فقال مبتسما: لدي أمر أود أن أحدثك عنه.
فلم أجد مناصا من أن أقول: بكل سرور.
فقال وهو يرفع بصره إلى السماء: الجو بارد جدا، فهلا وافقت على أن نستقل الترام إلى ميدان إسماعيل، وهناك نجلس في مشرب الشاي فأحدثك دقيقتين؟ ألديك مانع؟ وركبنا ونزلنا، وجلسنا. حدثتني نفسي سلفا بموضوع الحديث، وداخلني إحساس بالخوف، بيد أن شعوري بأن الحديث سيدور حول حبيبتي حملني على الذهاب معه بلا تردد، بل وبرغبة لا تقاوم، ولكني تساءلت طويلا عما هو قائل؟ وعما يرمي إليه من وراء حديثه، وألقيت عليه أول نظرة من قريب ونحن جالسان حول مائدة صغيرة. كان في الأربعين، معروق الوجه، دقيق القسمات صغيرها، وكان يحلي أصبعه بخاتم ذي فص ماسي، ويضع على عينيه نظارة سميكة أحدت من نظرة عينيه، ويعبث بسلسلة ساعته الذهبية المدلاة من عروة صدارته، سألني بأدب عما أفضله من المشروبات، ولما لم أحر جوابا طلب شايا، ثم قال: اعذرني عن تطفلي هذا، ولكنك ستقدر موقفي بلا شك إذا علمت بما حداني إلى دعوتك، واسمح لي قبل كل شيء أن أقدم لك نفسي .. محمد جودت مدير أعمال بوزارة الأشغال.
ووقعت كلمة «مدير» من نفسي موقعا مروعا، فقلت: تشرفنا يا بك! أنا كامل رؤبة لاظ موظف بوزارة الحربية.
وجاء النادل بأقداح الشاي، ولكني كنت أفكر في الفرق الكبير الذي يفصل بيننا كموظفين؛ هو مدير أعمال، وأنا كاتب على الآلة الكاتبة بإدارة المخازن. ولمحت وراءه مرآة مثبتة في الجدار، ورأيت صورتي معكوسة على صفحتها، فنظرت إلى وجهي المستطيل وعيني الخضراوين، وسرعان ما سرى عني شعور بالارتياح والإعجاب! أما صاحبي فقال لي: يا أستاذ كامل، إني دعوتك لمشاورة أخوية، وأرجو أن تقدر رغبة رجل مثلي - اعتبره أخاك الأكبر - في التفاهم الصريح. لست بالمتجني على أحد، ولكني أرجو أن نكون صرحاء!
واصطنعت الدهشة وقلت: أرجو أن تفصح يا سيدي عما تريد وستجدني رهن إشارتك.
فضحك ضحكة قصيرة خافتة، ثم قال بعد تردد قليل: أتصفح عني إذا سألتك سؤالا ليس لي حق في توجيهه؟
رباه إني أتلهف على سماعه .. أجل إني أوقن بأنه لن يحمل لي نبأ سارا ومع ذلك بدا لي كأشهى المنى. قلت مبتسما في ارتباك: بكل سرور يا بك!
فارتفق المائدة شابكا أصابع يديه، وقال: لاحظت أنك تبدي اهتماما خاصا بشخص ما، ولعلك أدركت من أعني (هنا خفق قلبي خفقة عنيفة) فلا تؤاخذني إذا سألتك عن حقيقة اهتمامك هذا، هل هناك رغبة أو نية أو صلة؟!
أوشكت أن أتظاهر بالدهشة وأعلن تجاهلي؛ ولكني عدلت عن ذلك في اللحظة التالية. طالما التقت عينانا في المحطة، وطالما رأيته يراقبني وأنا أتطلع إلى الشرفة، كما رآني أراقبه يسدد عينيه لنفس الهدف، فهو يعرف كل شيء، ويعرف أنني أعرف، فما جدوى التجاهل إلا أن يكشف عن كذبي؟ فقلت متكلفا ابتسامة كاذبة: حضرتك أخطأت الفهم، فقدرت أني أبدي اهتماما بشخص ما على حين أني أنظر إليه كما أنظر إلى سواه. إنها محض عادة سيئة!
Unknown page