أهو أنت ...؟
موعد
الشكوك
علاج الشك
الرقابة
وكيف الرقابة؟
مضحكات الرقابة
القطيعة
من هي؟
وجوه
كيف عرفها
أيام
لماذا هام بها؟
حبان
لماذا أشك فيها؟
جلاء الحقيقة
أهو أنت ...؟
موعد
الشكوك
علاج الشك
الرقابة
وكيف الرقابة؟
مضحكات الرقابة
القطيعة
من هي؟
وجوه
كيف عرفها
أيام
لماذا هام بها؟
حبان
لماذا أشك فيها؟
جلاء الحقيقة
سارة
سارة
تأليف
عباس محمود العقاد
أهو أنت ...؟
مضت خمسة أشهر قبل أن يجرؤ على عبور ذلك الشارع مشيا على قدميه.
وليس الشارع مقفرا أو مخيفا؛ لأنه محاط بالعمار مزدحم في جوانبه بالسابلة والسكان.
وليس هو بالبعيد عن طريقه؛ لأنه يوشك أن يحتاج إليه في ذهابه وإيابه إلى حيث يقيم في ضاحية المدينة.
ولكنه كان شارعا يلتقيان فيه عند ذهابهما إلى دار الصور المتحركة، ثم يلتقيان فيه عند خروجهما منها.
وكانا يجلسان إذا دخلا تلك الدار في مكانين متجاورين، ولكنهما لا يدخلان إليها ولا يخرجان منها متجاورين، بل يرسل هو إلى نافذة التذاكر من يبتاع التذكرتين لكرسيين في مكان قلما يتغير، ثم يلقاها في ذلك الشارع، فتأخذ إحدى التذكرتين وتسبقه إلى الدار، ويظل هو بضع دقائق في بعض الأندية العامة، ثم يلحق بها إلى المكان المعروف.
وكان من عادتها أن تقارن بينها وبين بطلة الرواية إذا أحست منه إعجابا بها أو ثناء عليها، وتسأله في ذلك أسئلة ذكية خبيثة لا تسهل المغالطة في جوابها، إلا على سبيل المزاح والمداعبة.
سألته مرة وقد لمحت منه اهتماما بالروايات التي تظهر فيها إحدى الممثلات: إذا سمحت لك هذه الممثلة بقبلة ... أتقبلها منها؟
فعلم أن الجواب الجد عن هذا السؤال غير سليم العواقب، وعمد إلى العبث والمرواغة.
قال: وهل من الأدب أن أرفض قبلة تعرضها سيدة؟
قالت: دعنا من حديث الأدب فما عن هذا أسأل ... أنا أسألك عن دخيلة نفسك، أسألك عن رغبتك ... فهل ترحب بتلك القبلة إذا وجدتها؟
فعاد ثانية إلى العبث والمرواغة، وطفق يقول: أما إن كنت أمثل معها على الستار الأبيض فأنت تعلمين أن القبلة لا غنى عنها ... تلك واجبات الفن يا صديقتي، ولا تتم الفنون إلا ببعض التضحية!
قالت: أوتضحية هي؟
قال: نعم، كل قبلة غير قبلة المرأة التي يحبها الرجل هي تضحية، بل هي - إن شئت - سخرة!
فرضيت وهي تعلم أنه يغالط ويراوغ في الجواب، وأحبت أن تشعر أنه لا يقبل تلك الممثلة الجميلة إذا أتيح له تقبيلها ... وهي تعلم أنه لا يقول صدقا ولا يعمد إلى الصراحة! ... وقالت وهي تضحك: لقد نجوت! إن قبلة تتمناها لهي خيانة في الضمير، ولا فرق بين خيانة الضمير وخيانة الواقع إلا التنفيذ.
وإذا خرجا للرياضة بعد الفراغ من الصور المتحركة فكثيرا ما كانت تمد يدها إلى مفكرته في جيبه فتكتب فيها كلمة تناسب رواية الليلة، أو تناسب الرياضة التي خرجا لها إن كانت مناسبة ملحوظة.
فكتبت مرة وقد شهدا رواية المرأة المترجلة: «هل أعجبتك رواية المرأة المترجلة؟ أما أنا فسأكون لك امرأتك فقط.»
وكتبت مرة أخرى وقد شهدا رواية المرأة المحتالة: «أرجو ألا ترى المرأة المحتالة إلا في السينما، أما في الحياة فحسبك المخلصة ... فلانة.»
وربما مضت سنة أو سنتان على مشاهدة الرواية وهي تذكر كل كلمة قالها في التعليق عليها أو في انتقادها، فاتفق يوما أنهما حضرا الصور المتحركة في إحدى الضواحي الصيفية، حيث تعرض المشاهد القديمة بعد سنة أو سنتين من عرضها في المسارح الكبيرة، وشهدا هناك رواية هزلية عن صياد فاشل يستعيض من فشله في الصيد بالمبالغة في الوصف والحكاية، فكان يرفع البندقية ويطلق الطلقة الواحدة في اتجاه واحد فيقع الطير على يمينه وشماله من جميع الجوانب، ويظل يتساقط من هنا وهناك إلى ما بعد إطلاق البندقية بلحظة غير قصيرة.
فقال لها: أليس الأحسن والأبرع أن يسقط هذا الطير مشويا على الأطباق؟
فضحكت طويلا وقالت: أتذكر؟ إنك قلت هذه الكلمة بعينها عندما شهدنا هذه الرواية في البلد للمرة الأولى!
ولا يندر أن يسمع منها أثناء التمثيل كلمات سريعة وتعليقات مبتدرة تكشف بها - على غير قصد منها - عن أعمق أعماق المرأة، وتهزأ فيها بالرياء الأنثوي الذي يبدو في خجل المرأة وامتناعها.
من ذلك أنهما شهدا رواية من روايات الثورات يبدو فيها طريد جريح مهدد الحياة بجراحه، ومهدد الحياة بمطاردة أعدائه، وقد لاذ بأحد البيوت فأكرمه أهل البيت وكتموا أمره، وتعهدته بالعلاج فتاة فيما دون العشرين من العمر سليمة القلب وسيمة الطلعة ممشوقة القوام، فمالت إليه شفقة ثم مالت إليه حبا، ثم تمالك نفسه بعد طول العلاج، حتى انفردا في بعض الجلسات فبلغ من سرورها به وسروره بها أن نظر إليها ونظرت إليه، وعيونهما تومض بالمحبة، ثم اعتنقا في قبلة طويلة جارفة ...
وكان بين المتفرجين على مقربة منهما سيدة نصف في نحو الأربعين، وفتيات ناهدات في مثل سن الفتاة، فصاحت السيدة: انظرن إلى الخائن! ... إنه خدعها!
فمالت صاحبتنا وهمست ساخرة ... أتقول خدعها؟ إنه كافأها أحسن مكافأة يستطيعها! •••
وهكذا كانت دار الصور المتحركة عندهما شيئا أكثر من ملهى الفراغ وموعد اللقاء، كانت محور حياتهما الغرامية، وهل كانت لهما من حياة في ذلك الحين غير الحياة الغرامية؟ وكانت ملتقى الذكريات ووسيلة التقارب والتفاهم فيما يشعران به وما يلاحظانه من أحوال المحبين والمحبات، وكانت ذخيرة من المناظر التي يقترن كل منظر منها بكلمة، أو بخاطرة، أو بمناقشة، أو بأمنية يملكان تحقيقها، أو بأمنية يكتفيان منها بالحلم والخيال.
فلما وقعت الجفوة بينهما وانقطع طريقهما إلى تلك الدار كانت كل خطوة في تلك الطريق كأنما تثقل النفس بآكام فوق آكام من الذكريات والآلام، وكانت كل زاوية من الزوايا كأنما تخفي فيها رصدا من الشياطين الثائرة والعقبان الكاسرة، وكان اجتناب تلك الطريق أسلم الأمور وأهون المحذورات.
ثم مضت الأشهر وخيل إلى صاحبنا أنه لم يعد يخشى أو يذكر، فاجترأ على العبور بالطريق مرة بعد مرة، وعبر بها ثلاث مرات أو أربعا على الأكثر، وكانت الرابعة هي التي فوجئ بها هذه المفاجأة التي لم تكن في الحسبان.
إنه لم ير صاحبته بعد اللقاء الأخير في أثناء تلك الأشهر الموحشة؛ لأنه اجتنب الأماكن التي عساه أن يراها فيها، ولزم بيته في معظم الأيام وقد علم أنه ما من مرتاد أو متنزه يقصد إليه إلا وهو خليق أن يعاوده ببعض الذكريات، إن لم يعاوده ببعض ما يسوءه أن يراه.
فلما عبر الشارع المهجور تلك الليلة مطرقا كعادته حين يسير على غير قصد إلى مكان معلوم، سمع من جانبه صوتا يناديه، صوتا يعرفه بين ألف صوت، بل بين جميع ما خلق الله من الأصوات والأصداء، صوتها هي بعينها يهتف به: أهو أنت؟
أهو أنت؟ سمع هاتين الكلمتين فأحس لهما صدى كانفغار الهاوية تحت السفينة في البحر اللجي من أثر عاصفة أو زلزال، وقبل أن يجيب على السؤال الذي لا يحتاج إلى جواب، وفي أقل من رجع الصدى، بل في أقل من اللمحة الخاطفة التي انقضت بين ارتفاع رأسه إليها والتقاء نظره بنظرها، هجم على نفسه طوفان من الدوافع والهواجس التي لا يوجد لها اسم في اللغات الإنسانية؛ لأن اللغات الإنسانية لا تستطيع أن تضع اسما لألوف من النقائض والمفاجآت التي يجتمع فيها الرعب والسرور والشوق والنفور والهيام والاشمئزاز، وتريد فيها النفس أن تقف، وتريد فيها القدم أن تسير، بل تريد فيها النفس أن تقف؛ لأنها لا تقوى على أن تريد.
ولو أنه رآها عند أول الطريق قبل أن يفاجئه من صوتها ذلك الهاتف الطارئ، لعله كان يعرف ما هو مقبل عليه ويستعيد في نفسه شيئا من ذلك العزم الذي أعانه على القطيعة، وأمده بدواعي الإصرار عليها، كلما جنح إلى اللين والإغضاء والمغالطة.
ولكنه أخذ على حين غرة.
فوقف هنيهة لا يدري ما يقول.
ووقفت هي أيضا لا تدري ما تقول، وكأنما ندمت على الكلمة لأنها لم تسمع لها جوابا سريعا، ولم تزل تخشى ما يجيء به ذلك الجواب، فأومأت إلى مركبة قريبة واقفة بين مركبات كثيرة، وإذا بهما يسيران معا إلى تلك المركبة، فتجلس فيها ويجلس هو إلى جانبها وهي تقول: هذا خير من أن يرانا الناس مشدوهين كالصنمين.
والواقع أن الناس التفتوا فعلا وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويتهامسون.
فقال لها: صدقت ... هو خير!
ثم صاح الحوذي: إلى أين يا بك؟
فلما لم يسمع ردا من «البك» عاد يسأل: إلى أين يا سيدتي؟
فهمست صاحبتنا: ألا تقول للحوذي إلى أين؟
فأجابها وهو يوجه خطابه للحوذي: إلى حيث تشاء!
وكأنما ندمت مرة أخرى على الركوب، وعلى اللقاء، وعلى السؤال؛ لأنها كانت تنتظر من صاحبها لهفة على مكان من أماكن الرياضة المعهودة التي ألفا أن يترددا عليها ... فجلست صامتة.
وجلس كذلك صامتا.
وطال الصمت ... لا لأنه كان يريده، أو لأنه كان يأبى الكلام، ولكن لأنه كان يفتش عن كل كلام في الدنيا فإذا هو يهرب ... أو يستعصي ولا ينقاد.
كان الكلام الذي يريده هو التواعد إلى غد حيث يلتقيان في المنزل، وحيث يقولان ويعيدان ويتأهبان للعذر ويتأهبان للملام.
ولكن هذا هو بعينه الكلام الذي كان لا يريده.
يمنعه أن يفوه به مانع الكبرياء، ومانع الخوف من تجديد ما فات، ومانع الشك فيمن تصاحب وفيما تضمر وفيما عسى أن تلقى به كلامه في دخيلة نفسها من الزراية والاستخفاف.
وطال الصمت، وقالت وكأنما تناجي نفسها: يحسن بنا أن نقف هنا للنزول.
واعترف هو في طوية ضميره أنه لا يريد أن تنزل قبل أن يقول لها شيئا أو يسمع منها شيئا.
واعترفت هي في طوية نفسها أنها لا تريد أن تنجز تهديدها ولا تريد أن تبرزه في صورة التهديد؛ لأنها تعلم أن جواب صاحبها الوحيد على التهديد هو التحدي ... أو هو تركها تنزل وحدها، وإن كان يود استبقاءها في الحقيقة.
ولعلها أخطأت في حسابها هذه المرة؛ فإن صاحبها بعد أن جلس إلى جانبها، وبعد أن أحس حرارة جسمها، وبعد أن لمس بضاضة معاطفها، وبعد أن تلقى أنفاسها على صفحة خده وهي تميل إليه تنتظر كلامه، وبعد أن غاص في تلك الغيبوبة التي استنام إليها كما يستنيم الساهر البعيد العهد بالنوم إلى أول ضجعة على الفراش، وبعد أن أصبح هو وعزيمته شيئين منعزلين بينهما من البعد ما لا ينجح فيه دعاء ولا استحضار ... بعد هذا كله لعلها كانت لا تخاطر كثيرا إذا هددته بالنزول من المركبة واقتضاب ذلك الصمت العقيم.
ولكنها لم تهدد ولم تنزل ... بل صاحت غاضبة: ما بالك لا تنطق؟ أمعقود اللسان وأنت لك لسان كالثعبان؟
وربما أحب أن ينفي عنه تهمة الاضطراب والحصر والضيق بالكلام في مفاجأة اللقاء.
فقال لها وهو يتلعثم: أين كنت؟
قالت: في السينما.
قال من حيث لا يشعر بمعنى ما يقول: مع من؟
فأجفلت مقطبة وأجابته بلهجة فاترة ولكنها مفعمة بالتهكم والتأنيب: أولا أذهب إلى السينما إلا مع أحد؟ ألا تزال في ضلالك القديم؟
قال: وماذا بدا لي من الهدى الجديد فأعدل عن الضلال القديم؟ ولماذا صرفت كلامي إلى ما فهمت؟ ألا يجوز أن تذهبي إلى السينما مع سيدة؟ فلماذا تستغربين السؤال؟
قالت: لأنك غريب في هذه الليلة، ماذا أقول؟ لأنك غريب في كل حين.
ثم اقتضبت على غير انتظار وهي تشيح بوجهها وتهمس بصوت مسموع: هذا شرح يطول، ونحن نهيم في الشوارع على غير مقصد، فأولى بنا أن نرجئ الحديث إلى وقت آخر، ألا ألقاك غدا في المنزل؟ ... غدا في الساعة الخامسة، أسمعت؟
قالت ذلك وهي تستوقف الحوذي وتهم بالنزول عند محطة الترام.
وإنها لتنزل من المركبة إذ تعمدت أن تدنو بوجهها من وجهه وتزم شفتيها وتغمض جفونها قليلا وهي تنظر إليه أو تنظر إلى غير وجهة.
فقبلها كأنه أداة كهربائية ديس على مفتاحها وشعر بالندم وشفتاه لا تزالان على شفتيها، ولكنه شعر به وشعر بنفسه في تلك اللحظة غريقا بعيدا كما يشعر بالجسد الغريق الهامد يراه في أعماق الأوقيانوس الهدار، وقال وهو أيضا نادم: غدا في المنزل.
قالت: في الساعة الخامسة موعدنا القديم.
وافترقا على موعد اللقاء.
موعد
فارقته على موعد اللقاء في الساعة الخامسة «موعدنا القديم».
وكأنما كانت كلمة الموعد «القديم» وحدها طلسما ساحرا نقله من حالة إلى حالة، وأخرجه من الحذر والتردد إلى الراحة والاستبشار ... فاحتجبت عنه صفحة الشكوك والآلام والمنغصات، ولم ير أمامه إلا «الموعد القديم» بل «المواعيد القديمة» في كل يوم، وما كانت تحتويه من سرور ومتعة وصفاء، وذكريات لا تزال مرتسمة في الذهن، سارية في الجوارح كأنها وظيفة من وظائف الأعضاء.
وانطلق من المركبة خفيف الخطى موفور النشاط يكاد لا يعرف أحدا، ويكاد لا يعرفه من كان يراه قبل ذلك بساعة أو أقل من ساعة.
وأول ما خطر له أن يدخل في ذلك المساء دار «الصور المتحركة» التي كانا يلتقيان فيها معظم الأوقات، كأنها باب كان موصدا أمامه ففتح على مصراعيه، أو فاكهة ممنوعة رفع عنها المنع والحرمان.
ومن عجائب العاطفة الإنسانية أنها أبدا مولعة بالمراسم والشعائر، فلا تستولي على النفس حتى ترسم لها «طقوسا» وعادات تذكر الإنسان بطقوس العقائد والعبادات.
فلما خطر له أن يقصد إلى دار «الصور المتحركة» أو إلى ذلك «الحرم» الذي كان ممنوعا حتى ذلك المساء، لم يكتف بتذكرة واحدة، بل طلب له تذكرتين اثنتين، وهو لا ينوي أن يصطحب أحدا، ولو جاءه أحد يصطحبه لفر منه كما يفر المرء من غريم.
وقضى الوقت الباقي إلى الساعة التاسعة في قلق واشتياق كأن موعد التمثيل هو موعد اللقاء المنظور.
ثم بدأ عرض الصور وهو يزعم لنفسه أنه يشهد الرواية ويتتبع الممثلين والممثلات، وليس في خلده من ذلك شيء إلا كما يرى الناعس المهموم ما حوله من الأشباح، أو يسمع ما حوله من الأصداء ... كل ما يثبت في خلده منها أنها أشباح وأنها أصداء!
ثم جاءت فترة الاستراحة فإذا بالفتى الذي يبيع هناك بعض الحلوى والمرطبات مقبل عليه في دهشة واستفهام يسأله: أكنت مسافرا يا بك؟
وقبل أن يسمع الجواب أسرع فقال: إن السيدة كانت هنا في حفلة الغروب.
وإذا بصاحبنا يسأله وهو لا يقصد السؤال، ولو فكر في سؤاله قبل أن يلفظ به لكتمه وأخفاه: أكانت وحدها؟
وخيل إليه أنه يلاحظ في نظرات البائع ولهجته تلميحا خبيثا يقول له ما لا يريد أن يعرفه، ولا يريد أن يجهله في الوقت نفسه، فسلبته تلك الملاحظة كل طمأنينة إلى ما سيقوله البائع من خبر مقبول أو خبر مرفوض، وود لو أنه يسكت فلا يجيب بشيء.
ولكن البائع لم يزد على أن هز رأسه وقال: لا أدري ... كانت إلى جانبها سيدة ... ولعلها كانت معها.
فاندفع من صاحبنا سؤال آخر كما اندفع السؤال الأول وهو يغالط نفسه، ويحسب أنه يتهكم أو يريد من البائع أن يحسبه متهكما غير جاد في مطاولة الحديث: جانبها؟ أي جانب؟ إن للإنسان جانبين لا جانبا واحدا كما تعلم.
وهنا ظهر من البائع الخبيث أنه فهم كل ما هنالك من الشك والاستطلاع، فقد عودته صناعته أمثال هذه المواقف وأمثال هذه الأسئلة وأمثال هذه الشكوك، فلم يفته أن «البك» يستطلع ويرتاب ... ومن يدري؟ فلعله كان يرى بعينه ما يدله على أن البك جدير بالاستطلاع والارتياب.
فتمهل قليلا وقال: «كان إلى جانبها الآخر هذا الممر ...» وأشار بيده إلى أحد الممرات التي بين الصفوف.
فارتفع كابوس ثقيل عن صدر صاحبنا، وأحب أن يعتقد أن كلام البائع خليق أن يزيل من نفسه جميع الشكوك، لا مجرد الشك الذي خامره عن زيارة السيدة لدار الصور المتحركة في ذلك اليوم.
إلا أنها طمأنينة عاجلة لم تلبث أن ذهبت كما جاءت في طرفة عين، وإذا بصاحبنا يناجي نفسه ذلك النجاء الذي كان غائبا عن خاطره منذ فترة وجيزة، يا عجبا! إني لأجتنب هذه الدار كأنها تجمع شياطين الأرض كلها في حيز واحد، وهي تزورها ولا ترى فيما كان بيننا من القطيعة موجبا لاجتنابها ... لو كان قلبها خاليا من هوى آخر لما استطاعت ذلك، ولفعلت كما كنت أفعل أنا إلى هذا المساء ... والأغلب الأرجح أن هذا البائع يعلم من خفية الأمر أكثر مما يبوح به أو يريد أن يبوح، ألا ترى إلى غمزات عينيه وحركات وجهه ونغمات كلامه؟ فماذا على المنحوس لو أفضى بما عنده وأراحنا من هذا العناء؟
وعاد صاحبنا يتساءل في ضميره: ما عنده؟ أهكذا جزمت سريعا بأن «عنده» سرا وأنه يستطيع أن يبوح بأكثر مما قال؟ ألا يجوز أنه لم يعرف سرا على الإطلاق، وأن ما حسبته غمزات ونغمات مريبة في صوته إنما هي عادة هذه الطبقة عندما تتحدث لرجل عن امرأة، أو عندما تتحدث في كل شأن بين رجال ونساء؟ - يجوز. - لا يجوز.
وهكذا انطلقت في مخيلة صاحبنا أوهام وأشباح لا عداد لها في تلك الساعة القصيرة، ولا يقاس عليها كل ما شهدته تلك الدار من الأوهام والأشباح ومن المبكيات والمضحكات.
ولم ينقذه مما استغرق فيه إلا انتهاء التمثيل وزحام الخروج ولقاء بعض الأصحاب وسهرة كثرت فيها الشواغل وطال الحديث.
ونام تلك الليلة على أثر انفضاض السهرة وكان يقدر أنه لن ينام.
ولكنه لو قضى الليل كله ساهرا لما عمل في اليقظة إلا الذي عمله وهو نائم، حلم وتفكير وهواجس وخيالات تضطرب وتصطخب ويتبع بعضها بعضا، ولا تميل إلى جانب الرضا لحظة حتى تعود إلى جانب الوسواس والمنغصات.
