ولنأخذ في عرض هذه القصة عليك، فقد يكون تحليلها خيرا من الفلسفة في نقدها، ولنبدأ بأشخاص هذه القصة فنقدمهم إليك؛ «فلوسيان أوملي» رجل متوسط السن، حسن الطلعة، جميل المنظر، خلاب للنساء، ماهر في استهوائهن، وهو إلى هذا محب للذة متهالك عليها، يقدمها على كل شيء، ويستبيح في سبيلها كل شيء؛ يكذب وينتحل كما يشرب وكما يأكل، أهون شيء عليه أن يستصبي امرأة، وأهون شيء عليه أن ينصرف عنها، وهو في هذا كله ممثل ماهر طلق اللسان، خصب الخيال، قادر على أن يظهر مظهر المحب الذي أضناه الحب، قادر على أن يظهر أيضا مظهر الرجل الجلد الذي يعرف كيف يحتمل الأذى ويصبر على المكروه، ومن حقه أن يكون كذلك، فهو قد بلا حلو الحياة ومرها، وتقلب في خيرها وشرها، كان غنيا ضخم الثروة مترفا مسرفا في الترف، ثم أصبح فقيرا مفرطا في الفقر، ثم عادت إليه الثروة فاستطاع أن يستأنف حياته الأولى، وهو يتقلب بين هذا الفقر والغنى ويتردد بين هذا النعيم والبؤس في سهولة ويسر غريبين، لم يشعر أحد بأنه فقير، ولم يقدر أحد أنه قد يبيت أحيانا على الطوى، وإنما رأى الناس جميعا فيه أنه غني مترف.
وله ابن شاب في السابعة عشرة من عمره، قوي الذهن ذكي الفؤاد، شديد الميل إلى العلم، قوي الاتصال بالدرس، يخالف أباه كل المخالفة في أخلاقه وعاداته وفي ميوله وأهوائه؛ هو صادق حريص على الصدق، في حين أبوه كاذب مسرف في الكذب، وهو شديد الحياء في حين أبوه غليظ القلب لا يكره الغدر، تراه فلا تشك في أنه أشبه بأمه التي ماتت منه بأبيه الحي.
وهناك شخص ثالث يوضع أمام الشخص الأول، وهي امرأة متوسطة في السن، بارعة الجمال كنساء القصص جميعا، حلوة الحديث، خلابة، ميالة إلى اللذة، ولكن الله قد حرمها إياها؛ لأنها زوج رجل شيخ عالم قد بعد صوته وأعجب به الناس جميعا، وهو منصرف إلى علمه وإلى شيخوخته عن شباب امرأته وحبها للذات الحياة. هذه المرأة هي «مرسلين فاليتي»، هي ظمئة إلى اللذة ولكنها تتردد وتخشى الإقدام عليها، تشفق من غدر الرجال وقسوتهم، وتخاف أن تترك الحرمان إلى الحب فلا تجد فيه إلا ألما وحسرة، ولها ابنة شابة في الخامسة عشرة من عمرها يجب أن تضعها بإزاء الغلام الذي قدمت لك وصفه وهو فيليب. هذه الفتاة هي «جيزيل فاليتي»، جميلة خفيفة الروح، حلوة الحديث، ذكية القلب، أشبه بأبيها العالم منها بأمها الميالة إلى اللهو، حساسة مع هذا، قوية الشعور، شديدة الإيمان بالمثل الأعلى، طاهرة كسنها، متأثرة بأبيها الفيلسوف شديدة الإعجاب به؛ لأنها تشتغل معه، يملي عليها كتبه وهي شديدة الاغتباط بهذا. أليست أسبق الناس إلى العلم بآراء الفيلسوف؟ هؤلاء هم أشخاص القصة، ولست أذكر الخادم الذي لا يخلو من خصال مضحكة معجبة.
