهما من جهة أخرى. وهذا الشاب هو «روبير جوردان»، وهو محام قد عظم أمره وبعد صوته في محاكم الجنايات، وهو الذي يتحدث إلى هذه المرأة الآن. قد افترقا أعواما ثم التقيا، فإذا حبهما على عهده القديم لم يتغير، وإن كانت المرأة تظهر لزوجها عطفا ومودة وتضمر له وفاء وبرا. هي لا تحب زوجها وهي تعلم أن زوجها لا يحبها، بل تعلم أنه يخونها ويسرف في خيانتها، ويبدل من الأخدان والخليلات كما يبدل ثيابه، ولكنها مع ذلك وفية أمينة؛ لأنها تكبر نفسها عن الخيانة، وتضن بجسمها أن يكون متعة لرجلين، وتأبى عليها كرامتها أن تختلس لذتها وسعادتها اختلاسا. هذا شأنها.
أما صاحبها فما زال يحبها، ولكن هذا الحب لم يكلفه رهبانية ولا نسكا، فهو يستمتع بالحياة ويتخذ الأخدان والخليلات لينصرف إليهن عن همه وعن حزنه. ولكنه الآن قد لقيها فامتلأت بها نفسه، وانصرف أو كاد ينصرف عن خليلة له كان قد أطال عشرتها. فلندع هذين العاشقين في حديثهما، ولنعد إلى الرجلين اللذين تركناهما آنفا لنرى فيم يتحدثان، يتحدثان في شيء طبيعي جدا، وهو أن الشاب رأى هذه المرأة فوقعت من نفسه، فهو يذكرها، ويلح في ذكرها وتفصيل جمالها، ويسأل عن مكانتها الاجتماعية، وصاحبه يؤيد له أنها فتاة من هؤلاء الفتيات اللاتي يختلفن إلى الفنادق والأندية يلتمسن الأخلاء، وقد رأى كلف صاحبه بها، فهو يهون عليه الأمر ويعلن إليه أنه سيقدمه إليها. وهما في هذا الحديث وإذا المرأة وحدها؛ لأن صاحبها قد تركها كأنه مغضب، فينهض الرجل إليها فيحييها كما تحيى الفتيات اللائي لا كرامة لهن، ويعرض عليها صاحبه الشاب، ويذكر لها ثروته وأخلاقه ومكانته، كل ذلك في غير حيطة ولا تحفظ، والمرأة تسمع هذا كله ضاحكة مغرقة في الضحك، ثم تقبل أن يقدم إليها الشاب، فإذا قدم إليها ازدادت ضحكا وإغراقا في الضحك، واضطرب الشاب اضطرابا شديدا، فلم يزدها اضطرابه إلا ضحكا. وهم في هذا الضحك، وإذا جماعة قد أقبلوا عليهم فيهم زوج المرأة، فتقدم المرأة زوجها إلى هذين الرجلين اللذين أدركهما خجل شديد، ثم تعلن إليهم أنها رأت هذين الرجلين في باريس وتحدثت إليهما، ولكنهما نسياها، أما هي فلم تنسهما. ولست أحدثك عن خجل هذين الرجلين وما تبعه من حركات مضحكة لا يتسع هذا الفصل لمثل هذه الأشياء التي تلذ في الملعب دون التلخيص كما قلت. بل لست أحدثك عن حركات هؤلاء الناس جميعا، فهم في اضطراب متصل يتنقلون من مكان إلى مكان، ويدخلون إلى الفندق ويخرجون منه. وأنا أنتهز فرصة خلت فيها المرأة إلى صديقها روبير، فهما يتحدثان بما قدمت لك من حب، وهو يلح عليها في أن تسمح له، وهي تأبى عليه إباء شديدا، ثم تقسم له أنها لن تكون لغيره، فإذا استوضحها أنبأته بأنها إذا برئت ذمتها من زوجها فلن تتزوج إلا إياه، والفتى ساخط على هذا الوعد الذي لا يقدم ولا يؤخر، فقد ذكر لها الطلاق فرفضته رفضا شديدا؛ لأن أبويها يكرهان الطلاق، وذكر لها الخيانة فرفضتها رفضا شديدا لأنها تزدري الخيانة، وإذن فلم يبق إلا أن ينتظرا قضاء الله، وما أسرع ما يتم هذا القضاء!