ثم استيقظ في الصباح وهو يسأل نفسه كأنما يسأل مخلوقا غريبا يجهل ما عنده من نية وشعور: أتنوي أن تنتظرها في الموعد؟
فما هو إلا أن وضح السؤال في خاطره حتى شعر بأنه سؤال غريب يدل على ما وراءه، وحتى بدت الدهشة من أن تكون هناك نية معقولة غير الانتظار.
وهنا دارت في سريرة هذا الرجل - هذا الرجل الواحد - مناقشة عنيفة طويلة كأعنف ما تدور المناقشة بين رجلين مختلفين، كلاهما مصر على عزمه، وكلاهما يحاول جهده أن يخدع الآخر ويستميله إلى رأيه، وكلاهما يبذل كل ما هو قادر عليه في هذا الحوار من أساليب الإقناع والإغراء والرياء والتصريح: كيف لا تنتظرها؟ أتعطي سيدة موعدا ولا تنتظرها فيه؟ أهذا يليق برجل؟ - ولكنها ليست سيدة كسائر السيدات، ولا زائرة من زائرات المجالس العامة اللواتي تقع بيننا وبينهن هذه التكاليف ... إن هذه المجاملات أو هذه القيود لا حساب لها في العلاقات التي انطلقت من جميع القيود. - ولكن مم عساك أن تخاف؟ انتظرها وقل لها أنك لا تريد أن تراها بعد هذا الموعد. - عجبا ... أتجهل ما أخافه؟ أتجهل تلك الآلام التي لا حيلة فيها لمخلوق ولا تزال تبتدئ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبتدئ؛ لأنها تبتدئ وتنتهي من الشكوك، وليس للشكوك قرار حاسم، ولا مقطع بيقين؟
أتجهل تلك الأشباح اللئيمة التي تطل عليك في أطيب أوقاتك فتنغص عليك كل لذة وتكدر عليك كل صفاء؟ - لكن علام كل هذه الشكوك التي ليس لها من أول ولا آخر؟ ... اصرفها عنك مرة واحدة وافرض أسوأ الفروض، وقدر أنها تخونك وأنك تلهو بها في ساعات فراغك، ولا يعنيك من شأنها بعد ذلك إخلاص ولا خداع. - أأنت مخلص فيما تقول؟ وكيف تنقلب هذه المرأة التي كانت كل نساء الأرض عندي، وكل ما يخفق له قلبي، فتصبح بين مساء وصباح وهي لهو ساعة ومتعة فراغ؟ أهذا خداع يجوز على إنسان؟ أوتضمن إذا أنا اتخذتها لهوا ومتاعا ألا يتمكن اللهو ويطيب المتاع، وأننا لا ننكفئ بعد أيام أو بعد أسابيع إلى استغراقنا القديم وشكوكنا القديمة وعذابنا الأليم؟ لا لا، هذا محال باطل، واستدراج لا يستر ما وراءه وتزوير لا أرضاه. - لكن الفتاة مليحة مع ذاك ... تصور بضاضتها وهي جالسة إلى جانبك في المركبة، وأنفاسها وهي تهب على خدك فتسري في جميع أوصالك، وقبلتها وهي ترتعش على شفتيك، وحلاوتها وقد زادها النحول في هذه الأشهر حلاوة على حلاوة، ونحولها نفسه وما ينبئ عنه ويكشفه لك من المودة والحنين، وتصور ذلك كله بين يديك في مدى بضع ساعات وأنت مع هذا تفكر ... تفكر في ماذا؟ في نبذ هذه النعمة التي تسعى إليك، وفي الخوف والجبن والفرار. - هذا حق كله، إن الفتاة لمليحة ولا نكران ... ولكن! - ولكن ماذا يا أخي ...؟ انتظرها واله بها ولا تدعها لغيرك ينال منها ما لا تنال ... ولا تستضعف عزيمتك هذا الاستضعاف المهين وأنت رجل ذو عزيمة ومضاء ... فإذا عاودتك الشكوك فأنت قادر على قطع العلاقة بينك وبينها كما قطعتها من قبل، وإلا فأنت رابح ما استرجعت من متعة وسرور. - عزيمتي؟ وأين هي عزيمتي إن كانت لا تنجدني في هذا النزاع العنيف؟ - إنها تنجدك في كل حين ولكنك أنت لا تريدها الآن ... لا تريد عزيمة الجفاء والقطيعة، ومتى أردتها غدا فهي حاضرة لديك، وهي في كل ساعة طوع يديك ... ومع هذا ألا يشوقك أن تستمع إلى حديثها عن أيام القطيعة بينكما؟ ألا يجوز أن تفسر لك بعض الغوامض، وتريك من البواطن ما ينقض الظواهر وتصف لك من حالها في غيابها عنك ما يهمك ولو من باب الدراسة والاستقصاء؟
وتعاقبت الساعات ساعة بعد ساعة في هذا الحوار الحثيث ولا قرار.
وتناول صاحبنا غداءه ولا قرار.
وجاءت الساعة الرابعة ولا قرار.
نعم، لا قرار فيما يشعر به صاحبنا أو صاحبانا المتحاوران على أصح التعبيرين، غير أن الذي حدث بعد ذلك يدل دلالة لا شك فيها على أن الإنسان يقرر ما ينويه وهو لا يشعر ولا يعترف بشعوره، بل يدل على أن صاحبينا المتحاورين لم ينفردا بالميدان فيما شجر بينهما من عراك عنيف، وإنما كان معهما ثالث لا يدريان به وهما ماضيان في الإقناع والإنكار.
ففي الساعة الرابعة وبضع دقائق - والحوار على أشده بغير قرار - وجد صاحبنا أنه يلبس ملابس الخروج ويفتح باب حجرته وينحدر على الدرج إلى حيث لا يعلم إلا أنه خارج من المنزل وكفى، ومضى في طريقه مهرولا كمن يمضي إلى غاية معلومة يخشى أن يفوته لحاقها، وركب سيارة لم يعرف إلى أين تحمله إلا بعد أن استقر فيها، واستطاع أن يمكث حيث ذهب ساعات ثلاثا لا ساعة واحدة ولا نصف ساعة كما كان يتمنى وهو يعالج أن ينجو من الموعد المحدود.
ثم ساوره القلق ودلف إلى منزله بالسرعة التي فارقه بها، واستحالت كل حيرته قبل الخروج إلى حيرة أخرى، أو شوق آخر، وهو أن يعرف ما حدث في غيابه بجميع تفصيلاته، هل حضرت في الساعة الخامسة؟ أو حضرت قبلها أو بعدها؟ وماذا قالت حين علمت بخروجه؟ وما بدا على وجهها وهي تصدم بهذه «المقابلة»؟ وإذا كانت لم تحضر فما الذي عاقها عن موعدها؟ ولماذا ضربت ذلك الموعد باختيارها؟ هل ضربته وهي تنوي أن تخلفه من اللحظة الأولى، أو طرأ الحائل بعد ذلك على الرغم منها؟
وأنه ليفتح الباب بالمفتاح الذي في جيبه ولا ينتظر أن يدق الجرس كعادته في الأوقات الأخرى، إذا بالخادم يصادفه وراء الباب، وهو يظن - بل يرجو - أن يخبره على الفور أن سيدة حضرت في غيبته ولا تزال في انتظاره، ويغلو به هذا الوهم حتى يعجل بالالتفات إلى حجرة الاستقبال ليلقى السيدة التي تنتظره فيها.
ولم تمض في ذلك إلا لمحة خاطفة والخادم شاخص لا ينبس بحركة ولا يلوح عليه أنه يحمل خبرا من الأخبار يستحق أن يقال، ويساوي تلك اللهفة التي تعتلج في صدر صاحبنا.
فأسرع صاحبنا سائلا: ألم تحضر إلى هنا السيدة؟ ألم تقل شيئا؟
فقال الخادم في فتور غريب: لا أعلم!
فانفجر صاحبنا غاضبا: كيف لا تعلم؟ ألم تكن هنا؟ هل هي أوصتك بأن تقول ذلك؟
قال الخادم وفي صوته احتجاج من يستغرب ولا يفقه معنى هذا الاتهام: يا سيدي قلت لا أعلم؛ لأنك نزلت من هنا وأنا نزلت وراءك حسب المعتاد في سائر الأيام.
فاشتعل صاحبنا غيظا، وهم أن ينقض عليه لولا أن هرب الرجل من أمامه فتبعه إلى باب الخدم، وهو يعلنه بالطرد وألا يعود ليريه وجهه مرة أخرى، ولم يصفح عنه إلا بعد ثلاثة أيام، وبعد أن شفع له أن الرجل معذور؛ لأنه لم يأمره بالبقاء في المنزل، وقد أنساه أن يأمره بالبقاء فيه ما كان مشغولا به من حوار.
الشكوك
من النادر جدا أن يتواعد محبان على اللقاء بعد فراق طويل ثم لا يسرعان إلى موعد اللقاء بلهفة شديدة واشتياق عظيم، إن لم يكن حبا أو حنينا أو رغبة في المتعة والسرور، فعلى الأقل من قبيل الفضول والاستطلاع والرغبة الملحة عند كل منهما في الوقوف على أخبار صاحبه وأحواله في الغياب الطويل: هل أحبت غيره؟ وهل أحب غيرها؟ وهل سلت؟ وهل سلا؟ وبماذا يشعران في الحب الجديد؟ أو ماذا بقي عندهما من الحب القديم؟ وماذا تقول له حين تخلو به؟ وماذا يبدر من كلامه حين يخلو بها؟ وأشباه ذلك من الأسئلة التي يلقيها كلاهما على نفسه ويحسب أنه في أشد الحاجة إلى الوقوف على جوابها، فربما كان هذا الفضول من أقوى مظاهر الحب، ومن أوثق روابط الاتصال بين كثير من الناس؛ محبين كانوا أو غير محبين.
فإذا حدث غير ذلك واجتهد أحد العاشقين أو كلاهما في اجتناب الموعد المنتظر بعد طول العزلة والجفاء، فلا بد أن يكون بينهما شبح قائم من الآلام والأكدار يغطي على جميع المشوقات والمرغبات، ويعكس الفضول والاستطلاع؛ فيستحيل إلى صمم ونفور، ويصبح كل شيء أهون من تجديد تلك الحالة المكروهة والعودة إلى ذلك الشبح المرهوب.
وهكذا كانت الشكوك التي تمثلت لصاحبنا؛ فانساق بغير وعي ولا إرادة إلى اجتناب الموعد، والفرار من المنزل، والهزء بكل إغراء وتشويق ينبعث في أعماق حسه من شيطان ذلك الشغف القديم.
كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا، ولا يزال ينطبق وينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها، فينفرج وينفرج وينفرج حتى يتسع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعة واحدة، حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف، بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.
وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذبا عنيفا بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين، ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة، ولا إلى الاتهام ... بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب، حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب، وهكذا إلى غير نهاية وإلى غير راحة ولا استقرار.
وضاعف هذه الحالة ذكاؤها من ناحية، وطبيعة ذهنه وتفكيره من ناحية أخرى؛ فهي من الذكاء بحيث لا تقدم على عمل واحد أو حركة واحدة لا يختلف فيها وجهان، ولا تقبل التضليل والنكران، وهو في تفكيره وطبيعة ذهنه يخلق الاحتمالات الكثيرة، فلا يجوز عنده احتمال راجح إلا جاز عنده في اللحظة نفسها احتمال راجح في قوته ووزنه وجوازه، ولا يدفع هذا أو ذاك إلا بدافع حاسم لا تردد فيه.
ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حالة الأب المستريب الذي يشك أفجع الشك في وليد منسوب إليه: هل هو ابنه أو هو ابن غيره؟ ومن هو ذلك الطفل الصغير الذي يتقاضاه حقوق البنوة على الآباء؟ هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أو هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار؟ هل هو مخدوع في عطفه عليه، أو هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منهما، وكلاهما لا يطاق.
بذلك كان يشبه حيرته وهو يحاول الاستمتاع بعاطفته التي هو مستغرق فيها، ويحاول في اللحظة بعينها أن يبترها وينساها ولا يعود إليها، ثم لا يدري في أي المحاولتين هو مصيب، ولا بد أن يدري، وهيهات لا سبيل إلى الدراية بحال!
وإذا كان بعض الشكوك في العشق من وساوس الأوهام، فمما لا نزاع فيه أن العاشق أصدق الناس في شكوكه حينما يبنيها على أسباب صحيحة وحقائق ملموسة؛ لأنه يعرف صاحبته معرفة لا يخفى معها عارض من عوارض التغير، ولا لمحة من لمحات العين، ولا همسة من همسات الضمير: يعرف نظراتها ويعرف كلماتها، ويعرف ما تقوله عن سجية وما تقوله بتكلف واصطناع، ويعرف أن بعض الخشونة أدل على الحب والإخلاص من بعض المجاملة، ويعرف نفسها وكيف تستتر فيها الخفايا، ويعرف جسدها وكيف تختلج فيه النوازع والشهوات.
وقد يسأله من يسأله كيف خامرتك الشكوك؟ فيضحك من نفسه أن يجيبه بما يلوح له أو يطلعه على بعض تلك الأسباب، وقد يؤثر في معظم الأحيان أن يكتمها ويموهها على أن يفضي بها إلى إنسان كائنا ما كان.
وبعد، فهل الغدر في الحب مستحيل؟
كلا، ليس هو بمستحيل ولا مما يقارب المستحيل، وليس صاحبنا بالذي يصدق ولا صاحبتنا بالتي تصدقه وتدعيه.
لقد اعترفت له بعلاقتين سابقتين: إحداهما متينة مستحكمة طويلة، والأخرى هوجاء حامية سريعة، وإحداهما مع كهل يقارب الأربعين، والأخرى مع فتى في نحو الخامسة والعشرين، وإحداهما صيدت فيها ولكن على غير كره منها، والأخرى كانت هي فيها الصائدة، وهي التي نصبت الشباك، فوقع الصيد على عجل وأسرع الحراس الحانقون فأطاروه!
اعترفت له بما كانت تحتال به من الحيل البارعة لتلقى عشيقها الأول، وبما كانت تعمي به على من حولها حتى لا يرتابوا في أمرها، وإذا استرابوا لم يجدوا عليها ما يثبت الريبة ويقطع اللسان.
واعترفت له بالردود المفحمة التي تدبرها لترغم المتهمين على السكوت.
واعترفت له بما تخجل منه المرأة المعتزة بجمالها ومكانتها، فقالت له إنها لم تكن على يقين من حب عاشقها الأول، ولم تكن تبالي أن يحبها اكتفاء بعلمها أنها هي تحبه، وذهبت في امتهان كرامتها - وهي مغرورة بفتنتها وامتيازها - إلى حد من الخضوع لا يحمد إلا في التدين والإيمان، فقالت إنها لمحت منه مرة أنه يطيل النظر في مجلسها إلى امرأة أخرى من صديقاتها ... فخطر لها أن تناجي نفسها سائلة: هل يجسر على أن يطلب منها الوساطة بينه وبين تلك المرأة في التقريب والتمهيد؟! ... قالت: «فراعني هذا السؤال، ولكني، عدت فشعرت أني سأفرح بأن أسره، وإن جاء سروره من هذا الطريق المهين!»
ثم انقطعت هذه العلاقة على الرغم منها وعلى الرغم منه، وتمادت بها الوحدة وهي في دهشة مخيفة، فجعلت تلتفت إلى شاب وسيم من الجيران، ثم تمعن في الالتفات إليه حتى أصبح انتظاره وهو عائد إلى منزله في الهزيع الأخير من الليل شغلا لها شاغلا في اليقظة والمنام، وأخذت تحاسبه في طويتها على هذه السهرات وتتخيل مع من تكون وكيف تكون ...! ويزيدها ذلك لجاجة في الولع ولجاجة في الانتظار، ولم يلبث هذا الالتفات منها أن أدى إلى الالتفات منه ثم إلى التحية ثم إلى لقاء جنوني في المنزل الذي يحيطها فيه الآل والأقربون، وكانت هذه المغامرة العجيبة هي العلاج الباتر لذلك الجنون العجيب!
وراح صاحبنا يذكر كيف اجتمع بها أول مرة، ويذكر ما تحدثت به إليه في أول خلوة، لم يطل بهما الجلوس يومئذ حتى استأذنت في الانصراف؛ لأنها ذاهبة إلى موعد مع صديق، وأرته خطابا من ذلك الصديق يقول لها فيه إنه يشتري في ذلك اليوم سيارة ويحب أن يستأنس برأيها وبذوقها في اختيار اللون والطراز، فأذن لها صاحبنا وهو يقول مازحا: «هذا موعد يرشحك لصناعة مفيدة ... فلا تهمليه ...»
قالت له في أول لقاء بعدها: «لشد ما كنت أترقب منك أن تستبقني وتؤخرني عن ذلك الموعد، ولو قلت لي: لا تذهبي! لما ذهبت ... ولو مزقت الخطاب أو خطفته من يدي لجزيتك على صنيعك أحسن الجزاء!»
وكانت تحب الضحك وتفطن إلى الفكاهة وتضحك أحيانا حتى تشرق عيناها الواسعتان بالدموع، ولكن صاحبنا لا يذكر أنها ضحكت يوما كما ضحكت أمامه وهي تمثل الصديق صاحب السيارة، وتروي ما جرى بينها وبينه حين اجترأ أول مرة على اقتراح خطير، بعد تمهيد وتحضير، وحذر وتحذير.
وما هو الاقتراح الخطير؟
قبلة ...!
نعم، قبلة، وأكدت الكلمة وهي تروي الحكاية مرتين.
قالت: إنه كان ينتظرني في طريق الزمالك، فلمحت أول ما وقع نظري عليه أنه مهموم قلق يخفي على أطراف شفتيه نية من النيات، وكان ذلك بعد أن التقينا عدة مرات وانفردنا في الخلوات ساعات، فلم يعسر علي أن أستشف تلك النية، وراقني أن أستدرجه إلى الإفصاح عنها لأرى كيف يتدرج في الكلام، فأضجرني كثيرا قبل أن يستجمع في قلبه القدرة على أن يقول: يا فلانة!
قلت: نعم يا فلان.
قال: إن لي أمنية أحب أن أفاتحك فيها، وأرجو ألا ترفضيها ولا تسيئي تأويلها.
قلت: إنني أحب أن أرى أمانيك كلها تتحقق، ولا سيما الأماني التي فيها لك الخير والنجاح.
قال: أشكرك ... لكن هذه الأمنية في يديك أنت؟
قلت كالمستغربة: في يدي أنا؟ ما علمت قبل الآن أنني رئيسة عليك، ولا أنني قادرة على نفعك وتوفير ما تتمناه!
فأحجم قليلا، وخشيت أن يعدل عن مجرى حديثه فعدت أقول: ومع هذا أسمع منك هذه الأمنية فلعلي أشير عليك بما يفيد.
وبعد جهد جهيد صرح وهو يستغفر ويتلعثم بأنه يتمنى على الله أن أسمح له بقبلة!
فسكت هنيهة لا أدري هل أضحك أم أتغاضب، وظن أنني أتجهم وأقطب وأنني أهم أن ألومه وأخاطبه بما يسوءه، فأسرع إلى الاعتذار، وأسرعت أنا إلى الكلام لئلا أضحك، قائلة: أوهذا يحسن بك يا فلان؟ لكأني بك غدا تتمادى إلى أكثر من ذاك ...
فصاح كمن مسته نار: أنا؟ أتظنين يا فلانة أنني من هؤلاء؟ معاذ الله يا فلانة! معاذ الله! •••
لم ينس صاحبنا كيف كانت تضحك وهي تحكي له هذه الحكاية، واستدل من ضحكها أكثر مما استدل من كلامها على مبلغ استخفافها بما يسمونه الصداقة بين النساء والرجال، فما الذي يمنعه أن يصدق أنها تستخف بالوفاء وتمضي مع أيسر الأهواء؟
لا، بل هي قد اعترفت له بما هو أدعى إلى الشك والريبة من جميع ما تقدم ... فقد غضب منها وغضبت منه قبل الغضبة الأخيرة مرات عديدات، بعضها يعقبه الصلح في يومها وبعضها يتجاوز الأيام وقد يتجاوز الأسابيع، ففي إحدى المرات افترقا بعد عراك عنيف بالغ في العنف والتهجم فوق ما تعودا من عراك وصدام، وسافر إلى مصيفه وسافرت إلى مصيفها، ولا مطمع لهما في لقاء، وبلغ من يقينه بالفراق الفاصل أنه عاد من سفره وهو لا يترقب منها سلاما ولو سلام المجاملة والتكليف، ولكنه بعد أيام قليلة تلقى غلافا فيه صور شمسية تمثلها إلى جانب بعض المشاهد الخارجية التي يرحل إليها المصطافون والسائحون، ومضت أيام معدودات وإذا بجرس التليفون يدق، وإذا بالمتكلم ذلك الصوت الذي لا يلتبس عليه بين ألوف الأصوات: الحمد لله على السلامة! - سلمك الله وعافاك! - هل لي أن ألقاك اليوم؟ - نعم، تفضلي! - أتفضل؟ لا، لست أتفضل، ولكني أزورك لألتمس الغفران ... هل في وسعك أن تمثل دور الكاهن في الديانة المسيحية؟
قال: أخشى أن يكون دورك إذن هو دور الخاطئة؟
قالت: هو ذاك، فإلى اللقاء ... فالتليفون لا يتسع لمثل هذا الحديث.
لم يشعر ذلك اليوم وهو ينتظرها بخداع ولا باستغفال ولا احتقار ، ولكنه شعر بخسارة وأسف، وانتظرها كما ينتظر الطبيب مريضا يلجأ إليه، واستقبلها عاطفا عليها متطلعا إلى ما وراء حديثها مستعدا للتسامح في الإصغاء إليها، فدخلت وهي تقول في غير احتجاز ولا امتناع: لا قبلات ولا تحيات حتى تعرف قصتي وأعرف رأيك. «اسمع يا فلان، إنني لا أؤمن بصداقة المرأة للمرأة ولا عزاء لي في معاشرة الصديقات المزعومات على الإطلاق، فإن لم يكن إلى جانبي رجل أهابه وأحبه وأعتمد على سنده فأنا في وحشة الهالكين، وأنا ضعيفة ضعيفة ضعيفة لا طاقة لي على دفع الغواية، وقد افترقنا يائسين ليس لك حق عندي وليس لي حق عندك، وأنا لا أحاسبك على شطحاتك في مصيفك إن كانت لك شطحات، ولكني أسمح لك أن تحاسبني على الصغيرة والكبيرة وأبوح لك بأنني زللت في المصيف وانغمست في صلة غرامية ليس فيها غرام في الحقيقة، ولم أحضر إليك اليوم، بل لم أرسل إليك الصور إلا وقد قطعت تلك الصلة وهيأت نفسي لاستئناف مودتنا القديمة، هأنذا الساعة بين يديك فماذا أنت قائل؟ هل تقبلني؟»
فاستزادها من خبر تلك الصلة التي لا غرام فيها كما تقول، واسترسلت هي في تفصيلات لم تستر فيها سرا ولم تصبغ فيها أمرا بغير لونه، ولم تقف دون معرة أو نقيصة كأنها تفرغ قلبها بين يدي الكاهن على حسب «إنذارها» في حديث التليفون.