أظنك استطعت أن تتصور القصة وتتوهم حوادثها توهما، فلنبدأ في تحليلها. •••
نحن في بيت «لوسيان»، في حي من الأحياء القديمة في باريس، والبيت نفسه قديم، كل شيء فيه يدل على ضيق ذات اليد؛ ليس فيه ضوء الكهرباء، وليس فيه أدوات الدفء الحديثة، وإنما يضاء بغاز الاستصباح، ويصطلي أهله في الشتاء نار الخشب أو الفحم في المواقد، ونحن في أعلى البيت، وليس في هذا البيت هذه الآلة الرافعة التي تعفيك من الصعود الطويل الشاق، ونحن نرى الغلام «فيليب» قد جلس يكتب إلى مائدة قد كثرت عليها أصناف الحلوى، لا يشك من رآها في أنها قد أعدت لتناول الشاي، ولكن طارقا يطرق ثم يليه طارق آخر، وكلاهما صاحب دين يجتهد الفتى في أن يتخلص منه، ثم يطرق طارق آخر، فإذا هو خادم قد استأجره أبو الغلام ساعات ليعمل بتقديم الشاي، وقد أقبل صاحب البيت، فإذا هو، كما قدمت لك، شديد النشاط منطلق اللسان، جريء فرح، مبتسم للحياة مزدر لما فيها من ألم، وهو يلقي على ابنه دروسا قيمة جدا، يعلمه الكذب والنفاق، ويعلمه كيف ينبغي أن يظهر الغنى وهو فقير: ليس لدينا ضوء الكهرباء لأننا من المحافظين، نحب القديم ونكره هذا الاختراع الحديث الذي يؤذي العين، ونحن نؤثر نار الخشب على الدفء الحديث؛ لأن في نار الخشب جمالا شعريا، ونحن نؤثر أن نصعد في السلم مهما يكن هذا الصعود طويلا؛ لأننا لا نحب هذا الخمول والكسل اللذين يخلد إليهما المترفون من أبناء هذا العصر، وأثاثنا قديم بال؛ لأننا ورثناه عن أجدادنا القدماء، ونكره أن نغيره، وأجدادنا هؤلاء كانوا من أشراف فرنسا، ولكنهم أهملوا علامة الشرف أثناء الثورة. يقول هذا كله لابنه وهو يعلم أنه كاذب، وهو يعلن إلى ابنه أن هذا كذب ولكنه شيء لا بد منه، ولا سيما بعد دقائق حين يأتي الزائرون، وأبدع من هذا كله أنه أقبل ومعه صورتان يظهر عليهما الجمال الفني: إحداهما صورة رجل لا يعرفه طبعا، ولكنه يزعم ويأمر ابنه بأن يزعم أنه أحد أجداده، والأخرى صورة امرأة لا يعرفها، ولكنه يزعم ويأمر ابنه أن يزعم أنها إحدى جداته.
ولست ألخص لك حديثه مع الخادم، ولا أمره إياه بأن يظهر بأنه متصل بالبيت منذ عشرين سنة، ولست ألخص لك درسا ألقاه على ابنه في كيفية الاستقبال، والتحدث إلى النساء وتقبيل أيديهن، فقد يطول الأمر إن حدثتك بهذا كله، ولكن الباب يطرق، وقد دخلت «مرسلين» وابنتها «جيزيل» واعتذرتا عن العالم فهو لم يستطع أن يحضر؛ لأن لديه أمرا ذا بال شغله، وقد أخذوا يتحدثون بما تفهم منه أن هذا الرجل يحب هذه المرأة ويريد أن يغويها، وهو يظهر نفسه غنيا مثريا ، ولكنه يتكلف العيشة الضيقة حبا للقديم، وهي تصدقه أو تظهر أنها تصدقه، وقد انتهز فرصة فنهض مع المرأة يظهر لها بيته ثم عاد، وفي أثناء غيابهما تحدث الصبيان، ففهمت نفسيتهما كما قدمت لك، ولم يكد الرجل يعود مع صاحبته حتى يأمر ابنه بأن يظهر لصاحبته الفتاة، فينصرف الصبيان، ويخلو الرجل إلى هذه المرأة فيتحدث إليها في حبه، ونفهم أنها تقبل هذا الحب وتميل إليه، ولكنها مترددة مشفقة، على أن هذا التردد والإشفاق لا يثبتان، فهي ترضى حينما ينبئها أنه سيقضي الصيف قريبا من مصطافها في الأقاليم، وقد أقبل مقبل يحمل رسالة برقية، يقرؤها الرجل فيظهر عليه شيء من الاضطراب، ولكنه يستأنف قوته، ثم تنصرف المرأة وابنتها، وإذا صاحبنا يتنفس الصعداء، وإذا هو فرح مبتهج يكاد يجن فرحا وابتهاجا؛ ذلك أن هذه الرسالة البرقية تحمل إليه الثروة؛ فقد مات أحد أقاربه وأورثه مقدارا ضخما من الملايين، هو مبتهج، انظر إليه يعطي الخادم مائة فرنك، ثم يعرض عليه أن يظل متصلا به، وانظر إليه يلح على ابنه في أن يخرج معه للعشاء في الحانة واللهو بعد ذلك، هو فرح ولكن ابنه حزين، وهو يخرج ليلهو، ولكن ابنه يبقى ليفكر ... •••
وإذا كان الفصل الثاني، فنحن بعيدون عن باريس، نحن في أحد الأقاليم الفرنسية في قصر من قصور الريف، قد اشتراه لوسيان ليجاور صاحبته التي أقبلت مع زوجها وابنتها لتقضي الصيف، وهذا القصر قديم وأثاثه قديم أيضا ولكنه ثمين، ونحن في مكان من القصر كان كنيسة ثم حول منذ حين دارا للكتب، وقد اختاره «لوسيان» لنفسه، وهو يحظر على الخادم أن يدخل فيه أحدا مهما يكن إلا «مرسلين» طبعا. وانظر إلى «مرسلين» قد أقبلت، وانظر إليه يتلقاها فرحا مبتهجا، واسمع لهما يتحدثان، فستفهم أن حبهما قد تقدم حتى أشرف على غايته، وأن الصبيين قد تحابا أيضا فهما متلازمان وهما الآن عند النهر يصيدان، ولكن «مرسلين» مترددة محزونة كانت تودع زوجها الذي سافر إلى باريس ليقضي فيها أياما، فرأته حزينا مكسور النفس، وذلك يؤلمها، وهي في الوقت نفسه تخاف أن يخونها صاحبها، ولكن الحب واللذة أقوى من الإشفاق والتردد، فقد سمحت لصاحبها، وتوشك أن تسلم له لولا أن زائرا قد أقبل، فلا بد من أن يلقاه «لوسيان» ويصرفه، وقد خرجا معا من دار الكتب للقاء هذا الزائر.
