تقديم‏

ملامح من قصص القرآن‏

الهيكل الفني في قصة يوسف‏

جاذبية التشويق في قصة الخليل‏

دقة التبسيط في قصة موسى‏

فن الجاذبية في قصة سليمان‏

الإعجاز في قصة مريم‏

الثواب والعقاب في قصة آدم‏

الإعجاز الفني في قصة يونس‏

السمو الفني في قصة لوط‏

تقديم‏

ملامح من قصص القرآن‏

الهيكل الفني في قصة يوسف‏

جاذبية التشويق في قصة الخليل‏

دقة التبسيط في قصة موسى‏

فن الجاذبية في قصة سليمان‏

الإعجاز في قصة مريم‏

الثواب والعقاب في قصة آدم‏

الإعجاز الفني في قصة يونس‏

السمو الفني في قصة لوط‏

السرد القصصي في القرآن الكريم

السرد القصصي في القرآن الكريم

تأليف

ثروت أباظة

تقديم

ماذا أردت من هذا الكتاب؟ إن لم أكن أردت إلا أن أظهر ناحية جديدة من إعجاز القرآن فحسبي. ولعل ذلك كان يقتضيني أن أقدم إليك قصص القرآن جميعا، ولكن ما الذي كان يعود علي أو عليك إن أنا فعلت. أنا لا أتغيا عرض القصص القرآني، وإنما كل ما هدفت إليه أن أقدم إليك هذه الظاهرة العجيبة، وهي أن أحدث ما وصل إليه الفن القصصي هو النسق الذي سار عليه السرد في القرآن الكريم.

وقواعد الفن القصصي نبتت من الاستقراء؛ فالرواية حين بدأت في الظهور منذ خمسمائة عام ونيف، لم يكن لها قواعد بطبيعة الحال، شأنها في ذلك شأن الشعر في التراث العربي؛ فحين ألفت روايات كثيرة - نجح منها ما نجح، وفشل منها ما فشل - بدأ النقاد يتساءلون لماذا نجح الناجح ولماذا فشل الفاشل، فكانت هذه القواعد.

ولعمري هل نظر النقاد إلى قصص القرآن حين وضعوا قواعدهم؟ أشك في ذلك، بل أقطع أنهم لم يفعلوا؛ فهذه القواعد واردة علينا من الأدب الغربي. وما أحسب أن بين النقاد هناك من يفكر في القرآن إلا على أنه كتاب سماوي. أما روعته اللغوية والفنية فبعيدة عن أذهانهم كل البعد.

وقد كان الأجدر بنقادنا نحن أن ينتبهوا إلى هذه الفنية في السرد القصصي في القرآن، ويقوموا عني بعمل هذا الكتاب؛ فما أحسب أنني مهيأ للبحث؛ فقد يسر لي أن أكون روائيا، والروائي بعيد عن البحث، ولكن الروائي أيضا مطالب بأن يعرف قواعد القصة والرواية. وقد عجبت حين وصلت إلى هذه المعجزة في القرآن الكريم، وعجبت أن لم يلتفت إليها أحد من نقادنا، ثم ما لبثت أن قمعت هذا العجب الأخير؛ فمنذ متى يهتم نقادنا بديننا أو تراثنا، إنما كل همهم أن يلووا ألسنتهم بلغة غير لغة بلادهم، وينسبوا أنفسهم إلى أي أدب غير أدبهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ملامح من قصص القرآن

تنزه القرآن الكريم أن يكون قصصا، مجرد قصص، وإنما هي أمثال تضرب للناس ليتخذوا مما يروى لهم عبرة وليهتدوا إلى صراط مستقيم؛ ولذلك فقد يرى الناقد المحترف أن القصة القرآنية بعيدة عن قواعد القصة العادية؛ لأن الموعظة فيها تقترن بالعرض. وهذا الناقد إن فعل يكون مجانبا للصواب، مجافيا للنظرة المتعمقة؛ فالقصة التعليمية مذهب فني معترف به لا يحتاج إلى تأكيد وجوده. والقصص القرآني قصص من نوع خاص؛ فهو ليس فنا خالصا يقدمه صاحبه لا يعنيه فيه الجانب الخلقي. إنما قصص القرآن قصص صاغها الله سبحانه وتعالى لتكون مثالا للناس. والقصصي الملتزم، وأغلب القصاصين الآن ملتزمون لا يلقون بقصتهم لمجرد التسلية وإزجاء الوقت؛ فهم إن فعلوا أصبحوا أشبه ما يكونون بجدات الأطفال يهدهدن فراشهم بالحدوتة ليسلوا الأطفال إلى نوم هنيء.

القصاص الجاد لا بد أن يقول قصته ليقول بها شيئا، مهما يكن هذا الشيء قد يدعو إلى تحطيم الأخلاق، أو قد يدعو إلى إكبار الأخلاق. وبعض القصاصين يحبون أن يظهروا بمظهر المتحررين من كل قيد، فيدعون بقصصهم إلى التمرد، ظانين أن الحرية تمثل في التمرد. إنهم صغار، ولكنهم مع ذلك ملتزمون. وهنا يختلف القصاص البشر عما هو تنزيل من عزيز حكيم؛ فقصص القرآن بطبيعة الحال لا بد أن تكون المثل الأرفع في الخلق والإيمان.

فإذا نحينا إذن جانب الموعظة التي يجملها القرآن في أغلب الأمر حين يختم قصته. وإذا اعتبرنا أن هذا الحديث يساق إلى قوم القصة بالنسبة إليهم لم تكن تخرج عما يتناقله الرواة من أخبار العرب. بل إن القصة حتى يومنا هذا ما زالت غريبة في بلاد عربية كثيرة لا يعرفون مذاقها. إلا إذا تمثلت في إذاعية أو تليفزيونية أو فيلم سينمائي. إذا تذكرنا هذا جميعه، ونظرنا إلى العرض الفني في القصص القرآني لوجدنا عجبا. ولا عجب؛ فإنه تنزيل من السماء. إنما العجب هنا من الإعجاب. إن الغرض القصصي في القرآن الكريم يتمشى مع أحدث ما وصل إليه الفن القصصي. وحتى نستطيع أن نتصور هذا دعونا نلق نظرة إلى الكتاب الخالد.

هذه قصص قصيرة، منها قصة تطالعنا في سورة الأعراف:

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون * أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون * فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (من سورة الأعراف: من آية 59-64).

أرأيت كيف قدم القرآن قصة نوح جميعا في هذه الأسطر القلائل؟ ثم أرأيت كيف روى قصة الطوفان في كلمات لا تكاد تزيد على العشر؟ فهو لم ير داعيا أن يروي القصة جميعا وهي واردة في سورة أخرى. وهكذا ألمح إليها فأجملها إجمالا يوشك ألا يحتاج إلى تفصيل. إن الروعة هنا في اختيار الكلمة المؤدية. لا تستطيع كلمة غيرها أن تحل محلها، وكأن الكلمة قد خلقت لتكون هنا أولا، ثم لتؤدي بعد ذلك ما تشاء من وظائف. ثم انظر كيف انتقل بعد ذلك مباشرة إلى قصة أخرى في روعة آخذة عجيبة.

وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين * أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء

1

الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين

صدق الله العظيم (سورة الأعراف: من آية 65-72).

تبدأ الآيات بقوله تعالى

وإلى عاد أخاهم هودا

إنه سبحانه لا يحتاج هنا إلى كلمة وأرسلنا؛ فهو سبحانه يخاطب قوما ذوي عقول (والكلمة الزائدة تقول لسامعها أنت غبي). وهذه قاعدة من أهم قواعد الأعمال الفنية جميعا، وخاصة القصة الحديثة التي تخلصت أخيرا من تفاصيل الواقعية الطويلة الكثيرة الجمل والأوصاف التي كانت تقول شيئا، ولكنه شيء في غاية الضآلة إذا قيس بطول الحديث الذي يقول هذا الشيء.

أصبحت القصة الآن تكتفي بالإشارة السريعة. أما في المسرح فالقاعدة المعروفة أن الجملة الحوارية لا بد أن تتقدم خطوة بالمسرحية، فإن لم تتقدم هذه الخطوة فلا داعي لها.

فالله سبحانه إذن في هذه الآيات يرسلها في إيجاز فني يطابق أحدث ما تطورت إليه القصة، وأعرق ما عرف عن المسرح الحديث.

وإذا قرأنا قصة نوح، ثم قصة هود كما جاءتا في سورة الأعراف، وإذا سرنا مع بقية الآيات بعد ذلك، ورأينا القرآن الكريم يروي معنى هذا النحو في قصة صالح مع قومه ثمود وقصة شعيب مع قومه مدين، لخرجنا بقصة أخرى عجيبة لم تذكرها الآيات في صريح نصها، وإنما ذكرها هذا التتابع في القصص لمن اختاره سبحانه وتعالى ليروي قصصه من رسله وأنبيائه الصالحين. وإنها قصة البشرية جميعا، وإنهم جميعا أقوام كذبوا ما جاء لهم من السماء، فحق عليهم العذاب . إنها البشرية في جهلها وعمايتها واستكبارها الكاذب. وإنهم الرسل والأنبياء في جهادهم في سبيل الله .. سبيل الحق، وفي سبيل هداية البشر، ولكن البشر لا يهتدون. وفي قصة البشرية هذه التي تتخفى وراء ظاهر النص في هذه الآيات روعة فنية قصصية لا نستطيع إلا أن نعجب بها، ولا نعجب لها؛ فإنه تنزيل من عزيز حكيم.

وحين يورد القرآن قصة نوح في سورة هود نرى الإعجاز أروع ما يكون الإعجاز؛ فالتفصيل حيث لا بد من التفصيل، والإيجاز حيث لا بد من الإيجاز. إنني أوشك أن أعتقد أن الذين أنشئوا فن القصة في الغرب قرءوا هذا القرآن وتعلموا. وإذا تركنا السرد ونظرنا إلى الألفاظ وكيف هي مطمئنة في مكانها، تهدد فترجف الأفئدة وتهلع النفوس، وتسارع إلى مغفرة من ربها عسى أن يهديها إلى صراط مستقيم.

وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم

صدق الله العظيم (من سورة هود: من آية 36-39).

أنرى إلى بداية هذه الآيات وكيف يواسي الله نبيه، ثم كيف ينتقل بعد ذلك من حدث إلى حدث، في سرعة خاطفة وفي ترابط داخلي للحدث دون ترابط لفظي.

اصنع الفلك

هذا حدث، ثم ينتقل فجأة إلى أمر فيه حدث كبير. أنا أعلم يا نوح أنك تريد أن تتشفع عندي لقومك أو لبعض منهم، لا تفعل ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون. ثم يروي سخرية الناس من الفلك. ثم نصل إلى رد نوح على الساخرين، ويكاد هذا الرد يكون نوعا من تيار الوعي؛ فهي إجابة قد يقولها نوح بصوت مسموع أو يقولها لنفسه. وفجأة وفي فنية إلهية معجزة تصل إلى قمة الأحداث فتتواكب الآيات، في كل جملة قصة بأكملها.

حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء

2

وقضي الأمر واستوت على الجودي

3

وقيل بعدا للقوم الظالمين

صدق الله العظيم (سورة هود: من آية 40-44).

أرأيت عرضا فنيا أروع من هذا العرض؟! ما أعظم حظ الآباء الأوائل الذين استقبلوا هذه الآيات في نزولها الأول! لقد رأوا السينما قبل أن يعرف العالم السينما .. صور متتالية سريعة متلاحقة تنبهر لها النفس، وتخفق القلوب، ويشتد الوجيب، ويعلو النبض، وتروغ الأعين، وتحار البصيرة، ويريم الخيال، ويعمل التصور. ونرى السينما في جرس من اللغة هي الموسيقى العنيفة الرائعة، فلا السيمفونية ولا شيء مما يدعون.

انظر إلى قوله:

احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك .

هل رأيت أجمل من كلمة أهلك هنا؟ همسة جامعة قصيرة. لم يقل قبلها واحمل أهلك. أو لا بأس عليك أن تحمل أهلك. إنها مجرد كلمة أهلك ثم يستثني (إلا من سبق عليه القول). ليس كل من أهلك إذن، فالضالون لا توجه إليهم الدعوة، وإنما دعوة للمؤمنين من أهلك ومن غير أهلك أيضا.

