وتجرعت هذه الحياة الجديدة قطرة قطرة، وقد أضافت إلى حسراتي القديمة حسرة جديدة؛ هي حسرتي على العيش الرغيد والشراب خاصة، وأجمعت على أن أقتر على نفسي كي تتهيأ لي ولو سكرة واحدة في الشهر، ولا عجب فلم تكن الخمر بالنسبة إلي لهوا وعبثا، ولكن حياة وهمية أفر إلى أحضانها من آلام الواقع البغيض.
ويوما قالت لي أمي وقد آنست مني استنامة إلى حديثها: لعلك لمست الحكمة التي أملت علي أن أرفض أي زواج لا يليق بك!
وأدركت ما تعني لتوي، فكأنما تقول لي: «ماذا كنت تصنع بحياتك لو كنت رب أسرة». ولم يداخلني شك في صدق ملاحظتها، ولو كنت رب أسرة لشقيت بالعيش أضعاف الشقاء الراهن! ومع ذلك لم أرتح لقولها، ووقع من نفسي المهيضة موقع الشماتة المريرة، فلفني الحنق والغضب، وكابدت مشقة في كظم عواطفي.
26
وهل الخريف؛ ذلك الفصل الذي أحببته لأنه البشير بافتتاح المدارس، وستعود حبيبتي إلى الملتقى المعهود على طوار المحطة. حبيبتي هي الزهرة الوحيدة التي تتفتح في الخريف حين تعرى الأشجار وتذبل الأزهار. ولاحظت أن مواعيد خروجها لم تعد منتظمة كما كانت، ترى هل بدأت حبيبتي حياتها كأستاذة؟ ولذني ذاك الخاطر فاهتز عطفاي سرورا. بيد أنني لا يمكن أن أنسى أن مجرى حياتي قد تغير، وأنني أرزح تحت وقر الفقر والقنوط، فحبيبتي ميئوس منها، ولكن ما كان اليأس إلا ليزيدني هياما وولعا، ويشب في قلبي أشواقا وأحزانا. ما أسرع أن ينقلب الحب اليائس ثورة على الحياة! أليس من الهزء بنا أن نخلق لحياة ثم يحال بيننا وبينها؟ وزاد من لوعتي أنه كان يخيل إلي في أحايين كثيرة أن عينيها ترنوان إلي بنظرة فيها حياة. أية حياة؟ لست أدري، ولكنها كافية لبعث الجنون في خيالي، فيثمل بنشوة سحرية لا أفيق منها حتى تصدمني حقيقة مرة من حقائق حياتي. واشتد تطلع أهل البيت نحوي، وبت وكأنني أسمعهم يتساءلون: ماذا تريد؟ لماذا تلتهمها بعينيك؟ أي رجل أنت؟ ألم يكفك عام ونصف عام؟! صدقتم والله، والحق معكم، ولكن ما حيلتي أنا؟! ضعوا أنفسكم في مكاني وخبروني ماذا تفعلون؟! هل لديكم علاج للعجز والفقر؟
ولم يتركني الرجلان المعجبان بفتاتي في راحة، فلم يزالا يحومان حولها، حتى بت أخافهما خوفي العجز والفقر، وأكرههما كرهي للشقاء الذي يضيق علي الخناق، مثل هذه الحياة ألذ ما فيها الهرب منها! لذلك تلمست السبيل إلى الحانة مهما كلفني الأمر من العناء. لم يعد شارع الألفي بك بالمرتاد المناسب لحالي، فلجأت إلى حوذي - مشيري في الدنيا بعد أمي - وطلبت إليه أن يحملني إلى حانة متواضعة، وساقني الرجل إلى سوق الخضر! وكان هو نفسه - كما أخبرني - يرتادها من آن لآن، وقال لي مدللا على حسن اختياره: الحانات الكبيرة مظاهر كاذبة لابتزاز الأموال، والخمر هي الخمر، وخيرها ما أسكر بأبخس الأثمان!
