81

وعرف همام أنها استكشفته وطبعته في صفحة المحاكاة عندها بعد فترة وجيزة، فجعلت تحكيه وتمثله في ضحكه وحديثه وتأمينه الصامت، واعتراضه بالإشارة، وردوده وهو مشغول، وردوده وهو حاضر القريحة، وتعقد أحيانا محادثة طويلة بينها وبين نفسها تتكلم فيها مرة بصوتها وأسلوبها ومرة بصوت همام وأسلوبه، فتجيد المحاكاة في اللهجة والتفكير إجادة لا يعيبها الفرق بين الصوتين والجسمين والهيئتين، بل يزيدها ملاحة على ملاحة.

وإنها لقد عرفت منه بزكانة المرأة في شهر واحد ما لم يعرفه أصدقاؤه وخلطاؤه في أعوام، فتقول له إن الزوبعة منك لا تخيف ولا تطول بمقدار ما يخيف الاستقرار الذي بطل فيه التردد وخلا من كل هياج وكل ثورة، وتقول له: إنني إذا أردت أن أهزمك لم أبرز لك بسلاح ولم ألبس لك شكة الحرب، فأقودك من أذنيك. •••

وما زالا يتكاشفان ويتكاشفان حتى علما أنهما مكشوفان لا يتواريان في جنة لا ينبت فيها ورق التين، فكان هذا التكاشف سببا ثانيا من أسباب هيام همام، وقلما ينحصر الهيام في سببين اثنين.

نعم، فقد كان لهيامه بها أسباب مختلفات، بعضها محدود واضح المعالم وبعضها مزيج من شتى أسباب لا تتضح لها حدود.

فمن تلك الأسباب الواضحة أنه كان يحس إحساسا شديدا أن توديع هذه العاطفة قد يرادف في معناه توديع الحياة.

لأنه تعلق بها وهو في العقد الرابع من عمره، فإذا انقطع ما بينه وبينها فمن بفتاة تخلفها في ذكائها ونضارتها وموافقتها؟ وإذا وجد الفتاة فمن له بالقلب الذي يلبي دواعي الصبا وينزع منازع الفتوة ويتقد ويخبو على حسب المشيئة، ويغامر اليوم في عاطفة مرجوة وقد كان بالأمس في عاطفة يائسة مضيعة؟

إن خبت هذه العاطفة فهي جذوة الغرام الأخيرة، عليه أن يذكيها ويرعاها كما كان الأقدمون يرعون الشعلة المقدسة مخافة أن تنطفي فلا يستعيدوها، قبل أن يحذقوا صناعة الزناد والثقاب. •••

ومن أسباب هيامه بها ألفة متغلغلة في أنحاء النفس والجسد كألفة المدمن للعقار المخدر، من شاء أن يسميها حبا فهو صادق، ومن شاء أن يسميها بغضا فهو صادق، ولمن شاء أن يزعم أن المدمن يتعاطى عقاره وهو راغب فيه، ولمن شاء أن يزعم أنه يتعاطاه وهو ساخط عليه فقصارى القول أنه يتعاطاه، وأن الإقلاع عنه يكلفه جهد الطاقة وغاية المشقة.

ومن الحق أن نذكر هنا أن الرجل يعشق الأنثى في مبدأ الأمر؛ لأنها امرأة بعينها؛ امرأة بصفاتها الشخصية وخلالها التي تتميز بها بين سائر النساء، ولكنه إذا أوغل في عشقها وانغمس فيه أحبها لأنها «المرأة» كلها أو المرأة التي تتمثل فيها الأنوثة بحذافيرها وتجتمع فيها صفات حواء وجميع بناتها، فهي تثير فيه كل ما تثيره الأنوثة من شعور الحياة، وأي شعور هو بعيد من نفس الإنسان في هذه الحالة؟ إن الأنوثة لتثير فيه شعور القوة، وشعور الجمال، وشعور الألم، وشعور الجموح والانطلاق من قيود المنطق والحكمة، وشعور الإنسان كله، وشعور الحيوان كله، بل تثير فيه حتى الشعور بما وراء الطبيعة من أسرار مرهوبة ومن أغوار لا يسبر مداها في النور والظلام؛ لأن المرأة حين تمثل الأنوثة هي مناط الخلق والتكوين، وأداة التوليد والدوام والخلود، وهي مظهر القوة التي بيديها كل شيء في الوجود وكل شيء في الإنسان. •••

وكذلك تجمعت أسباب الهيام من ألفة إلى متعة إلى تفاهم إلى اتفاق في أمور غيرها، حتى استحكمت أواصر الملازمة، وتلاحمت وشائج الفتنة، فلما أنشأ يحاسبها على حقوق الوفاء، ويتقاضاها أمانة الإخلاص، لم يكن ذلك غلوا منه في تنزيه العصمة الإنسانية، ولا غلوا في تنزيه عصمتها، ولكنه حاسبها ذلك الحساب لأنه حتم لا مندوحة له عنه، ولأن السكوت عنها كان أشق عليه من حسابها.

Unknown page