فتساءلت وعيناي تطرقان من فرط الحياء: أتحبينني؟
وكانت على بعد شبر مني فتزحزحت حتى التصقت بي ورفعت إلي وجها موردا وغمغمت: أجل أحبك!
فأحطت خاصرتها بذراعي وقبلت شفتيها وخدها، وتناولت يدها الصغيرة الجميلة وجعلت أقبل أناملها أنملة أنملة في حنان وهيام، وكنت في الواقع أمهد بما قلت لما أرغب في الإفصاح عنه مما ضقت بكتمانه، ولما هممت بالكلام خانتني شجاعتي وانعقد لساني .. أردت أن أبثها همي، وأن أعترف لها بأن ما يعتريني حيالها طارئ غريب لا أدري كنهه، وأنني لم أكن كذلك؛ بل إنني لست كذلك إذا خلوت إلى نفسي، وأن أسألها المشورة والمعونة .. هذا ما كنت أريد البوح به، ولكن خانتني العزيمة فنكصت مغلوبا على أمري. ثم سلمت بالهزيمة كعادتي، وجعلت أسوغها لنفسي قائلا: إن البوح بهذه الأسرار حري بأن يسيء إليها ويغضبها، وربما قضى على سعادتها قضاء مبرما.
وعندما آوينا إلى الفراش حدثتني نفسي بأن أعاود التجربة، ولكنني ترددت، وترددت طويلا حتى تملكني الخوف فولى قلبي فرارا .. لقد بت أخاف جسمها بقدر ما أحبها، وتأملت حياتي في صمت الليل وظلمته، فبدت لي غريبة متنافرة، وضاق صدري فلم أجد من متنفس له غير البكاء، فبكيت طويلا!
44
وخطر لي أن أستشير طبيبا، وجاء الخاطر فجأة، بل لعله كان محض مصادفة، ولم أكن فكرت في استشارة طبيب لخجلي الشديد من ناحية، ولاعتقادي بأن حالتي لا شأن لها بالطبيب من ناحية أخرى، ولكن بصري قد وقع يوما وأنا في طريقي إلى الوزارة على لافتة كبيرة مثبتة على شرفة بشارع قصر العيني قد كتب عليها بالخط الكبير: «الدكتور أمين رضا، أخصائي في الأمراض التناسلية من جامعة دبلن»، ولم أكن رأيتها من قبل، فحدثتني نفسي فجأة باللجوء إلى الطبيب. ومع ذلك لم أستسلم للفكرة بغير تردد. ثار خجلي وخوفي، وكادا يثنياني عما خطر لي، ولكن تلهفي على النجاة كان أقوى من خجلي هذه المرة، فصممت على الذهاب ذات مساء، وذهبت!
كان الطبيب مشغولا بفحص مريض، فجلست في حجرة الانتظار، وكانت الحجرة خالية فداخلني ارتياح عميق، وإن شعرت بالاستهانة بالطبيب. ولم يطل بي الانتظار، فدعيت بعد دقائق إلى حجرة الكشف ووجدتها آية في فخامتها وأناقتها، كاملة العدد، وبها من أدوات الرهبة ما رد إلي الهارب من ثقتي. وإلى يمين الداخل مباشرة جلس الطبيب إلى مكتب كبير مزدحم بالكتب والكراسات. كان شابا في الثلاثين على أكثر تقدير، نحيف القوام، طويل القامة، مجعد الشعر، ذا بشرة سمراء وقسمات دقيقة واضحة، وعينين حادتين تلتمعان وراء نظارة أنيقة. وكان مما يلفت النظر إليه شارب كثيف فاحم غطى فمه وأكسبه وقارا ليس من سنه، حييته فرد تحيتي باقتضاب، وحدجني بنظرة مستفهمة قرأت فيها الترفع والكبرياء، وثقة بالنفس تبلغ حد الغرور؛ فلم أرتح إليه. وكان منظره عامة مخيبا لأملي؛ لأني توقعت أن أرى شيخا مهيبا بساما كطبيب ذهبت بي أمي إليه مرة منذ أعوام طوال، فاستأت ووددت لو لم أكن قدت نفسي إلى هذا الشرك. وقال لي بهدوء: تفضل بالجلوس!
فأذعنت وأنا أرمقه بقلق. وجعل ينظر إلي منتظرا أن أبدأ بالكلام. ولكن فكري تشتت وجف حلقي ولبثت ملازما الصمت حتى قال متسائلا: أفندم؟
فاستجمعت قواي، ولكني لم أزد على أن قلت: جئت للكشف.
فسألني بدهشة: ماذا تشكو على وجه التحديد؟
Unknown page