ثم انظر إلى قوله:

إلا من رحم وحال بينهما الموج .

إن كلمة رحم هنا جملة ناقصة وكاملة في الوقت نفسه؛ فكأنما كان نوح يريد أن يقول إلا من يرحم. ولكن حال الموج فاكتملت الجملة ولم تكتمل. أليس هذا هو الإعجاز؟ تلك هي قصة نوح الذي كلفه بهداية قومه، فما شأن نوح الإنسان الذي لم يستطع أن ينقذ ولده؟

ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين * قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم

صدق الله العظيم (من سورة هود: من آية 45-48).

يسأل نوح ربه في شأن ابنه فيجيبه سبحانه وتعالى أنه ليس من أهلك. إنه عمل غير صالح. ويترك سبحانه الإيجاز هنا ليواسي نبيه، وينزل السكينة على قلبه. ثم تتتابع الآيات لتنتهي إلى هذه الأمم التي ستنال المتعة وتنال العذاب .. إنها أمم تعيش الحياة. وما الحياة؟ أليست هي المتعة، وهي العذاب؟

الهيكل الفني في قصة يوسف

لعل سورة يوسف هي خير مثال للفكرة التي نحاول أن نبلورها من خلال استقراء القصص القرآنية؛ فالقرآن في هذه السورة يصارح بأنه يقص القصص.

نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (من سورة يوسف: آية 3).

فالقرآن إذن يقص القصص ليصحو الغافل. وما أعظم النقلة بعد هذه الآية:

إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (من سورة يوسف: آية 4).

من القواعد القصصية المعروفة أن القصة يجب ألا تفاجئ القارئ؛ فلا بد لكل حدث من تمهيد يسبقه. وأحسن ما يكون التمهيد إذا كان غير واضح. إذا التأم في نسيج القصة بحيث لا ينبئ عما يمهد له. حتى إذا وقع الحدث تنبه القارئ إلى هذا التمهيد فتذكره. والحلم هنا خير تمهيد للأحداث التي جرت بعد ذلك، بل إن الآيات لا تكتفي بهذا، وإنما تمضي قدما.

قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم (يوسف، آيتا 5، 6).

في هذه الآيات القليلة عرفنا أن إخوة يوسف على استعداد أن يكيدوا، وأن يوسف من آل يعقوب. عرفنا معنى الحلم وما سيصير إليه أمر يوسف من بعد. وفي هذه اللمحة قمة التشويق، وإن كنت عرفت حقيقة ستأتي فيما بعد؛ ذلك أن القارئ سيقرأ ليعرف كيف وصل يوسف إلى معرفة تأويل الأحلام والحكمة. كما سيقرأ ليعرف كيف انتفع بعلمه هذا. ولو كان القارئ يقرأ لقصاص عادي لقرأ ليعرف إن كان هذا التنبؤ قد تم أم لا. كل هذا يشوق القارئ فيمضي في قراءة القصة في لهفة. وقد حاول بعض من كتاب القصة المتحدثين في الغرب أن يلغوا فكرة التشويق فانهارت القصة، وفرض عليهم التشويق نفسه كعنصر أساسي من عناصر العرض الآتي:

ولعل ألبرتو مورافيا هو أهم قصاص حاول تحطيم التشويق في رواية له، ومورافيا كاتب عالمي، وكل أعماله تحقق نجاحا عالميا منقطع النظير، ولكنه في هذه الرواية بالذات التي حاول أن يحطم فكرة التشويق باء بفشل لم يصادفه في كل أعماله التي قدمها وهو في قمته، فالتشويق إذن كان وما زال من أهم عوامل القصة، وهو أروع ما يكون إذا سيطر على الرواية أو القصة دون افتعال من المؤلف أو من الأحداث.

انظر معي إذن هذا التشويق في قمته حين اجتمع إخوة يوسف:

إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب

1

يلتقطه بعض السيارة

2

إن كنتم فاعلين (سورة يوسف: من آية 8-10).

أرأيت المؤامرة كيف دبرت. أنت بطبيعة الحال تعرف القصة، ولكنك مع ذلك مشوق أن تعرف كيف سارت الأمور بعد ذلك. أنت بطبيعة الحال تعرف القصة، ولكنك لا شك واجف على يوسف، مشفق عليه. أتستطيع أن تتصور نفسك من المسلمين الأوائل متحلقا مع صحبك حول النبي تستمع. ماذا أنت فاعل حين يسكت النبي عند هذه الآيات؟ لا شك أنك ستظل ساهرا الليل والليالي حتى يصل الوحي ما انقطع من القصة، لتعرف ماذا تم بشأن يوسف. وأنت يومذاك لا تعرف يوسف. وأنت يومذاك لم تسمع به قبل، ولكنك حين تسمع هذه الآيات يصبح يوسف جزءا من حياتك، تذكره في مضطرب يومك. وفي هدأة ليلك، وتريد أن تعرف ماذا فعل به إخوته .. هل قتلوه؟ هل ألقوه في غيابة الجب؟ هل التقطه السيارة؟ هل نجا؟ هل مات؟ لقد أصبحت شخصية يوسف شخصية حية في محيط حياتك، تعرفها وتناجيها وتسألها لعلها تجيبك.

ثم أرأيت الأسلوب الفني في العرض؟ أبونا يحب يوسف .. اقتلوا يوسف .. مقدمة ونتيجة .. جملة حوار أعقبتها جملة أخرى .. قال الإخوة جميعا الجملة الأولى. أما الثانية فلم تذكر الآية قائلا لها. ولكننا نحس أنها رغبة الإخوة جميعا .. إلا أن واحدا منهم هو أكثرهم تعقلا .. لا تقتلوا يوسف .. إنه حوار قصصي في قمة الحوار القصصي. ماذا بعد هذه المؤامرة؟

قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون (سورة يوسف: من آية 11-14).

انتقلت القصة نقلة سينمائية مباشرة من تدبير المؤامرة إلى تنفيذها، وانتقل السر دون أي إطالة إلى الأب، ويحذرهم الأب، ولكنهم خبثاء يمكرون، فهم يظهرون الحب لأخيهم. يريدون أن يرتع ويلعب وهم له لحافظون. والأب أب للجميع، تراوده الهواجس، ولكنه مع ذلك يتمنى أن تكون هواجس كاذبة، ويتمنى أن يحب الإخوة أخاهم الذي يكن له الحب والأثرة، وهكذا تنتقل الآية في نقلة سينمائية أخرى.

فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (سورة يوسف: آية 15).

تمت المؤامرة إذن، ولكن الله اللطيف بمن يجتبيهم يوحي ليوسف أنك ستنبئهم بأمرهم هذا. إذن فقد اطمأن يوسف أنه سيعيش، فلا خوف إذن ولا هلع، بل لقد بشره ربه أنه سينبئ إخوته بهذا الذي صنعوا دون أن يتوقعوا.

ونترك يوسف تركا فنيا شائقا رائعا لنرى إلى الإخوة ماذا صنعوا مع أبيهم.

وجاءوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (سورة يوسف: آية 16-18).

وتترك القصة الأب مطمئنا إلى عدل ربه، والها على بعاد ابنه الأثير، ونرجع مرة أخرى إلى يوسف في غيابة الجب.

وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم

3

فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (سورة يوسف: من آية 19-20).

في هذه الآيات نرى قاعدة من أم القواعد القصصية، فهؤلاء الأشخاص الذين التقطوا يوسف وباعوه نكرات مسرحية؛ ولذلك لم تهتم القصة بذكر شأنهم؛ من هم، وماذا كانوا يفعلون ولم ذهبوا إلى مصر. كل هذا لا يهم القصة، فهي لا تذكر عنه حرفا. إنهم نكرات كان دورهم أن يصلوا بيوسف إلى مصر. وقد فعلوا. إنهم أداة للحدث .. لا تؤثر شخصياتهم في الحدث ذاته .. فالقصة إذن تهملهم وتمر بأمرهم عرضا دون إطالة أو بحث، وكانوا فيه من الزاهدين. في هذه الكلمات القلائل قمة من القمم الفنية. إنهم زاهدون فيه لأنهم لا يعرفون قيمته، شأن الجاهل إذا وجد جوهرة من الماس، وظن أنها من الزجاج، فهو فيها زاهد وهو يبيعها بثمن بخس. مفارقة فنية بارعة؛ فلو كان هؤلاء السيارة يعرفون قيمة يوسف وما سيصير إليه أمره لما اكتملت القصة. لو كانوا يعرفون مكانة يوسف هذا عند أبيه لرجعوا به إليه، ولما اكتملت القصة، وإنما هم فيه زاهدون.

أين استقر المقام بيوسف .. ما مصيره؟

وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه

4

عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (سورة يوسف: آية 21).

أترى هذا الإجمال؟ ألا يشوقك أن تعرف كيف انتفع يوسف بتأويل الأحاديث، وماذا سيكون من أمره في هذه البلاد؟ أنت تعرف القصة، وأنا أعرفها، ولكن لا شك أن كلينا يريد أن يعرف. إنه الفن في قمة روعته.

أستغفر الله. إنما الفن قد يكون عمل البشر، إنما هذا هو الإعجاز. ومن أعظم إعجازا من الله العلي الكبير؟ •••

في انتقالة سريعة وامضة تنتقل قصة يوسف إلى فترة زمنية أخرى، انتقالة أشبه ما تكون بالنقلة الفيلمية، أو بالنقلة القصصية الحديثة.

ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين * وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك

5

قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون .

وفي انتقالة سريعة وامضة أخرى ذهبنا إلى قصة جديدة. إنها حياة عريضة مليئة بالمغامرات يخوضها سيدنا يوسف وتقدمها لنا قصته القرآنية في تشويق أخاذ. لو أن قصصيا اقتبس هذه القصة لاستطاع أن يسميها مغامرات يوسف، ولاستطاع دون جهد يذكر أن يجعل منها فيلما سينمائيا رائعا .. ماذا فعل يوسف؟ انظر معي:

ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين .

إن العرض القصصي هنا في قمته .. فأروع ما في العرض القصصي السرد الفني. وقد كانت السورة خليقة أن تستر على يوسف أنه هم بها، ولكن الله سبحانه يريد أن يقول لعباده إن يوسف كان إنسانا مثلكم، يهم بالخطيئة شأن الإنسان .. ثم يرجع عنها شأن الصالحين. في هذه الجملة روعة فنية وكشف نفسي عميق؛ فهي تجعل القارئ يطمئن أنه أمام شخصيات تحيا وتعيش مثل حياة الناس وعيشهم، يهمون بالخطأ، ويوشكون أن يقعوا فيه، ثم يرتدون عنه. إن لم يفعلوا ذلك كانوا ملائكة. والله سبحانه وتعالى لا يريد أن يقص علينا قصص الملائكة، إنما يريد أن يروي لنا قصص ناس مثلنا يجري عليهم ما يجري علينا من مشاعر ومن أخطاء ومن رغبات. إن قصص الملائكة لن تجدينا في شيء. فإننا سنقول في أنفسنا. وأين نحن من الملائكة؟ أما قصص الناس فإنها تغرينا أن نتشبه بهم حتى وإن كانوا أنبياء. لنمض إذن مع قصة هذا الإنسان.

واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر

6

وألفيا

7

سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم .

في هذه الآية قاعدة قصصية يقدمها القرآن في روعة فنية أخاذة. وقدت قميصه من دبر إذا قرأت هذه الجملة دون أن تكون عارفا ببقية القصة ما ألقيت أدنى اهتمام، إنها كلمات ألقيت، وكأنما ألقيت عن غير عمد. هذا هو التمهيد الفني للحدث في أروع صوره. ثم أرأيت إلى المفاجأة الواقفة عند الباب؟ تصورها إذا كنت تقرأ هذه القصة دون أن تكون عارفا ببقيتها .. زوجة تراود رجلا عن نفسه .. ثم تفاجأ بزوجها عند باب الغرفة المغلقة. مفاجأة آخذة لا تكاد تفيق منها. حتى تشدك مفاجأة أخرى أقسى وأنكى .. ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. إذن فقد ألقت التهمة جميعها على يوسف في سرعة خاطفة؛ فلم يقل القرآن فكرت ماذا تفعل، أو حاولت في أمرها وأمر ذلك الرجل معها. لم يقل شيئا من هذا، وإنما صك النفوس بالتهمة في مفاجأة فنية مذهلة. وتمضي القصة بعد ذلك في فنية بارعة، وفي إيجاز أعجب.

قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم .

أرأيت محاكمة الدليل فيها قاطع مثل هذا .. ثم أرأيت الكلمة التي ألقيت إلقاء وكأنها غير متعمدة ماذا أصبحت الآن؟ إنها براءة يوسف مما وجه إليه من اتهام. ثم أرأيت الحكم الذي أصدره الزوج كيف كان مانعا جامعا؟ إن كيدكن عظيم .. حكم أطلق في وجه النساء جميعا .. غير مخصص للزوجة الخائنة.

وحين تثير نسوة المدينة حديث زوجة العزيز ويوسف تدعوهن:

فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا

8

وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم .

براعة في السرد معجزة .. هل سمعت في السورة من أولها إلى أن بلغت هذه الآيات أن يوسف جميل .. أو على شيء من الوسامة؟ لم تذكر السورة شيئا. ولكن كيف قدمت لك السورة هذه الحقيقة قدمتها صورة مرئية متحركة أخاذة تحمل الدليل الذي لا يستطيع أي كلام أن يصفه .. لقد قطعت النسوة أيديهن؛ فهن إذن في ذهول عن أنفسهن وفي ذهول عما حولهن .. فالجمال الذي أمامهن إذن جمال لا يحيط به وصف .. وهل هناك وصف أروع من هذا أو أصدق؟ •••

وننتقل بعد ذلك إلى مغامرة أخرى من مغامرات يوسف:

ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين * ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين .

إذن فقد عدنا إلى تأويل الحديث، ذلك الذي بدأت به الآية .. ألست الآن مشوقا أن تعرف كيف انتفع يوسف بهذا العلم؟

قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم

9

لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون .

وتمضي الآيات حتى يقول سبحانه عن لسان يوسف:

يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان * وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين * وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون .

أرأيت كيف إذن مهد السبيل أن يرجع يوسف إلى الملك؟ لقد نسي من نجا أن يذكره حين نجا، ولكن الرؤيا تذكره، ويسأل يوسف، ويجيب يوسف الصديق:

قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد

10

يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون

11 * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث

12

الناس وفيه يعصرون .

لقد أفتى يوسف، ولكن يوسف يصر أن يعرف الملك الحقيقة من أمره؛ فقد دخل السجن متهما من زوجته ومن النساء الأخريات.

قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص

13

الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين .

لقد رأت النسوة، ورأت امرأة العزيز أن الأمر أصبح جدا لا هزل فيه، وأن الشعب كله مهدد بمجاعة إذا لم يأخذ الملك قول يوسف أخذ صدق .. فلا بد إذن تصيح: الآن حصحص الحق.

وترفع عن يوسف تهمة الخيانة .. ويمضي يوسف إلى عهد جديد من حياته، ونسير معه في هذه القصة الأخاذة المعجزة في عرضها. وإن لم يكن القرآن معجزة، فما المعجزة؟

ماذا فعل الملك حين علم الحق من أمر يوسف؟

وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين

14

أمين * قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين .

في كلمات قلائل أصبح يوسف على خزائن الأرض .. ولكن أرأيت كيف ألقيت إليك هذه الآيات؟ طلب يوسف أن يكون على الخزائن، وأبدى السبب القوي .. إنه حفيظ عليم؛ أي إنه يريد الخير لهذه الخزائن وللناس .. ثم لا نسمع ردا من الملك، وإنما يقول جل وعلا في جملة إخبارية تبدو كأنها بعيدة عن الخزائن نفسها إنه يريد أن يقدم الحكمة من كل ما مضى من أحداث ليوسف .. وكذلك مكنا ليوسف .. أعطيناه ما يستحقه من تكريم .. ومن هذه الجملة تعرف أنه أصبح على خزائن الأرض دون أن يذكر ذلك صراحة.

وتنتقل السورة فجأة إلى أمر كنا أوشكنا أن ننساه .. ماذا فعل إخوة يوسف؟ ماذا كان من شأنهم وشأن أبيهم؟

وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون .

أتراك ترى الإعجاز الفني في هذه الآيات؟ لقد ذكرت السورة في أولها أن هناك أخا شقيقا ليوسف لم تذكره السورة بعد ذلك أبدا. حتى لتعجب ما الداعي إلى تخصيص ذكره. ولا يلبث عجبك أن يزول حين تجد يوسف يسأل إخوته عن أخيه هذا الشقيق .. أتراك تذكر هذا الأخ؟ وما لنا لا نقرأ السورة من أوائلها، ونتذكر تلك المؤامرة التي دبرها هؤلاء الإخوة؟ ألم يقولوا آنذاك:

إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين .

أذكرت الآن ذلك الأخ؟ وفي إعجاز رائع وذكاء قصصي فريد يريد يوسف أن يرى أباه وأخاه، ويريد إخوته هؤلاء المؤتمرون أن يعرفوا حقيقته. فهو لا يطالعهم بهذه الحقيقة في جملة إخبارية ساذجة .. وإنما يسألهم عن أخيهم من أبيهم، ويهددهم إن لم يأتوا به فلا كيل لهم عنده، ولا هو يسمح لهم بأن يقتربوا منه .. ويعرف الإخوة أنهم أصبحوا في مأزق؛ فإن أباهم لن يسمح لهم أن يأخذوا الأخ الثاني أيضا .. ماذا يفعلون؟

قالوا سنراود عنه أباه

15

وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون * فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .

انظر إلى يوسف الذي يعرف إخوته ويعرف أباه .. لقد وضع لهم كيلهم في رحالهم، وهو يعلم أنهم مع ذلك سيعودون، ويعرف أن أباه سيمنع أخاه، ولكنهم سيجدون وسيلة لإقناعه .. انظر معي:

ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير

16

أهلنا ونحفظ أخانا ..

إنها شخصيات بشرية تمور بالحياة. تلك هي الشخصية القصصية المكتملة لا تجد فيها اضطرابا فنيا .. أو تناقضا في السلوك .. إن الإخوة الطامعين الذين تخلصوا من أخيهم حتى يخلو لهم وجه أبيهم هم أنفسهم الذين يحاولون أن يصحبوا أخاهم الثاني ليزداد لهم الكيل؛ فهم غير راضين عما أصابوا، ولكن ما رأي الأب؟

قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم

17

فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل .

ويعود الإخوة كما توقع يوسف .. ويقرب يوسف أخاه ويؤمنه ويخبره أنه أخوه. وفجأة يواجه الإخوة حدث جديد .. مهد له العزيز يوسف بطمأنة أخيه .. دون أن يطمئن إخوته.

فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير

18

إنكم لسارقون .

مفاجأة قصصية عجيبة، وجديدة على مسار القصة .. ويفتشهم العمال باحثين عن صواع الملك الضائع .. فإذا بالصواع في رحل أخي يوسف .. ويسقط في يد الإخوة.

قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون .

إذن فقد نزلت الطامة. ويتشاور الإخوة فيما يفعلون، فيقول كبيرهم إنه سيبقى إلى جانب أخيه. وعليهم هم أن يخبروا أباهم أن ابنه قد سرق، وأن هذا لم يكن في حسبانهم، ولكن هيهات.

قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم

19 .

وهكذا تبلغ القصة قمتها وتكتمل المأساة .. وأسهل شيء في القصة أو الرواية عند السرد هي القمة أو المأساة، وأصعب شيء هو بلوغ هذه القمة. كيف يستطيع الراوي أن يصل إليها في فنية وبراعة دون قفزات متكلفة لا تمهيد فيها ولا معقولية. إن البلوغ إلى القمة هو أصعب شيء في القصة وفي الحياة جميعا.

وحين يصل الروائي إلى القمة تواجهه صعوبة أخرى. كيف يصل من هذه القمة إلى الحل؟ هذا هو إعجاز القرآن. أما في القصة الكاملة فلا بد أن يكون الكاتب روائيا متمكنا لا تفلت منه الخيوط، ولا تنساب من بين يديه الشخصيات لتضرب في ظلام دامس من اللامعقولية والتخبط.

أعود فأكرر أنني أشك كثيرا أن يكون الغرب بمنأى عن هذه القصص القرآنية. لعل التاريخ قد أهمل .. وكم أهمل التاريخ .. فلم يذكر لنا أن القرآن قد ترجم إلا في العصر الأخير. وإلا فكيف استطاع أولئك الروائيون الذين أنشئوا فن القصة أن يضعوا هذه القواعد، فإذن هي منقولة عن القرآن وقصصه نقلا يوشك أن يكون حرفيا. نعرف أن القرآن قد ترجم وأفاد منه تولستوي الذي كان يعرف العربية، ولكني أعتقد أنه ترجم قبل أن يعرف فن الرواية جميعا.

سيروا بنا مع خاتمة قصة يوسف لنرى كيف أخذت قواعد القصة من العرض الفني لقصص القرآن.

في غمرة من يأس الأب على فقد ولديه يقول لبنيه:

يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .

إذن فالأب لم ييئس أن يلقى يوسف؛ فإنه لا ييئس من روح الله إلا الكافرون. والآية التالية مباشرة تنفيذ لرغبة الأب.

فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة

20

فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .

أرأيتم كيف تجمع القصة الخيوط لا تفلت منها شيئا. لقد غفر الأخ لإخوته عن خطئهم، ولم يبق إلا الأب. هيا بنا لنرى ماذا يكون من شأنه.

اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين * ولما فصلت العير

21

قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم .

أتراك ترى مثلي هذا التمهيد الرائع للحدث عند الأب. وترى معي هذه السخرية التي تجعلك تتشكك في وقوع الحدث. ولا تنتظر السورة بعد ذلك .. بل تصك المستقبل بالمعجزة في قوة فنية فائقة.

فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون .

لقد وقعت المعجزة .. وآن للأب أن يقول لقد كنت أعلم ما لا تعلمون .. وتمضي الآيات بعد لتلم الأسرة التي ظلت متفرقة حينا من الدهر.

فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ

22

الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم .

وهكذا تستدير القصة .. وتعود نهايتها إلى أولها، إذ قال يوسف لأبيه:

يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين

صدق الله العظيم.

جاذبية التشويق في قصة الخليل

في لون آخر من القصص المعجز نجد قصة إبراهيم عليه السلام. دعونا نعجب معا من السرد الفريد الرفيع الذي قدمها به القرآن الكريم.

ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (سورة الأنبياء: من آية 51-75).

أرأيت السخرية في السؤال؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ كأنما لا يدري ما هذه التماثيل .. نوع من الاستنكار الرائع ليس فيه صراخ السخرية البشرية، وإنما هو سخرية مترفعة متأبية مستكبرة. ويستمع سيدنا إبراهيم لأبيه وقومه وهم يشرحون ما هذه التماثيل ، فهم بسذاجة يقعون في الفخ الذي هيأه لهم ويشرحون، وكأنه لا يعرف ما يشرحون.

وفي هذه السورة نجد المنولوج الداخلي أو تيار الوعي الذي لم تعرفه القصة العالمية إلا على يدي جويس وبروست .. ولم تعرفه القصة العربية إلا في أواخر الأربعينيات من هذا القرن. أتراك عرفت أين هو المنولوج الواقعي في هذه الآيات. إنه واضح ولا يحتاج إلى أعمال بحث.

قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين .

إلى هنا والحديث واضح. يرجع إلى أبيه وقومه الذين يجري معهم ما سبق الآية من حوار .. فالحوار ما زال حوارا معلنا، ولكن انظر وتابعه.

تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ..

لا يمكن أن تكون هذه الآية معلنة .. إنما هي منولوج داخلي .. يقولها في نفسه ولا يعلنها .. وروعة القرآن هنا أنه لا يقول وأسر إبراهيم في نفسه، أو قال إبراهيم في نفسه .. وإنما انتقل من الحوار المعلن إلى الحوار الذاتي، أو المنولوج الداخلي، أو تيار الوعي دون أية إشارة، معتمدا على ذكاء القارئ الذي لا يمكن أن يتصور أن إبراهيم سيعلم قومه بأنه سيحطم آلهتهم.