قال بعد أن أصغى إليها في صمت وإبهام: إنني يا فلانة لا أملك أن أجيبك هذه الليلة، إن أنا قبلتك فلست آمن أن أندم، وإن أنا رفضتك فلست آمن كذلك أن أندم، ولكن دعيني بضعة أيام ريثما أروض سريرتي على عزم وثيق وأخبرك بما صحت نيتي عليه، غير خائف من عواقب العجلة.
وما انقضت تلك الأيام حتى استقبلها صافحا، وسألها أن تذكر أبدا أنه قد يفهم عذرها من الضعف، ولن يفهم لها عذرا من الختل والخداع، وحمد لها صراحتها، ولكنه في الواقع لم يسلم من الاحتراس والتوجس منذ تلك الساعة، ولم يزل على تفاهم دخيل بينه وبين طواياه أنه لا يأوي إلى حصن حصين، وأنه مع ذلك هو حصنه الذي لا بد أن يأوي إليه!
فلما ساورته شبهات الشك توالت أمامه الدلائل من فلتات اللسان وشوارد الخواطر وعلامات الزينة والحلي والملابس، وما إلى ذلك من علامات هي لمن يعهدها أثبت من البراهين وأصدق من الشهود، ورانت السآمة على كل لقاء، وتغلغلت اللواعج والأشجان في كل فراق، وغلبت الأكدار على كل صفاء وكل رجاء، ولم يبق إلا أن يقبلها على أن يستغرق هو في حبها، ويسمح لها هي أن تفرغ لغيره وهذا مستحيل، أو يقبلها على أن يلهو بها وتلهو به وهذا أيضا مستحيل، أو يسوم نفسه قطيعتها، وهذا ما قد عول عليه، وظن أنه استطاعه وقدر عليه خمسة أشهر.
وأنه لفي حسبانه هذا يوشك أن يودع القلق والأسر ويقبل على الطمأنينة والحرية، إذا به يهاجم في الصميم، وإذا بالظواهر والبواطن كلها تضمن له وهي تتدفق عليه أنه عائد لا محالة إلى ما ودع من شقاء وألم، وليس بين تلك الظواهر والبواطن كلها ما يضمن له أقل ضمان أن يعود إلى ما ودع من ثقة ونعيم، فماذا عساه أن يصنع؟ لا تسل فكره ولا تسل قلبه ولا تسل ضميره، بل سل كل وشيجة من وشائج لحمه ودمه وأعصابه التي عزمت عزمها بغير اكتراث لفكره أو لقلبه أو لضميره، واستقلت بإرادتها وهي لا تترجم عن تلك الإرادة إلا بالعمل الواقع دون التفكير ودون التعليل ودون التفسير، فطلبت النجاة بالبداهة المرتجلة وحملت الجسد الذي هي قوامه إلى خارج المنزل وهي لا تعي ولا تفقه إلى أين تسير، ولا لوم على من يطلب النجاة، فإنما هكذا تطلب النجاة!
علاج الشك
مواجهة الحقيقة من أصعب المصاعب في هذه الدنيا.
أولا:
لأننا في الغالب لا نعرف ما هي الحقيقة.
وثانيا:
لأننا في الغالب لا نحب أن نعرفها إلا مضطرين، حين نيأس من قدرتنا على جهلها ونشك ثم نشك ثم نرى آخر الأمر أن الشك أصعب وأقسى من مواجهة الحقيقة والصبر عليها.
وثالثا:
لأننا إذا عرفناه ففي الغالب - أيضا - أنها تكلفنا تغيير عادة من العادات، وليس أصعب على النفس من تغيير ما اعتادت ... فالموت نفسه لا صعوبة فيه لولا أنه يغير ما تعودناه، وفراق الموتى لا يحزننا لولا أنه تغيير عادة أو عادات كثيرة.
وقد كانت الحقيقة أنهما - أي صاحبنا وصاحبتنا - قد تغيرا كثيرا بعد أن مضت على صحبتهما برهة من الزمن، ولكنهما لبثا برهة أخرى من الزمن وهما لا يريدان أن يعترفا بهذا التغيير.
تغيرا فلا سرور لهما في اللقاء، وقد كان اللقاء عندهما أكبر سرور يشعر به الإنسان.
ولكنهما لم يزالا يتلاقيان. •••
تغيرا واشتد بهما التغيير، وهما لا يجسران على مواجهة الحقيقة ... فلو سأل نفسه هل يريد اللقاء حقا أو يريد الفراق لما استطاع الجواب، أو لقال في نفس واحد أنه يريد اللقاء ويريد الفراق.
ولو سألت هي نفسها هذا السؤال لكان جوابها أنها لا تعلم لماذا تحضر في الموعد كل يوم، ولماذا لا تفضل الانقطاع عن الحضور.
هو لم يجزم بخيانتها كل الجزم؛ فلماذا يتركها؟ ... ولكنه لا يسر بلقائها؛ فلماذا يلقاها؟
وهي لم تيأس من صلاح شأنه معها، أو لعلها لم تيأس من قدرتها على خداعه، ويعز عليها أن تتهم نفسها بهذا العجز وهي تفخر بذكائها؛ فلماذا تفقد الثقة بحيلتها وبراعتها واقتدراها؟ ولماذا لا تجرب كياستها مرة بعد مرة حتى تنجح أو يستوي لديها الفشل والنجاح؟
وهكذا ظلا أشهرا عديدة يمثلان سعادتهما الأولى، ويخرجان من مسرح التمثيل كل يوم راضيين أو ساخطين، وخير ما وصلا إليه في تلك الفترة الطويلة أن يظفرا بالتصفيق من المتفرجين ... وهما وحدهما المتفرجان والممثلان!
وكلما حان موعد اللقاء ذهبا إليه كما يذهب الممثل إلى حضور تجربة جديدة بعد أن فشلت تجربته السابقة، ولا بد له من الذهاب، ولا سرور له في القعود والإحجام والتسليم بينه وبين ضميره أن الذهاب لا يفيد.
لقد كانا يحضران إلى الموعد بحكم العادة التي لم يجسرا بعد على تغييرها؛ لأنهما كانا يخافان من التفكير في التغيير، ويخافان من التفكير في ذلك الخواء الموحش الذي يستولي عليهما لا محالة بعد ذلك التغيير.
فهما يحضران لأنهما خائفان من الغياب، لا لأنهما راغبان في الحضور.
أما قبل ذلك فما أبعد الفرق وما أهول الاختلاف وما أحب اللقاء بعد طول الانتظار! وإن أطول أمد لهذا الانتظار ما كان ليزيد على يوم واحد، أو بعض يوم في بعض الأوقات.
كانت الساعة الخامسة كأنها علامة موسومة في مدار الفلك بالشهب والكواكب والهالات، وكان صاحبنا يتعجل الوقت قبل حلولها بربع ساعة فيلتزم مكانه وراء النافذة لينظر من ثقوبها إلى منعطف الطريق حيث يلوح القادم أول ما يقبل على الدار، وكثيرا ما كانت الغيوم تكفهر والغيوث تنهمر والهواء يعصف باردا قارسا في صبارة الشتاء، وصاحبنا واقف وراء النافذة قبل الموعد بربع ساعة يوشك وهو وجل منقبض الصدر غائم الخاطر أن ييأس من وصول صاحبتنا في موعدها، ولها العذر كل العذر إذا هي تأخرت ساعات أو عدلت عن الخروج طوال ذلك اليوم، ولا يزال في مرقبه نهبا لهذا الوسواس لمحة بعد لمحة، كأن الزمن قد استحال إلى أجزاء تعد بالملايين وملايين الملايين لا بستين دقيقة في الساعة وستين ثانية في الدقيقة! وكلما تقدم جزء من هذه الملايين تضاعف الوجل وتفاقم الحذر واختلجت الهواجس المثيرة كما تختلج الذرات في قارورة يرجها الشلال الدافق أعنف ارتجاج، وبعد مليون جزء من أجزاء الزمن تقترب الساعة الخامسة فإذا هي الساعة الخامسة إلا عشر دقائق! وبعد مليون آخر ثم مليون ثم مليون تقترب ثم تقترب فإذا هي الساعة الخامسة والدقيقة الثانية ... والويل له إذا تجاوزت هذا الحد ولو إلى دقائق معدودات؛ لأن الدقائق المعدودات لا بد أن تترجم في لغة الانتظار والهواجس بالملايين بعد الملايين التي لا يجمعها الحصر والإحصاء، وأنه ليطيل النظر إلى الطريق حتى يعتريه شبه غيبوبة لا يحقق الناظر فيها ما يراه تحت عينيه، فما رآها مرة بعد هذا الانتظار تهل من مطلع الطريق إلا كما يرجع إلى النائم صحوه، أو كما يرجع إلى المذهول رشاده، وتتقدم وهي تتهادى في خطواتها التي كأنما تتهيأ كل خطوة منها لعناق مشوق، وينفتح الباب وينقسم العالم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما في الذهن ولا في الخيال: قسم فيه كل شيء، وقسم ليس فيه من شيء ... أو قسم موجود، وقسم لا وجود له، والبيت هو القسم العامر الزاخر الحافل الوهاج، والدنيا هي القسم المهجور الذي تتسع قاراته وبحاره ومن فيها وما فيها من السكان لأوسع من مكانها في خرائط الأطفال.
والذي يحدث في الشتاء قد كان يحدث مثله في الصيف أيام السموم والحرور، فلا تأخير ولا اعتذار، ولا سلامة مع ذلك من قلق الانتظار، حتى يحين الموعد ويستقر القرار.
في تلك الأيام كانت كل هنيهة لها شعورها المحبوب المتجدد البهيج: إذا انفتح الباب للقاء فذلك شعور القائد الذي يفتح باب حصنه ليتلقى نجدة الأمان والاطمئنان إلى زمن طويل، وليطرد المخاوف من وراء ذلك الباب إلى مهرب سحيق، وإذا انفتح الباب للوداع فذلك شعور الشارب الذي استوفى نصيبه من العقار وبقي له نصيبه من النشوة والتذكار، ونصيبه من الشوق في الغد إلى مثل هذا اللقاء ومثل هذا الوداع ومثل هذا الانتظار، وبين لقاء كل يوم ووداعه ألف لقاء ووداع، وألف انتقال من حال إلى حال، وألف سكينة وألف ابتدار.
تلك أيام!
ثم جاءت بعدها أيام.
وشتان أيام وأيام.
نعم شتان حقيقة وتمثيل ... وأي تمثيل؟! تمثيل اللاعب الذي يساق إلى دوره سوقا لأنه يخشى الفشل لا لأنه يأمل النجاح.
واستمرت المواعيد، واستمر اللقاء، واستمرت السآمة، واستمر الشقاق، واستمرت مع كل ذلك محاولات عقيمة مستميتة أن يعود ما لا سبيل إلى أن يعود.
وكانت هي تقلد نفسها في أيام الصفاء فتمد يدها إلى جيبه بعد عاصفة من اللوم الجارح والملاحاة الموجعة كما كانت تمدها إلى جيبه بعد ساعات الرضى والدلال لتخرج منه المفكرة المعهودة وتكتب فيها أسطرا أو كلمات تسجل بها ما كان في ذلك اليوم، فكتبت يوما بعد مقابلة لم يسمع فيها إلا جدال ومحال أو سكوت هو أثقل من الجدال والمحال: «نزهة رسمية في عربة، ثم مناقشة جدية، ثم مصافحة وتقبيل، ولا عجب في ذلك ... فإن الحب يسهر!»
نعم، يسهر من الأرق لا من العناية!
وسهر الحب إلى اليوم التالي فالتقيا وتراضيا وتناولت هي المفكرة وكتبت فيها خمس كلمات: «سامحت من غير سبب، أحبك.»
ولكنها كانت آخر ما كتبت في مفكرة ذلك العام، وفيما بعده من أعوام.
ومن الناس من يستطيب أمثال هذه المقابلات ولو لم يكن فيها إلا تمثيل ناجح أو تمثيل فاشل، وصاحبنا خليق أن يكون واحدا من هؤلاء الناس لو اقتصر الأمر على الفتور والتكلف والمناقشة والملال، ولكن الشيء الذي لا يطاق هو أن تشك ثم لا تستطيع أن تصل إلى الحقيقة، ولا أن تكف عن الشك ولا أن تستقر عليه، فإنها حالة لا يطاق لها دوام ولا بد لها من انتهاء.
فكيف هذا الانتهاء؟
أول ما اتفقا عليه أن يتفاهما على الفراق أسبوعا أو أسبوعين ريثما يعرفان كيف يكون صبرهما على هذا الفراق القصير، ويعرفان من ثم كيف يكون صبرهما على الفراق الحاسم الذي لا لقاء بعده، فإن هان عليهما بعد هذه المحاولة أن ينفصلا بسلام فلينفصلا إذن بغير ندم ولا خصام، وإن عزت عليهما القطيعة فعسى أن يكون الاشتياق إلى اللقاء فاتحة الرغبة الصادقة من جديد، وعسى أن يفهم كلاهما من مكان صاحبه عنده ما ينهاه عن مطاوعة الهواجس ومجاراة الشكوك.
وقد استفادا من هذه المحاولة العسيرة فائدة لا يحتقرانها بعد طول السآمة وطول النزاع، فإن اللهفة الصادقة التي طغت عليهما يوم عادا إلى اللقاء قد عادت بهما إلى حنين شبيه بالحنين بالقديم، ونعما في ذلك اليوم بمتعة هنيئة لم ينعما بها منذ عهد طويل.
ولما شيعها إلى الباب وهو يقول إلى اللقاء في الغد، قالت: لا ... إن اللقاء بعد يومين أو ثلاثة أمتع وأشهى ... وسأخبرك أو تخبرني عن الموعد متى طلبناه ... ولا نتفق عليه الآن!
واستحسن منها هذا التسويف كما كان من قبل يستحسن منها نشاطها في تعجيل المواعيد، وود في خلده لو يتأجل اللقاء خمسة أيام أو ستة لا يوما أو يومين ، ففي ذلك فطام للهوى وشحذ للشوق والرغبة، وامتحان لقوى النفس يسبر غورها ويلذ فيه حب الاستطلاع.
إلا أنها محاولة قصيرة لم يكتب لها العمر المديد.
فما هو إلا موعد أو موعدان حتى أحس كما يحس كل رجل يفهم طباع المرأة التي يهواها أنها لم تحافظ على وفائها ولم تعصم جسدها أيام الغياب، وأنها أصبحت ترحب بالتسويف؛ لأنها تريده وتستريح إليه ... ورجع إلى ذاكرته يفتش لعله يذكر هل هي التي اقترحت في بادئ الأمر أن يعالج الشك بالتسويف والمباعدة بين المواعيد أو هو الذي بدأ بالاقتراح، فتذكر أنها كانت تحوم حول الاقتراح وتوحيه إليه وتهتم بأن توقع في ذهنه أنه هو صاحبه وموحيه ... فقال لها متهكما: أرى أن الحل الأخير الذي اهتدينا إليه يرضي أكثر من اثنين!
قالت: ماذا تعني؟
قال: أعني أنه ربما أرضى ثلاثة بدلا من اثنين، وربما أربعة ... من يدري؟
قالت متهكمة: وربما خمسة أو ستة ... زيادة خير ... ولماذا تكره الرضى لعباد الله؟!
وتلا هذه المحاورة منظر من مناظر المسابقة في الإيلام والتبكيت والغضب والإغضاب، قال فيه وقالت، وتمادى فيه وتمادت، وباح فيه وباحت، وخرجت من المنزل حانقة لا تودع ولا تسلم ولا تعد بلقاء مؤجل ولا بلقاء سريع. •••
وانقضت مدة لا يسمع منها ولا تسمع منه، ولا يسعى إليها ولا تسعى إليه، ونازعته أهواؤه مرات في أثناء هذه المدة أن يراها وأن يتحدث إليها فنفر أشد نفور وكظم هذه الرغبة بجهد أليم، وبينما هو يحسب نفسه غاضبا نافرا إذا به يتحول رويدا رويدا إلى مشفق حزين، وإذا بإشفاقه الحزين أقرب إلى إشفاق الأبوة الرحيمة منه إلى إشفاق الغرام اللجوج، وإذا به في ساعة من الساعات يكتب إليها في الخطاب:
أيتها الصديقة:
أيا كان رأيي فيك أو رأيك في فلا ضير في إرسال هذه الكلمة إليك، ولا خسارة علي إن ضاعت عندك أو صادفت نصيبا من الإصغاء ... إن مسحة من الألم ألمحها على وجهك تخيل إلي أنني أخاطبك منك مستمعا، وأن موضعا حيا في ضميرك لا يزال مفتوحا لهذا الخطاب.
لا حاجة إلى البحث في تفاصيل حياتك القديم منها أو الجديد، فحسبي ما سمعته من لسانك، وحسبي أنك تعترفين لي أنا بعلاقات ماضية مع أكثر من رجل واحد، وفي هذا كفاية وفوق الكفاية!
فلو قيل لي إنني سأسمع هذا الخبر من إنسان لما خطر لي قط أنني أسمعه منك أنت باختيارك، ولو جاز أن تبوحي به لكل أذن لكانت أذني هي الأذن الوحيدة التي يجمل بك أن تكتمي السر عنها؛ لأنني أنا الرجل الوحيد الذي يرى لك كرامة غير كرامة جسدك، ويحب أن يعرف لك قيمة أكبر من هذه القيمة.
ومع هذا بأي بساطة كنت تتحدثين عن علاقاتك بالرجال وخلوتهم بك هنا وهناك! ... لكأنما كنت تفخرين ... أو كأنما كنت تشفقين من كتمان هذا الحظ السعيد ... فيا صديقتي لشد ما ضللك الشقاء حتى جهلت ما تعرفه المرأة بالفطرة بغير حاجة إلى تعليم وتلقين، وحتى نسيت أن المرأة تستطيع أن تكون لهذا ولذاك، ولكنها لا تستطيع أن تفخر بشيء لم تعجز عنه امرأة بين النساء، فهل أصدق حقا أنك تلك المرأة التي لم يبق لها إلا هذا الفخر المخجل الأليم؟ وهل أنت حقا تلك المرأة التي تجد سعادتها في هذا المجال؟!
أظن - وأرجو أن يكون ظني صحيحا - أنك تخدعين نفسك يا صديقتي الخادعة المخدوعة.
لست أنت التي تشعر بالسعادة في هذه العيشة الأسيفة.
غيرك من النساء تنعم بها وتستطيبها، ولكن شقاءك أنت بها لا يعدله شقاء.
انظري إلى وجهك في المرآة، انظري إلى ألم ضميرك الذي يبكيك كثيرا ولا ريب في ساعات الوحدة والانفراد.
ثم اسألي نفسك: ما نهاية كل هذا وما العاقبة وما المصير؟ لو بقيت على هذه الحالة سنة واحدة لفقدت جمالك في عنفوان شبابك، وفقدت كل ثقتك واحترامك لشعور الأنوثة الذي لا سعادة لامرأة بغيره. وماذا في الحياة بعد فقد الثقة وفقد احترام الشعور؟ أنت في تلك الحالة بين اثنتين: إما أن تألفي العيشة التي تؤلمك الآن، وهذا هو موت النفس الذي يموت به كل سرور صحيح .
وإما أن تتعذبي بها أبدا بغير عزاء يهون عليك فقد الصحة والنضارة، وأنت إنما تفرين من العذاب وتطلبين الراحة والاطمئنان.
أنت تتألمين ولكنك تجهلين ما يدفع عنك هذا الألم المخيف ... فاذكري نوبات الحيرة وتبكيت الضمير التي كانت تساورك حين تحضرين إلي، واذكري كيف كنا نفترق وقد هدأت نفسك بعض الهدوء واستراح ضميرك بعض الراحة ... كان اهتمامي بك حتى بالغضب عليك يفرج شيئا من الضيق الذي يسد عليك منافذ الأمل؛ لأنه يعطيك فكرة عالية في نفسك، فيعزيك ويقويك ويرفع عنك ذلك الصغار الذي يسمم كل شعور وينغص كل نعيم.
اذكري كيف كان وجهك يشرق بالبشاشة من عهد قريب، وكيف ظهر ذلك على صحتك وملامحك، فسألتني في يوم من الأيام بين الجد والمزاح: أصحيح؟ أصحيح أن وجهي يمتلئ ويحلو؟ كان ذلك وأنت تشعرين إلى جانبك بنفس إنسانية تحنو عليك وتفكر فيك وتجتهد في عذرك ما استطاعت، وترعاك في الغيبة والحضور، وهذا أحوج ما تحتاج إليه المرأة خاصة في هذه الحياة.
فكل امرأة - كل امرأة بلا استثناء - في وسعها أن تجد رجلا يأخذها جسدا ويطرحها سائما بعد حين بلا أسف ولا شكر ولا احترام.
ولكن ليست كل امرأة واجدة تلك النفس العطوف التي تفهم الدنيا وتفهمها وتحب لها الخير لغير غاية وتهتم بها وحدها بين جميع الناس، وتراها أهلا للرضى والغضب والشكر والملام.
أنت أم فاذكري ذلك جيدا.
أنت فتاة ذكية متعلمة حساسة يقل بين الفتيات مثلك في هذه الصفات، فلا تنسي عزتك التي تليق بك ولا تنزلي قدرك منزلا لا ترضاه لقدرها كل فتاة، واسألي نفسك مرة أخرى: هل وصلت امرأة إلى العاقبة المخيفة - إلى المرض والهوان - من غير هذه البداية؟ وهل وصلت امرأة إلى تلك العاقبة وهي تظن أنها واصلة إليها أو قريبة منها؟ كلا! ... كلهن يا صديقتي يحسبن أن النهاية بعيدة، وأن الاحتراس كاف للأمان الدائم والنجاة من عاقبة غيرهن، والعاقبة واحدة على كل حال!
