أجميع الحضور يحدقون في أم أنا في هلوعي أظنهم فاعلين؟ رفعت بصري أتبين الأمر في سيماء القضاة أولا فإذا بهم يرقبونني وقد أدركوا في سرهم مقدار جزعي واضطرابي. وهل من نظر ينفذ إلى أعماق النفس ويعريها من أستارها كنظر القاضي؟ ربما كان هناك شخص واحد يفوقه براعة، وهو الكاهن الكاثوليكي الذي يكسبه تعاطي الاعتراف واستماع شكايات الناس، حنكة ودراية ومعرفة بأسرار النفوس لا يماثله فيها من العلمانيين غير من شفت بصيرته بأنوار الإلهام.
لم أجرأ على النظر إلى المتهمين، وشعرت بأن أسلم النظرات عاقبة وأضمنها براءة هي نظرة أصعد بها إلى سقف المكان مستوضحة هندسته وزخرفته.
زخرف محكمة الجنايات؟ ما هذا المجون؟
نعم، هناك زخرف وتنميق، وهو عبارة عن خط عريض نقش بالنقوش الحجرية البيضاء ودار حول سقف القاعة في أعالي جدرانها الكنسية الجرداء. وقطعت خطوط أخرى من نوعه السقف ثلاثا وأنالته شكلا مرضيا. ثم هبطت عيناي إلى الحوائط، وفي أحدها القائم شمالا شبابيك كبيرة واسعة رفعت الأستار الكتانية إلى أوجها فتدفق خلالها نور النهار الداخل من الحديقة الفاصلة بين هذه القاعة وبين الشارع؛ حيث يسير الناس أحرارا غير مقيدين. ولما فرغت من تفحص الحائط والنوافذ والستائر، واستنزفت عليها كل ما جال في دماغي من ملاحظة ومناقشة وتعليق، مشى بصري قليلا قليلا إلى صدر الغرفة؛ حيث استوت هيئة القضاء لتحكم بقسطاس العدل.
أين ذهب اضطرابي حتى واجهت نظر القضاة بهدوء هذه المرة، وبي شعور يشبه الراحة والطمأنينة؟ فعدلت جلوسي واستعدادي العقلي لأضع الأشياء في مواضعها.
هيئة المحكمة تتألف من قضاة عسكريين أربعة يلحق بهم المترجم، ويرأسهم قائد تبدو مرتبته في الأشرطة الحمراء المذهبة على كتفيه وكميه، وفي صفي الأشرطة الملونة الصغيرة الممتدين على صدره واحدا فوق الآخر؛ ليدلا على ما عنده من مختلف الميداليات والأوسمة. ويتوسط الهيئة «نائب الأحكام»، وهو قاض في المحاكم المختلطة وأحد كبار رجال القانون الإنجليزي، وهو وحده بين القضاة يلبس الشعر العاري الأبيض والرداء الأسود. وإلى اليمين كرسي المدعي العمومي، أو مدعي الملك، كما يسمونه في هذه القضية، وهو كنائب الأحكام يلبس الشعر الأبيض والرداء الأسود. وأمام المحكمة مكان المحامين، فموقف الشهود، تتناسق متتابعة وراءه مقاعد القاعة التي أجلس أنا في صفها الرابع، وإلى يميني قفص المتهمين الذي تنتهي حدوده من الجهة الأخرى قرب هيئة المحكمة.
أي المواقف أغرب من موقف المتهم إزاء القاضي؟ وأي كره قسري بين هذين الاثنين: بين شخص ضعيف أعزل تحت رحمة الآخر، وبين هذا الآخر الذي وجد ليفسر الحركات والمعاني ويتصرف كيفما شاء في مصلحة المتهم وراحته وحياته. أي عداء وأي اختلاف أعظم من هذا؟ مع ذلك فالاثنان خاضعان معا لجميع نواميس الطبيعة وأهوائها، فلو تساقط الثلج الآن لانتفضا معا، ولو زلزلت الأرض زلزالها وفغرت فاها لالتهمتهما معا. ولو انتشر مكروب خبيث لتناولهما معا ولتألم كل على حدة بمثل ما يتألم الآخر، بل ها هم جميعا كلت أدمغتهم وأغمضوا عيونهم وفي كل منهم احتياج يظهر حتى في تصلب جلوسه، احتياج إلى أن يتثاءب ويتمطى كما يفعل الأسد، أو كما تفعل هرتي البيضاء عندما تأبى ملاعبة من لا يعجبها، وعندما تخرج كلمة هزلية من فم المحامي أو القاضي أو الشاهد تلمع عيونهم جميعا ويشتركون في الضحك. ولئن بعث القضاة إلى المتهمين بنظرة نافذة مستفسرة باردة كالسلاح الأبيض، حينا بعد حين، فلواحظ هؤلاء تخال باسمة في الغالب.
نعم، في جميع عيون المتهمين ابتسام، وهيئة القاعة عموما بسيطة ليس فيها ما كنت أتوقعه من مظاهر الغم والعبوسة، كأنها مكتب لأي عمل من الأعمال التجارية مثلا. وبينما المدعي العمومي يتابع شكايته مستطردا في الاتهام فيأتي بالحجة بعد الحجة، وبالإثبات تلو الإثبات، إذا بالمتهمين لاهون عن أقواله بما بين أيديهم من جرائد ومجلات يقلبون صفحاتها، ثم يتحادثون كأنهم يتبادلون الآراء في الموضوع الذي يقرءونه ولا علاقة له بالمحاكمة أصلا، ثم يرتسم الحزن في سواد عيونهم وتبرز على جباههم أحكام نقشها لهم القدر في كتابه النحاسي، فيتأملون قليلا ويتنهدون، إلا أن اجتماعهم إجمالا يشبه باجتماع مدرسي جدي. أقول «مدرسي»؛ لأنهم من طلبة المدارس العليا، فهذا كان يدرس الطب، وذاك القانون، والآخر من طلبة الأزهر، وغيره من مدرسة القضاء الشرعي، وهيئة التلمذة عليهم جميعا إلا عبد الرحمن بك فهمي الواقف في مدخل الممر إلى القفص كالجبار، وعليه ملامح الحكام والوزراء.
1
حسن بزتهم يشير إلى درجتهم الاجتماعية، وفي عيونهم ترقص أنوار الحياة، وعلى شفاههم يبسم رونق النضارة، وفي ذقون بعضهم تلك الطبعة الجاذبة التي يحسبها أهل الفراسة علامة الحب الشديد ورمزا إلى أن في صاحبها احتياجا للشعور بأن له من يعزه ويحنو عليه. وإن حرمة شقي شقاء لا يدركه غير أمثاله، فكيف يحتمل هؤلاء حياة السجن وراء الأبواب المقفلة وفي عناء الأشغال الشاقة؟ وكيف يحتملون القيود والأغلال وكل ما هيأه المجتمع من نظام ولباس ويحول يأس الجاني إلى سخرية ظاهرة؟ وأي التوسلات ستنطلق من هذه الأفئدة، وأي الدموع ستلهب هذه المحاجر؟
Unknown page