وننتقل من المنولوج الداخلي إلى الحدث يورده القرآن الكريم في جملة قصيرة آخذة كأنها الرعد، أو كأنها الصاعقة. جملة تصك. تجمع الحدث وتتواءم معه، فلا يمكن أن نتصور الحدث يوصف إلا بهذه الجملة .. إن طالت فقدت قوتها ورهبتها وترفعها.

فجعلهم جذاذا

1

إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (سورة الأنبياء: آية 58).

لقد حطم دين آبائه بهذه الجملة .. لأول مرة في تاريخ البشرية تحطم الأوثان بدين جديد. ونسير مع الآيات:

قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (سورة الأنبياء: من آية 59-60).

أرأيت إذن أن تهديد إبراهيم لم يكن معلنا، وأنهم حين وجدوا آلهتهم جذاذا راحوا يتلمسون الفاعل حتى اهتدوا إليه بالاستنتاج لا بالعلم؟

قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون (سورة الأنبياء: من آية 61-63).

أرأيت السخرية مرة أخرى؟ سخرية مترفعة. سخرية نبي. ثم هي سخرية تعتمد على المنطق الطبيعي. وأعظم السخرية هي تلك التي تعتمد على المنطق الطبيعي. أنتم تعتقدون أن هذه الآلهة تضر وتنفع، فهي إذن تحيا وتسعى وتعقل وتفعل، فلماذا لا يكون كبيرهم هذا هو الذي حطم الآلهة الصغيرة؛ لأنها لا تعجبه، ولأنه أراد ذلك؟ أليس إلها وكبير الآلهة؟ منطق لا يقبل المناقضة. وحين يبلغ المنطق قمته لا يمكن أن يكون جوابه إلا القوة الباطشة. يلجأ إليها الظالمون؛ لأنهم لا يستطيعون أن يلجئوا إلى المنطق؛ فلو ملكوا المنطق ما احتاجوا إلى القوة.

قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (سورة الأنبياء: آية 68-70).

وقد تصلح القوة الباطشة لمن لا نصير له، فكيف إن كان النصير هو الله جل وعلا؟ يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. فهي برد وسلام على إبراهيم، والكافرون هم الأخسرون. ولا نستطيع أن ننهي حديثا عن إبراهيم قبل أن نلقي نظرة متأنية على هذا الحوار السماوي الرائع الذي بين إبراهيم وأبيه وقومه.

وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين * وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه

2

الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (سورة الأنعام: آية 74-79).

لقد اتخذ إبراهيم عليه السلام من الشمس والقمر وسائل تعليمية .. إنه يعرف الحق منذ اللحظة الأولى، ولكن يريد أن يعلم قومه لعلهم يهتدون .. النجم إنه يأفل. إذن فالقمر .. ولكن القمر يأفل أيضا .. فاهدني اللهم كأنه حائر .. أرأيت روعة في العرض مثل هذه؟ ثم هو يظهر الضيق بهذه الأشياء التي هانت أن تكون أربابا، فيتوجه إلى الله القدير الذي يعرفه منذ أول برهة .. إن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.

صرخة رجاء أن يهديه ربه، وهو منذ أول الأمر على هدى. وإنما يظهر أمام قومه أنه يبحث ليهتدوا هم، لا يهتدي هو؛ فهو عليه السلام يعرف الهدى، ولكن الكفر لا يقتلع من النفوس مهما يكن الحق واضحا؛ فأهله لا يؤمنون به، وإنما يناقشونه ويبالغون في النقاش، فهو يصيح بهم:

وحاجه

3

قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (سورة الأنعام: من آية 80-81).

أرأيت كلمة الأمن في مكان ما مطمئنة كما هي مطمئنة في هذا المكان من الآية الكريمة؟ إن اختيار الكلمة هي قمة العرض الفني، وهي الألفاظ في الآيات القرآنية إعجاز. ابحث ما شئت في اللغة العربية، وحاول مهما تكن أديبا أن تغير لفظا بلفظ. لا تفعل فإنك لن تستطيع .. إنه الإعجاز.

امض مع الآيات:

وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين .

إنه الله سبحانه يريك أن أنبياءه ينالون ما تصبو إليه نفوسهم من هداية الناس، فإن لم يهتد قومهم فإن ذريتهم على هدى؛ فهو سبحانه أعظم من أن يترك نبيه إلا أن يرضيه. إن لم يرضه قومه أرضاه من يأتي بعده، ذريته، وهل هناك أعظم من عدل أرحم الراحمين؟

وإنني لا أشك لحظة أن كتاب القصة القصيرة في منشئها قد قرءوا هذا القرآن وتعلموا منه. وقد قيل إن سرفانتس هو أول من أنشأ القصص القصيرة. وقد كانت قصصا متناهية في الصغر، وإن كتابه حين ظهر تداولته الأيدي والأعين والنفوس في شغف وإقبال منقطع النظير وتطورت بعد ذلك القصة القصيرة حتى كتب فيها فأبدع جي دي موبسان وأوهنري وجوركي وغيرهم، ثم انتقلت إلى الأدب العربي. وهي تكاد تغلب على أدب الشباب اليوم.

ولا شك أنك قرأت الكثير من القصص القصيرة فهي تطالعك في الإذاعة، وتطالعك ممثلة في التليفزيون، وتطالعك مكتوبة في الجريدة والمجلة والمجموعة القصصية. ولا شك أنك أدركت بحسك ما الذي يجعل القصة القصيرة جيدة، وما الذي يجعلها سيئة. دعنا الآن من القصة الحديثة؛ فهي لا تمثل قاعدة يمكن أن نتكلم عنها. كما أنها لا تمثل مضمونا مفهوما يمكننا من الحكم عليها؛ فهي تنظر إلى الغرب في موجة طغت على الغرب وبدأت تنحسر عنه، ولكن الشباب من أبناء اللغة العربية أخذوا بها. كما أخذو بالشعر المرسل والملابس النسائية للرجال، وملابس الرجال للنساء .. وكتبوا القصة غير المعقولة تشبها بالغرب، وأوشك أن أكون على يقين أنهم لا يفهمون ما يكتبون، فما علينا نحن قراءهم إذا لم نفهم ما يكتبون.

لنتكلم إذن عن القصة القصيرة المفهومة، ولا أحب أن أقول التقليدية؛ فقد دخل على القصة القصيرة كثير من التجديد لم يطمس فيها معالم المضمون ولم يجعلها ثابتة على صورتها الأولى؛ فالحداثة فيها حداثة فنية لم تطغ على معناها، ولم تزل عنها معالم الفهم. يقولون إن من أهم شروط هذه القصة وحدة الزمان، بحيث لا يتطاول الزمان تطاول الزمن في الرواية؛ فالمفروض في القصة القصيرة أنها حادثة صغيرة على جانب عظيم من الأهمية بحيث تلفت نظر الكاتب، وتجعله يسجل هذه الحادثة، فهي إذن لمحة من الحياة يمسك بها الكاتب، ويمنعها أن تسير مع تيار الزمن العادي، فهو يثبتها ويضع لها لإطار الفني فتقف ولا تصبح نقطة عادية من تيار الزمن السائر الرتيب، الوضع الذي يمضي فلا يحس به أحد؛ ولهذا فوحدة الزمن توائم فكرة اللحظة الفنية التي تلفت نظر الكاتب.

ويقولون إن الشرط الآخر هو وحدة الموضوع؛ فحين تسمح لك الرواية أن تتناول جوانب عدة من الحياة ، لا تسمح لك القصة القصيرة إلا أن تتناول جانبا واحدا من الحياة تركز عليه اهتمامك وتبلوره، حتى إذا وضع الإطار القصصي أصبح واضحا جليا لا يختلط بموضوعات أخرى تطغى عليه، وتطمس الأهمية التي لفتت نظر الكاتب حين اختاره ليكون موضوع قصته.

ويقولون إن القصة القصيرة يجب ألا تكون كثيرة الأشخاص؛ فالقصة القصيرة لا تسمح لشخص يظهر فيها إلا إذا كان مهما غاية الأهمية بالنسبة للحدث. وإذا ظهر فلا بد أن يظل موجودا في القصة حتى تنتهي، في حين أن الرواية تسمح لك أن تتعدد الأشخاص، ما شاء لها أن تتعدد، وتسمح للشخصية أن تمضي لشأنها إذا أدت دورها فلا تعود للظهور مرة أخرى.

ويقولون إن القصة القصيرة يجب أن تكون ذات بداية وقمة ونهاية، تلك النهاية التي يسميها بعض النقاد لحظة التنوير، وهي اللحظة التي تدرك فيها لماذا كتب الكاتب القصة جميعا.

يقولون إن القصة القصيرة يجب أن تكون مركزة غاية التركيز في تعبيراتها، بحيث يكون كل تعبير ذا أثر في تطور القصة. وإن كان بعض الكتاب العرب يحبون أن يجملوا قصصهم بالأسلوب العربي الرشيق ناظرين إلى كثرة المترادفات في لغتنا، ضاربين صفحا عن هذا الشرط من شروط القصة.

تلك هي في إجمال أهم شروط القصة القصيرة .. انظروا إذن هذه المعجزة في هذه القصة القصيرة:

رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله

4

للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم (سورة الصافات: من آية 100-107).

في ستين كلمة اكتملت قصة معجزة .. من ناحية الزمن لحظة. أب يهم بقتل ابنه ويتله للجبين فيوحي إليه ربه قد صدقت الرؤيا وينقذ الابن.

من ناحية الموضوع واحد لم يتغير .. أب يقول لابنه إنه أوحي إليه أن يقتله، فيقول الابن في روعة الإيمان وعظمته وأمنه المطمئن افعل ما تؤمر به. لم تحد القصة عن موضعها قيد أنملة.

من ناحية الأشخاص اثنان لا ثالث لهما .. وليس أقل من الاثنين إلا الواحد، وما أحسب أن الواحد يستطيع وحده أن يصنع قصة.

من ناحية البداية والقمة والنهاية .. البداية رب هب لي من الصالحين، القمة افعل ما تؤمر به، وتله للجبين، النهاية وفديناه .. البداية أروع ما تكون البداية؛ فالسورة تبدأ منذ إسماعيل، دعاء يتوجه به إبراهيم عليه السلام إلى ربه .. والقمة أروع ما تكون القمة، أب يقتل ابنه، وابن يرحب أن يقتل في سبيل الله .. والنهاية أروع ما تكون النهاية .. لقد وضع الله نبيه وابنه في بلاء عظيم يمتحن صبرهما، حتى إذا أبدياه واضحا جليا عفا .. وأعاد الابن إلى أبيه، والحياة إلى الابن .. فكلاهما جميعا في فرح مقيم.

ألم أقل لك إنه الإعجاز؟

وثمة شيء آخر. كثيرون يعتقدون أن الشخصية المسطحة عيب في العمل القصصي. وهذا وهم فالشخصية المسطحة دائما تقدم أعظم الأعمال الدرامية؛ لأن الشخصية المسطحة في القصة أو الرواية، إنما يبين لك منها جانب واحد، هو الجانب الذي اختارت القصة أو الرواية أن تقدمه لك، وهو دائما الجانب الفذ .. فإسماعيل في هذه القصة شخصية مسطحة، ولكنه في نفس الوقت قمة إنسانية.

وسيدنا إبراهيم في هذه القصة شخصية مسطحة، ولكنه في نفس الوقت قمة إيمانية. ولم تشأ الآيات أن تظهر من أعمال سيدنا إبراهيم أو سيدنا إسماعيل .. إلا هذين الجانبين .. أب يتمنى ابنا صالحا، فيهبه له الله، ثم يأمره أن يقتله فيمتثل .. وابن مقبل على الحياة يقول له أبوه إني قاتلك امتثالا لأمر ربي، فيقول افعل ما تؤمر به .. القصة لا تريد أن تروي أكثر من هذا الجانب الكامل من النبيين الكريمين .. ولو لم يكن لكل منهما إلا هذا الجانب الذي قدمته الآيات لكان هذا كافيا ليصبح الأب أبا الأنبياء جميعا، وليصبح الابن نبيا وابنا لهذا الأب العظيم.