ولست أنت لسوء حظك كأولئك النساء اللواتي تحوطهن حمايات كثيرة وقرابات مشتبكة تستر العيوب وتضلل الشبهات.
فأنت في حياة التجرد والانفراد عرضة لكل شيء وفريسة رخيصة لكل واش أثيم، وكم جنى عليك حرمانك من أنس القرابة الشفيقة وحنان الأم الرءوم ومعيشة الزوجية الهانئة، فخسرت السعادة وأفسد عليك اليأس عاطفة الرحمة والإخلاص.
ولكن هل من الضروري لك أن تجني أنت أيضا على نفسك بيديك فتسلبيها حتى سلوة الألم الشريف وإباء الحرمان العفيف؟ وهل يبقى حرمان فوق حرمان المرأة التي لا تعرف السعادة ولا تعرف الألم الذي تحترمه هي ويحترمه الناس؟
أنا لا أيأس على الرغم من كل شيء ... بي من عطف عليك وعلم بحقيقة نفسك الضعيفة الطيبة و«ظروفك» السيئة ما يمنعني أن أنظر إليك نظرة قاسية.
وما تمنيت ولا أتمنى شيئا كما أتمنى أن أراك بعين الإعجاب والفخر والمحبة، ولكني أقول لك وأنا آسف: إن فقدك لم يكن هينا علي في وقت من الأوقات كما هو هين علي الآن، فإذا كتبت إليك هذه الكلمة فإنما هي كلمة صديق يريح ضميره وواجب أخير لا بد من أدائه، وإذا أبيت إلا أن تفهمي لها معنى من معاني الأنانية فافهمي إذن أنها كلمة إنسان يذكر برهة من حياته ويود أن يحتفظ بهذه الذكرى نظيفة شريفة إلى آخر أيام الحياة.
والوداع، والسلام.
الرقابة
لماذا كتب ذلك الخطاب؟
إنه لم يستوضح نفسه سببا لكتابة ذلك الخطاب وهو يفكر في كتابته، ولا استوضحها السبب وهو يكتبه ويسلمه إلى الرسول الذي تعود أن يسفر بينهما بالرسائل، ولكنه جلس بعد كتابته يسأل ويعجب: أي خاطر ذلك الخاطر الذي ورد على باله وهو يحسب أنه واصل إلى نتيجة ترضيه من كتابة هذه المواعظ؟ أيظن أن خطابا كهذا قد يثوب بها إلى الوفاء والإخلاص إن كانت تخون وتخدع؟ أيزعم ولو على سبيل الوهم البعيد أنها تتعظ وتندم لأنها تقرأ كلاما كهذا الكلام وتروي النظر في مصير كذلك المصير؟
آخر ما يطمع فيه العاقل أن يظفر بهذه النتيجة من امرأة يميل بها الهوى ويوسوس لها شيطان الخداع! فكيف بصاحبتنا التي يعرفها حق عرفانها ويعرف أن الكلام لا يستحق عندها الهزء والتحدي بمزية أفضل من مزية الوعظ والتذكير ... إنها تريد أن تثور وتجمح، ولا شيء أقمن بإشباع شهوة الثورة والجماح من مخاطبة الإنسان بكلام يصدر عن العقل ويلبس ثوب النصيحة والهداية! وإن الرجل من رجال الدين ليستحق عندها كل إكبار وتبجيل؛ لأنه يخالف في حياته الخاصة ما يعظ به الناس في حياته العامة، وقد خاضا في حديث بعض «الأئمة النساك» مرة فقال لها: لست على يقين أن مولانا هذا يحب السماء والآخرة، ولكني على يقين من حبه الأرض والدنيا ... ألا تعلمين ذلك؟ ... قالت: أعلم كل العلم، بل أعلم أنه يحب فلانة وفلانة وفلانة وفلانة ... غلطان أنت يا صديقي إن حسبت أنك تغض من «مولانا» بما اتهمته، إن خفاياه تلك لهي التي تعجبني وتكبره في نظري وتحملني على تقبيل يديه، وإنني ما سمعت عظاته يوما إلا استعظمت منه أنه قادر على مخالفتها، ثم راحت تقول مازحة - وكانت كلمة غلطان يا صديقي من لوازمها في الحديث: غلطان أنت يا صديقي إن حسبت أن المرأة تنقم على رجل الدين أنه يدع السماء من أجلها!
قال: وما رأيك في الراهبة التي تترك السماء من أجل رجل؟ ألها عندك مثل هذا المكان من الإعجاب؟
قالت: إن الراهبات لا يعظن أحدا، واللعبة تفقد كثيرا من بهجتها بهذا الدور البسيط الذي تمثله الراهبة الغاوية، وأعني به دور الوجه الوحيد!
إذن ما أضيع الوعظ عند صاحبتنا التي لا تعجب من الوعاظ إلا بقدرتهم على الوعظ وقدرتهم بعد ذلك على نقض المواعظ.
نعم، إنها تتذوق الكلام وتعطيه «درجته» العادلة من التقريظ والتأثر، ولا يبعد أن تبكي إذا كان فيه ما يحرك الشجن ويستدر الدمع، ولكنها لن تزيد على ذلك، ولن تخلط بين التقدير الفني والنتائج العملية! ولو كانت في موضع السلطان العثماني «سليم الأول» لبكت من قصيدة الشاعر الذي تشفع لديه بالشعر البليغ ليعفو عنه، ثم أمرت كما أمر بسوقه إلى ساحة الموت عقيب إنشاده القصيدة؛ لأن الفن شيء والسياسة شيء آخر!
أم أن صاحبنا، وليكن اسمه «هماما»، وليكن اسمها منذ الآن «سارة» لتيسير الكلام عنهما ...
أم أن صاحبنا «هماما» قد شاقته الفتاة بعد الفراق القصير ولم يشأ أن يعترف بشوقه ولا أن يستدعيها إليه صراحة فعمد إلى كتابة الخطاب ليفتح باب الحديث فاللقاء ...؟!
لا، ولا كل هذا.
إن «هماما» لم يكن من دأبه أن يقصر في مراجعة نياته ودسائس طبعه، ولقد يغلو في ذلك حتى يعزو إلى نفسه من المقاصد ما ليس في حسبانه، ولكنه - غلا أو لم يغل - ما كان في وسعه أن يزعم أنه بحاجة إلى تلك الحيلة لتدبير اللقاء دون استدعاء؛ فاللقاء لم يكن بالشيء العسير، ولم يكن بينهما بعد القطيعة ما يلجئ إلى الحيلة والمناورة، ولعل انتظاره الهداية من توجيه ذلك الخطاب أقرب إلى التصديق من التذرع به إلى تدبير لقاء.
السبب في الحقيقة أنه لا سبب هناك.
السبب هو الحيرة الملحاح التي تستحثنا إلى كل عمل مستطاع دون أن نستوضح أنفسنا عن علة معقولة أو نتيجة مأمولة، وكل من حار هذه الحيرة يوما يذكر أنه فعل شيئا لا علة له، ولا هو يقبل التعليل.
كذلك يفعل الأب الذي يرى بين يديه ولدا مريضا ميؤسا من شفائه وهو لا يستقر إلى التسليم، وكذلك يفعل المحرج الذي يرى أن العمل واجب؛ لأنه خير من سكون لا صبر له عليه، وكذلك يفعل الذي لا بد أن يفعل؛ لأنه بالفعل يستريح، أما بالسكون فلا راحة ولا أمل في الراحة.
وأتبع وصول الخطاب حديث بالتليفون.
لم يكن هذا الحديث بالمقصود، ولكنه لم يكن كذلك بالمكروه ولا بالمرفوض.
وأتبع الحديث موعد وزيارة.
وجاءت في الموعد وهي تبدو بتلك الطلعة التي يعهدها منها بعد كل مغاضبة وقبل كل مصالحة، طلعة السفير الذي يدخل المملكة الغريبة ولا يدري أحرب أم سلام، فهو لا يبرز القوة ولكنه يتقي أن يبرز الضعف، ولا يحمل غصن الزيتون ولكنه مستعد به في الحقيبة المغلقة، ولا يتجهم ولكنه لا يتطلق ويتبسط ... فلم تتهيأ للموعد بزينتها التي تعلم أنها تروقه وتستجلب هواه، ولكنها لم تهمل زينتها إهمال المعرض قليل الاكتراث، فهي زينة صالحة مع قليل من الاعتذار، وإذا وصل الأمر إلى هذا فأي اعتذار لا يغني غناه ولو جاء عفو الساعة؟!
وكان من دأبها أن تختلس رضاه وتحطم الحواجز بينها وبينه بسلاح من سلاحين: بالدعابة والتهكم، أو بالأسى والتضعضع، فأما في هذه المرة فسلاح الأسى والتماس الشفقة لن يلائم مظهر السفارة التي تتردد بين الحرب والسلام، فدخلت من الباب وهي تشهر سلاح التهكم والمناوشة، والتفتت وهي داخلة كمن ضل الطريق وأفضى به السير إلى غير المكان المتوقع، فقالت وهي تلقي بقبعتها: من أكبر العجب أنني وصلت إلى هنا ولم أصل إلى المعبد!
قال «همام» في سره: ويحك! هذه تحية وعظك! ثم أجابها من نمط تحيتها قائلا: معبد؟ استغفري الله يا أمة الله! وهل تستطيع قدماك أن تحملاك إلى المعبد ولو قادك إليه ألف دليل؟
قالت ولم تتريث: إنه لتقريظ حسن لبيتك أن يكون هو المكان الوحيد الذي تحملني إليه قدماي!
قال: وهل تحسبينني أغتبط بهذا التقريظ؟
قالت: معاذ الله! ولا سيما وأنت بخطابك صاحب دعوى في الهداية والإرشاد لا تقل عن دعوى أهل الصناعة ... ومع ذلك لا أظنك آسفا لهذه الغلطة.
وبدأت في نغمة الدلال بعدما أنست من لهجة الحوار أن الساعة ساعة غصن الزيتون لا ساعة السيف، ثم دنت منه تقبله فقبلها وضمها وأجلسها وجلس إلى جانبها وهو يغمغم متخاذلا: لو أنها غلطة قدمين يا «سارة»؟!
قالت: غلطة قدمين أو غلطة يدين، ألا تستطيع أن تتعلم «الربوبية» ساعة وتغفر الزلات؟
وضحكت ضحكة حلوة خبيثة مسترسلة ليس لها معنى إلا أنها تقول فيها: أنا أعرف كيف أرضيك، أليس كذلك؟
فجاراها في الضحك وقال بلهجة المستظرف والعاشق معا: وهل أحرص عليك يا ملعونة إلا لهذه الحذلقة؟ متى علمت أن ربا من أرباب الأساطير غفر الزلات لشريكة قلبه! إنما يغفرون للمخلوقات التي تخون المخلوقات من أمثالها، أما «الخيانة العظمى» فأين هم الأرباب الذين يغفرونها؟ •••
واطمأنت إلى مكانها، وشعرت أنها في بيتها ... نعم، في بيتها لا في «سفارة» تقبل عليها غريبة وتخرج منها مقبولة أو مريبة، فوثبت من جانبه كما يثب الطائر بلا تنبيه ولا انتباه، إلى أين؟ إلى «الرشاش» كعادتها في كل زيارة بلا اختلاف بين صبح ومساء وصيف وشتاء؛ لأنها لا تميز الفصول كما تقول إلا بالتقويم وجريدة الأزياء!
أفي هذه تريد التفريط يا همام وهي في قبضة يديك؟ لا يا صاح! لست معك في هذا ... إنما التفريط فيما يعوض ويستبدل، فأما الذي لا عوض عنه ولا بديل له فإن احتمال الأذى فيه لخير من احتمال ضياعه واللهفة عليه.
وإنه لفي هذه المناجاة إذا هي تتهادى وتنفض شعرها كما تنفض الفرس الكريمة عرفها، وإذا هي أمام المرآة مصقولة ندية كالثمرة الناضجة في شعاع الفجر البليل ... وكالشيطان!
منذ الأزل وقفت هذه الفتنة إلى جانب ووقف إلى الجانب المقابل لها حكماء الأرض وهداتها ومشترعوها وأصحاب النظم والدساتير فيها، وقالت هذه الفتنة كلمتها، وقال الحكماء والهداة كلمتهم، ونظرت ونظروا، ووعدت وأوعدت ووعدوا وأوعدوا، وأمامك الناس جميعا فاسألهم واحدا واحدا: كم مرة سمعتم هذه وكم مرة سمعتم هؤلاء، وأنا الضمين لك أن في تاريخ كل إنسان مرة واحدة على الأقل سمع فيها لهذه الفتنة ولم يسمع معها لحكمة الحكماء ولا لشيء من الأشياء.
ليست هي المرأة المسموعة هنا ولكنها هي الطبيعة.
والمرأة والرجل والحكماء والحكمة ألعوبة الطبيعة التي لا تسأم اللعب، ولا تعرف الجد لأنها لا تعرف التعب، وربما كانت المرأة أضعف هذه الألاعيب كما يكون الطعم أضعف من السمكة التي تأكله، وإن كان الطعم ليقودن السمكة إلى الهلاك.
ومن القاضي الفاصل بين الطبيعة والحكمة؟ إنما القضاء لمن ينتظر منهما الحجة الأخيرة والنتيجة الخاتمة.
ولكن ليس للطبيعة انتهاء.
فهي في جميع الأزمان صاحبة القول الأخير.
في ملحمة الصراع بين الفتنة والحجى ينسى الإنسان ما لا ينسى، ويخطر له الإغضاء عما يشهده بعينيه ويثبته ببرهانه، ولقد خطر هذا لهمام في تلك اللحظة ووسوس له الهوى أن ينزل بتلك المرأة الماثلة أمامه إلى حيث ينسى خيانتها ولا يذكر إلا متعتها، فتمنى في تلك اللحظة أمنية غريبة، تمنى لو كان حبه لها أمل، وماضيه معها أقصر، وشرطه عليها أقرب وأيسر، إذن لاكتفي منها بما تعطيه، واستبقاها على شرطها ومرامها لا على شرطه ومرامه.
إن الرجل الذي يهب للمرأة ساعة من يومه يكتفي منها بساعة من يومها، ولكن هل يكتفي منها بتلك الساعة وهو يهب لها ساعاته وأيامه وينسج حولها ماضيه وحاضره، ويحجب بيديه ضياء المستقبل الذي يطلع عليهما مفترقين كأنه يطمع من الدنيا في غرام بغير فراق؟
إن الابن لن يكون ابنا أو نصف ابن، وإن التحفة النفيسة لن تكون صحيحة أو نصف زائفة، فهي إما صنعة الفنان المنسوبة إليه والفترة المردودة إليها أو هي ليست بصنعته على الإطلاق.
فلا تقريب ولا توسط في هذه الأمور.
وهذه المرأة، بل هذا العالم الحاشد من النساء؛ لأن كل لحظة من لحظاته معها تمده بنسخة منها قلما تختلط بأخواتها، هذه المرأة التي لا مرأة غيرها كيف يرضاها ولديها رجل غيره في إبان هواها؟
ليست الحكمة هي التي تتكلم هنا ولكنها هي الطبيعة، ومن ذا يقاوم الطبيعة في غوايتها غير الطبيعة في ثورتها؟ إن الصراع هنا لبين ندين متكافئين، والويل للفريسة المطرودة بين الندين.
لا، سأحتفظ بهذه التحفة وأصونها جهد ما في وسعي من احتفاظ وصيانة، ولكنني لن أحتفظ بها إلا تحفة نفيسة ... فإذا بعتها فلن أبيعها إلا وقد أيقنت أنني غير مغبون فيها ولا نادم عليها تحفة بين يدي لا شك فيها.
أقول حينا إنها تحفة نفيسة فليس في كنوز الأرض ما يعدلها ويقوم بثمنها.
وأقول حينا إنها تحفة زائفة فلو بعتها بدرهم لما كنت بخاسر.
وهذه هي الحيرة، فقولي يا حكمة الحكماء ويا هداية الهداة، وقولوا لي يا صيارفة هذه الجواهر ويا دهاقين هذه المعادن، ويا من يستطيعون أن يضعوا المنظار لحظة واحدة وراء هذه العين اللامعة فيلمحوا هنالك الفارق الهائل بين ما يباع بدرهم وما ليس يباع بكنوز الأرض وذخائر البحار.
لا، لن أبيعها إلا بدرهم، فإن كانت الأخرى فلا بيع ولا شراء :
لما غلا ثمني عدمت المشتري
نعم، وعدمت البائع أيضا ...
هذه هي الحيرة فكيف الخروج منها؟ لا حاجة إلى أكثر من نظرة واحدة لتسويم هذه الجوهرة، فمن ذاك الذي تتاح له تلك النظرة؟
كان همام في تلك الأيام يقرأ رواية «سيدة الأكاذيب» للكاتب الفرنسي الكبير بول بوربيه، ولعله قرأها لعنوانها وما يرجو أن يطلع عليه من أكاذيب سيدتها ... وفي الرواية امرأة لعوب من نساء الأسر المترفات، وزوج غافل وعاشق كهل يبذل المال والحلي والهدايا، وعاشق ناشئ يبذل شبابه وجماله وطرافة هواه، وكل من هؤلاء راض بنصيبه إلا العاشق الفتى الذي يتنطس ويتوجس ويلح في كشف الأسرار فيعمد إلى الرقابة ولا يلبث أن يخلص إلى الحقيقة.
فما الرأي إذن في الرقابة؟
إن نظرة من رقيب أمين لتغني عن كل صيارفة الجواهر الذين يسومون معادن الوفاء وليس لهم معيار واحد يبطل فيه الخلاف ... فإن لم يكن من الرقابة فلتكن الرقابة، ولكل شيء من جنسه آفة!
وأثلجت تلك الخاطرة صدر همام وإن كانت قد غضت من سروره باللحظة التي هو فيها، ومن أين يخلص السرور وبينك وبينه رقيب؟
تتابعت الخواطر عدوا دراكا في رأس همام وهو يتأمل الفتنة الماثلة أمام المرآة ويتنامى شغفه بها كلما تمادى في تفتيشها واستقصائها، ولم تستغرق كل هاتيك الخواطر منه إلا ريثما فرغت «سارة» من تسريح شعرها وتجفيف إهابها؛ لأنه كان يستعرض هاتيك الخواطر كما يستعرض صفحة مفتوحة بين يديه يحيط بها في نظرة واحدة، ولم تكن خواطره لتشغله عن كلمة من هنا وتعليق من هناك جوابا لما كانت تعابثه به من الملاحظات والمناوشات، غير أنها فطنت لما يجول في خلده، وأدركت أنه ليس معها بجميع قلبه ولسانه، وأشفقت أن يستطرد ويستطرد فتتسع المسافة بينهما، فاستدارت إليه من المرآة متفترة متكسرة، ومدت جيدها وثنت أعطافها وقالت: أراني متعبة، أرى أن أذهب أو أريد أن أنام. •••
وانقضى اليوم بسلام، ونسيا أو تناسيا خطاب «الوعظ» بعد ما كان من عبث التحية الأولى، ونزلت سارة وهي مستريحة مستبشرة خفيفة القلب والطوية لا يبدو عليها أثر من التكلف والرياء، ومن دأب المرأة إذا انتعشت حواسها أن تخف وتنشط ولا يثقل على ضميرها عبء من الأعباء، وهذا الذي يلوح للرجل في صورة البراءة فينخدع، أو هذا الذي يسمونه أحيانا بعمق المرأة وقدرتها على إجادة الرياء وإخفاء ما في الطوية، وإنما هي خفتها كالطفل الذي تأخذه حماسة اللعب فلا تحضره الشواغل ولا تثقله الدخائل، وقد ود «همام» لو يستطيع أن يخلط بين هذه الخفة وخفة البراءة، وما هو بمستطيع، فليرجع إلى الرقابة فهي مرجع الإنصاف ومقطع الخلاف، وفيها وحدها تسويم لتلك المتعة بكنوز الأرض وذخائر البحار، أو بدرهم لا يندم عليه ملقيه في التراب.
وكيف الرقابة؟
صحت النية على الرقابة فلا مناص منها.
وبقي أمر الرقيب والعثور عليه.
فمن يكون هذا الرقيب؟
لم يشرع همام في بحث هذه المسألة حتى وضح له أنها مشكلة كثيرة الشعاب.
فخطر له في بداية الأمر أن يستعين برجل يؤدي هذه المهمة وينقده على ذلك أجرا يرضيه.
ثم قلب الأمر على وجوهه فرأى أن هذا الرجل المستأجر يحتاج إلى رقيب عليه لضمان إخلاصه وجده وحسن التبصر في عمله، فإذا بغير رقيب فأغلب الظن أنه يأتي في آخر كل نهار ومعه كشف طويل عريض بأجور السيارات والجلوس على القهوات ورشوة الخدم والبوابين، ولا فائدة من جميع ذلك غير التضليل والمراوغة والتشويق لاستطالة الرقابة واغتنام الأجور.
ثم تنقضي الأيام وهو لم يعرف شيئا ولا أعان على معرفة شيء.
وهبه عرف بعض الحقيقة أو عرف الحقيقة كلها، فهذا أخطر وأخسر ... لأنه يستغل معرفته كلما احتاج إلى المال لابتزاز الإتاوات والإنذار بكشف الأسرار، فيوما يهدد السيدة ويوما يهدد السيد ويوما يقارب الأقرباء والأولياء ويلوح لهم بما وراء الغطاء، ولعله يختصر الطريق من أوله فيطلع السيدة على مهمته ويفسد الأمر فسادا لا صلاح بعده.
رقيب أجير لا ينفع في هذه المواقف.
ولن ينفع فيها إلا الصديق الصدوق.
نعم، لا ينفع فيها إلا رجل يعنيه أن يعرف الحقيقة ويؤمن قبل ذلك بأنها حقيقة تستحق عناءها! فكم عندك يا همام من أمثال هذا الصديق؟ مئات؟ عشرات؟ آحاد؟
إن الناس يحسبون «الضيق» محك الصداقة الذي لا يكذب ولا يخيب.
والناس في ذلك مخطئون.
لأن الصديق الذي ينجد صديقه في الضيق قد يتخلى عنه وينقلب عليه في أعماق السريرة.
