Sawt Acmaq
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
فهم المحافظون أهل القديم.
11
المذهب المطلق في الأخلاق
Ethical Absolutism
يرى أصحاب النزعة المطلقة أن هناك شريعة أخلاقية واحدة فقط هي الصحيحة والصادقة بصفة أبدية. هذه الشريعة الأخلاقية تنطبق على جميع البشر بمساواة صارمة؛ فما يعد واجبا بالنسبة لي يجب أن يكون أيضا واجبا بالنسبة لك، وسيصدق هذا سواء كنت إنجليزيا أم صينيا أم من شعب الهوتنتوت. فإذا كانت عادة أكل لحوم البشر شيئا بغيضا في إنجلترا أو أمريكا، فهي شيء بغيض أيضا في أفريقيا الوسطى حتى لو رأى الأفريقي غير ذلك. فإذا كان الأفريقي لا يرى بأسا بممارساته الكانيبالية فإن هذه الحقيقة لن تجعل هذه الممارسات صائبة بالنسبة له. إنها منافية للأخلاق بالنسبة له بقدر ما هي منافية للأخلاق بالنسبة لنا. لا فرق هناك إلا أنه همجي جاهل لا «يعرف» هذه الحقيقة. ليس هناك قانون يخص إنسانا أو عنصرا من البشر وقانون يخص إنسانا آخر أو عنصرا آخر. وليس هناك معيار أخلاقي للأوروبيين وآخر للهنود وثالث للصينيين، بل هناك قانون واحد وأخلاق واحدة لجميع البشر، وهذا المعيار أو القانون هو مطلق لا يتبدل.
وكما أن القانون الأخلاقي الواحد يبسط سلطانه على جميع أرجاء الأرض، فإن تطبيقه أيضا لا تحده أية اعتبارات تتعلق بالزمان أو الحقبة الزمنية، فما هو صواب اليوم كان صوابا في أزمنة اليونان وروما، بل في أزمنة إنسان الكهف ذاتها، وما هو شر اليوم كان شرا آنذاك. وإذا كان الرق شيئا مقيتا أخلاقيا في زمننا هذا فلقد كان مقيتا في زمن الأثينيين القدامى، لا ينقص من مقته أن عظماءهم كانوا يقبلونه كوضع ضروري للمجتمع الإنساني. وما كان رأيهم ليجعل من الرق خيرا أخلاقيا بالنسبة لهم، إنما يكشف فحسب عن أنهم، برغم سمو تصوراتهم فيما عدا ذلك من شئون، كانوا يجهلون ما هو صواب وخير في هذا الشأن.
وليس أصحاب النزعة المطلقة بغافلين عن حقيقة أن العادات الأخلاقية والمثل الأخلاقية تختلف من بلد إلى بلد ومن عصر إلى عصر، فالحق أن هذا شيء ظاهر لا خلاف فيه؛ فنحن نرى اليوم أن الرق خطأ من الوجهة الأخلاقية بينما كان الإغريق يرونه جائزا أخلاقيا. ومن المؤكد أن لدى سكان غينيا الجديدة مثلا أخلاقية مختلفة عن مثلنا غاية الاختلاف. ولكن إذا كان الإغريق أو سكان غينيا الجديدة يرون شيئا ما صوابا فليس لهذه الحقيقة أن تجعل هذا الشيء صوابا، حتى بالنسبة لهم، ولا لحقيقة أننا نرى الأشياء نفسها خطأ أن تجعلها خطأ، إنما هي «في ذاتها» إما صواب وإما خطأ، ومهمتنا هي أن «نكتشف» هل هي صواب أو خطأ. والأمر هنا شبيه تماما بنظيره في مسائل العلوم الطبيعية؛ فنحن اليوم نعتقد في كروية الأرض، وإذا كان أسلافنا قد اعتقدوا أنها مسطحة فإن ذلك لا يثبت أنها كانت مسطحة وصارت الآن كروية، بل يعني أن البشر كانوا في العصور القديمة «يجهلون» شكل الأرض وقد «عرفوا» حقيقة ذلك الآن. كذلك إذا كان الإغريق قدا اعتقدوا أن الرق مشروع أخلاقيا، فليس هذا دليلا على أن الرق كان بالنسبة لهم وفي ذلك العصر شيئا مشروعا أخلاقيا، بل بالأحرى على أنهم كانوا يجهلون الحقيقة في هذا الشأن.
12
وصاحب المذهب المطلق في الأخلاق ليس ملتزما في حقيقة الأمر بالرأي القائل بأن دستوره الأخلاقي، أو دستورنا، هو الدستور الحق. إن له، من الوجهة النظرية على أقل تقدير، أن يعد الرق أمرا مبررا أخلاقيا، وأن يذهب إلى أن الإغريق كانوا يعرفون عن هذا الأمر أكثر مما نعرف. وكل ما عليه أن يلتزم به حقا هو الرأي القائل بأنه أيا ما كان الدستور الأخلاقي فإنه دائما نفس الدستور، لجميع البشر، في جميع الأزمنة. ولن ينال من اتساق مذهبه أن يعتقد أن الإنسانية ما يزال أمامها الكثير لكي تتعلمه في المسائل الأخلاقية. وإذا عن لأحد أن يقول بأن تصوراتنا الأخلاقية سوف تبدو بعد خمسمائة عام بربرية بالنسبة لأهل ذلك الزمن المستقبلي بقدر ما تبدو أخلاق العصور الوسطى بربرية بالنسبة لنا اليوم، فلن يضيره هذا الرأي شيئا ولن يلزمه إنكاره، لا ولن يلزمه الإنكار إذا ارتأى أحد أن الأخلاق المسيحية ليست نهائية على الإطلاق وأنها سوف تنتهي في العصور القادمة وتحل محلها مثل أخلاقية أكثر نبلا بكثير.
ذلك أن لب المذهب المطلق في الأخلاق هو أن الأخلاقية شيء موضوعي وليس من صنع الإنسان، وأن مبادئ الأخلاق حقائق واقعية يجب على البشر أن يتعلموها (مثلما أن عليهم أن يتعلموا الحقائق عن شكل العالم). وهم ربما كانوا على جهل بها في الماضي، وليس ما يمنع من أن يكونوا على جهل بها الآن.
Unknown page