دقة التبسيط في قصة موسى

ألوان الرواية كثيرة؛ فمنها الرواية التي تتخذ مادتها من الجماعة أو الأسرة . ومنها الرواية التي تتخذ مادتها من الفرد وحربه ضمن الظروف أو المجتمع .. وفيها الرواية التي تتخذ قوامها من تشابك الظروف فيها .. وهناك الرواية الرمزية. وهناك الرواية التي ترسم المجتمع في فترة معينة من الزمن .. وهناك أيضا الرواية التي ترسم الأزمة وأثرها ومدى ما تنداح دائرتها في أوساط المجتمع. وما أحسبني قادرا أن ألم بكل ألوان الرواية.

ولعل قصة سيدنا موسى من أعظم أنواع الروايات التي تلم بين أطوائها جملة ألوان من فنون الرواية؛ ففيها صراع الفرد ضمن القوة الطاغية .. ثم صراع المرء ضد الظروف .. ثم صراع الجماعة في سبيل الحق .. ثم ارتباط الناس بما تعودوه من حياة لا يغيرون ما بهم مهما تتغير أفكارهم وعقائدهم .. إنها قصة من القصص المعجز .. وما أحسبني قادرا أن أجمع كل ما تتسم به من إعجاز وشمول في أسطر قلائل .. ولكن نستطيع أنا وأنت أن نحاول قراءتها، لعلنا نصل إلى بعض من أسرار إعجازها إن كان إلى ذلك من سبيل .. وما أظن.

وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم

1

ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين (سورة القصص: آية 7).

بداية معجزة؛ فالله سبحانه وتعالى لا يخفي عنك نهاية القصة .. وإنما يضعها أمامك منذ سطورها الأولى؛ فقصص القرآن لا يزجى إليك ليسليك، وإنما تضرب به الأمثال. وأنت طبعا تعرف قصة موسى، وتعرف أنه صار نبيا. فهذه الحقيقة توضع أمامك منذ اللحظة الأولى، ولنمش مع القصة بعد ذلك.

فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين .

وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون * وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون * وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (سورة القصص: من آية 9-13).

قصة معجزة قدمت لنا طفولة موسى منذ نشأته الأولى، ولولا الإنسانية التي تتسم بها ما قصها القرآن .. ومن هنا نستطيع أن ننفذ إلى قاعدة قصصية تغيب عن كثير وهي أن القصة لا بد أن تقدم شيئا غريبا .. لم يعهده المجتمع من ناحية الوقائع التي تجري حولها القصة. وهي مع ذلك تقدم ردود الفعل النفسية الطبيعية التي يعرفها المجتمع؛ فانفصال وليد عن أمه أمر عجيب لم يعهده المجتمع. ولهفة الأم على وليدها أمر طبيعي يعرفه المجتمع، فالقارئ حين يطالع هذا اللون من القصص يريد واقعة عجيبة غريبة على مألوف عاداته، ثم يمسك به التشوق أن يعرف كيف تصرف الشخص الذي واجه هذه الواقعة الغريبة.

نسير مع القصة لنرى سيدنا موسى .. وهذا المضطرب الضخم من الأحداث التي خاضها:

ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين * ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته

2

وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه

3

موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (سورة القصص: من آية 14-17).

إعجاز في القصة التعليمية .. ما الذي تهدف إليه قصص القرآن؟ إنها جميعا تهدف أن تضرب الأمثال للناس. وسيدنا موسى هنا قاتل، ولكن الله غفر له، إنما المغفرة لا تعطى هكذا بدون حساب واضح. إنه وقع في خطأ. وإنه أحس بهذا الخطأ الذي وقع فيه فاستغفر ربه فغفر له .. وأحس أن الله غفر له بالطمأنينة تسري بين جوانحه، ويشكر ربه أنه لن يكون بعد اليوم ظهيرا للمجرمين، فبهذه الآيات القليلة يضرب الله سبحانه وتعالى من واقع القصة المثل على أن باب التوبة مفتوح لمن أحسن التوبة. وفي هذه الآيات أيضا معنى واضح وإن تخفى وراء النص، يا بني آدم حتى الأنبياء يخطئون، فلا تثريب عليكم، فكل ابن آدم معرض للخطأ. إعجاز في العرض وإعجاز في تقديم الأمثال. وتمضي الآيات حتى يقول سبحانه:

وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين * فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين (سورة القصص: آية 20، 21).

ويخرج موسى من المدينة ليواجه الحياة لا يملك إلا إيمانه، وهو حسبه.

ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء

4

وأبونا شيخ كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين .

أرأيت سرعة في السرد .. وإبانة مع التفصيل، مثلما ترى في هذه الآيات؟ سقى وقص وأمنه أبو الفتاتين .. كل ذلك في آيات قلائل ونقلات سريعة متلاحقة، تلهث وراءها أنفاسك في متعة رائعة .. وهل نراك لاحظت كلمة على استحياء؟ إنها الإعجاز. لقد وقع موسى من نفس الفتاة موقعا حسنا، ولكن القرآن لا يذكر ذلك. وإنما يشير إليه هذه الإشارة المعجزة. فالاستحياء هنا من نفسها أنها تحس أنه وقع من نفسها، وهي تستحي من هذه المشاعر التي تخالجها. والكلمة في نفس الوقت تمهيد مغر لما سيجري بعد ذلك من أمور.

قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين .

الحب هنا لفظة. وقد كان مشاعر. ولكنه لفظة قرآنية شريفة. لم تقل يا أبت أحبه أو يا أبت زوجني منه .. وإنما استأجره .. ويفهم الأب ما يراود ابنته من مشاعر، ويحفظ عليها حياءها فيكفيه أن يسمع ابنته تقول إنه قوي أمين. فهي إذن تمتدحه، وهي إذن تقبله.

قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج

5

فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين * قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل * فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست

6

نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون .

أترى هنا إلى إعجاز البناء القصصي؟ لقد تم عقد بين والد الفتاتين وبين موسى .. وتم الزواج وقضى موسى أجل العقد .. ثم سار بأهله حتى آنس نارا .. وفي كلمة آنست نارا هذه قصة قد يرويها البشر في صفحات طوال طوال لا تنتهي؛ فهي تعني أنهم ضلوا الطريق؛ فلو لم يكونوا قد ضلوا الطريق لما كان وجود النار أمرا يستحق أن يذكر .. ثم هو يريد أن يأتي لامرأته بجذوة نار لتصطلي، فالبرد إذن شديد قارس. وهناك أمر آخر. لقد قضى مع زوجته سنوات أقلها ثمان، وهو يهتم بها، ويحاول أن يأتي لها بنار تصطلي، فالزواج إذن كان موفقا سعيدا؛ كل هذا وأكثر منه في الكلمات القلائل. والإعجاز هنا أن طريقة العرض ترغمك على أن تفكر فيما وراء الألفاظ حتى تندمج مع القصة القرآنية، وتعيش فيها بنبض إحساسك وكل تفكيرك، وتلك هي قمة الإعجاز في العرض القصصي. •••

ماذا وجد موسى عند النار؟

فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين (سورة القصص: آية 30).

جل وعلا. ألا تحس كأن الدماء منك تجري في غير متجهها؟ وهل تراك رأيت التقديم لنطق رب العالمين سبحانه؟ هذا التحديد للمكان. هذا التحديد وحده ينبئ أن أمرا جليلا سيحدث، بل إنه ينبئ أن أمرا لم تعرفه الأرض سيهزها هزا. ليس لك إلا الله يا موسى. إن إله العالمين يخاطبك وهكذا - وليس هذا بعجيب - يصبح اسمك منذ اليوم موسى الكليم. عرض معجز للحظة إلهية تجل عن أي وصف، إن إله السموات يخاطب واحدا من عباده

إني أنا الله رب العالمين .

وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب

7

يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (سورة القصص: آية 31).

أرأيت عرضا أروع من هذا للمعجزة التي يقدمها الله لنبيه؟ صورة تتحرك فتكاد تراها، ثم كلام الله جل وعلا مباشر لم يسبقه أنه سبحانه نادى موسى، وإنما الجملة مباشرة، يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين .. وتمضي الآيات:

اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك

8

من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين (سورة القصص: آية 32).

وهكذا تبدأ رسالة موسى أروع ما تكون البداية، وننتقل بعد ذلك مباشرة إلى موسى يؤدي الرسالة، ولا تعود القصة إلى زوجته ولا تذكر ماذا كان من شأنها؛ فهذه الآيات تفصيلات لا قيمة لها يتركها لك القرآن أن تفهمها دون ذكر لها؛ فالأمر أصبح الآن جليلا خطيرا. لقد جاءت رسالة من فوق سبع سموات في هذه التفصيلات. وما قيمتها إلى جانب هذا الحدث الضخم الذي تهتز له الأرض هزا.

فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (سورة القصص: آية 36).

وننتقل إلى سورة أخرى تروي ما كان من أمر موسى وأمر فرعون. وفيها نرى الإعجاز الدرامي للصراع بين الحق والباطل، بين الملك الأرضي الهين وبين الإيمان العظيم بمالك الكون ومن عليه.

ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (سورة طه: من آية 56-59).

أرأيت التمهيد الرائع لهذه المباراة؟ إن الكافرين يكيدون، وإن موسى ليقبل التحدي ويضرب لهم الموعد، كم أنت مشوق أن تعرف النتيجة وإن كنت تعرفها! نعم .. فإن الإنسان يحب أن يسمع الخبر الذي يحبه مرات ومرات ولا تمل نفسه منه. ومع أننا نعرف ما كان من أمر موسى والسحرة، إلا أننا نحب أن نقرأ كيف تم هذا. ونقرؤه ونقرؤه ولا نمل قراءته حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس

9

في نفسه خيفة موسى (سورة طه: من آية 65-67).

أرأيت هنا الصراع النفسي؟ إنه نبي بشر .. لقد خاف، مع أنه مؤيد من ربه، ولكن النفس الإنسانية لا تستطيع أن تتخلص من ضعفها أبدا. وهل تراك لاحظت تركيب الآية الأخيرة: فأوجس في نفسه خيفة موسى. أترى أين جاء اسم موسى؟ إعجاز فني في التركيب اللغوي والتركيب القصصي، بل وفي التركيب النفسي، فإن التوجس هنا هو المهم؛ ولذلك تقدمت الجملة جميعها، ثم جاء اسم موسى في آخرها.

قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (سورة طه: من آية 68-70).

إيجاز لا شبيه له. قلنا ألق ما في يمينك، فألقي السحرة سجدا. لم يجد القرآن داعيا أن يقول إن موسى عليه السلام ألقى، وإن ما وعده الله به تحقق. فهذه جميعا بديهيات لا تحتاج إلى إعادة ذكرها؛ فما دام الله وعده فهو منجز وعده لا محالة.

آمن السحرة؛ فهم أبناء صنعة، ويعرفون الزيف من الحقيقة. والذي رأوه ليس سحرا، وإنما هو معجزة، فماذا إذن يصنع فرعون، وما تراه يقول؟

قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (سورة طه: من آية 71-72).

وهكذا تبلغ المأساة قمتها؛ فالسحرة هم الشعب كفروا بفرعون وآمنوا بربهم رب العالمين.

فرعون غاضب ساخط يهدد ويتوعد، ولكن المؤمنين يسخرون منه. إنك لا تملك إن كنت تملك إلا هذه الحياة الدنيا، وهي دنيا هانت. أما نحن الذين رأينا ما رأينا فلن نخذل إيماننا أبدا. كل هذا نسمعه في حوار سماوي معجز، الجملة فيه تحمل ألف معنى وألف نبض وشحنة من القوة لا يطيق أن يبثها فيها إلا رب العالمين .. وتتدخل السماء في هذا الصراع.

ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا

10

ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم

صدق الله العظيم (سورة طه: آية 77-78).

