وعدت بعد ذلك إلى مخدعي فوجدت رباب مستلقية على المقعد الطويل، فلما رأتني ألصقت ساقيها بمسنده لتفسح لي مكانا فجلست متفكرا، كيف أخفت عني ذاك النزاع؟ هل أشفقت من إزعاجي؟ ولعلها لم تلحظ تغير حالي فراحت تقول لي إن اليوم الجمعة، وإنها تقترح علي أن نذهب معا إلى السينما، فتركتها تتحدث حتى انتهت فسألتها قائلا: كيف حال والدتك؟
فأجابتني بأنها على ما يرام، فنظرت إلى عينيها وتساءلت: هل مرت زيارة الأمس بسلام؟
فلاحت في عينيها نظرة ارتباك وقالت: ماذا تعني؟
فقلت بحزن وكآبة: رباب، لا تخفي عني شيئا. أعادت والدتك إلى ذاك الموضوع القديم؟
فلاذت بالصمت مليا وقد تجهم وجهها، ثم تساءلت بحدة: من أدراك بذلك؟ أريد أن أعرف كل شيء!
فأخبرتها بما قالت لي أمي، وكانت تصغي إلي باهتمام ثم انفجرت قائلة: أمك .. أمك .. ودائما أمك!
ووخزني الألم الذي يحز في نفسي كلما لاحت لي آي الكراهية المتبادلة بينهما، وقلت: لا داعي للغضب، لقد سمعت ما سمعت اتفاقا، ونقلته إلي بقصد حسن كما هو ظاهر. بالله لا تستسلمي للغضب، وخبريني هل عادت أمك إلى ذاك الموضوع القديم؟!
وسحبت ساقيها من ورائي، وألقتهما على الأرض، وأطرقت في تجهم وغيظ وقالت: الأمر الذي لم أشأ تعكير صفوك به أنها اقترحت علي أن أعرض نفسي على طبيب ليرى أسباب عدم الحمل، فرفضت اقتراحها بطبيعة الحال فتشاجرنا! وواصلنا الحديث البغيض مليا حتى طلبت إلي أن أمسك، وأن أقيل طلبا للراحة من تعب اليوم، فأذعنت لمشيئتها ومضيت إلى الفراش واستلقيت عليه محزونا مكتئبا. ومضى وقت ليس بالقصير قبل أن أغفو، ولا أدري كم غفوت، ولكني استيقظت على شيء أطار عن عيني النوم. وفتحت عيني في انزعاج، فسكت مسامعي ضوضاء آتية من الصالة، فأرهفت السمع، ولم ألبث أن أدركت أن رباب وأمي تتبادلان أقسى الكلمات في ضجة وصياح. وقفزت من الفراش في هلع ووثبت إلى الباب ثم مرقت منه إلى الصالة، فإذا برباب تصيح وقد تطاير الشرر من عينيها: هذا تجسس لا يليق بسيدة محترمة.
ووقع بصر أمي علي فخفضت بصرها وهي تقول: لا يسعني أن أجاريك في قلة أدبك!
وهتفت برباب قائلا: «رباب!» ولكنها تحامتني ورجعت إلى حجرتنا في غضب جنوني. ودارت أمي على عقبيها وسارت إلى حجرتها بخطوات ثقيلة، فاتجهت نحوها صامتا متألما. رأيتها تمسك بأكرة الباب ثم تقف دون أن تضغط عليها كأنها عدلت عن الدخول. ورأيتها تضع راحتها على جبينها، فخيل إلي أنها تنحني رويدا، وأسرعت نحوها، فما كدت ألمسها حتى سقطت على يدي فتلقيتها بهما في رعب وفزع، وناديتها فلم تجب، وتدلى رأسها وذراعاها، وصرخت مناديا صباح فجاءت تجري، فحملناها معا وأنمناها على فراشها. وجئت بزجاجة كولونيا ورششت منها على وجهها وعنقها، ودلكت بها أطرافها، وجعلت أناديها بصوت متهدج مبحوح دون توقف، وغشيها الإغماء دقائق مررن بي كالساعات، ثم فتحت جفنيها عن عينين غائمتين، فهتفت بها وأنا أزدرد ريقي: أماه!
Unknown page