36
واستحوذ علي الخوف والقلق، وعاودني ذلك الإحساس الخانق الذي قهرني يوم دعاني أستاذي بكلية الحقوق إلى منصة الخطابة؛ هل تستطيع قدماي أن تحملاني إلى بيت جبر بك؟ هل أستطيع مكاشفة الرجل بما في صدري؟ اللهم أدركني برحمتك، فإن الحب يركبني مركبا صعبا لا قبل لي به. ولما ضقت بالواقع المخيف روحت عن نفسي بالأحلام، فرأيتني في جزيرة مهجورة، وليس بها حي إلاي وحبيبتي، حيث الحب لا يسيم المحب خطبة ولا كلاما ولا اتصالا بأحد، وهفت نفسي في محنتي إلى تلك الجزيرة المهجورة.
ومضى السبت والأحد في عذاب نفسي عنيف، فصممت على أن أستجير من عذاب الفكر بلقاء الخطر وجها لوجه. وغادرت البيت عصرا بعد أن أخذت زينتي، وقطعت الطريق واجف القلب وأنا أتلو آية الكرسي. ولما عبرت الجسر ولاح لي عن بعد جانب من العمارة؛ ثقلت قدماي وكدت أرجع من حيث أتيت، ولكن كان تصميمي رائعا، وكان إشفاقي من أن تستبطئ حبيبتي قدومي لا يدع لي فرصة للتردد. وجعلت أشجع نفسي قائلا: إنه لو لم يكن ثمة أمل لما رضيت حبيبتي بأن تلقاني يوم الجمعة، ولما مهدت السبيل لمقابلة أبيها. ودفعت قدمي الثقيلتين فأخذت أقترب رويدا من العمارة. ولم يكن بالنافذة ولا الشرفة أحد؛ فارتحت لذلك لأني أضطرب في سيري تحت وقع الأعين، ثم وجدتني مقبلا نحو البواب؛ فوقف الرجل متسائلا، فقلت: جبر بك السيد.
فقال: الدور الثاني.
وارتقيت السلم في رهبة وخوف، متوقفا عند كل بسطة لأتمالك أنفاسي، حتى طالعني باب الشقة المغلق فخارت قواي، ووسوست لي نفسي أن أعود، أن أفر بنفسي، أن أؤجل الزيارة الخطيرة ليوم آخر؛ ولكني نفيت عني فكرة التأجيل بغضب، وبدا لي أن أنزل وأن أخفف عن توتر أعصابي بالمشي ومعاودة ترتيب أفكاري، وهممت بالتراجع، ولكنني تساءلت في اللحظة التالية: ألا يرتاب البواب في أمري إذا رآني نازلا بعد دقيقة من مخاطبته، ثم رآني بعد دقائق عائدا إلى العمارة؟ .. وعدلت عن فكرة النزول، ووقفت مع ذلك ساكنا لا أبدي حراكا. وجمد بصري على الباب حتى خلت ثقبه عينا تحدق في وجهي بسخرية. وانتقلت عيناي إلى زر الجرس وثبتتا عليه بخوف وهلع. ما عسى أن يحدث لي لو فتح الباب فجأة عن وجه من الوجوه التي أعرفها وتعرفني! وتمنيت في تلك اللحظة لو كانت حياتي واصلت مسيرها الوئيد دون أن تصطدم بهذا الحب الذي قلبها رأسا على عقب! وجاءني بغتة صوت رفيع من الداخل يصيح: «افتحي الراديو يا صباح»؛ فارتعدت أوصالي وأرهفت السمع في خوف متزايد. ويلي منك يا أماه! أما كان الأفضل أن تكوني في مكاني هكذا؟ ثم قرع أذني وقع قدمين صاعدتين فتضاعف اضطرابي ولم أجد من التقدم مناصا، وتدانيت من الباب، ورفعت يدي إلى زر الجرس، وتريثت لحظة في اضطراب، ثم ضغطت عليه فرن رنينا مزعجا، وتنحيت جانبا، منتظرا في حالة يرثى لها. وفتح الباب وبرز وجه أسود كالفحم لجارية في الخمسين، فحدجتني بعينين براقتين وقالت: أفندم؟
وقلت وأنا أتمنى أن يكون البك خارج البيت لسبب أو لآخر: جبر بك موجود؟
ولكنها أجابت قائلة: نعم يا سيدي .. مين حضرتك؟
فاستخرجت من محفظتي بطاقة وقدمتها لها قائلا: أرجو أن يأذن لي البك بمقابلة قصيرة!
ومضت الجارية بالبطاقة، وانتظرت خافق الفؤاد مضطرب النفس، وتخيلت البك وهو يقرأ البطاقة بصوت مرتفع فيتبادل الجميع النظرات والابتسامات، ويهرعون إلى مكان آمن يرونني منه حين دخولي، فالتهب وجهي حياء وازددت اضطرابا، وبرز رأس الجارية مرة أخرى وهي تقول: تفضل.
ودخلت خافض الرأس، فأرشدتني إلى باب على يمين الداخل مباشرة، فدخلت حجرة الاستقبال؛ وهي حجرة أنيقة ذات أثاث كحلي، فاتجهت إلى مقعد يفصل بين كنبتين وجلست، بعيدا عن سمت الباب. لم أكد أصدق أني بلغت حقا مجلسي هذا من البيت. وجعلت أرهف السمع في خوف وقلق وهلع. وتمنيت لو يتأخر البك ريثما أسترد أنفاسي، ثم دفعني العذاب إلى تمني حضوره سريعا لوضع حد لآلامي. ولا أدري كم انتظرت حتى سمعت وقع أقدام تقترب! دخل البك فنهضت قائما، ثم سلم علي في أدب وترحيب، وأومأ إلى المقعد وهو يقول: تفضل بالجلوس!
Unknown page