أقبل القوم جميعا وأخذوا في أحاديثهم المتصلة المختلفة، وإذا زوج «إيرين» يطلب إلى صديقها روبير أن يعيره سيارته ليهبط المدينة؛ لأن له فيها حاجة معجلة. ونفهم نحن من الحوار بين الرجلين أن الزوج إنما يهبط المدينة ليلقى خليلة له، وهو إنما يستعير سيارة صاحبه ليترك سيارته لامرأته إن أرادت أن تخرج، وهو شديد الحرص على أن يكون وحده، ولكن روبير يأبى إلا أن يرافقه لأنه وحده يحسن قيادة سيارته، وقد اتفقا آخر الأمر على أن يهبطا المدينة معا، ولم يبق عندنا ولا عند «إيرين» وصديقها شك في أن الزوج ذاهب إلى موعد منكر. وقد خرج الرجلان وبقيت الجماعة في أحاديثها المتصلة، وأخذت في ألوان من اللعب لإنفاق الوقت، ومضت على ذلك لحظات، وإذا خادم من الفندق قد أقبل فدعا أحد الرجال وخلا إليه، وأقبل هذا الرجل فدعا الآخرين بعضهم إلى بعض وأخذوا يتحدثون، والنساء لاهيات عنهم باللعب، و«إيرين» خاصة منصرفة عنهم انصرافا تاما؛ لأنها معصوبة العينين تتلمس رفيقاتها بيديها وتريد أن تدل عليهن دون أن تراهن. ولكن حديث الرجال قد طال ووصلت أطراف منه إلى النساء، فالتفتن ثم أقبلن، ثم ظهر الأمر منكرا وأزيل الغطاء عن «إيرين»، فما كادت ترى وتسمع حتى أغمي عليها، ذلك أن زوجها قد خرج في السيارة مع صاحبه، حتى إذا كانا في بعض الطريق نزل صاحبه من السيارة ليتحدث إلى رجل، فانتهز الزوج هذه الفرصة وطار بالسيارة، لأنه يريد أن يكون وحيدا في موعده، وأخذ صاحبه يعدو وراءه يستوقفه ولكنه أسرف في السرعة، وإذا هو أمام هوة لم يحسن اتقاءها، فتردى فيها، وهو الآن يحمل إلى الفندق.
كان هذا كله في جنيف وقد مضت عليه سنة أو أكثر من سنة، ونحن الآن في مدينة «كان» في جنوب فرنسا، في قصر فخم لأحد الذين حضروا ما قدمت في الفصل الأول واسمه «دي بوشان»، وقد دعا هذا الرجل أصدقاءه ليقيموا عنده أياما وفيهم «إيرين» وصاحبها روبير، وفيهم «موريس برونو» وصاحبه «لوثار». ونحن نرى صاحب القصر يتحدث إلى امرأته وابنته وهم ينتظرون أصحابهم ليذهبوا إلى اللعب. وقد فهمنا من حديثهم أن الرجل وامرأته يريدان أن يزوجا ابنتهما من موريس، وهما يلحان عليها في أن تترضاه وأن تتحبب إليه، وهي تفعل ما تستطيع، ولكن الفتى منصرف عنها إلى هذه الأرملة «إيرين»، والفتى يعلم أن هذه الأرملة لا تحبه، وإنما تحب «روبير»، وهو يعلم أنها قبلت خطبته وأنها ستقترن به بعد أشهر، ولكنه مع ذلك يحبها ويصرفه حبه عن هذه الفتاة. وقد أقبل القوم جيمعا وهموا بالذهاب إلى الملعب، ولكن روبير قد تعلل بأنه مصدوع، وأنه يؤثر منظر البحر وجمال الطبيعة على الملعب، فسيبقى إذن، وإذن فستبقى «إيرين» حتى لا تتركه وحده! ولم لا؟! أليسا خطيبين؟! أليس من حقهما أن يخلوا إلى جمال البحر والطبيعة في ضوء القمر، وأن يذكرا حبهما. وهما الآن وحدهما، وهما يذكران حبهما