فابتدرتني نازلي هانم قائلة: إن حالها لا تدعو للقلق مطلقا؛ بيد أن تعرضها للهواء أمر شديد الخطورة.
فقلت بحزم: سأدعو الطبيب بلا إبطاء.
فقالت الأم: لم يفتنا هذا، والطبيب نفسه الذي نصح بعدم تعريضها للهواء، ليس في الأمر خطورة البتة، وستعود إلى بيتها بعد أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر. وغلبت على أمري فجلست على كنبة وثيرة تتوسط الفراشين، بيد أن هدوء الأم الظاهر انتقل إلي رويدا، وجعلت الأم تقول: إن الإنفلونزا بسيطة في ذاتها؛ ولكن ينبغي أن نتقي نكستها.
فأصغيت إليها بغير وعي، على حين رنوت إلى محبوبتي بعيني وروحي، وتطلعت إلي رباب مبتسمة ابتسامة فاترة، يلوح في عينيها الإعياء وقد رانت على نظراتها العذبة اللامعة غشاوة. وساد الصمت حينا، ثم تذكرت جبر بك فجأة فسألت عنه، فأجابتني الأم بأنه في رحلة تفتيشية يعود منها في نهاية الأسبوع. ولما دقت الساعة منتصف الثانية عشرة استأذنت في الانصراف، وقبلت جبين زوجي، وغادرت البيت. •••
وفي صباح اليوم التالي تركت البيت قبل ميعاد خروجي المعتاد بثلث ساعة، وكانت «صباح» قد استأذنتني في زيارة رباب، فعهدنا بشئون البيت إلى نفيسة، ومضيت من توي إلى بيت جبر بك، فقابلت على السلم محمد وروحية، فسلمت عليهما وسألتهما عن رباب، فأجابتني الأخت الصغيرة بأنها بخير. ودخلت الشقة وذهبت إلى الحجرة فوجدتها في الفراش، والأم جالسة على الكنبة، وردت تحيتي برقة وابتسام، ولكني رأيت في عينيها ذبولا شديدا كأنها لم تنم ساعة واحدة في ليلتها الماضية، وساورني القلق واستحوذ علي الانقباض؛ ولكنني أخفيت ما قام بنفسي أن أخيفها، وقلت متعمدا الكذب: أراك أحسن حالا؟!
فقالت باستسلام أوجع قلبي: الحمد لله!
وجلست على طرف الكنبة قريبا منها، وثبت على وجهها عيني، كانت عاصبة وجهها بمنديل بني، يبدو وجهها تحته شديد الشحوب، وتلوح في عينيها الذابلتين نظرة ساهمة؛ فغشيت صدري كآبة، وضاقت بي الدنيا وبدا لي وجهها قبيحا كالحا، ولاحظت نازلي هانم كآبتي فقالت بدهشة: ألم تجرب وعكة البرد قبل اليوم؟ إنك تدللها يا سي كامل أكثر مما ينبغي!
وسرى عني قليلا بأن التي تستهين بالحال هي أمها، ولو كان بزوجي ما يدعو للقلق لما ملكت الأم نفسها. وملت نحو الفراش قليلا، ووضعت راحتي على خدها فوجدته ساخنا، ولكنها ابتسمت إلي وقالت: إذا كان بي تعب فالمسئول عنه أرق ألم بي الليلة الماضية، وسأسترد انتعاشي إذا ما نمت ولو ساعتين.
فقلت لها برجاء: حاولي أن تنامي مهما كلفك الأمر !
ونظرت في عينيها طويلا، فرنت إلي دقيقة ثم خفضت عينيها بلطف، ولم أجد بدا من الانصراف، فنهضت واعدا بالزيارة عقب عودتي من الديوان، وذهبت.
Unknown page