للكلام وجه ورائحة وصوت، يترقرق ماء الحياة في وجهه أكثر مما يترقرق في تلك الوجوه التي تراها العين، ولصوته أثر في النفس أشد وأوقع من الأصوات التي تسمعها الآذان، أما عبير رائحته فأشد تضوعا وانتشارا من أي رائحة أخرى تشمها الأنوف.
الكائنات قاطبة رهن الزوال وقيد الفناء، اللهم إلا الكلام الناضج الواصل حد الكمال، فإنه يبقى إلى ما شاء الله رافلا في حلل النضارة مكتسيا ثياب البهجة والشباب، مصانا من كل الأخطار والعاديات، لا تجرأ عواصف الأيام على تجعيد وجهه، ولا تجسر تقلبات الزمان على تغيير صوته أو الإقلال من عبير رائحته .
قد يأتي يوم تطوى فيه معالم الأهرام وتمحى رسومه فلا يبقى في مكانه حجر واحد يدل عليه، إلا أن الأهرام مع ذلك باق لا يزول وإن زال جسمه من هذا الوجود، إذ يبقى اسمه مرتسما على صفحات الأذهان يتجسم شخصه أمام الأنظار بأفخم وأبدع مما كان كلما تردد ذكره على اللسان.
وللكلام سلاح ماض يفعل في القلوب ما لا تفعله أشد المدمرات والمهلكات، وقد يكون كذلك سببا في خسارة كبرى لا يمكن لكل ثروات العالم تلافيها، إلا أنه رغم هذه المعايب والمثالب فهو البلسم الوحيد الشافي لجروح القلب، وهو ألطف النغمات وقعا في النفس؛ فكلمة «أحبك» تلك الكلمة العذبة التي ترتسم صورتها على شفاه جميع الناس إعلان ما يجول في صدورهم من عواطف الحب والهيام، بقيت - رغم السنين والأيام - الكلمة الساحرة الخالدة التي ترددها الأفواه على الدوام.
الفصل الثالث
لشد ما يصعب على الإنسان أن يعرف إنسانا آخر معرفة حقيقية! أما الذين يدعون أن ذلك في مقدورهم، فهم في غرور تام وجهل فاضح، ولعمري إن المرء ليس في استطاعته أن يلم تماما بما بين جوانحه من العواطف والمشاعر، فأنى له أن يدعي معرفة دخائل الغير ومكنوناته؟ ألا إن كل علم نهايته جهل، أما ادعاء معرفة الناس فهي عادة شائعة، ليس لها نصيب من الحقيقة.
ما الإنسانية إلا سر غطاؤه مكشوف حتى الأبد، وإلا فما شأن قانون النشوء والارتقاء، ذلك السر في فيضان العالم بالكائنات الحية؟ أليس هو عبارة عما يطرأ على كل المخلوقات من التبدل والتحول؟
إن التموجات المختلفة التي تنكسر على شاطئ القلب من حس وشعور وتأثر، لهي على الدوام تجاه ريح الحياة فتتبدل وتتغير تبعا لها كلما غيرت هذه وجهتها من الشمال إلى الجنوب، ولتلك الرياح والعواصف أثر بين على تركيب الإنسان وطراز معيشته أيضا، إذ تبدلهما كيفما تشاء من لون لآخر، من حيث لا يشعر الإنسان ولا يدري، أما القلب، مجمع تلك الإحساسات، فهو لغز أبدي لا يعرف كنهه في أي وقت من الأوقات سوى الخالق - عز وجل.
كثيرا ما صادفني في طريق الحياة علماء أجلاء، لا فرق بينهم وبين أدنى الجهلاء، ورأيت كذلك أخساء، أدهشت أعمالهم أهل المروءة والوفاء، وطالما رأيت خلقا يحسبهم الناس في السماء محلقين، وهم في الحقيقة على الأرض دارجين، وآخرين توهمت أنني على علم بحقيقتهم، فإذا بي أجهل الناس بأمرهم، وكم من الأغنياء الموسرين أصحاب الأموال الطائلة ضايقتني سفالة نفوسهم، وكم غيرهم من المعتبرين في نظر العالم الحائزين لثقة الناس بحسن استقامتهم وقويم أخلاقهم رأيتهم بعيني رأسي وهم أعوج الناس أخلاقا وأفسدهم سيرة، أما المشهورون بالعدل المشهود لهم بالأمانة والصدق فحدث عن ظلمهم واعتسافهم ولا حرج.
أردت أن أعرف دخيلة كل إنسان وأن أقف على خفايا كل أمر، فبحثت عن ذلك واجتهدت آناء الليل وأطراف النهار، ولكن عندما خرجت من غرفة الاختبار في مدرسة التجارب علمت - والأسف ملء جوانحي - بأنني لا أدي شيئا، اللهم إلا القليل التافه، ألخصه فيما يأتي:
Unknown page