كلا، لقد أسكرتني العاطفة. وكانت أنفاسها لا تزال تتردد على خدي، فمال رأسها نحوي حتى غاص فمي في شفتيها الرابيتين، وسرعان ما حولت رأسها عني إلى الطريق أمامها، فأحطت خاصرتها الغليظة بيسراي وانهلت على جانب عنقها تقبيلا. وانحرفت بالسيارة إلى جانب الطريق وهي تغمغم ضاحكة: «رويدك!» ثم أوقفتها وهي تقول: لنسترح هنا قليلا، فهذا مكان آمن.
وألقيت نظرة على الخارج فوجدتها اختارت موقفا وسيطا في المسافة بين مصباحين من مصابيح الطريق، تشمله الظلمة ويكتنفه الخلاء من الجانبين، وفيما عدا أزيز السيارات التي كانت تمر بنا مرور البرق كان الصمت عميقا محيطا، سألتها هامسا: أليس ثمة خطر؟
فقالت وهي تلف عنقي بيمناها: إنه آمن من بيتك؟
واستدارت في جلستها حتى مس منكبها المسند، وثنت ساقها اليمنى تحت فخذها اليسرى، فصرنا وجها لوجه، وانبرى لي صدرها العالي ينحسر عنه عنق الفستان، ومال وجهي نحو صدرها فتوسده في حنان وذهول، وأسكرتني رائحة جسم آدمي أشهى من العرف الذكي، وسكنت إليه ما طاب لي السكون ويدها تعبث بشعر رأسي، ثم رفعت إليها وجهي والتهمت شفتيها، والتهمت شفتي، وكأن كلينا يأكل صاحبه ويزدرده، وولى الخوف إذ لم يعد له مسوغ! وامتلأت حياة وجنونا وثقة لا حد لها، لا أدري كيف واتتني الثقة! كانت المرأة سيدة الموقف، فوجدت فيها المرشد الذي ضللته حياتي كلها، أعادت إلي الثقة والطمأنينة لأنها أخلتني من كل مسئولية وأخذتني بالهوادة والرفق، أدركت في تلك اللحظة - أكثر من أي وقت مضى - أن إلقاء أية تبعة علي خليق بأن يفقدني نفسي، وأنني لا أجد هذه النفس المتهافتة إلا بين يدين ثابتتين قويتين. ذابت الدنيا في نشوة جنونية ساحرة خرجت منها سكران بخمر الظفر والارتياح العميق. وشعرت من الأعماق رغبة إلى هذه المرأة ليست دون الرغبة إلى الحياة، بل هي الحياة نفسها والكرامة والرجولة والثقة والسعادة. افتر ثغري عن ابتسامة ظفر وسعادة، ورمقتها بنظرة امتنان لم تدرك عمقه وهيهات لها. إني بين يديها أتمرغ في التراب، ولكنه تراب طيب حنون يجود بالثقة والسعادة. وأدركت أخطاء الحياة الماضية، وذكرت زوجي المحبوبة في حزن وقنوط أوشكا أن يقصفا بعمر الساعة الساحرة، ولم أتردد عن تحميلها تبعة تعاستي كلها .. هكذا بدا لي الأمر. على أن قلبي هفا إليها حتى في تلك اللحظة وفي ذلك المكان! أما المرأة فقد ضربت أنفي بأنملتها وسألتني: مبسوط؟
فقلت من قلبي: جدا.
وأخذت يسراي بين راحتيها ورنت إلي طويلا ثم غمغمت: يا لك من طفل رائع!
فتضاحكت قائلا في حياء: طفل في الحلقة الثالثة!
ولاحت في عينيها نظرة جد واهتمام، وانتبهت إلى أصابعها وهي تتحسس خاتم الزواج، ثم ألقت عليه نظرة ذاهلة وهتفت بي: أأنت متزوج؟! لم يدر لي هذا بخلد؟!
واستحوذ علي الخوف ونظرت إليها صامتا. وعادت تقهقه ضاحكة ثم قالت: كيف لم يخطر لي هذا على بال؟! ولكن كيف أصدق هذا؟! رباه .. لماذا جريت ورائي؟ ... ألا تعجبك زوجك؟! يا لك من فاسق!
فخفقت عيناي في حيرة وارتباك ولم أنبس بكلمة، فسألتني باهتمام: ألا تحب زوجك؟
Unknown page