وسبحانه الله تعالت معجزاته! في آيتين اثنتين روى انشقاق البحر لموسى وأتباعه من عباد الله .. ونرى كيف طغى اليم على جنود فرعون فانقضى أمرهم. هذه المعجزة التي ظلت حتى يومنا هذا وحيا للفن التشكيلي المتحرك والثابت، وإلهاما للفن الأدبي في كل بقاع العالم يقدمها القرآن في آيتين اثنتين لا تتجاوزان معا الخمس والعشرين كلمة. هذه الواقعة لو أمسك بها قصاص من البشر لجعل منها رواية بأكملها، ولكنها السماء ترسل تنزيلا معجزا تنزه عن الثرثرة، وسما عن التزيد، وإنما هو قرآن أحكمت آياته، فكانت معجزات تصغر دونها المعجزات، وسبحانه رب العالمين! •••

القصة البوليسية فيما تعارف عليه الناس هي القصة التي تصنع للتسلية وإزجاء الوقت ثم لا شيء بعد هذا؛ فلا هي تحمل في طواياها معنى آخر، ولا هي تهدف إلى فكرة أو هدف، شأن رواية الفكرة التي يسميها الفرنسيون رومان آتيز أو الرواية ذات الرسالة؛ أي الرواية التي يقصد بتأليفها إثبات فكرة معينة. الرواية البوليسية بعيدة عن هذا جميعه كل البعد. ولكنها في نفس الوقت أمتع أنواع الروايات؛ فهي تلقف القارئ لا تتركه أو ينتهي منها. والرواية البوليسية تعتمد في بنائها على الغموض. حدث معين يدعو إلى الدهشة أو الانبهار، ثم تمضي الرواية بقارئها وهو يضع التفسيرات لهذا الحدث، وينشئها في ذهنه، وتتغير هذه التفسيرات مع كل منعطف للسرد. ولا يزال القارئ بين اقتناع بما وصل إليه ظنه وانصراف عنه، حتى تنتهي الرواية إلى تفسير قد يكون بعيدا كل البعد عما أنشأه هو في نفسه.

وإعجاز القرآن أنه قدم لنا رواية ذات بناء بوليسي؛ فهو يعرضها في سرد شائق أخاذ معجز، ومع ذلك وفي نفس الوقت نجد القصة القرآنية تجعل من هذا السرد رواية ذات هدف بل أهداف. أليس ذلك هو الإعجاز؟

والأعجب من ذلك في هذه القصة أنها تجمع بين أصول القصة القصيرة وأصول القصة الطويلة في وقت معا، وهذا أمر لم يصنعه إلا جون شتاينبك القصاص الأمريكي المعاصر الذي توفي منذ قريب، وقد قدم هذا العمل الذي يجمع بين القصة والرواية في السنوات الأخيرة القريبة، ومع ذلك فقد كانت القصة القصيرة عند شتاينبك منفصلة عن الرواية، بحيث إذا نزعت قصة قصيرة من قصص المجموعة لظلت الرواية كما هي في بنائها. ولكن القصة القصيرة في رواية القرآن الكريم جزء أساسي في بناء الرواية لا تستطيع أن تفصله عنها.

في هذه القصة القرآنية إذن نوعان من الإعجاز؛ الإعجاز الأول أن الرواية كان بناؤها يشبه بناء القصة البوليسية. ومع ذلك فهي رواية هادفة تحمل الكثير من المعاني والكثير من الأهداف. الإعجاز الثاني أنها قصة طويلة تتكون من عدة قصص قصيرة في مزيج بينها عجيب فلا تصلح إحداهما إلا بالأخرى.

أتراك الآن مشوقا أن تعرف هذه القصة العجيبة؟ أنت تعرفها كل المعرفة. انظر معي إلى تلك الآيات من سورة الكهف:

وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا * قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (سورة الكهف: من آية 60-64).

أرأيت هذا التمهيد الرائع؟ إن القرآن الكريم يروي كيف بدأت هذه القصة، أو هذه القصص التي سيرويها لك، فلنمض إذن مع ذلك القصص:

فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (سورة الكهف: آية 65).

إذن فبطل جديد قد ظهر في القصة؛ فالأبطال في الروايات يظهرون شيئا فشيئا بتتابع. وقد يبدو أن هذا العبد من عباد الله الصالحين لن يكون له أثر في القصة، ولكن ما هي إلا أن تنتقل إلى الآية التالية حتى تدرك أنه قد أخذ مكان البطولة جميعا. انظر.

قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (سورة الكهف: من آية 66-70).

أرأيت تشويقا أروع من هذا التشويق؟ لن تستطيع معي صبرا. ثم لا تسألني حتى أخبرك. إذن فعبد الله يعلم أنهما سيلاقيان في مسيرتهما هذه عجبا، وأن موسى سيرى أشياء يذهل بها، وأنه سيسأل، إن لم تكن تعلم ما رأياه .. ألا تتوق أن تعرف؟

فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا

11 .

لو كنت لا تعرف قصة هذه السفينة، أليس من الطبيعي أن يتولاك العجب؟

وأليس من الطبيعي أن تروح تنشئ في ذهنك الأسباب التي تجعل رجلا أوتي علما من لدن الله سبحانه وتعالى يخرق سفينة؟ امض مع الأحداث:

فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا .

وقتل أيضا. أرأيت النبأ كيف استقام للقصص المعجز؟ قتل من رجل عامد. ألست في ذهول؟ وموسى يسأل، فيذكره بأنه قال له منذ أول الأمر أنه لن يستطيع معه صبرا، ولكن موسى يعتذر، وينطلقان.

فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (سورة الكهف: آية 78).

وتمضي الآيات تتوالى؛ فالسفينة لمساكين يعملون في البحر، فأراد أن يعيبها، حتى لا يستولي عليها ملك ظالم، كان يسير خلف هؤلاء المساكين. هل يمر هذا السبب بذهن أحد؟

والغلام، ذلك الذي قتل، ما شأنه؟ كان أبواه مؤمنين، وكان يعلم أنه سيرهقها طغيانا وكفرا فخلصهما منه ليهب لهما خيرا منه وأقرب رحما. أتراك أدركت ما يتخفى وراء هذه القصة من معنى رفيع آخر؟ لا شك أن الأبوين حين فقدا ولدهما، اعتبرا هذا كارثة حلت بهما، لأنهما لا يطلعان على الغيب، كما يطلع العبد الصالح. وراء هذه الآية أنه رب كارثة حاقت بإنسان ما، فإذا اطلع على الغيب وجدها نعمة قدرها له الله، فأحسن سبحانه تقديرها، فما شأن الجدار إذن؟ إنه لغلامين يتيمين في المدينة. وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يحفظ لهما الكنز حتى يبلغا أشدهما، ويستخرجا كنزهما، رحمة من الله جل وعز، ثم هو يقول إنه ما فعل شيئا من هذا من تلقاء نفسه. وإنما كان أداة لتنفيذ مشيئة رب العالمين.

وتتضح أسرار القصة وتبلغ منتهاها، أروع ما تبلغ قصة منتهاها، إعجازا من الإعجاز، ولا يقوله غير الله جل وعلا وسبحانه.

فن الجاذبية في قصة سليمان

يعتبر الأستاذ توفيق الحكيم من أعظم كتاب العرب ثقافة؛ فهو يجيد الفرنسية. وقد تعلم أصول الفن الأدبي في باريس في عشرينيات هذا القرن، ثم ظل متابعا لأحدث أصول الفن القصصي والمسرحي. وهو أيضا يجيد قراءة الإنجليزية، وهذا بالطبع إلى جانب ثقافته العربية التي لا تحتاج إلى إبانة أو تفصيل. وقد كتب الأستاذ توفيق الحكيم روايته الخالدة عودة الروح في مطالع حياته الأدبية عند عودته من باريس، بل لعله كتبها أو كتب معظمها في باريس. وقد كان فن الرواية في ذلك الحين قد استوى عند الفرنسيين على أصوله وقواعده، التي ما زالت حتى اليوم من أهم أصول وقواعد فن القصة.

وقد تكلم توفيق الحكيم في هذه الرواية عن فكرة وحدة الكون، فكان كلامه مباشرا بطريقة تدعو إلى الدهشة. ألا يجد أستاذنا الكبير وسيلة إلى التعبير عن رأيه في فكرة وحدة الكون إلا هذه الوسيلة المباشرة التي توشك بأن تكون مقالة أكثر منها فصلا في قصة؟ ولا يشفع له أن هذه الرواية هي من أوائل أعماله؛ فهو حين كتبها كان قد انتهى من أهم مقومات ثقافته. وقد يشفع له أن الفكرة عند الكاتب المفكر كثيرا ما تتغلب عليه وعلى فنه، فتجعله يحيد بهذا الفن إلى شرح الفكرة بطريق مباشر لا فنية فيه ولا إبداع.

إذا كان هذا العرض الفج هو العرض الذي لجأ إليه واحد من أكبر كتاب الفن الأدبي في عصرنا الحديث، فدعونا ننظر معا إلى الإعجاز الفني الذي تناول به القرآن الكريم فكرة وحدة الكون. والمقصود طبعا به أبعد ما يكون عن فكرة وحدة الكون الفلسفية التي لا تعدو أن تكون شطحة من شطحات أحد الفلاسفة العقليين وهو اسبينوزا. دعونا منه ولنعد معا إلى أحسن الكلام:

وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون

1 * حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (سورة النمل: من آية 16-19).

أرأيت كيف عبر القرآن عن وحدة الكون في هذه الآيات؟ فالجن والإنس لم يعد يجمعهم جميعا علم سليمان. وأين الحيوان إذن؟ هل يغني الطير عن الحيوان؟ إن كان لا يغني أفلا يغنيك هذا الحديث كله عن النمل وما هي من الطير. إذن فسليمان يعرف أيضا منطق الحيوان. وأي حيوان. النملة تلك الساعية في الأرض لا تكاد تراها فهو إذن يعرف لغة الحيوان جميعا ما دام يعرف لغة تلك المخلوقة الضئيلة الهزيلة الهينة. هل هناك تعبير عن وحدة الكون أروع أو أبرع من هذا؟

وهناك شيء آخر. هذا الحديث من النملة إلى قومها، ولفظة القرآن الكريم منطق الطير ألا تشير إليك بشيء آخر؟ إن هذه الحيوانات وهذه الطيور في مدارات الأرض والسماء لها لغتها فيما بينها، فهي إذن تتفاهم. وهي إذن لها منطقها الخاص بها. إن هذه الحيوانات والطيور لا يعنيها أن تتسنم القمر أو تركب الطائرات؛ فقد خلقها الله وخلق لها في جسومها ما تحتاج إليه في حياتها. هي لا تفكر في شأنها، إذن فلعلها أكثر منك سعادة. وما لها لا تكون؟ لعلها بإيمانها المطلق الذي لا تحتجزه فلسفة أو تشويه أو تظاهر بالعلم أسعد منك أنت أيها الإنسان الذي يطغى حين يستغني، والذي قال عنه ذو الجلال سبحانه وتعالى

قتل الإنسان ما أكفره .

دعونا نسير هونا مع هذه الآيات:

وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين

2 * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (سورة النمل: من آية 20-24).

أرأيت الهدهد يخاطب سليمان؟ هل أحسست بوحدة الكون بصورة أوضح من هذه؟ أنت أولا ترى سلطة سليمان على الطير سلطة مطلقة؛ فهو يهدد بقتله إن لم يأت باعتذار مقبول عن غيبته. وهكذا الحكم لا يصلح فوضى لا قوام له. وانظر أيضا كيف يكلم الهدهد الضعيف سليمان جميعه. أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين؛ فعبادة الله في هذا الملك هي أهم شيء يسعون له. ولا يهم بعد ذلك شيء من المظهر. هذا الكون كله من إنسانه إلى طيره إلى جانه لا يهمهم شيء إلا أن يعبد الجميع رب السموات والأرض. ماذا فعل سليمان؟

اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين * قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (سورة النمل: من آية 28-32).

سليمان إذن يدعو إلى دين الله، والملكة تستفتي قومها، فالحكم إذن شورى عندها، مع أنها لا تعبد الله. وترى ويرى معها قومها أن يجربوا إرسال هدية لترى كيف يستقبل قوم سليمان الهدية، وهل يلهيهم المال عن ذكر الله. ماذا يصنع سليمان؟

قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم (سورة النمل: من آية 38-40).

وهكذا وأخيرا جاء دور الجن لتكتمل الصورة أمامك. جميعا مسخرون لسلطان سليمان، وسليمان لا يعنى بشيء إلا أن يدعو إلى عبادة ربه، حتى وهو يرى هذه القوى جميعا مسخرة له. لا يفكر فيما بلغ من مجد، وإنما يذكر في خشوع فضل الله عليه؛ أأشكر أم أكفر، ومن كفر فإن ربي غني كريم.