وليست المعونة الصادقة هي المعونة التي تدخل في رقابة العرف أو في رقابتك أنت بينك وبين صديقك، ولكنها المعونة التي لا حسيب عليها غير الضمير، ولا باعث لها غير اتفاق الهوى وامتزاج الشعور.
كثير من الأصدقاء يعينون أصدقاءهم في الضيق لأن العرف يحمد لهم هذه المعونة ويتخذهم مثالا للأمانة والوفاء وجميل الفداء.
وكثير من الأصدقاء يعينون المرء على الشئون التي يشعر هو بمعونتهم أو بتقصيرهم فيها؛ لأنه يحمد لهم ما صنعوا ويجزيهم بما أسلفوا ويرد لهم ما أقرضوا.
أما الشئون التي لا رقابة عليها للمرء ولا للعرف فالمعينون عليها أقل من القليل، وهمام أو غير همام سعداء إن ظفروا من كل ألف صاحب بواحد فذ من هؤلاء الأعوان.
في هذه الشئون يستطيع الصديق أن يقصر وأنت لا تشعر بتقصيره، وبما قصر ولم يؤمن هو بأنه مقصر ملوم؛ لأنه لا يؤمن بجنون العاطفة ونزوات الهوى ... فكيف يتقي مغبة التقصير ويصبر في سبيل ذلك على الجهد العسير أو اليسير؟
وإذا انكشف تقصيره فمن ذا الذي يلومه؟ لعله يلقى يومئذ من المعذرة والثناء أضعاف ما يخشاه من العذل والمذمة.
ذلك كله على أهون الفروض.
أما أصعب الفروض فهو أن تنقلب الرقابة إلى مطاردة، والمطاردة إلى اقتناص ... وليس أصعب الفروض دائما بأبعدها وأندرها في الوقوع!
حيرة جديدة «نجا» إليها همام من الحيرة الأولى ... والحيرة الأولى باقية كما كانت في موضعها القديم.
وإن هماما ليضرب أخماسه في أسداسه ويبرح في ضربه وإيجاعه إذا بالقدر يحل المشكلة العصية أسهل حل مستطاع، وإذا بالسماء تنفتح على حين غرة ويهبط منها الرقيب المنشود! - ماذا جاء بك يا أمين؟ - جاءت بي إجازة أيام. - ويحك! أنت طول عمرك تفصل من أعمالك بغير داع، أفما كان في وسعك هذه النوبة أن تنفصل فصلا نهائيا يا لئيم!
قال أمين وقد فوجئ: لماذا هذا الاستعجال على الفصل؟ ما الخبر؟
قال همام: الخبر أنك لازم لنا مدة طويلة ... أطول من أيام ... ولعلها أطول من أسابيع.
وسرد له المسألة بأقصى ما رآه صالحا من التفصيل والإسهاب، فلم يكذبه حدسه، وأسرع أمين بالإجابة والموافقة، وأوشك أن يسرع بالشكر والتهلل كأنه كان يتمنى ما اقترح عليه، ووعد أن يأتي بقصارى جهده في هذه الأيام القليلة ولا حاجة إلى الفصل المألوف!
لم يكن همام قد نسي أمينا في مشكلة الرقابة، وليس أمين بالصديق الذي ينسى في مشكلة من قبيلها؛ لأنه يؤمن بالواجبات الشعرية أشد من إيمانه بجميع الواجبات الإنسانية، وهو ذو أريحية ومروءة وصدق لسان وصراحة شيمة، ويحسب أن خيانة الصديق في العشق لا تقل عن الخيانة في أقدس الحرمات، وبينه وبين المطاردة والاقتناص هذا الخلق المستقيم الجميل وشيء آخر غير مستقيم ولا جميل! وهو أسنان عوجاء مثرمة ووجه كثير التجاعيد والغضون ... فإلى أن يمسخ طبعه وتنصلح أسنانه ووجهه هو ولا ريب وفاق الشرائط من وجوه كثيرة، وأحق من الصحب قاطبة بالتذكر والاعتماد.
إلا أن هماما تخطاه بادئ الأمر لسببين؛ أحدهما أن أمينا كان يومئذ يعمل بقرية بينها وبين القاهرة مسيرة ساعات على جميع وسائل المواصلات: على القدم وعلى المطية وعلى السفينة وعلى القطار أو السيارة.
وثانيهما - وأخطرهما - سهوات الذكاء التي اشتهر بها أمين، ويا لها من سهوات! فهي كعيب ذلك الزنجي الذي يكذب في السنة أكذوبة واحدة ... وفي هذه الأكذوبة الواحدة قاصمة الظهور.
فيجوز أن يكون إخلاصه هو كل المطلوب في هذه المواقف، ويجوز أيضا أن يكون هو المحذور، وهمام وحظه ونصيبه بين الجوازين! وإليك المثال:
كان السيد أمين في إحدى إجازاته القصيرة ينزل بمنزل همام، ودق التليفون عصاري يوم في مسألة عاجلة، فخف همام إلى الخارج وأوصى أمينا أن ينتظره ريثما يعود بعد نصف ساعة، وأن يستقبل ضيوفا قادمين في هذه الآونة ويعتذر إليهم بعذر همام المفاجئ، ويبلغهم أنه سيرجع بعد هنيهة ليقضي معهم الأصيل حسب الموعد، وقد عاد همام بعد نصف الساعة المقدور فلا أمينا ولا ضيوفا وجد في المنزل! وكل ما وجده بطاقات الضيوف في عقب الباب عليها كلمات تشف عن الأسف والاستغراب.
ولبث همام يقدر في ذهنه ما توهمه الضيوف من أسباب مغيبه المتعمد ولا مراء، فإنه لا يخرج في هذه الساعة، وليس للضيوف إلا أن يعتقدوا كل الاعتقاد أنه راغ عن الموعد أو أخفى نفسه وتركهم يرجعون على أعقابهم مسافة ليست بالهينة ولا بالقصيرة.
وبينما همام يستغرب خروج أمين ولا يدري ماذا أخرجه خاصة في هذا اليوم الذي سئل فيه الانتظار، أقبل السيد أمين يحمل في يديه قازوزتين وقليلا من الفاكهة والحلوى وهو راض عن نفسه رضى الرجل الضليع بمهام الأمور.
قال أمين وهو يخفي اعتزازه واغتباطه بحسن تدبيره وعرفانه بالواجبات التي ينساها الغافلون: إنك يا صاح قد نسيت أن الثلاجة خالية وأن الضيوف قادمون، وقد ذهبت أحضر لهم بعض الشيء فعسى أن يستطيبوه!
فضحك همام غيظا وعجبا من اهتداء صديقه إلى العمل الوحيد الذي لا ينبغي أن يعمل، واعتقاده مع ذلك أنه هو الواجب الذي ينبغي دون سواه، وربت على كتف الصديق قائلا: أحسنت أحسنت يا مولانا، وما عليك الآن إلا أن تعدو بالقازوزة والفاكهة في أثر الضيوف، فلا شك أنهم منتظروها في الطريق! وأراه البطاقات وما هو مكتوب عليها، فما زاد على أن فغر فاه ونطق بحكمته المأثورة كلما أدرك خطأه: «مدهش! حضروا وعادوا؟ ليس لهم حق! ... ما كان يصح أن ينتظروا؟»
نعم، كان يصح أن ينتظروا، أما هو فلا يصح أن ينتظرهم في البيت.
وكان أمين وبعض صحابه يجلسون إلى منتدى على مقربة من مكتب «جماعة المؤاساة» وكلهم من شراة نصيبها المكثرين، فارتفعت الجلبة والصياح من جانب المكتب ونهض أمين يستطلع الخبر، وعاد بعد دقائق فجلس وعلى سيماه قلة الاكتراث وهو يقول: إنما هي النمر الأربع الكبيرة!
فانفجر الصحاب ضاحكين وأطالوا في الضحك، وأمين لا يدري مم يضحكون، حتى سأله أحدهم: أواطلعت على النمر؟
فأخذ يفطن لسهوته البارعة، وحاول أن يصلحها كعادته فقال: أوكنتم تريدون الوقوف عليها؟
فزادوا ضحكا وركبوه بالعبث من جميع نواحيه، وجعل هذا يقول له: «لا، معاذ الله! وهل يليق أن نربح إلا الجنيه والجنيهين؟» وذلك يجذبه من كسائه ويصيح به: «يمينا لو ربحنا النمرة الكبيرة لنقذفن بها في التراب، وهل ثمانية عشر ألف جنيه مما يساوي عناء السؤال؟» ... وذلك يناديه: «اقعد يا شيخ اقعد، لا كانت النمر الكبيرة ولا كان من يسأل عنها، إنما القناعة كنز لا يفنى، وإنما المعول على الدراهم والملاليم!» ... وآخر يصطنع الجد ويقول وصاحبنا يتوقع منه الإنصاف: «لا، لا يا إخوان، أنا أعرف ما ينتظر أمين ... إنه ينتظر كشف الخسائر والغرامات!»
فلم يجد الرجل مخلصا من هذه الحملة المتداركة إلا أن يلوذ هربا بمكتب المواساة ويرجع إليهم بأرقام النمر الكبيرة ويقتحم في سبيل ذلك زحام المزدحمين الذي تلاحقوا من كل صوب في تلك اللحظة، وتكوفوا حتى أغلقوا مسالك المكتب ... وعناء على كل حال أخف من عناء.
وأفلح الرجل، ووصل إلى الكشف، وكتب الأرقام الأربعة، ورجع بها ليقرأها على أولئك المشاغبين الذين لا يرحمون، ولم يبق إلا شيء يسير جدا هو الذي فاته يحسب حسابه، وهو قراءة الأرقام.
فإن الأرقام الملعونة تآمرت عليه مع المتآمرين، وأبت أن تنقرئ لا من اليمين ولا من الشمال ولا من الأعلى ولا من الأسفل، وراح المسكين يجاهد ويعالج، وراحت هي تأبى وتصر على الإباء ... ويحمر وجهه ولا فائدة! ويحملق ولا فائدة! ويحاول أن يفسر عجزه ولا فائدة! حتى رحمه أحد الصحاب فانتزع منه الورقة فإذا هي تذكرة ترام، وإذا بالأرقام مكتوبة على صفحة التذكرة التي تمتلئ بالكتابة، ومن ورائها صفحة أخرى يوشك أن تكون فارغة لم يلتفت إليها أمين لأنها - لأمر ما لا يعلمه هو ولا يعلمه أحد - غير جديرة بالالتفات!
لقد كانت الحملة الأولى رحمة سماوية بالقياس إلى الحملة الأخيرة؛ فأينما تحول ببصره فثمة لسان بارز أو تحية ساخرة أو تبويخة حاضرة، وهو صامت يغوص في أعماق القريحة عن المعاذير والمسوغات، ولا تطمئن عزيمته الماضية إلى التسليم والاعتراف.
ومن عادته إذا اعتذر أن يجيء بطرفة أطرف من الأضحوكة الأصيلة التي أثارت الضحك والمشاغبة، وعرف أصحابه ذلك منه فطفقوا يحرضونه على الكلام كلما بدرت منه تحفة من تحفه المأثورات، وبالغوا في الإلحاح يومئذ لينظروا بماذا يتجلى عليه السهو المبارك بعد تلك السهوات الألمعيات، فلم يخلف ظنونهم آخر الأمر فتكلم، وكان ما قال بيت القصيد وآية الآيات في ذلك اليوم الخصيب.
انقلب من الدفاع إلى الهجوم، وقال لهم مستجمعا سكينته واعتداده: تترقبون ألوف الجنيهات! تريدون أن تكسبوا ... وهل أنتم وجه مكسب، الله لا يكسبكم؟! إنني تعمدت أن أجيئكم بالأرقام، واكتفيت بما أذكر من أرقام الأستاذ همام وأرقامي ولم أحفل بما عدا ذلك! وهل كنتم من البلاهة والغفلة حيث تحسبون أنني أراجع لكم أرقامكم ومكاسبكم لأكسب منكم هذا الهراء الذي لا تفلحون في غيره؟!
ويلاحظ أنه لم يختلق هذه المعذرة إلا بعد ما حصل الصحاب على الكشف وراجعوا الأرقام ويئسوا جميعا من الأرباح، ولم يختلقها قبل ذلك مخافة أن يكذبه الواقع عند مراجعة الكشف فيسقط في يديه.
إلا أنهم لم يتركوه ينعم بأكذوبته المهلهلة التي ساقه إليها الحرج والنكاية والمزاح وراحوا يقولون له بعدما أوسعوه سخرا وأشبعوه هذرا: يا مكابر! أتذكر سبعين نمرة بين كبيرة وصغيرة قرأتها منذ أيام ولا تذكر نمرا أربعا قرأتها منذ دقائق؟! طيب ... ها نحن أولا معك، أعد علينا النمر الأربع ولك عن كل واحدة جنيه!
فحار وأبلس، ابتأس وعبس، وألقى يد السلم واستسلم، وزادت تجعيدة حديثة إلى جانب كل تجعيدة قديمة في ذلك الوجه المشدوه. •••
تلك نماذج غير منتقاة من سهوات السيد أمين حديثها وقديمها، نضعها إلى جانب إخلاصه واستقامة طبعه فنفهم المركب الذي ركبه همام من تفويض الرقابة إليه، وأصدق ما يوصف به أنه كالسفينة التي لها شق متين يكافح الأمواج والرياح، وشق هزيل محلول الدسر والألواح، ولا مناص من السفر عليها، ولا أمان في البقاء على الساحل.
فأما الرقابة فلا حيلة غيرها.
وأما الرقيب فغير أمين لا يوجد.
وكل ما يملك همام من اختبار فهو الإكثار من التوصية والإلحاف في التحذير والمعاودة بالتنبيه، وقد فعل جهده ثم أغمض عينه، وآوى إلى السفينة وهو يترقب الغور كما يترقب ساحل النجاة.
مضحكات الرقابة
ترى لو شهدنا حوادث الحياة كلها دفعة واحدة، هل تصعب أو تهون؟ وهل يقع أثرها في النفس فاجعا أو مضحكا سخيفا مغريا بالهزء والابتسام؟
تشغلنا الحادثة أياما وشهورا فلا نفكر إلا فيها، ولا نحسب أن في الدنيا أمرا جديرا بالتفكير والاهتمام غيرها، ولا نظن أننا نطيق العيش ونصبر على البقاء لو تحقق ما نحذره منها، ولا نرضى من أحد أن يستخف بها ويستكثر ما نعيره إياها من الهم والقلق والأهبة، ثم تمضي الحادثة وتتبعها العاقبة بعد العاقبة فتصبح عندنا - نحن لا غيرنا - تسلية نرويها ونضحك منها ونتفرج بها كما نتفرج برؤية المشاهد الفنية التي تقع لشخوص المسارح الخيالية!
ترى لو رأينا الحادثة وعاقبتها، أو الحوادث وعواقبها، دفعة واحدة هل تكون كلها فاجعة كما نراها في حينها؟ أو تكون كلها خفيفة مسلية كما نراها بعد فواتها؟ وهل يكون اجتماع الحوادث بمثابة الفاجعة تضيفها إلى الفاجعة فلا تقوى النفس على احتمالها؟ أو تكون بمثابة الشيء يلغيه ما بعده فيطفئ بردها حرها، ويذهب قيظها بشتائها؟
سواء كان هذا أو ذاك يخطئ من يظن أن عبرة الايام تعلمنا الاستخفاف بالحاضر كما نستخف بالماضي، فإنما هي تعلمنا الاستخفاف بالماضي ولا زيادة، ولو علمتنا أن ننظر إلى حوادث اليوم كما ننظر إلى حوادث الأمس لحلت نسج الحياة وفكت خيوطها ومسحت أصباغها وتركتنا أمام حياة لا لون لها ولا مادة! كما تجتمع ألوان الصورة الزيتية مرة واحدة بدلا من أن تتفرق في مواضعها، فلا ملامح إذا اجتمعت، ولا أشكال ولا ألوان!
إن خير ما يتاح لأبناء الفناء أن يقلقوا ويضحكوا من القلق بعد فواته، فيأخذوا الدنيا طبيعية فنية على هذا المنوال: طبيعية حين يعيشونها ويقلقون بشواغلها، وفنية حين ينظرون إليها على البعد بعد ذلك كما ينظرون إلى روايات الخيال.
بدأت الرقابة وفاقا لما كان منظورا منها بغير اختلال: أمانة بالغة وشدة لا هوادة فيها، ثم مضحكات لا تنقطع يوما إلا ريثما تنقضي عليها ثلاثة أو أربعة أعوام، أما في أوانها فأيسر ما فيها يغيظ غيظ الجنون.
ومن اليوم التالي ظهرت أمانة الرقيب حرفا حرفا في كل جليلة ودقيقة، فطابقت رواياته كل ما كان يعلمه همام من أخبار سارة التي تحكيها له طواعية أو التي يتحرى سؤالها عنها في ثنايا الحديث، وما كان همام يطلع أمينا على مواعيده مع سارة، ولا على الساعة ولا على الجهة التي ينويان اللقاء فيها، فكانت مطابقة الأخبار لهذه المواعيد وما يلحق بها من الحواشي والملابسات مؤكدة لهمام ما كان يعتقده من صدق أمين وصواب الاعتماد عليه.
وجاء أثناء الرقابة يوم شات من أيام الزمهرير، عاصف قارس مطير، فأشفق همام أن يتصرف أمين فيستبيح لنفسه إهمال الرقابة في ذلك اليوم ولا لوم عليه، إذ أين هي السيدة الرشيقة الأنيقة التي تغادر دارها بين أوحال الأرض وسيول السماء؟
إن أمينا لمعذور إذا هو استباح الإغضاء والهوادة في مثل ذلك اليوم المكفهر العبوس، ولكن الذي يعرف سارة لا يعرف يوما هو أحق بتشديد الرقابة من ذلك اليوم؛ لأن هذه الأوقات هي أوقاتها المختارة للتسلل والروغان، وفرق عشرين درجة في ميزان الحرارة الجوية لا يقابله فرق مثله في حرارة جسمها الفتي المنيع؛ لأنها لم تعرف قط ما هو مدلول كلمة الزكام في الآناف والأجسام.
أشفق همام من ذاك فهبط ملتفا في دثاره، وركب ساعة ليبلغ إلى المكان الذي يتربص فيه أمين، فألفاه متربصا حيث يقيم كل يوم.
لا خوف إذن من هذه الناحية.
ولا غبار على نتيجة الرقابة في اليوم كله، فقد خرجت سارة فعلا قبيل العصر وعادت إلى المنزل قبيل المغرب، ولم تذهب فيما بين ذلك إلا إلى منزل صديقة عزيزة لها كانت تناجيها بأشجانها وتطلعها على أسرارها، فلم يشأ همام أن يكون مفرطا في التوجس والافتراض، ولم يلاحظ إلا أن الخروج في اليوم المطير لزيارة صديقة أمر غريب مريب، واكتفى بتفسير هذه الغرابة بأنها واحدة من غرابات «سارة» وبدواتها التي لا تتقيد بالعرف والاصطلاح ... ولو أتيح له أن يعلم يومئذ - كما علم بعد شهور - أن الصديقة العزيزة لم تكن إذ ذاك في المنزل ولا في القاهرة لما كبح ظنونه عن الإفراط في التوجس والافتراض. •••
وأخلص أمين لطبعه كما أخلص لصديقه، فلم ينس حق السهوات عليه وبالغ في أفانينها ومعجزاتها بمقدار ما كان يبالغ في اجتنابها والاحتراس منها.
وكان الرسم المتفق عليه بين همام وأمين أن يقص أمين كل ما يراه ويسمعه منذ خروج سارة من منزلها إلى عودتها كائنا ما كان شأنه من التفاهة وقلة الدلالة في نظره، فلا يسقط شيئا ولا يستهين بشيء وإن هان، وضرب همام مثلا لذلك لون الرداء وزي الملابس، فهو شيء لا يختلف مدلوله في رأي أمين، ولكنه يدل على الكثير في رأي همام، وضرب مثلا آخر أن تركب السيدة الترام فتتخطى مقصورة السيدات إلى مقصورة الرجال، أو تتخطى هذه وتلك إلى كراسي الدرجة الثانية، فلا يمكن أن يكون ذلك بغير دلالة تقترن بدلالة أخرى فتعين على جلاء الحقيقة، وهكذا من أمثال هذه الطفائف والقرائن التي لا غنى عنها للوصول إلى نتيجة من وراء الملاحقة والرقابة.
ولم يكن في سرد هذه المشاهدات صعوبة على أمين؛ لأنه كان مطبوعا على التقاط ما يبصر ويسمع، ومحاكاة ما يلتفت إليه من اللهجات والحركات والإشارات، فجاء يوما بعد مراقبة نهار كامل بحكاية ما شك همام وهو يسمع أوائلها أنه لن ينتهي إلى أواخرها حتى يضع يده على لباب الحقيقة ويتطرق منها إلى النبأ اليقين.
قال: لقد خرجت السيدة عصرا تلبس رداء عنابيا ومعها طفل صغير، فذهبت إلى بيت صعدت إلى دوره الأعلى ثم نزلت ومعها سيدة تكبرها بعدة سنوات، ومضتا إلى دار من دور الصور المتحركة في شارع عماد الدين فجلست أنتظرها على القهوة الملحقة بالدار، ولم يمض نصف ساعة حتى خرجت وحدها وليس معها الطفل ولا السيدة ...!
ما شك همام حين وصل أمين إلى هذه المرحلة من حكايته أن في الأمر شيئا ، وأنه يتعقب الأثر الصحيح إلى النتيجة الصحيحة.
نعم، إن أمينا أخطأ إذ لم يدخل معها إلى قاعة الصور المتحركة، ولكن خروجها بعد ذلك قد أصلح ذلك الخطأ وعفى عنه ... وما يراه بعد الخروج هو المهم، وليس ما يراه في القاعة إن رأى هناك ما يستحق الالتفات ... وإلا فلماذا تخرج بعد نصف ساعة؟ ولماذا تخرج وحدها؟ وذلك الثوب العنابي أليس هو الثوب الذي تحب أن تتزين به لخلوتها وتحسبه أجمل عليها من سائر ثيابها؟
فالحقيقة إذن على مدى خطوتين، ويستر الله فلا يعثر أمين بإحدى سهواته في إحدى هاتين الخطوتين، وماذا عسى أن يعثره بعد هذا المدى؟ وكيف يعثر يا ترى؟ ذلك بعيد ... وأغلب الظن أن الأمر سينكشف وأن الغاشية ستنجلي، وإن ليل الشكوك والهواجس المضطربة سيسفر بعد لحظة عن فجر صادق بين. - ثم ماذا يا أمين؟
ثم سهوة من تلك السهوات التي تنقض في صدمة المباغتة، والتي لا ترد على البال ولا تقع في الأوهام، والتي يخيل إليك أن أمينا لم يعثر بها إلا لأنه تعمد أن يعثر بها وأصر على تدبيرها؛ لأن ما صنعه هو الشيء الوحيد الذي لا ينتظر أن يكون.
