تلاشى فجأة ما يحيط بي، واتسع القفص، وأضيفت إليه جميع الأقفاص في جميع محاكم العالم وقد حشر فيها الألوف والملايين، ورأيت في عيون الجناة صور جناياتهم، وفي عيون الأبرياء صور براءتهم، وفي جميع العيون أشباح الخوف والفزع. ثم انهدمت جدران القاعة وارتدت حدودها إلى ما وراء جميع المحاكم في الماضي والحاضر والمستقبل. وصار القضاة الخمسة ألوفا وملايين، ونظراتهم النافذة المستفسرة الباردة كالسلاح الأبيض تتجه نحو العيون المذعورة. وسمعت الأحكام على العبيد وعلى الملوك، على المظلومين وعلى الظالمين، وتراءت لي السجون بغمومها والأشغال الشاقة بذلها، وآلات التعذيب بهولها، وبدت أمامي وجوه الجرائم والفظائع والشرور فتقطعت أوصال إحساسي. وفي هذه الغرفة التي كانت تبسم منذ هنيهة سمعت صلصلة السلاسل وقعقعة القيود، ولمحت أحكام الإعدام على لابسي البذلات القرمزية السائرين نحو المشانق عراة الأقدام ...
ما هذه الضوضاء التي تخرج بي من هذا الكابوس الفكري؟ أكل هذه جلبة الحبال في الأعناق؟ كلا، بل حانت ساعة الانصراف، ورفعت الجلسة، وانفرط عقد المجتمعين وها هم يخرجون إلى الدهليز الوسيع المؤدي إلى الشارع. وهناك عند العمود الضخم المنتصب أمام المحكمة رفع أحد المتهمين نظره إلى إفريز العمود الأعلى ثم أداره سريعا إلى الأرض وأرسل زفرة محرقة، فنظرت إلى الإفريز الأعلى وإذا بطائرين قد وقفا جنبا إلى جنب ينشدان أنشودة الحياة والحب والحرية.
«سعادة» ملك اليونان
نقلت برقيات اليوم خبر عودة الملك قسطنطين والأسرة المالكة إلى بلاد اليونان، فقالت إنه قوبل بحماسة شديدة وروت عنه هذه الكلمة: «إني سعيد بالعودة إلى وطني.»
طبعي أن يسر المرء بالعودة إلى بلاد أقصي عنها وهو يحبها، طبعي أن يرتاح لاستنشاق هوائها، لا سيما وله فيها عرش كسائر العروش انتصبت قوائمه على قوة الاستمرار والتسليم بلا مناقشة. ليس تلاميذ المدرسة اليونانية الذين أسمعهم يهتفون لقسطنطين عند الانصراف هم وحدهم أطفالا يؤيدون من يجهلون وينادون بما لا يفقهون. الجمهور طفل بوجه عام. موجة ترفعه وموجة تدفعه. انفعال يطير به إلى قمم الجبال وانفعال يهوي به إلى أعماق الهاوية. يؤله الساعة من سيذل بعد ستين دقيقة وسيمجد غدا ما قدسه أعواما ودهورا. وهو في كل ذلكم هائج مائج، مسير غير مخير يتدافع بلا ترو أو تعقل.
ومن الغرائب أن الأشياء تقوى بالتضاعف إلا ذكاء الجمهور، فلو اختير خمسة أشخاص أو عشرون شخصا من أرقى الناس وجمعوا للمناقشة والبت في أحد الموضوعات، وأفرد لمثل ذلك شخص واحد متوقد الجنان ماضي العزيمة، فلربما جاء الفرد بما قصرت دونه الجماعة؛ لأن مستوى الذكاء يهبط في الجمهور ويختلط، بينا هو في الفرد يسمو ويتناهى. وهو حدث سيكولوجي معروف لدى علماء النفس. ولعل المقابلة بين قاموس الأكاديمية الفرنساوية الذي يشتغل فيه عشرات «الخالدين» منذ عشرات الأعوام، وبين قاموس لاروس الكبير الذي أنهاه فرد واحد دون مساعدة أحد، لعل هذه المقابلة مصداق يقبله كثيرون.
على أن كلمة الملك تستوقف الذهن وتنبه الهواجس عند ذويها. يقول إنه «سعيد بالعودة.» ولكن سبب هذه العودة راجع إلى موت ولده؛ إذ لو بقي الملك إسكندر على قيد الحياة ما تقيض لأبيه أن يغادر سويسرا في هذه الآونة. وإذا كان «سعيدا» بالنتيجة فكيف لا يكون سعيدا بما أدى إليها؛ أي بوفاة ولده؟
والذي ساقته الهواجس إلى هذه النقطة لا يحجم عن أن يخطو خطوة أثيمة أخرى، فيقول: إذا سعد الملك بتلك الوفاة بعد وقوعها، فأي مانع منعه عن أن يسعد قبلئذ بتخيل احتمال وقوعها؟ ترى ألم يمر في مخيلته خيال الموت وولده على فراش المرض؟ ومن يدري؟ ألم يتحرك في قرارة نفسه شيء يشبه الخوف أو ... التمني؟
لا، لا أريد استطراد التحليل، وسواء أكان هذا الوهم ممكنا أو مستحيلا في قلب والد أو والدة، فإن النفس البشرية تبقى دوما هي هي في ارتباك انفعالاتها واشتباك نزعاتها. ولئن كانت العواطف الأبوية قوية في الغالب فلكم ضحي من ولد لغاية شخصية، أو لأجل قريب، بل لأجل غريب إذا أحسن ذلك الغريب لمس الموضع الحساس من حب الذات، أو علل طمعا من أطماع النفس أو مناها بإحدى رغائبها ...
لمحة مرعبة في قلب الإنسان، فلنحولن النظر إلى ما هو أقل ادلهماما!
Unknown page