وهكذا نرى القرآن قد أورد فكرة وحدة الكون دون أن يذكر هذا العنوان، وإنما أنت لا تجد مناصا إلا أن تدرك هذه الوحدة، متمثلة في هذا الملك العظيم من سوابح السماء، ومن الإنسان والجان جميعا في زمرة واحدة، فيها النبي وفيها الطير، وفيها الجان، تسعى إلى هدف واحد، وتشرئب إلى إله واحد، لا إله إلا هو، فاطر السموات والأرض سبحانه. •••

أقوى وسائل الإقناع الإقناع بالصورة؛ أي الإقناع بالحدث، ما الذي هدف إليه سليمان من أن يأتي بعرش بلقيس، وبها جميعا، قبل أن يرتد إليه طرفه؟ أهو مجرد الاطمئنان أنه يملك هذه الوسائل التي لم تتهيأ لإنسان من قبل أو من بعد؟

القصة هنا تبين كيف استطاع سليمان أن يقنع تلك الملكة التي تسجد هي وقومها للشمس، أن تسجد لله رب الشمس ورب العالمين. انظر معي ماذا فعل سليمان:

قال نكروا

3

لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين (سورة النمل: من آية 41-43).

أعظم بهذا القرآن! إنه العرض الفني في إعجازه. لم يقل إنها حين رأت آمنت من فورها. لا .. إن القرآن هو الصدق المطلق، وهو حين يذكر لنا القصص، لا يؤلفها، وإنما يرويها في عرضه هذا المعجز الرفيع، والنفس الإنسانية لا تترك دينها هكذا عند الوهلة الأولى وإلا فهي ليست نفسا إنسانية. أو هي لم تكن مقتنعة بما كانت تؤمن به، ولو لم تكن مقتنعة لتركت هذا الذي تعتبره، دون حاجة إلى الصورة أو الحدث أو الحديث، لا بد إذن للنفس التي كانت مؤمنة بشيء أن تتروى وترى وتمعن النظر، وتتأكد، حتى تطمئن إلى هذا الدين الجديد الذي تنوي أن تعتنقه. ونتذكر شيئا آخر، تلك الهدية التي أرسلت بها إلى سليمان.

إن سليمان لم يعطها ردا على هذه الهدية. لقد آن له أن يريها أمثلة وهو من سخر له الله كل قوى الطبيعة، لا يقبل هدية منها، وهي لا تزيد عن مجرد ملكة إن أطاعها أبناء بلدها، فما كانت لتطيعها الرياح، ولا الطيور، ولا الجان.

قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد

4

من قوارير

5

قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .

العرض في هاتين الآيتين يبلغ ذروة الإعجاز؛ فقد يسأل سائل: كيف لا تؤمن بلقيس حين ترى عرشها، وترى نفسها منقولة إليه قبل أن يرتد إليه طرفه، ثم تؤمن لمجرد أن ترى صرحا مقاما من قوارير؟ ولو كان الراوي بشرا، لقال عن وقوع المعجزة الأولى، وخيل لبلقيس أن ما تراه ما هو إلا من عمل السحر، فهي تأبى أن تؤمن أو تتأكد أن هذا الذي تراه إنما هو معجزة إلهية، سخر لها الجن والطير. وقد يقول القصاص البشري: إن الملكة وهي ملكة، أبت أن تخدع في المظاهر، منذ الوهلة الأولى، فهي تصر على كفرها وتأبى أن تتزحزح عن دينها بسهولة ويسر، وقد يقول القصاص البشري: إنها حين رأت الصرح عاودتها طبيعة المرأة، فأخذت بهذا البناء الشاهق الضخم. وقد يقول: إن الملكة قد كبر عليها أن تحسب هذه القوارير لجة من ماء، فهي تكشف عن ساقيها خشية أن يمس الماء ثيابها، فحين عرفت أنها إنما تمشي على قوارير من زجاج، آمنت لأن الذي يصنع هذا لا يستطيع أن يتقنه إلا أن يكون الله قد سخر له ما لم يسخره لغيره من قوى لا حدود لها، فآمنت.

هكذا قد يقول القصاص من البشر. إنما القرآن الكريم يلوح به تلويحا، ويشير إليه إشارة معجزة قادرة صانعة فيصبح كل حديث بعد ذلك عبثا من العبث. ونمضي مع سليمان منتقلين إلى سورة أخرى فنرى ذلك الإعجاز الضخم:

ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر

6

ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ

7

منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير .

يعملون له ما يشاء من محاريب

8

وتماثيل

9

وجفان

10

كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور * فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (سورة سبأ: من آية 12-14).

أرأيت هذا الإجمال السريع لما سخره الله سبحانه وتعالى لسليمان، ثم النقلة الغريبة العجيبة المعجزة، هذه النقلة الإلهية؟ إن هذا الذي سخرنا له الريح والجن لا يستطيعون أن يعصوا له أمرا أو يذوقوا عذاب السعير؛ هذا الرجل جميعه ليس إلا إنسانا يقضي عليه بالموت رب العالمين، كما يقضي بالموت على جميع الناس. إنه مع كل هذا الذي سخر له ليس إلا بشرا عاش، فلا بد أن يموت؛ ولذا فلا بد أن ينتهي.

يموت نعم، ولكن موته معجزة، لقد اتكأ على منسأته، فلم يتصور الجن أنه مات، فظلوا على ولائهم له، يسعون ويروحون ويجيئون في أداء ما كلفهم به من مهام، لا يجرؤ واحد منهم أن يقترب منه، أو يسأله شيئا. ظانين أنه في سنة من النوم حتى أكلت دابة من الأرض منسأته، فلما خر تبينت الجن أنه مات.

سبحان رب العالمين، فالجن إذن لا يعرفون الغيب. أليس هذا ما تقوله الآية؟ إنها إذن مخلوقات هزيلة هينة ضعيفة، لا تعرف إلا ما يشاء الله لها أن تعرف؛ فهي تسعى في خدمة الملك الميت، في رهبة خائفة هالعة من عذاب رب العالمين، إن هي خرجت عن أوامره، وهي لا تستطيع أن تعرف موته إلا حين تأكل دابة الأرض منسأته، فلتخجل إذن هذه المخلوقات التي تدعي علما، وهي لا تعلم شيئا. لم تقل الآيات شيئا من هذا في صريح نصها، وتلك هي المعجزة في عرضها.

وهناك شيء آخر لا شك أنك أدركته، سليمان هذا النبي الذي آتاه الله كل هذه النعم .. سليمان الذي سخرت له الرياح سوانح السماء، وسخر له الجن، تجعله الدابة التي لا ترى يخر؛ فعند الذات الإلهية العظمى يظل البشر مهما يعظم شأنهم بشرا لا يزالون، وسبحان رب العالمين!

الإعجاز في قصة مريم

الحوار من أهم أدوات القصاص. وكل كاتب مهما يكن شأنه يستطيع أن يصنع حوارا، ولكن الكاتب المتمكن وحده هو الذي يجعل الحوار يموج بالحياة. والكاتب المتمكن للقصة هو الذي يعرف أين يضع الحوار، فلا يورده حين يجمل أن يكون العرض سردا وضعيا، أو سردا كحوادث. والدخول إلى الحوار ليس ميسورا لكل كاتب؛ فالكاتب القادر وحده هو الذي يجعلك تنتقل إلى الجزء الحواري من روايته، دون أن تشعر أن هناك نقلة قد حدثت من السرد الروائي إلى السرد الحواري. والحوار صعب صعوبة بالغة من وجهة نظر أخرى؛ إذ لا بد أن تكون كل جملة حوار تطورا جديدا للحدث أو للشخصية أو للرواية جميعا.

اقرأ معي هذه الآيات:

واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت

1

من أهلها مكانا شرقيا

2 * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا

3

فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (سورة مريم: من آية 16-21).

أرأيت كيف انتقل السرد إلى الحوار؟ أرأيت أن الحوار هنا لا يمكن أن يستبدل بأي وسيلة أخرى من وسائل العرض القصصي؟ فكأنما خلق الحوار ليكون في هذا المكان. وقد جاءت النقلة طبيعية؛ فأنت تحس بها كالطريق الحريري الممهد تسير فيه الكلمات طيعة مواتية. ثم أترى إلى العرض النفسي لمريم، وكيف يؤدي الحوار توجسا وخوفا في روعة أخاذة؟ إن الحوار هنا يؤدي في كل كلمة منه تطورا في الحدث والشخصية معا.

ولنمض مع الآيات:

فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا

4 * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا .

معجزة لم يشهدها العالم تحدث، ولكن القرآن يوردها في هذا اليسر كأنها أمر طبيعي. ذلك هو الإعجاز. إن المعجزة لا تحتاج إلى ضجيج حولها، لأنها وحدها تحمل ضجيجها. واكتفى القرآن بشيء واحد؛ أن مريم التي كانت خائفة هالعة تتمنى لو كانت قد ماتت قبل هذا، أو كانت نسيا منسيا، تطمئن وتهدأ وتطيع هذه المعجزة التي تناديها من تحتها.

يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتان ي الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

ألاحظت أنهم لم يسألوا سيدنا عيسى، وإنما تكلم هو دون أن يسألوه. لقد انتهى حديثهم عند إبائهم أن يكلموا من كان في المهد صبيا، فهم إذن قوم عقلاء لا يتصورون أن يخاطبوا هذا الطفل في مهده، فحين تجيبهم المعجزة يصبح وقعها عليهم عنيفا مزلزلا؛ فإن عقولهم الراسخة الثابتة لم تكن لتقبل هذه المعجزة لو لم يروها بأعينهم. ولعلك تعلم أن معجزات الأنبياء كلها كانت مرئية تخاطب العين، فهي إذن معجزات قاطعة لا ينكرها إلا الجبار العنيد. ولكن من ناحية أخرى لم يبق للأجيال التالية شيء من هذه المعجزات. المعجزة الوحيدة الباقية التي تحمل أريج السماء حين عبقت به الأرض هي القرآن. وفي هذا القرآن عرفنا كل المعجزات السابقة التي كانت مرئية والتي لم يعرفها إلا القوم الذين عاصروها، ثم أصبحت من بعدهم روايات تروى تحمل التصديق والتكذيب، فمن كان مؤمنا بهؤلاء الأنبياء فهو يصدقها، ومن لا يصدقها حتى يأتي القرآن فيجعل منها جميعا معجزات لا سبيل إلى نكرانها إلا من ذي النفس السقيمة المريضة.

وفي سورة أخرى نرى جديدا في سرد آخر:

إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

أرأيت هذا الإجمال في العرض؟ إنها معجزة عيسى جميعا، ولكن القرآن لم يشأ أن يفصلها؛ لأن تفصيلها يقع في مكان آخر، فالقرآن هنا يقدمها لك تقديما سريعا؛ لأنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي تمهيد لما قام به عيسى بعد ذلك من أعمال، وهي أيضا تمهيد للمعجزات الأخرى التي شاء الله سبحانه وتعالى أن يهبها لعبده عيسى ابن مريم.

ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون .

في هذه الآية نقلة من أحدث النقلات التي عرفتها القصة الحديثة، أو يظن كتاب القصة أنها حديثة، ولكن الآية تدمغها بأنها قديمة منذ نزل القرآن على النبي الكريم

صلى الله عليه وسلم . لا شك أنك لاحظت هذه النقلة.

إن القرآن الكريم يتكلم بصيغة الغائب .. يعلمه الكتاب ورسولا إلى بني إسرائيل. ثم فجأة ودون أي مقدمات أني قد جئتكم بآية من ربكم.

انتقل السرد إلى صيغة المتكلم فجأة. وهل تحتاج هناك إلى تمهيد وإعجاز؟ هل تحتاج إلى من يقول إن سيدنا عيسى قال لقومه إني قد جئتكم بآية. وكان السرد يستطيع أن يمضي في الرواية بصيغة الغائب، فيقول إنه قال لقومه إنه قد جاءهم. ولكن هذه اللفتة الإلهية المعجزة تقع من الآية موقعا لا تملك إزاءه إلا الإكبار والإجلال والخشوع. وهل تملك أمام كلام الله إلا الإكبار والإجلال والخشوع؟

الثواب والعقاب في قصة آدم

لعله كان أولى بنا أن نبدأ بقصة آدم، ولكن هل نسوق هنا عرضا تاريخيا؟ إنما نحن نلقي نظرات سريعة خاشعة على السرد في قصص القرآن الكريم، فلا جناح علينا أن نضرب عن الترتيب الزمني صفحا. والقرآن نفسه لم يورد قصة آدم في بداية سوره القصصية. يقول تعالى في سورة طه، (الآية 113، وما بعدها):

وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما * ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى .

لا شك أن كل قارئ سمع عن التمهيد في القصة والأعمال المسرحية على السواء .. أرأيت القرآن هنا كيف يسوق التمهيد في لغة شريفة لا لبس فيها ولا غموض؟ لقد حذر الله آدم. وقال إن إبليس هذا عدو لك ولزوجك .. في روعة أخاذة معجزة. يشير سبحانه وتعالى إلى أن إبليس عدو للجنس البشري جميعا ولم يكن الجنس البشري يومذاك إلا آدم وزوجه. ثم هذه الإيماءة الوامضة إلى الزوجة هنا .. إنها إيماءة لا تتأتى إلا من فوق سبع سموات .. فالزوجة هنا عنصر رئيسي، فما وقع بعد ذلك حدث، فذكرها إشارة إلى الحدث دون كشف للحدث .. فأنت تريد أن تعرف مشوقا إلى ما حدث بعد ذلك، وتلك هي تماما وظيفة التمهيد. وقد قدمه سبحانه وتعالى لا يزيد كلمة عما يجب أن يكون في جمل حاسمة حازمة قوية الدلالة تأسر القارئ فلا تفلته أو يصل من القصة إلى غايتها.

إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .

أترى الجنة التي هيأها الله لآدم وزوجه؟ لقد وعده فيها ألا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى، فماذا فعل آدم أمام هذه الوعود؟

فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى .

أرأيت سردا أكثر اكتمالا وقصرا في وقت معا مثل هذا في جمل قليلة؟ قدم الحدث أجمعه، ثم عقب عليه بما يبلوره. وعصى آدم ربه فغوى.

فماذا فعل ربه بعد أن عصى وغوى؟

ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

إذن فالجزاء من جنس العمل. وحين عفا الله عن آدم رحمه فأنزله إلى الأرض، ثم وفي جملة واحدة بشره بأنبيائه جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فمن اتبع هداي فلا يضل فيها ولا يشقى. هذا الهدى هو الأنبياء يشيد الله بذكرهم دون أن يذكرهم، وإنما ينبئ آدم بعد أن عفا عنه أن السماء لم تقطع صلتها به، وإنما سيأتيه من ربه هدى. وسيمتحن الأبناء بما امتحن به أباهم الذي عهد الله إليه فنسي ولم يجد له عزما. كذلك الأبناء سيهب لهم الهدى كما وهبه لأبيهم من قبل، فمن نسي منهم فسوف يحشره أعمى؛ لأنه في هذه المرة مجرم عائد لا يستحق العفو، وهو عائد لأنه عرف ما حاق بأبيه حين نسي، ومع ذلك لم ينتفع بالمثل أمامه. أما أبوه فكان أول نساء للعهد، ولذلك أدركته رحمة ربه. وهكذا ترجع القصة خاتمتها إلى بدايتها؛ فكما ابتدأت الآيات ذاكرة كيف نسي آدم، كذلك تنتهي القصة بتحذير الأبناء ألا ينسوا مثل أبيهم.

أنا لست بشارح للقرآن؛ فما أستطيع أن أرقى هذا الرقي. ولكن هذه المعاني جميعا كانت تنثال على خاطري وأنا أقرأ الآيات. وأروع أنواع السرد القصصي هو ذلك الذي يوحي إليك بما وراء الألفاظ دون تصريح، فالقصة إنما التمست كنوع السرد الفني لتقر في النفس أرسالا من المعاني في لغة غير مباشرة؛ لأن اللغة المباشرة لا تفعل بالنفس ما تصنعه اللغة القصصية؛ فالحدث في ذاته حجة أقوى من كل حجة كلامية. والقارئ الذي يستطيع أن يستشف ما وراء الحدث هو الذي يستطيع أن يستمتع بالقصة ويبلغ منها غاياتها.

الإعجاز الفني في قصة يونس

تلك القصة أوردها القرآن الكريم في آيات قليلة، ولكنها تمثل نوعا من القصص لا يخطئ التشويق والاهتمام عند القارئ أبدا؛ فهي نوع من القصص المبهر، فيه إعجاز لا يكاد العقل يتصوره. والعقل بطبيعته لا يستطيع أن يقبل ما لا يدخل في دائرة منطقه، ولكنه عندما يأتي الإعجاز من السماء يقبله كقضية مسلم بها، ولا بأس علينا أن نضرب لذلك مثلا متمثلين ببيت أبي تمام:

فالله قد ضرب الأقل لنوره

مثلا من المشكاة والمصباح

لو أن شخصا ما قال لك إنه يستطيع أن يختفي من أمام عينيك، ثم يظهر غير خارج أو داخل من منفذ ما مما ألف الناس أن يخرجوا أو يدخلوا منه، فإنك بطبيعة الحال لن تصدقه، ولكنه إذا فعل هذا فأنت مرغم على أن تصدقه بعد ذلك. من أجل هذا كان الله سبحانه وتعالى يقدم للبشرية أنبياءه السابقين على سيد المرسلين بمعجزات حسية ترى بالعين وتمسك باليد. كان ذلك حين كانت البشرية طفلة ساذجة، الجانب الروحي فيها ضامر لا يستطيع أن يرقى إلى مراقي القرآن وعظمته. وكانت هذه المعجزات التي قدمها الأنبياء الأولون معجزات تزول بزوال العصر، ولا يبقى منها إلا ذكر يصدقه البعض ويكذبه البعض، حتى جاء القرآن معجزة خالدة كلما مر عليه الزمان ازداد إعجازا وروعة.

فقد نزل القرآن إلى الناس منذ ما يقرب من ألف وأربعمائة سنة، وجاء من جاء من الكتاب والشعراء، ولكن أحدا لم يستطع أن يصل إلى آية من آيات القرآن في إعجازها اللفظي والأسلوبي. هذه المعجزة وحدها تتيح للقرآن أن يقول ما شاء عن معجزات الأولين، ولا نملك إلا أن نصدق ما جاء فيه، فمن شاء أن ينكر فليأت بآية من آياته. وهناك طبعا معجزة الحياة وهذه الروح التي لا يعرف البشر سرها، ولا من أين أتت ولا أين تنسرب من الجسم. وقد بلغ العلم هذا المدى الذي وصل إليه اليوم، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يصل إلى سر الروح أو يقترب منها.

ولعل من أغبى المحاولات إن لم تكن أغباها، تلك المحاولة التي يقوم بها الشيوعيون من اكتشاف سر الخلية ومن عمل خلية، ظانين أنهم لو وصلوا إليها فقد وصلوا إلى السر المستغلق على البشرية، غافلين أننا نحن المؤمنين سوف نسألهم يوم يصلون من أين أتيتم بالمواد الأولية لهذه الخلية نفسها. ومن هنا فإنها محاولة غبية، ولن تؤدي إلى ما يرجون لها أن تؤدي من إنكار الله جل وعلا.

فلننظر الآن إلى قصة يونس وكيف قدمها القرآن الكريم:

وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين .

أرأيت قصة تكتمل في مثل هذه السطور القلائل. لو وفق إلى هذه القصة قصاص من البشر لراح يكتب عنها الصفحات الطوال. ولماذا هرب يونس إلى الفلك، وكيف غرق، وماذا فعل وهو يغرق وكيف كان يصارع الموج حتى غلبه الموج، وكيف طلع عليه الحوت، وماذا كان حجم الحوت، وكيف كان ضخما طوله شهر وعرضه دهر، إلى آخر هذه الصفات السخيفة التي كان يصطنعها القصصي الساذج. ثم ما أحسب قصاص البشر إلا منتقلا إلى حياة يونس في جوف الحوت، ويستطيع هذا الفصل أن يكون قصة كاملة بذاتها. ثم كيف لفظه الحوت، وكيف كان مشفيا على الموت، خائر القوى، منهار الأركان.

أما شجرة اليقطين التي نبتت فجأة، هذه التي ذكرها الله تعالى في بساطة لا تصدر إلا من رب العالمين؛ فما أيسر أن ينبت سبحانه شجرة! ولو تناول القصاص البشري هذا الحدث لراح يعيد فيه ويزيد .. وهكذا.

إلا أن القصص الحديث انتهى إلى رأي آخر في القصص الساذج الذي نشأت القصة في ظلاله. هناك قاعدة فنية معروفة اليوم في القصص الحديث تدعو إلى الاقتصاد الفني؛ أي أنه لا يجوز للقصاص أن يصف إلا ما يدعم الحوت الذي اختاره ليدير حوله قصته. وتكفي منك نظرة عاجلة إلى الآيات التي تصف قصة يونس لتجد الاقتصاد الفني في أروع صورة، فلماذا أبق يونس؟ لا تعنينا في شيء. وكيف التقمه الحوت. لا شأن لها بالقصة، وحجم الحوت موجود في القصة، فهو حوت استطاع أن يبتلع رجلا بأكمله، فبماذا يمكن أن تصف حجمه بأدق من هذا وأشمل؟ وهكذا.

إن السرد في هذه الآيات القليلة يحقق مبدأ الاقتصاد الفني بأجمل ما يمكن أن يتحقق. وقد يقول البعض: إن الواقعية حين بدأت كانت تحرص على التفاصيل. ولعل هؤلاء لا يدركون أن الواقعية نفسها قد تطورت، وأصبح القصاص اليوم يكتفي ببعض خطوط عريضة تحدد ملامح الصورة، وعلى الأحداث بعد ذلك أن تكمل الملامح إذا كان لا بد لها أن تكتمل.

ذلك لأن الواقعية حين بدأت وأعجب الناس بها كان القارئ غير قارئ اليوم. لقد كان القارئ يريد من الكاتب أن يخلق له الجو الذي يحيط بالقصة حتى يعيش فيه مع أشخاص القصة، فيصبح القارئ وكأنه بطل من أبطال الأحداث، وإن كان بطلا محايدا لا يجري الأحداث، وإنما يجري معها مشاهدا.

أما قارئ اليوم فقد أصبح من الصعب خداعه وأصبح الكاتب يترك لقارئه أن يخلق هو الجو الذي يظن أنه يجمل بالقصة أن تدور فيه. وهكذا أصبح القارئ اليوم يشترك مع المؤلف، وأصبحت متعة القراءة أكبر؛ لأن القارئ يحس الآن أنه عنصر من عناصر العمل الفني الذي يقرؤه، وهذا التغيير في شكل القصة وفي نوع القارئ لم يطرأ إلا في السنوات القريبة الماضية. حين أصبح القارئ أكثر تحضرا، وأكثر ألفة بالفن القصصي.

السمو الفني في قصة لوط

كيف يستطيع القاص أن يقول ما يشاء في أروع لفظ وأشرفه، مهما يكن الموضوع الذي يتناوله؟ وقصة لوط قصة تستطيع أن تمد القصاصين الذين يريدون الكسب التجاري بمادة لا تنفد، ولكن روعة العرض القرآني جعلتها قصة عفيفة بألفاظها أنصع ما تكون العفة.

ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد * فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود * ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد * قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (سورة هود: من آية 69-82).

وقد ذكر لوط كثيرا في آيات القرآن الكريم. وكل الآيات ذكرت القصة ولكن في هذه العفة. وقد يقول قائل: وماذا كنت تنتظر من رب العالمين إلا العفة؟ وإنما أريد أن أقدم هذه الآيات للقصاصين إن كانوا جادين في فنهم.

فإنهم يستطيعون أن يقولوا ما شاءوا وينسربوا إلى نفوس قرائهم بما يعن لهم، ولكن في لفظ كريم متسام يقع من نفس القارئ موقعا يتفق مع جلال الفن ورفعة شأنه. وإني عارض عليك القصة نفسها، كما وردت في سورة الشعراء، وقد وضح فيها القرآن الكريم ما لم يوضحه في سورة هود، ولكن نفس العفة وسمو اللفظ.

إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين (سورة الشعراء: من آية 161-172).

Unknown page