وآمالهما. ولكن شيئا جديدا قد طرأ؛ ذلك أن «روبير» قد تغير تغيرا غريبا، فهو يحب صاحبته، ولكنه يتقيها ويكاد يفر منها، وهو شديد الاضطراب ولا سيما إذا تحدث إليها، وهي تحس هذا كله، ولكنها لا تفهمه. وانظر إليهما الآن يتحدثان في الحب حتى يغريهما الحديث بالقبل فيضمها إليه، وإذا هي قد لانت له وضعفت، ولكنه ينصرف عنها في نفور وتحرج. فإذا غاظها ذلك ذكر لها أنه لا يريد أن يتزوج خليعة، وإنما يريد أن تظل صلاتهما عفيفة طاهرة إلى يوم الزواج. ولكن هذا لا يرضيها، ولها الحق، فقد كان هذا الرجل يغريها بالخيانة قبل أن يموت زوجها، ولم يكن يحفل يومئذ بالعفة ولا بالطهارة، فما الذي غير منه الآن؟ أبلغت به الأثرة أنه كان يريدها لنفسه حين لم يكن له عليها حق، فأما الآن فهو يأخذها باحترام العادات والأخلاق والأوضاع الاجتماعية؟! هي مغضبة، مغضبة لهذه الخواطر التي ذكرتها، ومغضبة أيضا لأنها تحس في نفسها بل في جسمها شيئا من الخيبة، طمعت في اللذة والسعادة وأشرفت عليهما، وهي الآن ترد عنهما ردا. ولكن صاحبها أشد بؤسا مما تظن، فليس يصرفه عنها احترام الأخلاق والأوضاع، وليست الأثرة هي التي تصده عن اللذة، ولكن بين العاشقين حائلا منكرا يعلمه هو وتجهله هي، وهو يجتهد في إخفائه عليها، ولكن الظروف أرادت أن يظهر في هذه الليلة وهما متغاضبان، وقد ذكرت أن لديها رسائل قد وصلت إليها، فهي تريد أن تقرأ هذه الرسائل، وهي تنظر فيها وإذا واحدة منها قد ملأتها اضطرابا وذعرا، فهي تريد أن تتحدث إلى صاحبها في أمر هذه الرسالة، ولكنها تتردد وقد ظهر اضطرابها، وصاحبها يسألها: ما شأنها؟ فتخفي عليه. ولكنها تنتهي إلى أن تسأله : «كيف قتل زوجها؟» وهي تلح عليه في أن يقص عليها الأمر مفصلا، فيمتنع ويظهر عليه الاضطراب، ثم يقص عليها الأمر وإذا هو متناقض يكذب نفسه غير مرة، وهي تحصي عليه هذا التناقض وتلفته إليه، فلا يزداد إلا اضطرابا وتناقضا. ونحن نحس أنها تريد أن تبرئه، ونحس أنه بريء، ولكنا نحس أنه لا يحسن الدفاع عن نفسه، وأنه ينكر من نفسه شيئا لا يريد أن يبوح به. ولكن طارئا يقطع عليهما الحديث حينا، وهو «موريس»؛ فقد انصرف من الملعب لأنه أحس صداعا، وما أحس صداعا وإنما أحس حبا وغيرة. وهو يود لو جلس إلى العاشقين، ولكنهما يظهران صدودا عنه، فيصعد إلى غرفته كارها. ويستأنف العاشقان حديثهما، فإذا هي تتهمه، وهو يقسم أنه بريء، ولكنه لا يحسن الدفاع عن نفسه، وإذا هي تقرأ علينا هذه الرسالة التي ملأتها اضطرابا وذعرا، وهي رسالة غفل ليس من شك في أن خليلة صاحبها هي التي كتبتها لتفسد هذا الزواج. وفي هذه الرسالة اتهام لصاحبها بالقتل، وقد اشتد الأمر بين العاشقين، وكاد العاشق يعترف بكل شيء، ولكنه أمسك ثم فر، وإذا صاحبته تصيح مستغيثة تدعو «موريس» فيقبل، وإذا هي قد أغمي عليها.
Unknown page