86

وكانت سارة لا تعلم من شأن هند إلا أن هماما يعرفها ويكبرها ويزورها حينا بعد حين، فكانت تبرم بهذه الزيارات، ثم كانت تتوخى أن تغويه وتشغله في اليوم الذي يختاره لزيارة هند ... فيؤجل الموعد لأنه لم يكن في الحقيقة بموعد، ولأن البعد يمنع الاتصال بسارة وما عندها من سرور، ولكنه لا يمنع الاتصال بهند في ذلك اليوم، وفي كل يوم.

وراح همام ينسرق من نفسه وهو يدري تارة ولا يدري تارة أخرى، حتى ابتلعته اللجة وشغلته سارة عن كل شاغل، أو أصبحت على الأصح ممزوجة بكل شاغل، فبعد أن كانت في بداية التعارف بينهما واحدة من ألوف وملايين يشملهن عنوان النساء مفضلة إن حضرت، وتغيب فيغني عنها من حضر، عادت وهي الواحدة وحدها لا يغني عنها سواها، وعاد همام ينظر إلى النساء في الطرقات ويوشك أن يسأل جدا وصدقا: ما بال هؤلاء؟ ولماذا خلقن؟ ومن ذا الذي ينظر إليهن؟

لماذا أشك فيها؟

اثنان لا يشكان في المرأة التي يحبانها، وباب الشك فيها مغلق عندهما: شاب في مقتبل أيامه، مخدوع في أحلامه، مؤمن بقداسة الحبيبة على منوال عصور الفروسية يرتفع بها إلى سماء الطهر، ويكبرها أن تخون ويكبر نفسه في الحقيقة أن يخان، ويسمع منها أنها تمحضه الحب وتخلص له الولاء، فلا يدور بخلده أنه يسمع كلاما يحتمل الصدق والكذب، ويجوز فيه الغلو والتزويق، ويتعاهدان على دوام الصفاء بقية العمر كله فلا يخيل إليه أنهما يتعاهدان على مستحيل؛ لأنه يتمنى، ولا يفرق بين ما سيكون وبين ما يتمنى أن يكون.

والآخر رجل مطموس البصيرة مملوء الخياشيم بالغرور والدعوى، يؤتى إليه أنه حسب المرأة من أمنية ومطمع، فلا منصرف لها عنه، ولا معدى لها إلى غيره، وإلا فماذا عساها أن تبغي عند غيره؟ إنه رضى النساء من جمال واعتدال وقوة ومال، فإذا قنعت به فما هي بمظلومة، وإن تقنع به إنها إذن لظالمة!

حسن، ولكن ألا يحدث في الدنيا أن تكون المرأة ظالمة؟

كلا؛ لأن ذلك لا يسره! وكفى ألا يسره شيء من الأشياء حتى لا يكون ولا يجوز أن يكون!

ولم يكن همام بهذا ولا بذاك.

لم يكن شابا في مقتبل أيامه؛ لأنه جاوز الثلاثين وأوشك أن يصعد إلى الأربعين.

ولم يكن مخدوعا بهذا الضرب من الغرور؛ لأنه موكول إلى ضروب من غرور النفوس، مطبوع على أن لا يعلق قيمته في معارض الفخر والمباهاة على رأي إنسان من النساء، أو من الرجال.

Unknown page