اعتدل أمين في مجلسه واتكأ على عصاه، وقال في راحة الذي لم يضيع أقل فرصة وأقصى احتمال: إن السيدة لم تعد بعد خروجها من دار الصور المتحركة! - ويحك! وإلى أين ذهبت؟ - لا أدري. - وكيف لا تدري؟ ألم تتبعها؟ - لا، لأنني ما شككت في أنها خرجت لحاجة لها ثم تعود ... ولا يليق أن أتبعها.
فانتفض همام وهو يغالب غيظه وسخطه وصاح به: يا أخرق! أليس في دار الصور ما يغني سيدة مهذبة عن الخروج إلى منعطفات الطريق؟
ففطن أمين ساعتئذ لسهوته «الجبارة» ... وأخذ في تمحل الأعذار والمسوغات، وهو - على صدقه - لا يتورع في هذه الأزمات المحرجات عن أكذوبة صغيرة يتقي بها التهزئة والتسخيف أشد من اتقائه الملامة والتعنيف، وقال: الواقع أنني صادفت والدي عابرا فحياني وجلس معي وخشيت إن أنا تبعت السيدة فجأة أن يستريب ويتكدر، فلبثت في مكاني على رجاء أن تعود.
ومن الجائز حقا أن تكون السيدة قد ذهبت ولم تعد؛ لأنها واعدت صاحبتها أن تلقاها في مكان اتفقتا عليه، ولكن إلى أين ذهبت؟ ولماذا ذهبت؟
هنا الحيرة التي لا تدع للذهن أن يتجه خطوة إلى اليمين حتى يرجع فيتجه خطوة مثلها إلى الشمال، ثم يتبلد حائرا في موقفه لا إلى هنا ولا إلى هناك.
في الحي الذي قصدت إليه بيوت فيها مخادع محجوزة لطلاب الغواية، وفيه أسرتان بينهما وبين سارة ولاء وثيق، وبعض الأطفال في إحدى الأسرتين مريض، ويجوز أن تكون سارة قد ذهبت إلى مخدع من مخادع الغواية كما يجوز أنها ذهبت لسؤال عن الطفل ولم تصطحب طفلها خوفا عليه من العدوى، وما عدا ذلك من الاحتمالات يتقابل ويتوازن بحيث لا ترجح كفة على كفة، وإن رجحت إحدى الكفتين فإنما ترجح بالتخمين والتقدير، وليست الرقابة للتخمين بل لليقين القاطع المفصل الذي لا لبس فيه.
ويجيء أمين في يوم آخر بنبأ من هذه الأنباء التي تدنو بهمام إلى مدى خطوتين من الشاطئ ثم تقذف به في لمحة عين كما يقذف الموج الغريق إلى مدى آباد لا تعبر، وقد حدث نفسه بالنجاة.
ذهبت السيدة إلى دار الصور المتحركة ولقيها شاب مديد القامة، فحمل الطفل وقبله ودخل معها إلى الدار، وودعها بعد الانصراف إلى أن ركبت الترام الذي يصل بها إلى المنزل، فتبعها أمين ولم يتبع الشاب الذي هو موضع البحث والسؤال!
وتضاربت الظنون في وهم همام حتى كانا بعد يومين يسيران هو وأمين في الطريق، فأوشك أمين أن يقفز من جانبه ويعدو وراء شاب مقبع طويل وقد صاح في صوت مسموع: هذا هو الشاب!
فلم يمنعه همام أن يستمر في صياحه وعدوه إلا بمشقة، وأدرك الشاب وتبينه، فمن رأى أمامه؟ ... أخاها!
ولا ذنب لسهوات أمين في هذه القصة إلا في غفلته عن متابعة الشاب وإيثاره أن يتابع السيدة بعد ركوبها الترام ... كأنما المقصود أن يعرف منزلها لا أن يعرف من كان معها، أما البقية فالذنب فيها ذنب همام؛ لأنه كتم عن صاحبه كل ما يتعلق بسارة غير شخصها ومسكنها؛ حذرا من سهواته لا حذرا من نياته. •••
ولزمت سارة مسكنها يوما لا تريمه إلى زيارة ولا إلى مسرح، وتلك نادرة لم تتكرر فيما عدا أيام حفلاتها وولائمها غير مرات معدودات؛ فليس لسارة عالم تعيش فيه غير عالم الدنيا الواسعة وعالم الحب والمحبين.
أما عالم الضمير الذي يروده الإنسان وحده ويأنس فيه إلى التفرد والوحشة فذلك أبغض العوالم إليها وأثقلها وطأة عليها، لا تمكث فيه هنيهة إلا بإغراء كتاب، وقلما يكون الكتاب عندها إلا منفذا إلى الدنيا الواسعة، ودنيا الحب والمحبين.
فسنحت لهمام خاطرة أن يجرب الرقابة داخل المنزل لعل هناك أحدا تحوم حوله شبهة ويصلح لاتجاه المظنة، ولما سأل أمينا عن النور في جناح سارة من أين كان مصدره في ذلك اليوم، علم أنه كان يصدر فيما بين الساعة السابعة والساعة الثامنة من الحجرة التي يعلم همام أنها حجرة النوم، وهي حجرة لا تأوي إليها سارة إلا لتنام، ولم تتعود أن تستقبل زوارها ولا أن تقرأ في غير حجرة الاستقبال، ولم تختل تلك الوتيرة سنوات كان همام يجاورها فيها ويلم بجميع عاداتها وحركاتها في منزلها، فلماذا تختل في ذلك الموعد من المساء؟ لماذا تختل القاعدة في الموعد الذي تكون فيه على انفراد بعد نوم الطفل وانصراف الخادمة؟
ربما كانت الرقابة داخل المنزل ألزم وأجدى من الرقابة خارجه ولو يوما من الأيام، وقد أدى أمين رسالته في هذه الرقابة الجديدة وخاب كما خاب في غيرها، لولا أن الخيبة هنا كانت مشفوعة بخطر الضرب المبرح والفضيحة الشنيعة، فما سلم منه إلا بأعجوبة من أعاجيب السياسة!
ذلك أنه ولج المنزل متسللا وصعد السلم متلكئا ليقرأ الأسماء التي على الأبواب، ولمحه فتى يهبط من أعلى المنزل فظن أنه يتلصص أو يتجسس، وليس التجسس ببدع في ذلك الحين.
فانتهره الفتى مزدريا، وناداه متأففا: مالك تتسكع على الأبواب يا هذا؟ ماذا تريد؟
ولم يكن أمين بالذي يتراجع إذا هوجم، ولا بالذي يلين إذا خوشن، وقد تملكه الربكة إذا خوطب في رفق وأدب واضطر إلى تدبير الجواب وتحضير المعاذير، فأما إذا قوبل بالتوقح والإهانة فلا ربكة ولا عناء ... إنما هي دقة بدقة وصيحة بصيحة، وصفعة بصفعة، إذا استطرد اللجاج إلى هذه النهاية.
فما حفل أمين بالفتى ولا زاد على أن نظر إليه متجهما متجعدا وقال: امض في سبيلك، فليس هذا من شأنك!
ولقد دهش الفتى والتفت إليه مذهولا وهو يتمتم: ليس من شأني كيف؟ إنني أسكن هنا ... إن في المنزل آلي وحرمي! يا لها من أعاجيب! يا لها من صفاقة!
ولكنه مع ذلك نزل، وسمعه أمين ينادي على البواب من أقصى الطريق ويقول له: أين أنت؟ وماذا عساك أن تصنع إذا كنت تسمح لهذا الجاسوس أن يقتحم البيت ويتسمع على الأبواب؟
جاسوس؟
لقد سلم أمين بفضل الجاسوسية والخوف من الجاسوسية، ومن ذا يضرب الجواسيس ووراءهم قوة الشرطة وقوة الدولة وكل قوة تخاف في تلك الأيام؟
سلم أمين من الضرب وهبط السلم يتهادى غير هياب ولا وجل! وألهمه الله أن يتشمخ بأنفه ويزجر البواب قائلا: أنتم تأكلون بغير عمل، أنتم لا تستحقون أجوركم ... لقد صفقت وناديت فما أجابني أحد، ولقد حاولت أن أراك لأسألك عن جناح فما اهتديت لك إلى شبح، ولو سكنت في هذا البيت لما أبقيت عليك!
فقبع البواب واستخذى، ولاح له أنه غانم سالم إذا انجاب هذا الرجل السليط سواء كان جاسوسا أو باحثا عن مسكن، وتركه ينفتل لطيبته وهو يتبعه بقوله: معذرة يا بك! لا بأس يا بك! حقك علينا يا بك!
وافترقا وكلاهما يحمد الله على النجاة.
إلا أن أمينا قضى منذ تلك الساعة على مستقبله في الرقابة مضروبا وناجيا أو غير ناج! فما كان في وسعه أن يتراءى وهو آمن على جلده «حول مكان الواقعة» كما يقولون في لغة الشرطة قبل أن تنصرم أيام وأيام ... وشاءت المصادفات إلا أن تكون الخسارة عظيمة، فإن عناء الرقابة قد ضاع بغير جدوى، وأن الإجازة قد قاربت الانتهاء.
القطيعة
حصلت القطيعة ولم تسفر الرقابة عن نتيجة.
حصلت ولم يردها أحد، ولم يغتبط بها أحد، كأنها مخلوق قائم بمعزل عن أبويه، تريد له بنيته المستقلة ما تريد ولا يريد لنفسه أو يريد له أبواه، يمرض وينحل ويموت وهو لا يريد الموت ولا يريده له القوامون عليه، بل كأنه الجنين الذي استوفى حمله فلا بد له من الظهور ولو ماتت أمه وانفطر قلب أبيه.
أولم يقل همام إنه لن يفرط في هوى سارة ولن ينفصل عنها إلا وهو واثق كل الوثوق من خيانتها، وعاجز كل العجز عن صيانتها؟
أولم يقل إنها حلية مونقة إن غلت سومت بكنوز الأرض وذخائر البحار، وإن رخصت هانت على السوام والصيان؟
أولم يقل ذلك ويعتزم العزم كله ويستجمع النية كلها على أن لا فراق ولا قطيعة إلا وقد عرف ما تساويه من قيمة وما تستحقه من غيرة وضنانة؟
بلى، قال كل ذلك، ونوى كل ذلك، ولكن الحب الذي أوحى إليه كل ذلك قد فسد وانحل ومات، ولم يبق إلا أن يدفن! وأن يحمله إلى الدفن أبواه! وهما آخر من يود له الموت، ويخف به إلى ذلك المصير.
لو كانت المسألة قضية تنظر وحكما يصدر بعد نظرها لكان عجيبا أن تثبت القطيعة قبل ثبوت الخيانة، وأن تقع العقوبة قبل وضوح الجناية.
ولكن من هو القاضي هنا؟ ومن الجاني؟ ومن الفريسة؟ ومن صاحب الفصل وشارع القانون؟
هنا قضية لا تلمح فيها قاضيا حتى تراه جانيا وتراه فريسة وتراه مقضيا عليه، فلا حكم ولا براهين ولا شريعة! بل حادث من حوداث القدر ينقض كما تنقض الصاعقة، أو يشتعل كما تشتعل النار.
هنا عناصر طبيعية لا تسأل فيها ماذا تنوي وماذا تريد؟ بل تسأل فيها ماذا عملت بعد أن تعمل، كالذي يهرب من السيل ليقع في الهاوية، وكالذي يهرب من البركان ليقع في اللجة الزاخرة، وكالذي يهرب من النمر ليبتلعه التمساح، وكالذي يهرب من الرصاص لتنوشه الرياح، كل ما أنت قادر أن تجزم به هنا أنه لن يستطيع البقاء حيث كان ... وهل يستطيع البقاء حيث صار؟ كلا! ولا هنالك يستطيع البقاء.
فإذا سألت لماذا اعتزم همام القطيعة بعد أن كان يعتزم التربص والمطاولة، فليس سبيلك أن تعلم أنه آثر القطيعة وحمد مغبتها واستمرأ مذاقها، وإنما سبيلك أن تعلم أنه لا قرار على ما كان فيه، وأنه مدفوع إلى الهرب منه كما يندفع الهارب من النمر إلى التمساح. •••
في أيام الرقابة وبعدها بأسابيع قليلة تكررت الزيارات وتسابق همام وسارة في الاستزادة منها وهما يتكلفان، ولا يجهلان أنهما يتكلفان.
أجل، ما كانا يتمليانه من سويعات الهوى في تلك الأيام إنما كان بالقياس إلى هواهما الخصيب المطواع كالثمار المحفوظة في العلب بالقياس إلى الثمار على أشجارها بين غياضها وأنهارها.
ولم يكن همام يصور لحدسه كيف تشعر سارة بتلك السويعات المصطنعة، ولكنه هو كان يشعر شعورا لا يزال يعاوده ويبرز أمامه كلما جهد في تبديله والإشاحة عنه بخياله، كان يشعر كمن يلهو ويتلاهى على مقربة من جنازة وفي جوار مقبرة، فمن حيثما أقبل أو أعرض فهنالك ظلال الموت، وكآبة الفناء، وسوانح الأحزان.
ومن أعجب ما كان يتمثله وهو يداعبها ويعانقها ذات يوم سرير شيخ محتضر يتابع التدخين ولا يلقي بلفيفة إلا أومأ إلى من حوله في طلب لفيفة أخرى.
وما كان الشيخ يصنع ذلك قبل أن يثقل عليه السقام ويتدانى منه شبح الحمام، ولكنه كان يدخن مرة فدخل عليه همام عائدا، واستبشر قائلا: بركة يا عماه! إن الذي يتطعم الدخان يتطعم العافية، وأراك تتقدم إلى الشفاء إن شاء الله.
ومن تلك الساعة لم تعد للشيخ وسيلة يحاذر بها وهم الموت غير التدخين كلما شارف اليقين، فهو يتبع اللفيفة بأختها ليقنع نفسه بأنه يشتهيها، وأنه ما دام يشتهيها فهو على رجاء في العافية والبقاء.
لقد كان يدخن ويبالغ في طلب التبغ خوفا من خيال الموت لا سرورا بموالاة التدخين، وما أقرب هذه الصورة الفاجعة مما كانت فيه سارة وهمام.
لقد كانا يحرقان من لفائف الحب أضعاف ما أحرقا في عنفوانه وانطلاق طوفانه، ولكنهما يفرطان في الحب ويتكلفان الإفراط لشعورهما بقنوطه لا لشعورهما برجائه، ولإقبالهما على شتائه الأجدب لا لإقبالهما على ربيع بهجته وروائه.
وكانا في عنفوان الهوى يتشاجران ولا يباليان الشجار، ويتغاضبان ولا يجفلان من الغضب، ويختلفان ويلحان في الخلاف ولا يتحرزان من الخلاف والإلحاح، جسم فتي قوي فماذا تضيره هبة من عاصفة أو لفحة من هجير؟
فلما شاخ الحب أجفلا من الغضب والخلاف، كما يجفل الشيخ الهرم من غضبة تنذر بالقضاء عليه، فلا هما هانئان بوئام ولا هما قادران على خصام.
سرور مشكوك فيه، وإن غاب عنه الشك فهو هزيل.
وألم حق لا شك فيه، ثم يتلو اللقاء فيزيد هماما علامة من علامات الخيانة التي ليس بعدها من إقناع عنده غير يقين اللمس والعيان.
وإنهما ليدافعان الغضب والخلاف ويطاولان المغالطة والمراء إذا بالغضب يدفعهما في شلاله بين صخوره وأوحاله، فيندفعان ويندفعان كأبشع ما يكون الهياج والثوران، وكأنما هما نادمان على ما كان من مصانعة وبهتان.
كلا، لا جدوى من المراء، لا بقاء لهذه الحال، لا مناص من الفراق، إن كان لا مناص منه ... ولا مناص! •••
كانا يتلاقيان - إذا لم يتلاقيا في المنزل - عند مفترق طريق في الضاحية ينشعب يمينا إلى ناحية الصحراء، ويسارا إلى ناحية الأندية ودور الصور المتحركة، وكانت تلمحه مقبلا فتسبقه خطوات إلى حيث تواعدا من قبل؛ فإما في الصحراء أو في بعض الأندية يدخلانها على انفراد.
وقد تواعدا - بعد أسبوع من تلك الغضبة الثائرة - على اللقاء عند ذلك المفترق من الطريق، ليعطيها أوراقها وصورها وذكرياتها ويسترد منها أوراقه وصوره وذكرياته، ثم يفترق كل منهما في طريقه إلى حيث يختفي من حياتها وتختفي من حياته.
وقبل الموعد بساعة أخذ في جمع تلك الأوراق ومراجعتها ليعلم منها ما هو مطلوب وذو بال وما هو مهمل ومطروح، فيا لله كم تبلغ الورقة الخفيفة من وقر وفداحة! وكم تختلف المعايير والأحجام في موازين الأكف والأذهان! لقد كانت الرسائل والصور والهدايا كلها لا تملأ حقيبة صغيرة تحملها اليد الواحدة، ولكنه كان يحمل الورقة منها وكأنما يزحزح جبلا راسخا يشل السواعد والأقدام دون صخرة واحدة من صخوره.
ومشى إلى الموعد مشية لا اختيار فيها ولا إكراه، مشية الرجل الذي يسعى بقدميه إلى غرفة الجراحة ليبتر عضوا من أعضائه غير آمن أن يكون في بتره الموت، أو مشية الأمهات اللواتي كن فيما مضى يحملن فلذات أكبادهن إلى مذبح الأرباب قربانا غير رخيص ولا مزهود فيه.
وسبقها إلى الموعد فانتظرها دقائق معدودات لاحت له كأنها آباد، ولكنه في الواقع كان يتمنى لها الفوات.
ثم أقبلت في ثوبها العنابي وطرتها المشتهاة! ونظرت إليه وهمت أن تنحرف إلى ناحية الصحراء ... ثم؟ إنهما اتفقا على اللقاء لحظة في مفترق الطريق يأخذ منها ويعطيها ولا حاجة بهما إلى مراجعة، وكانت الطريق في تلك الساعة خالية إلا من عابر بعيد أو عابرة بعيدة، ففيم انحرفت إلى ناحية الصحراء ولو شاء المراجعة هنالك لما أعانهما غبش المساء؟ إنه حكم العادة على ما يظهر. أما هو فكل ما ساوره في تلك اللحظة خشية الانفراد والأمن من الأنظار، وخشية ما يزجيه الموقف المنفرد من كلمة أو عبرة أو نظرة وجيعة، وخشية الوهن والتردد والإرجاء، وخشية العودة من البداية إلى التيه المفزع الذي أشرف في تلك اللحظة على النهاية، وتلك جرعات لا يطيب للفم أن يترشف منها كل يوم.
أخذ منها وأعطاها، وسلم ولم تجبه، أو سلمت ولم يجبها، أو نسيا السلام والوداع معا، لا يذكر، وافترقا في طريقين متدابرين.
لو كان همام في غير ذلك الموقف لتذكر وقال وتدبر؛ تذكر مفترق الطريق بالأمس وتذكر مفترق الطريق في هذا المساء، وقارن بين لقاء قلما يضن فيه بشيء ولقاء قلما يجاد فيه بسلام الوداع الأخير، ولكنه كان مغمور الفؤاد في جو من الغم واليأس كجو الضباب الكثيف، لا تسترسل فيه العين إلى مدى بعيد، ولا ترى ما حولها إلا في غلاف من نسيج الأطياف، وكل ما يذكره بعدما افترقا أن جسما غاب عن النظر ولم يشيعه وهو يغيب.
وسار في وجهة المنزل وكأنه يريد أن يبتعد منه لا أن يدنو إليه بخطاه، وفي يده حقيبة صغيرة لا يدري ماذا يصنع بها، ويزعم أنه يود لو ألقاها في عرض الصحراء لولا ما فيها من حديث يصونه عن الإفشاء ... يزعم ذلك ويفهم من حيث لا يشعر أن ساطيا لو سطا على الحقيبة في تلك اللحظة ليمزقها ويحرقها لذاده عنها كما يذود الشحيح عن بقية ما لديه من حطام.
ثم دخل المنزل وتهافت على أقرب كرسي في أقرب حجرة، فلو شهده شاهد يجهل ما كان فيه لخاله قادما من مسيرة أيام لا مسيرة لحظات ...
وكان في المنزل عشير قديم يعلم أين ذهب ومن أين عاد، فلما طال سكوت همام وعزوفه قال له صاحبه يمازحه ويسليه: علام أنت آسف يا صاح؟ هل تركت فيها من بقية وطر تشتهيها؟ هل عندها من متعة لم تستوف شبعك منها؟ فما بالك تأسى وتكتئب وقد أراحك الله من رفاتها بعد أن نعمت بروحها ولبابها؟
عزاء حسن حين تكون المرأة التي تفقدها مائدة تفرغ منها وقد أتيت على آخر لقمة منها، أما حين تكون جزءا من الحياة لا تنفصل إلا فصلت معها من لحمها ودمها وظاهرها وباطنها، فذلك أضعف العزاء، بل هو نقيض العزاء.
إنما يعزيك الزميل الذي تحسه قريبا بشعور مثل شعورك، ولقد يغنيك من عزائه إحساسك بقربه ساعتئذ وهو صامت واجم، دون كلام ولا إيماء.
أما الكلام الذي سمعه همام من صاحبه وهو في جواره فقد تركه يصغي إليه كأنه يتسمع ألفاظا مغلقة من هاتف لا يراه.
من هي؟
من هي سارة؟
من هي الفتاة التي مشينا معها هذا الشوط ولا نعرفها، والتي رأينا منها خطوطا ولم نر منها صورة، والتي قرأنا عنها كلمات كثيرة ولكنها كلمات بينها كثير من الفواصل، وحروفا كثيرة ولكنها يعوزها كثير من الإعجام؟
هي شيء يعرف ولا يعرف ...