ولكن انظر إلى الصبيين قد أقبلا فرحين مبتهجين، وإذا الفتى يريد أن يدخل هذه المكتبة فيثب من النافذة ويكره الفتاة فتثب أيضا، وهي تلومه على اقتحام هذه النافذة والدخول في هذا المكان الذي يريد أبوه أن يختص به، وهو لا يحفل بهذا اللوم. وانظر إليهما يقلبان الكتب وينظران فيها، ولكن انظر إلى الفتاة مضطربة؛ لأنها رأت أمها مقبلة ومعها «لوسيان» فهي تنبئ صاحبها الفتى، وهو مضطرب وقد اضطرا إلى أن يختبئا من حيث لا يراهما أحد، ولكنهما يريان كل شيء، وقد فتح الباب ودخل العاشقان ثم أغلق وأحكم إغلاقه ثم أخذا يتناجيان، وما هي إلا أن يستأنف الرجل هجومه، وأخذت المرأة تدافعه دفاعا ضعيفا ثم أسلمت، وإذا هو يجذبها إلى مكان ممهد وإذا الستار يسدل.
ثم يرفع بعد حين، وقد انصرف العاشقان، وخرج الصبيان من مكمنهما مضطربين اضطرابا لا حد له؛ لأنهما رأيا كل شيء! واضطراب الفتاة منكر قد عبث بنفسها وجسمها، فهي ذاهلة مرتعدة، قد فقدت أو تكاد تفقد صوابها، وهي لا تكاد تثبت في موقفها أو مجلسها، والفتى أثبت منها وأقدر منها على التفكير، فإذا هو يهدئها ويجتهد في تسليتها، ولكن ليس ذلك بالشيء اليسير؛ فقد رأت الفتاة منكرا من الأمر ولم تكن تقدر أن الحب دنيء منحط إلى هذا الحد، ولم تكن تقدر أن أمها آثمة إلى حد أنها تزدري زوجها الشيخ وتخونه، وإنما كانت تقدر أن الحب ابتسام وطهارة وسعادة هادئة، فإذا هي لا ترى إلا حيوانية وضيعة، وكانت تكبر أمها وتجل أباها، فإذا هي مضطرة إلى أن تزدري أمها وترثى لأبيها الشيخ، والفتى مع ذلك يهدئها ويعظها ويعدها حبا طاهرا نقيا، وهي قد كرهت كل حب فلا تطمئن ولا تقبل من الفتى وعظا ولا تسلية؛ حتى يعلن إليها أنه سيحبها كما يحب الأخ أخته؛ فهي مطمئنة إلى ذلك راضية به.
ولكن انظر إلى الباب قد فتح وقد أقبل «لوسيان»، فما أشد دهشه حين يرى الصبيين! وما أشد اضطراب الصبيين حين يريانه! وهذا موقف شديد التأثير جدا؛ لأنه يظهر الإنسان حين ينتهي إلى أقبح منازل النفاق والكذب، فانظر إلى هذا الرجل يلوم الصبيين لوما شديدا؛ لأنه يكره أن يخلو بعضهما إلى بعض، وانظر إليه، وقد صرف الفتاة إلى أمها ليزجر ابنه زجرا عنيفا؛ لأنه يعبث بهذه الفتاة ولا يرعى حرمة الصداقة، ولا حرمة أبيها الشيخ الجليل، والفتى يدفع عن نفسه دفعا قويا، ولكنه يجتهد في ألا يفهم أبوه أنهما قد رأيا شيئا، حتى إذا فرغ من زجر ابنه وتأديبه، صرفه فانصرف. ووقف هو يسأل نفسه فيم أقبل؟! ثم يذكر أنه أقبل يلتمس شيئا قد تركته صاحبته. •••
Unknown page