وأنصت إلى محاضرته في خجل أليم تجاوب صداه أسى عميقا في نفسي، فتهيأ لي حينا أنه يرثي نهايتي ويعزيني عما سلف من زماني. وغادرته متعجلا، وسرت صوب حانة صغيرة في مطلع ممر من الممرات المفضية إلى السوق. وساورني شعور محزن بأني أنحدر إلى الهاوية التي ابتلعت أبي من قبل، ولكن لم يكن هذا ولا غيره بمانعي من المقدور، وكانت الحانة صغيرة مربعة الشكل، بها موائد معدودات، تبدو رثة باهتة، نادلها يوناني عجوز أعمش، وروادها من الشعب الأدنى أو بعض الموظفين البائسين. ولكن الخمر هي الخمر كما قال الحوذي. ولا أنكر أني فرحت بمنظر القوارير على الرف الطويل، وسررت بها سرورا أنساني آلام الضعة التي شدني ضيق ذات اليد إليها. ورأيت أواني للخمر من نوع جديد هي الدوارق؛ فدورق الكونياك بعشرة قروش، وهو ثمن بخس أستطيع معه أن أعاود الحانة مرتين أو أكثر في الشهر. وشربت واستسلمت لشوارد الأحلام في لذة وشوق. وأمدتني المصادفة بزاد جديد للأحلام، فأقبل علي بائع نصيب ولوح لي ورقة وهو يهتف: «ألف جنيه»، فمددت يدي وتناولتها منه ونقدته ثمنها، ثم طويتها ودسستها في جيبي؛ زاد جديد للأحلام يضاهي نشوة الخمر. رباه! ماذا كانت تكون الدنيا بغير الأحلام؟! إني أملك ألف جنيه بلا شريك! الأرض ثابتة تحت قدمي لا يزعزعها الخوف والفقر، والدنيا تبتسم، ولسوف تقهقه ضاحكة إذا انتهى أبي! لا يجوز أن أتردد بعد اليوم، سأقابل الرجل الوقور والد حبيبتي وأقول له بصراحة: «إني أبتغي شرف مصاهرتك!» وأقدم له بطاقتي، ومن ذا الذي لا يعرف أسرة لاظ؟! أجل إن الوظيفة صغيرة؛ ولكني أملك ثروة لا بأس بها وسأرث ثروة أخرى، فلا يسع الرجل إلا أن يتقبلني قبولا حسنا. ورأيتني أزف وسط الشموع وعروسي تتهادى كالقمر. ولم أطق البقاء بعد أن أفرغت الدورق في جوفي فغادرت الحانة، وهمت في الطرق على وجهي متفرجا حالما، مسرورا بنفسي وبالدنيا. ولم أكن لأرجع إلى البيت حتى أفيق، ولكني وجدت نفسي أمام بيت الحبيبة وبالرأس بقية من نشوة، فلم أنعطف إلى المنيل. كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا، والطريق مقفرا، والظلمة شديدة شاملة، والصمت عميقا يكاد لعمقه أن يسمع دبيب الخواطر بالنفس. ووقفت على الطوار متطلعا إلى البيت النائم، واستقر بصري على نافذة مخدعها، وتسللت روحي خلالها فخلتني أحس تردد أنفاسها العطرة. إن إيماني بالروح لا حد له .. ألم تجذب رأسها نحوي فيما مضى؟ فيمكنها الآن أن تندس في أحلامها فتراني، بل وأن تسمعني إذا ناجيتها! وبادرتها قائلا: «إني أحبك يا حياتي، أحبك حبا هو من أعاجيب الكون كدوران الأفلاك سواء بسواء، ولشد ما أتمنى أن أقول لك: «أحبك» في يقظتي، ولكني لا أستطيع، إن الخجل أبكم يا حياتي، والفقر سجن شاهق الجدران، ولا حق لامرئ لا يملك من مرتبه إلا جنيها ونصفا أن يبوح بحبه لملاك كريم مثلك، ولكني أحبك بالرغم من هذا كله، ولا أطيق أن تعرضي عن حبي، وأكاد أجن حين أرى تطلع الرجلين الثقيلين إليك، فشجعيني يا حياتي، أشيري إلي، ابتسمي في وجهي، ما في ذلك من بأس ما دمت محبا صادقا كما لا بد تعلمين، وما دمت عاجزا ميئوسا منه كما لا بد تدركين .. آه!» وقفت طويلا دون أن تتحول عيناي عن النافذة الموصدة، فثقلت جفوني وداخلني إحساس خفيف بالدوران والتعب من مشقة المشي وخمار الشراب. ثم قرع سمعي وقع أقدام ثقيلة، فالتفت صوبها في توجس فرأيت شبح الشرطي مقبلا، فتحولت عن موقفي وحثثت خطاي.
27
ماذا يحول بيني وبينك؟ الفقر! هكذا كان الجواب، ولم أجاوزه إلى غيره من الأسباب؛ لأنه كان العائق الوحيد الذي لا أعد عنه مسئولا، أو هذا ما اعتقدته. كيف أحصل على المال إذن؟ وتفكرت مغتما، ثم مال بي الفكر إلى أبي! ذلك الذي تمنيت موته طويلا ولكن لم يغن عني التمني شيئا، فلماذا لا أزوره؟ .. لماذا لا أستوهبه المال الذي أريد؟ وبدا الخاطر غريبا لا يصدق، وخاصة بالقياس إلي أنا الذي أخافه أكثر من الجميع، ولم أؤمله قط؛ بيد أن الجزع كان بلغ مني منتهاه في تلك الأيام، وجرى الحب مني مجرى الدم، واشتد إحساسي بفوات العمر لدرجة تستحق الرثاء، فداخلني شعور بأنني إذا بلغت الثلاثين فقد انتهيت. أمضتني هذه المخاوف، وكانت النظرات الحلوة التي تجود علي بها الحبيبة توسعني في أثناء ذلك سعادة وتأنيبا صامتا. فلم أر بدا في النهاية من أن أفكر جديا في زيارة أبي.
وذهبت دون أن أعلن ما في ضميري لأمي، واهتديت إلى الحلمية مسترشدا بكمساري الترام، ولما بلغت شارع علي مبارك ذكرت لتوي الطريق الذي قطعته مع جدي منذ تسعة أعوام، وتراءى لعيني البيت الكبير ذو السور تلوح وراءه رءوس الأشجار الضخمة. ورأيت البواب العجوز جالسا أمام الباب وقد طعن في السن حتى صار هيكلا أسود. وخانتني شجاعتي إذ غدوت منه على بعد خطوتين، فلم أتوقف عن السير، وجاوزته، وقد تملكني شعور اليأس فحدثتني نفسي بالعودة من حيث أتيت. وما جدوى بذل محاولة فاشلة حتما؟! ولكني لم أمعن في الهرب، ولعل اليأس نفسه أمدني بقوة غير منتظرة، فرجعت إلى البواب مستشعرا عزما جديدا، مستنكرا الخور الذي يباعد بيني وبين بيت لي فيه حق غير منكور. حييت البواب فرد تحيتي جالسا، فقلت له بلهجة لم تخل من كبرياء: كامل رؤبة لاظ، خبر البك من فضلك!
Unknown page