أنتكلم بلسان الصوفية؟ كلا، بل بلسان العرف المقرر والمشاهدات اليومية، فإن سارة بنت من بنات الواقع الحي الملموس ... وبنات الواقع هن اللواتي نعرفهن جيدا ولا نعرفهن جيدا، ولو كانت من بنات الخيال لما بقي منها شيء مجهول .
وليس بالنافع أن نصفها كما كان يراها همام في أيام صفوه وهيامه، أو نصفها كما كان يراها في أيام نفوره واشمئزازه، أو نصفها كما كان يراها وهو على القرب سائم، أو كما يراها وهو على البعد مشوق، ولكننا قد نصفها مزيجا من جميع هؤلاء فنخلص من وصفها إلى صورة تشبه «سارة» التي خلقها الله، وتشبه سارة التي يذكرها همام بعد زوال الغاشية وانقضاء السنوات.
هي جميلة؛ جميلة لا مراء، ليست أجمل من رأى همام في حياته ولا أجمل من رأى في أيام فتنته وشغفه، ولكنها جميلة جمالا لا يختلط بغيره في ملامح النساء، فلو عمدت إلى ترتيب ألف امرأة هي منهن لنظمتهن واحدة بعد واحدة في مراتب الجمال المألوف، ونحيت سارة عن الصف وحدها ... وإن كنت لا تنكر - ولا تبالي أن تنكر - أنها تأتي بعد مئات.
لونها كلون الشهد المصفى، يأخذ من محاسن الألوان البيضاء والسمراء والحمراء والصفراء في مسحة واحدة.
وعيناها نجلاوان وطفاوان، تخفيان الأسرار ولا تخفيان النزعات، فيهما خطفة الصقر ودعة الحمامة.
وفمها فم الطفل الرضيع لولا ثنايا تخجل العقد النضيد في تناسق وانتظام، ولها ذقن كطرف الكمثرى الصغيرة، واستدارة وجه وبضاضة جسم لا تفترقان عن سمات الطفولة في لمحة الناظر، وبين وجهها النضير وجسمها الغضير جيد كأنه الحلية الفنية سبكت لتنسجم بينهما وفاقا لتمام الحسن من كليهما، فليس هو جيدا كأي جيد، ولكنه الجيد الذي يوائم بين ذلك الوجه وذلك القوام.
يتخطاها من يراها على عجل، ثم يعود مدركا أنه قد تخطى شيئا لا يفات، فليست من الروعة بحيث تقسرك على التحديق إليها، وليست من سهولة المرأى بحيث ترسلك ناجيا في سبيلك ... قوام بين هذا وذاك، أو طراز آخر غير هذا وذاك.
لو تكفل بها مدير معهد من معاهد التجميل الحديث لخفف شيئا من قوامها الرداح بين الربعة والطويل، قبل أن يبرزها في معرض الرقص والرشاقة.
ولو تكفل بها قهرمان القصر عند كسرى أو عبد الحميد لما ضاره أن يزيد فيها حيث ينقص زميله الحديث، قبل أن يزفها إلى الشاهنشاه.
حزمة من أعصاب تسمى امرأة.
وهيهات أن تسمى شيئا غير امرأة.
استغرقتها الأنوثة فليس فيها إلا أنوثة، ولعلها أنثى ونصف أنثى؛ لأنها أكثر من امرأة واحدة في فضائل الجنس وعيوبه، لا لأنها أضعف من امرأة واحدة.
ولقد يخيل إلى الإنسان في أحايين أن يتمم مخلوقا ببضعة من مخلوق، وأن يسوي تكوينا بتكوين، ويمزج عنصرا من الأبدان بعنصر، فامرأة يتممها رجل، وآدمي يتممه حيوان، وطلعة فتاة يتممها قوام وأبوة أحرى أن تنتقل إلى أمومة، وأشباه ذلك من أخيلة المزج والتركيب.
أما هذه المخلوقة فلو انتقل عصب منها إلى تكوين ليث غضنفر ليبقى هنالك عصب أنثى بين جميع ما حوله من ألواح وأمشاج، ولو بقي ألف سنة.
ولو أنها تفرقت بين أجسام شتى لكانت فيها خميرة أنوثة يوشك أن تطغى على جميع تلك الأجسام.
شغلتها جواذب الجسد قبل أن تفقه معناها وتسمع باسمها ومسماها، فلما كانت بنية دراجة في المدرسة ذهبت يوما إلى كرسي الاعتراف تستغفر الكاهن عن مخالفة وصية من الوصايا العشر التي حفظتها، وتتوب من مقارفة الخطيئة التي دعوها في المدرسة «ترفا» على سبيل الكناية! فذعر الكاهن ولم يصدق ما يسمع، واستعادها مرة بعد مرة وهي آخذة في ذعر كذعر الكاهن من مس العدوى ورهبة الصوت ... ماذا؟ فيما دون العاشرة وبين جدران مدرسة ليس فيها إلا البنات تزل بنية لم يكعب ثدياها وتقترف أم الخطايا التي يقترفها النساء والرجال.
وما سكنت بلابل الكاهن المذعور حتى بدا له من لهجتها أنها لا تفقه ما تقول، وأنها بمحاكاة المعترفات لأنها أحبت أن تصنع مثل ما يصنعن، وبحثت عما تعترف به فلم تجد غير هذه الخطيئة التي تجهلها، وقد نجت الخاطئة الصغيرة بعركة أذن وجيعة، ثم ذهبت تسائل الزميلات ما هذا الذي ذعر منه الكاهن ذلك الذعر الشديد؟ فلا تفوز بغير ضحكات وغمزات.
قال لها همام وهي تحكي له حكايتها: لقد حسب لك اعترافك قبل أوانه ... ولئن اعترفت بالأمس وما أخطأت فلأنت اليوم تخطئين وما تعترفين.
وعاشت بعد ذلك تنظر إلى خطايا الأديان نظرة المرأة الوثنية التي نشأت قبل أن ينشأ الأنبياء، فهي ليست كالمتدينة التي خامرها الشك في دينها، ولكنها كالمرأة التي لم تتدين قط ولا قبل لها بالتدين، عن نزعة طبيعية فيها لا عن بحث ونقاش واطلاع، ومثلها كمثل الطفل يأكل الحلوى خلسة إن لم يأكلها جهرة، وآباؤه مع ذلك هم الملومون لأنهم منعوه، وليس بالملوم لأنه اختلس مالا بدله من اختلاسه!
ليست غواية الجسم عندها كجوع الحيوان يشبعه العلف، ولا كضجر المدمن يخدره العقار، ولكنها كرعدة الحمى وصرعة الفرح الجموح يتبعها النشاط والمراح كما يتبعها الإعياء والبكاء.
لها فراسة نفاذة في كل ما بين الجنسين من علاقة، لو حصلتها بالتعليم والتلقين لاستغرقت أعمارا إلى جانب عمرها في القراءة، ولكنها تفطن لما في نفس المرأة لأنها امرأة، وتفطن لما في نفس الرجل لأنها امرأة، وبعينها ذكاء موصول بالفطرة وتعبير يتضح في ذهنها وإن يتضح بعض الأحايين على لسانها.
والحق أن هذه الفتاة كانت في معرفتها بطبيعتها الأنثوية أعجوبة، وكان همام يسمع منها ما قل أن تفهمه امرأة وإن شعرت به، وقل أن تقوله وإن فهمته، وقل أن تحسن التعبير عنه وإن أرادت أن تقوله؛ إذ المعهود في المرأة أنها تشعر ولا تفهم شعورها، أو أنها تفهمه ولا تعمد إلى الصراحة فيه، أو أنها تعمد إلى الصراحة فيه ولكن لا تحسن التعبير، أما هذه الفتاة فعلم الأنوثة عندها كعلم الحساب عند بعض الأطفال الذين يجمعون ويضربون عشرات الأرقام بغير تدوين ولا مراجعة، مسألة بداهة سهلة لا إجهاد فيها للفكر ولا اعتساف ولا تعليم!
في سهرة من سهرات الصور المتحركة شاهدا رواية من روايات الغرام بين الكهول بطلها «أدولف منجو» الممثل المشهور بتمثيل هذه الأدوار، أو المشهور بقدرته على غزو قلوب النساء الناضجات.
وكان «منجو» بغيضا إلى همام كما هو بغيض إلى كثير من النظارة في دور الصور، فأراد همام أن يناوئ صاحبته وقال لها: أما والله إن النساء لسخيفات إن كان لمثل هذا الرجل هذه الحظوة عندهن.
فأجابته متحدية : ولم لا تكون له هذه الحظوة عند النساء؟ ألا تعجب المرأة إلا بفتى صبوح أو بفتى متين الأركان؟ هذا خطؤكم معشر الرجال، إن الفتيان الحسان الأشداء قد يفتنون المرأة، وقد يخلبونها، وقد يهيجون نفسها، ولكنهم لا يقربونها إليهم ولا إلى نفسها، إن أحدهم لينظر إليها كأنه غريب يمشي في بلد غريب يخشى أن يتقدم أو يتأخر، متهيبا يعديها بالتهيب فتقوم بينهما الحواجز والسدود ولا يسهل التقريب بينهما بعد ذلك.
أو ينظر إليها نظرة القانص الفاتك فيربكها ويزعزع شعورها ويوقع الهزيمة في سريرتها.
أما الرجل الخبير بالنساء من أمثال «أدولف منجو» فإنه ينظر إليها بعد أن نظر إلى مئات من قبلها، فإذا به يعرفها مكشوفة معراة من كل ستر ومن كل طلاء، وإذا بها تحس كل الإحساس أنه يعرفها كما تعرف نفسها في مخدعها، وإذا هي قريبة منه لا تحتاج إلى تقريب، بل قريبة منه بوحي لا تدركه ولا تلتفت إليه، قريبة منه كما يكون الرجل والمرأة في الخلوة بعد عشرة أعوام.
والرجل الخبير بالنساء يشبع منهن فيزهد فيهن ولا يتهالك عليهن، فإذا أحست المرأة بالفتور منه في الطلب والمغازلة خشيت أن تكون هي المعيبة المجفوة في نظره بالقياس إلى من عرف من النساء، ولم تتهمه في ذوقه بل اتهمت نفسها في جمالها و«جاذبيتها» كما هو دأب المرأة من سوء الظن بنفسها أمام هؤلاء الرجال، ونشأت عندها الرغبة في اجتذابه واستطلاع رأيه، واستسلمت له في سهولة وطواعية، لعلمها أن الحيلة معه لا تخفى عليه، بعدما شهد الكثير من حيل النساء.
هل بحثت سارة في هذا الموضوع بحث الفلاسفة؟ هل قرأته في كتاب من كتب الصور المتحركة؟ يجوز! ولكن فطنتها وحسن روايتها لما قرأت لا تزالان عجيبتين بين شبيهاتها من الفتيات.
وتمييزها لملامح الرجولة ومظاهرها تمييز لا يخطئ؛ لأنه أشبه بالغريزة التي لم تعرف غير الصواب، لأنها لم تعرف غير صواب واحد، كصواب النحلة في بناء الخلايا.
فالرجال الذين يشبهون النساء لا يستحقون منها حتى نظرة الزراية؛ لأنها لا تشعر لهم بوجود، وما عدا هؤلاء من رجال فهم نماذج عدة تبلغ المئات ولكنهم مشمولون جميعا في رجولة واحدة خلاصتها القوة والثقة والبروز، والطغيان القابل للرحمة والحنان، وقبس من أريحية الخيال، ونفحة من حماسة الروح تحسبان في الزينة عرضا ولا تضمنان الرجحان في الميزان.
ولهذا تضل بعض الطريق الذي تسلكه مع من تهواه ولو سلكته مرات في النهار؛ لأنها تلقي كل اعتمادها على صاحبها حتى لتكاد تنظر بعينيه وتمشي بقديمه، وأبغض من تبغض - وهي قارئة حصيفة - أولئك النسوة الثائرات على الرجال المطالبات بما يسمينه حقوق الحرية، فهي تقول إنها لو سئلت أن تكون رجلا ما قبلت، وأنها لو كانت تثور لثارت على الرجال لأنهم يستمعون إلى هذا الهراء.
ومن لوازمها التي لا تفارقها أنها ما حضرت قط رواية فيها نزاع بين رجل وامرأة وعاشق وعاشقة إلا كان عطفها في جانب الرجل وإن غدر وإن خان، ويشق عليها منظر العاشق الموله المغموم فتهتف من قلبها لا من لسانها وحده: ما من امرأة تستحق هذا العذاب!
تحب التدليل كما تحبه كل بنت من بنات حواء، ولكنها تكره التدليل السخي الفياض كما تكره التدليل المعسول الناصع الحلاوة، وإنما تحب أن يقطر لها التدليل تقطيرا، وأن يشاب أبدا ببعض التوابل والأفاويه.
سألت صديقها وقد صفت واستسلمت لعطفه عليها: أتحزن علي إذا مت؟
فلم يدر كيف يجيبها، ولكنه قال: هذا سؤال سابق لأوانه يا بنية.
قالت: ستبكي ولا شك لا أسألك في ذلك ... ولكن كم عبرة يا ترى تميزني بها على من بكيتهم؟
قال وهو لا يظهر المزح ولا يحاول أن يكتمه: أراجع ما عندي من «رصيد» العبرات وأجيبك قبل الوقت المناسب بقليل!
قالت: أنت لا تريح.
قال: ولكني أراك مرتاحة ... أأنت تموتين؟ ومن الذي يأذن لك أن تموتي؟
وكانت مرتاحة حقا لما سمعت. ولو أنه أسمعها غير ذلك حسرات التفجع والتعوذ ومواعيد الحزن القاتل وعهود الوفاء الدائم لفترت وملت وانقلبت عليه، ولكنه إذا ضمها وربت عليها وضن بعد ذلك بالكلام فقد وفاها من التدليل غاية مناها ، وضمن ألا تفسد عليه صفاء الساعة التي هي فيها.
وكان همام يمتحن معارفها الغرامية كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر مرة على أبعد تقدير، ويرشحها على أثر كل امتحان لوظيفة من الوظائف التي «تؤهلها» لها تلك المعارف الكثيرة ... إلا أنه استقر آخر الأمر على أنها أصلح ما تكون مديرة للإضاءة في مسرح تمثيل.
لأنها تعلم مواقع الرؤية علما لا خطأ فيه، وربما وقفت في المكان المكشوف والنوافذ مطلة عليه من جوانب شتى، ثم لا تبالي أن تمازح صاحبها وتغريه بمزاحها وتجميشها، فإذا أحجم وتردد ضحكت منه ساخرة، وأولعت بتعييره والتهكم عليه؛ لأنه لم يفهم لأول وهلة كما فهمت هي أن الأشعة المردودة عن زجاج النوافذ هناك تحجب النظر من ورائها!
تعلمت وهامت بأوروبا، فأوروبا عندها نبي معصوم؛ كل شيء فيها خير من كل شيء في غيرها، وهذه التي تغفل عن الأديان حتى يخيل إليك أنها لم تسمع قط بمكة وبيت المقدس وطور سيناء، هذه الوثنية في عالم الدين تراها في عالم الأزياء، فتعلم لأول وهلة أنها لا تغفل لحظة واحدة عن وحي باريس ومناسك الأزياء في العالم الأوروبي بأسره؛ لأنها تتحرج من وضع شريط في غير موضعه أو لبس زي في غير موعده تحرج الزاهد الصالح من ذنب ينفيه عن رحمة الله ويخلده في جحيم عذابه.
وكان صاحبها همام على نقيضها؛ يهزأ بالعرف وقد يتعمد الخروج عليه ولو في المجامع العامة، لحق بها ليلة بدار الأوبرا وهو في ملابسه الصباحية فكادت حين رأته إلى جانبها تجن من الغيظ وتتجاهل معرفتها به ومصاحبتها إياه، وجعلت تنظر إليه نظرات فيها من الاستغراب والاستهوال والإكبار لهذه الجرأة أو لهذا التهور بمقدار ما فيها من الأسف والحنق والاستنكار، ومالت إليه تقول: ماذا يظن هؤلاء الناس؟ إنهم لن يقولوا إلا أن هذه الفتاة مسكينة مع هذا الرجل! قال متظاهرا بالاعتذار وقد علم أن المعابثة أنفع أساليب الاعتذار معها في هذه الحالة: لا عليك أيتها الفتاة المسكينة، في المرة التالية سأحمل في يدي كسوة السهرة لأدفع عنك هذه المسبة ... إلا أنهما - حين خرجا من الدار - غلب عليها حب التحدي على الرغم من رغبتها في التستر والمداراة، فخرجت وهي آخذة بذراعه كأنما تغيظه هو أو تغيظ المتفرجين!
وتقرأ أوروبا كما تعبد أزياءها، ولكن ماذا تقرأ؟ إن شئت فلا مانع من بيرون وشوبنهور، على شريطة أن يوصيها بقراءتهما رجل يفهمها وتفهمه، وأن تقرأ في ديوان بيرون قصة دون جوان، وأن تقرأ في القصة أنباء خلاعته وعيثه بين مخادع الجواري الحسان في قصر السلطان، أما شوبنهور فيجب أن يكون كله على وتيرة مقاله في الحب والشهوة بين الذكر والأنثى وليتشاءم بعد ذلك ما استطاع!
عاطفتها حية غير أنها مشغولة بشاغل واحد، فلا تهمها الشفقة على المظلومين والمنكوبين ولا تهمها المظالم والنكبات، لا لأنها قاسية ولا لأنها مغلقة جاسية، ولكن لأن مكان الشفقة مشغول مستغرق، فلو خلا جانب منه برهة لما استعصى على الشفقة أن تنفذ إليه أو تطغى عليه.
وكأنها الطيارة المحلقة، وكأن نزواتها هي القوة الدافعة لها في الفضاء، فإذا دفعتها فهي ناهيك من حركة وصعود وهبوط، وإن وقفت لحظة فهي حجر ملقى على التراب، ولسان حالها في العواطف الإنسانية أن تقول لرجلها: أشفق أنت وتمرد على الظالم واعن بما تشاء، وأنا وراءك إلى حيث تقودك قدماك.
وهي وثنية في مقاييس الأخلاق كما هي وثنية في التدين، لا تؤمن بالعصمة الإنسانية في أحد ولا في صفة، وشديدة الإيمان بضعف الإنسان مع أضعف المغريات ... استطرد الحديث يوما إلى جان دارك فقالت هازئة: كم رجلا يا ترى عرف أنها عذراء؟!
فقال لها همام: إنها عذراء بشهادة الطب وشهادة الخواتين الموقرات.
فقالت: لقد شهد لها أضعاف هؤلاء بالمعجزات، فهل تصدق معجزاتها؟
وكان من دأبها أن تحب الغلبة في المناقشة على طريقة كل أنثى مع تنوع الأسلوب والعبارة، فإذا عز عليها الجواب راغت منه وغيرت مجرى الحديث، أو تقول حينا: أسكتني وما أقنعتني! وحينا آخر: ناقشني يا أخي ناقشني ولكن بحق السماء والأرض عليك لا تكتفني، دع لي يا أخي حرية الكلام! ... فهي تريد جوابا يروقها ويترك لها باب الكلام مفتوحا بغير انتهاء.
فلما سألته: هل تصدق معجزاتها؟ قال: نعم ... أصدق أنها صنعت المعجزات، وجاءت بخوارق العادات، ولكنها معجزات إنسانية لها أسباب إنسانية، وإن تضاربت فيها أقوال المفسرين من المؤمنين وغير المؤمنين.
ثم قال: والفرق بعيد مع هذا بين شاهد يقص ما تراه العين وشاهد يقص ما يخيله له الإيمان ... فشاهد العين مصدق، وشاهد الإيمان لا يلزمنا تصديقه إلا إذا جاريناه في إيمانه.
قالت: هذا قميص الكتاف يا أخي! هذا قميص الكتاف! •••
ومن الصعب أن تفهم ما يرضيها إذا اتهمت أمامك أخلاق الناس جميعها وراحت تقدح في دعاوي الصداقة والوفاء والفداء، فليس يرضيها أن تكون على رأيها لأنها تحب الرجل أريحيا ذا نخوة وحماسة وطموح إلى عظائم الآمال والرغائب، وتصديق بالوفاء والفداء.
وليس يرضيها أن تناقضها وتضطرها إلى التسليم؛ لأن الإكراه مكروه على كل حال.
ولكنها إذا كانت تجاري طبيعة المرأة في حب الجدل والثرثرة والعناد فهي تجاري طبيعة المرأة أيضا في إعجابها بطموح الرجل وصلابته وأحلامه، وربما استراحت إلى الشعور بقوة عقله كما تستريح إلى الشعور بكل بأس فيه، فما كان يدري همام هل يناقضها أو يجاريها فيما تقول ... وتلك حيرة يعالجها كل من عالج النساء.
قصت عليه مرة قصة صديق لزوجها أرسله إليها «وسطاء الخير» ليسفر في الصلح بينها وبينه.
قالت: فهل تدري ما صنع؟ إنه جاء يغازلني ينفخ في جمرة الغضب بيني وبين زوجي!
ثم قالت: ما أكذب الصداقة في هذه الدنيا!
قال همام وقد أراد أن يعابثها ويسليها: إن صاحبنا لمعذور، وإن الإغراء بالخيانة لعظيم ... فليت جميع الأصدقاء لا يخونون إلا بإغراء كهذا الإغراء.
ثم ضحك وضحكت، وتماجنت في الضحك وراحت تقول له: أراك ضننت علي بقميص الكتاف اليوم؟ لا، لا، إنني أريد اليوم قميص الكتاف ... قل، قل أليست كل صداقة في هذه الدنيا لغرض؟ هل يصادق الناس أحدا إلا لمال أو جمال أو سلطان أو نحو ذلك من الذرائع واللبانات؟
قال همام: ومن لم يكن له مال ولا جمال ولا سلطان ولا مزية من المزايا، فهل هو إنسان يستحق صداقة إنسان؟
فوثبت وصفقت كما يصفق الطفل الأرعن قد ظفر بالأمنية الممنوعة، وجعلت تقول: ها هو ذا قميص الكتاف، ها أنت إذن أخيرا يا بني! وأقبلت عليه تقبله وتناوشه، وتبذل له ذخيرة من السرور، كأنها فاكهة مترعة برحيقها ليس لها قشر ولا بذور.
وهي على ولعها بحديث الأكاذيب الشائعة في أخلاق الناس وعودتها إليه آونة بعد آونة لم تنع على الناس أكاذيبهم قط بمرارة الناقم واستخفاف المتشائم، وإنما تتحدث بها كما تتحدث بصفحة من الطعام الشهي لم يتقنها الطاهي ... ولا حرج أن تمضي في حديث انتقادها بعد ازدرادها.
فهي لهذا يصح أن تسمى «وثنية» في تقويم مقاييس الأخلاق، ولا يصح أن تسمى متشائمة أو ناقمة على الناس. •••
أما مذهبها في «الكرامة» فمذهب خليق أن يخيف من يحب لها الكرامة، ويود أن يأوي من كرامتها إلى حصن منيع على الطراق.
وأحسن ما توصف به الكرامة على مذهبها أنها «كسوة اجتماعية» لا يخلعها المرء في المجالس ولا يلبسها ممزقة أو مرقعة أو موصومة، فعيوب الكرامة وعيوب الكساء سواء في هذا القياس!
إذا قيل أمامها إن فلانة أباحت نفسها لخادمها قالت - وهي تزعم المناقشة حبا للمناقشة: إن المرأة قد تهفو هذه الهفوة وهي لا تنظر إلى مثل ذلك الرجل إلا كما تنظر إلى حذاء، وليس كل رجل يصل إلى فراش المرأة يسودها، بل هو قد يكون خادمها في ذلك الفراش.
وإذا قيل لها إن فلانا ضرب حبيبته قالت: وهل ضربها إلا لأنه يحبها؟ إن المرء ليضرب نفسه في الحائط إذا بلغ به الغيظ ذلك المبلغ، لو كان ضرب النفس يشفي غلة المغيظ!
وإذا قيل لها إن امرأة في التاريخ أو في قيد الحياة تهالكت على اللذات قالت: إن المرأة لا تتهالك على اللذات إلا أن تفقد الرجل الذي يفوق اللذة في روعها، فتحب الرجل لأجل اللذة بدلا من أن تحب اللذة لأجل الرجل الذي تهواه وتستكين إليه.
وما نفرت قط من مذمة خبيثة عن مبدأ وعقيدة، وإنما تنفر من جميع الأشياء التي تأباها كما ينفر المرء من طعام يعافه؛ فهي مسألة ذوق ورغبة وليست مسألة شرف واعتقاد.
ومثل هذه الكرامة لن تعصم صاحبها أن يقارف أخبث المنكرات كلما حلت له وغفلت عنه عين الرقيب.
ويحار طبيب الأخلاق كما يحار طبيب الأبدان في إيواء هذا المزاج إلى مأواه من الصحة والداء، أفمن كانت كذلك في نزغاتها وخلجاتها أتكون في رأي الطب امرأة سليمة مستقيمة على سواء الطبيعة؟ إن الإغراق يستلزم الزيغ والاختلال في التركيب ... ولكن أي اختلال عسى أن يكون في تركيب الجسم الذي يندمل جرحه بعد يوم ويقضي النهار والليل في صبارة الشتاء بلباس الصيف ولا يدري ما الزكام؟ كل اختلال يجاور هذه المناعة هو اختلال عجيب الجوار عميق القرار.
أكبر الظن أن الفتاة على ما بها من جموح وشطط كانت وشيكة أن تستقيم وتتزن لو رزقت زوجا يوائم شوقها إلى الرجولة ويغلق عليها منافذ الغواية، ولكنها خابت في الزواج فشقيت، ولجت بها الشقاوة حين كفرت بصداقة الصديقات ومواساة الشقيقات، فعاشت في عالم قد أقفر من جنس حواء إلا أن تكون منافسة مريبة أو عاذلة رقيبة، ولم يبق فيه إلا رجال!
وجوه
ذو الوجهين منافق، وذو الوجه الواحد ميت!
يعيب الإنسان أن يصنع له نفسا غير نفسه ووجها غير وجهه، وأن يبدو للناس بوجهين يلعن أحدهما الآخر، ويعلم أنهما - كليهما - ملعونان.
ولا يعيبه أن يكون له مائة وجه ينم كل منها على سمة من سماته ومعنى من معانيه، ويعرض لنا من ذهنه وسليقته وقلبه في ساعة ما ليس يعرضه في ساعة أخرى؛ لأن كل وجه من هذه الوجوه حق وليس بكذب، وجوهر وليس بطلاء، وصفحة من كتاب لا تتم قراءته إلا باستعراض جميع الصفحات.
ذو الوجهين في كل وجه من وجهيه كذب وطلاء.
وذو الوجوه المنوعة السمات، المعددة الملامح، المفرقة المعاني، راوية صادق الخبر يرينا كل يوم بينة جديدة على صدقه، ولونا جديدا من تمامه ونقصه، ونفسا جديدة في تعبير جديد.
والرجل الذي لا تختلف له صورة من صورة ولا تمثال من تمثال هو جماد يختلس عنوان الحياة.
والوجه الذي يصوره مائة مصور فيخرجون جميعا بطابع واحد لا يتبدل هو جدار في هيئة إنسان، ولكنه جدار لا تختلف عليه الظلال والألوان.
لنابليون بونابرت مئات من الصور الشمسية والزيتية، ولا نذكر إلا صورة واحدة لنا حين نبصرها لأول وهلة، هذا وجه إيطالي لا مراء ...! فلولا أننا نعلم أن نابليون إيطالي من شعبة إيطالية لقلنا إن الصورة كاذبة، أو أن فراستنا هي التي كذبتنا ما رأيناه، ولكننا نعلم أنه إيطالي من شعبة إيطالية؛ فالصورة إذن أصدق من جميع الصور التي خفيت فيها ملامحه الإيطالية ولم تبرز لنا البروز.
وجمال الدين الأفغاني يختلف المترجمون فيه؛ هل هو من الفرس أو من الأفغان؟ ولكن صورة من صوره التي ترتسم فيها عيناه القلقتان الوامضتان وصدغاه الناتئان وشفتاه العصبيتان تفض الجدال وتقول فيه أصدق مقال؛ إن هذا الوجه لأفغاني ولو ولد في البلاد الفارسية، وإنه لأفغاني ولو نماه إليهم قوم من الفرس، ونفاه عنهم قوم من الأفغان.
وليس منا إلا من يعرف صاحبا يحاول أن يخفي بعض مثالبه أو بعض سيئاته ثم يلتقطه المصور التقاطا فإذا هو حاسر الطبيعة بغير نقاب، على كره منه وعلى كره من المصور، ولعله هو نفسه يرى الصورة فلا يفطن لما كشفت من أمره؛ لأنه يفهم إفشاء الكلام ولا يفهم إفشاء السمات والقسمات.
وليس من اللازم اللازب أن يطول الزمن بين الصورتين المختلفتين للوجه الواحد، فإني لأذكر أني رأيت صورا ثلاثا لطفل واحد في السنة الأولى من عمره أخذت في ساعة واحدة في مكان واحد تذكارا ليوم ميلاده، ترى إحداها فلا تملك أن تقول: ما أشبه هذا الطفل بأبيه، وترى الثانية فلا تملك أن تقول: ما أشبه هذا الطفل بأمه، وترى الثالثة فتستطيع أن تقول إنه ليشبه أمه كما تستطيع أن تقول إنه ليشبه أباه.
ويصدق هذا على كبار السن كما يصدق على صغارها، فلا يندر أن يلتفت الإنسان التفاتة خاطفة على غير قصد منه أمام المرآة فيلوح له شبه من عمومته أو شبه من خئولته لم يكن قبل ذلك يلمحه في صفحة وجهه، وقد تنصرم السنون ولا يلمحه مرة أخرى إلا في مثل تلك اللفتة الخاطفة.
وأعرف أبا مشهورا له خمسة من الأبناء الذكور يجلس كل منهم إلى جانبه فلا تخفى المشابهة بينهما أقل خفاء، ولا يحتاج الناظر إلى فراسة ثاقبة ليعلم من فوره أنهما ابن وأبوه، ثم يجتمع الإخوة الخمسة فلا يبدو بينهم هذا التشابه إلا بفراسة المتأمل، لتقارب الأصل وفروعه وتباعد الفروع متفرقات.
ومما لا ريب فيه أن سمات الأخلاق والأفهام شيء يستكن في النفس قبل أن يبدو على أسارير الوجوه، وأنها شيء لا يزول من النفس وإن زال أثره الظاهر في بعض الأحيان، وأنه على قدر معاني النفس يكون تعدد الملامح وتعدد الوجوه، وعلى قدر تعدد الوجوه يكون الأنس بالمنظر المتجدد والمحضر المتعدد، ويقل السأم ويعظم الشوق والنشاط إلى اللقاء.
وسارة كانت من ذوات الملامح والوجوه اللواتي لا يطالعنك بمنظر واحد في محضرين متواليين، تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية تفتح عينيها البريئتين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة بغير كلفة ولا رياء، وتراها بعد حين - وقد تراها في يومها - فأنت مع عجوز ماكرة أفنت حياتها في مراس كيد النساء ودهاء الرجال، وتضحك ضحكة فتعرض لك وجها لا يصلح لغير الشهوات، وضحكة أخرى - وقد تكون على إثر الأولى - فذاك عقل يضحك ولب يسخر، كما تسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنكين.
هي تارة أم رءوم تفيض بحنان الأمهات حتى ليوشك أن تسع به أطفال العالمين، وحسبك أن ترسمها هكذا ولا تضع في أحضانها طفلا يرضع ولا إلى جانبها طفلا يدرج، لتستحق الصورة عنوان الأمومة.
وهي تارة أخرى شريدة بوهيمية لم تستقر قط في دار ولا وطن، وما استقرت قط مع عشيق.
لها صورة إلى جانب سرير لو نحيت عنها السرير جانبا لمثلت لك راهبة خاشعة تهم بالصلاة، أو ضحية من ضحايا الآلهة تساق إلى محراب القربان.
ولها صورة على سفح الهرم لو أخفيت منها الهرم لخلتها حورية مخمورة في أرض يونان القديمة تهم بالرقص في كروم باخوس.
وكان همام يراقب هذه الشخوص ويتصفح هذه الوجوه وهو مغتبط تارة ومشفق تارة أخرى، ويعزو تقلبها واطرادها إلى الفتوة الحية التي لم تحبس في محابس الأفكار والعادات والتقاليد، فهي أبدا في أيدي العواطف والنوازع كعجينة الخلق المهيأة للصوغ والتركيب في كل ساعة.
وخطر له أن ينشئ حولها رواية مسرحية هي جميع أبطالها، وهي البطل الوحيد فيها، تدور محاوراتها على المثال الآتي:
سارة :
إني لا أرضى أن أصاحبك في الطريق وأنت في هذه الثياب الفاضحة.
سارة :
وهل تحسبين أنني أسر بمصاحبتك وأنت بهذه السحنة العابسة وهذه المسوح المحزنة وهذا الزي الذي يشبه زي الحداد؟
سارة :
على رسلكما أيتها الصديقتان، لا تتخاصما ولا تشرعا في تمزيق ما عليكما من ثياب، إنها تستركما على كل حال، وأنتما ضيفتاي غدا ... فهل تحضران إلى وليمتي وقد شحذت كل منكما أظافرها لصاحبتها؟ لا عليكما من المصاحبة في الطريق ... احضرا من طريقين مختلفين ولتكن كل منكما في الثياب التي تروقها، فأنتما تعلمان أني أحبكما، ولا أنكر منك يا سارة شفوف الخلاعة، ولا منك يا سارة مسوح الرهبانية.
سارة :
وهل عندك وليمة غدا؟ من دعوت إليها غيرنا من السيدات؟
سارة :
دعوت سارة و...
سارة :
سارة! أخشى أن تكون تلك الفتاة التي لا تتحدث أبدا إلا عن زينتها وجواهرها وحلاقها ومواشطها.
سارة :
لا، بل هي سارة التي لا تتحدث أبدا إلا عن وليدها.
سارة :
ها أنا ذا قد حضرت في غير الموعد الملائم على ما يظهر ... وآسف لأني قطعت عليكن لذة الاغتياب، فالغيبة لذيذة، ولا سيما غيبة الصديقات.
سارة :
لم نقل عنك شيئا، وإنما أردنا تعريفك فقلنا إنها هي سارة التي تحب وليدها العزيز ولا تفتأ تتحدث عنه.
سارة :
وأي عجب في ذلك؟ ألا تحب الأم وليدها؟ وهل للمرأة فخر أشرف وأشهى من الأمومة؟
سارة :
أخطأت يا صديقتي، إن فخر المرأة جمالها.
سارة :
بل فخر المرأة ذكاؤها.
سارة :
بل فخر المرأة من تحبه ويحبها ... ويحي ويحي! ... لقد كانت المشاجرة بين اثنتين فما زلنا حتى جعلناها بين أربع.
سارة :
وإن شئتن فلتكن بين خمس ... علام تختلفن؟ ألا تسمحن لي بنصيب في هذا الخلاف؟
سارة :
أهلا بك سارة ... أخشى أن تكون لك فرصة باقية لخلاف. لقد استنفدنا جميع الفرص بين قائلة إن فخر المرأة أمومتها وقائلة إن فخر المرأة جمالها وقائلة بل فخرها ذكاؤها، وقائلة لا هذا ولا ذاك ولا ذلك، بل فخرها حبها وغرامها ... فما أنت قائلة بعد ما قيل؟ لقد ضيعت الفرصة يا مسكينة.
سارة :
كلا يا صاحبتي، لا تتعجلي بالرثاء لحالي، فقد نسيتن فخرا للمرأة لا ينقطع عن الأمومة ولا الذكاء ولا الجمال ولا الغرام، ولا أدري كيف نسيتنه هذا النسيان؟ فخر المرأة عذابها يا أخوات.
سارة :
صدقت يا صديقة.
سارة :
ماذا تقولين؟ صدقت؟ يا للعار! هذا كلام العجائز، هذا حديث خرافة، هذا مذهب عتيق أقدم من حواء والحية، إنما خلقنا للسرور نأخذه ونعطيه، فمن نذر المرأة للعذاب لا أصاب في الدنيا غير العذاب.
سارة :
ليسقط التمرد!
سارة :
ليحي التمرد!
ثم يتقاربن ويتلاحمن ويتسربن كلهن في شخص واحد، يبقى على المسرح في ثياب الشرطة! ويصيح: أين المشاجرة وأين المتشاجرات ...؟ •••
وقد تلا همام على سارة هذا الفصيل الصغير فاستملحت الفكرة وصفقت لها طويلا.
قال همام: كفاية، لقد ظفرنا بتصفيق الممثلة الوحيدة للرواية. •••
ولم تكن هي في بادئ الأمر تفطن لهذا الذي يلاحظه همام من غرائب شخصها وطرائف ملامحها، إنما كانت تعرف كيف تبدي بضاضتها في الثياب البيضاء، وكيف تخيل لك النحافة في الثياب الدكناء أو السوداء، وكيف تصفف طرتها بما يظهر من وجهها سمات الطفولة، وكيف تصففها بما يكشف منها جانب الذكاء ويزين القسمات بإشراف جبينها الوضاء، وتلك صناعة تحذقها كل امرأة تلتفت إلى محاسنها وتسمع رأي الرجال والنساء فيما يعجبهم من مرآها، لكنها لم تكن تلتفت إلى ما وراء ذلك من تقلب المعاني وتعدد الشخوص.
فإنهما لفي يوم رائق صاف جميل الأصيل وهمام يتأمل وجهها الذي تبدل الأشعة والظلال من معانيه كل لحظة، وتبدل العواطف والخلجات من ملامحه كل فترة، إذا به يهتف فجأة بكلمات لا مقدمة لها ولا سابقة لتفسيرها. - كم لك من وجوه يا سارة؟
فانتفضت في ذراعه، وحسبت أنها مقدمة لاتهام وملاحاة، وهما يستمرآن نعيم ذلك اليوم الرائق الصافي الجميل، وقالت: ماذا تعني؟
قال: هدئي من روعك، إنما ثناء أردت لا ملامة، وأخذ يشرح لها ما يعنيه كأنه يحدثها عن امرأة غائبة أو عن شخص من شخوص الروايات، وهي تصغي إليه، ثم مستريحة، ثم مبتسمة ثم طروبا متهللة، وهو يرى فيما يرى مصداق ما يلاحظه عليها ويحدثها عنه، حتى كان ختام الحديث اقتراب الشفاه بداهة وطواعية، ثم نكتة من نكاتها التي لا تخذلها في أمثال هذه المواقف، ألقتها إليه وهي تتناءى عنه مرحة ضاحكة: احمد ربك، عندك من سارة المظلومة حريم كامل، فلا تشكر نفسك كثيرا على الوفاء.
كيف عرفها
ترتيب الحوادث أن تنتهي ثم نكر راجعين للسؤال عن بدايتها، وسبيل التواريخ أن تنطوي السير وتنصرم الدول ثم نتقصى مناشئها وأسباب ظهورها.
فنحن لا نحيد عن مجرى الزمان حين نعرف الساعة كيف تلاقت سارة وهمام، بعد أن عرفنا منذ برهة كيف كانت القطيعة وكيف كان اللقاء الأخير.
لم يقصد همام أن يلتقي بسارة ولم تقصد سارة أن تلتقي بهمام، وإنما جاء اللقاء كما تجيء معظم الحوادث الكبرى في معظم التواريخ والسير، من زواج وفراق ورحلة واختيار مساع واقتحام غيوب، مصادفة لا يسبقها عمد، وعرضا لا يمهد له بتفكير.
خرج همام يتمشى في الخلاء ضحوة من ضحوات الخريف التي تبتهج فيها الشمس في هدوء، ويرقص فيها الهواء في حنين، ويرق فيها الجو في تشوق وارتقاب، وتطرح فيها النفس أعباءها كما تطرح القافلة أحمالها عند مشارفة الواحة المبشرة بالماء الغزير والظل الظليل، ريثما تنهض بالعبء من جديد.
ماذا عسى أن يكون العبء المنظور؟
لا تقول الشمس، ولا يجيب الهواء، ولا يشف عنه الجو، ولا تحفل النفس ما يكون، حتى يكون ... إن كان!
ويعود همام من رحلته وقد علق جميع همومه وأجل جميع نياته، وأصبح جزءا من الشمس والهواء والجو، ولم يعد جزءا من عالم الإنسان.
وألفى نفسه وهو عائد إلى منزله على مقربة من مسكن صاحبه الأستاذ زاهر، وهو رجل ظريف طيب النحيزة من أولئك الذين يرضون فيسلون ويطربون، ويسخطون فيكونون أدنى إلى التسلية والطرب، لطرافة ما يرتجله في هذه الحالة من مفارقات اللذع والتنديد.
وكان يومئذ يسكن في بيت من بيوت الحجرات المفروشة تديره خائطة فرنسية، ليكن اسمها «ماريانا» ... فدلف همام إلى المنزل يزور صاحبه ويقضي معه فترة يقفزان فيها بين معارض الحديث التي لا وصلة بينهما، ويضحكان ضحكا كثيرا، إن لم تكن فيه فكاهة عالية ففيه ولا شك تمرين نافع للرئتين.
ووجد «ماريانا» في فناء الدار تطعم الديكة الرومية التي عندها صفحة من «المكرونة» البائتة، وعندها فتاة مليحة يصعب تقدير سنها؛ لأنها تصلح للعشرين كما تصلح للخامسة والعشرين، وتسمى آنسة كما تسمى سيدة، وهي مشغولة بكساء تقلبه وتمعن النظر فيه.
قال همام: أسعد الله الصباح، أين زاهر يا مدام؟
فردت تحيته بمثلها، وقالت: أولا نراك إلا زائرا لزاهر؟ إنه خرج منذ هنيهة على أن يعود بعد قليل.
والتفت همام إلى صفحة المكرونة قائلا: أرى أن الديكة اليوم إيطالية وليست رومية.
فلم تجب ماريانا بغير ابتسامة عريضة، وإنما أجابت الفتاة قائلة: إن كان الجنس بالطعام فالديكة هنا عالمية لا تدين بجنس من الأجناس، مصرية إن أكلت الفول المدمس، وإنجليزية إن أكلت البطاطس، وهندية إن صبرت على الصيام الطويل.
فنظرت إليها «ماريانا» نظرة العتب المصطنع، واستظرف همام جوابها واستغرب مشاركتها في الحديث في وقت واحد، ورحب مع ذلك بهذه المشاركة التي أحس لتوها أنها وافقت هواه، وأنه كان يسوق الحديث إليها إن أبطأ المساق.
قال همام: إن الآنسة تعرف كل شيء عن ديكة البيت وتذبذبها في الوطنية، ولكني لا أذكر أنني رأيتك هنا يا آنسة قبل الآن.
ماذا يقول؟ أيقول لا أذكر أنني رأيتك؟ أكان من الجائز إذن أن يراها ويهملها وينسى أنه رآها؟
أحس همام أيضا أن الكلمة لم توافق هواها، وسمعها تجيب بشيء من الامتعاض المكتوم كأنها تخاطب نفسها: ولماذا تدعوني يا آنسة؟ أتستصغرني؟ إنني ربة بيت، وأم! •••
يا للمرأة! أتريد أن يفهم أنها غضبت لأنه دعاها يا آنسة؟ لا والله! لقد كان بريق الرضى بهذه التسمية يومض في عينيها ... إنما عز عليها أنه جعلها شيئا مهملا يجوز أن يراه مرة أو مرات ثم ينساه، فأسفرت عن الغضب وسترت السبب، وتوارت وراء حجاب المجاملات والألقاب.
فأحب أن يغيظها قليلا وعاد يقول: ولكن السيدات يا آنسة ... يلبسن في أصابعهن علامة تسمى خاتم الزواج، فأين هذه العلامة؟
قالت: لذلك شرح يطول.
قال: عسى أن أسمعه في وقت قريب.
ثم اقتضب الحديث والتفت إلى شيخ متهدم يعبر الفناء، فسأل الخائطة: أهذا ضيف جديد عندك يا مدام؟
فزمت شفتيها لا يدري أهي مشمئزة من الرجل أم راثية لحاله، وقالت: ضيف، ولكن لا أظنه طويل المقام، ألا تراه يتعثر بقدميه؟ وفي أقل من دقائق لا تتجاوز الخمس عرف همام والفتاة كل ما تعرفه «ماريانا» عن الرجل وعاداته وأطواره، وثروته التي تربي على الألوف، ولا وارث له ولا قريب تلوذ به في شيخوخته الكئيبة.
قال همام: وما حاجته إلى البحث عن وارث؟ إن الورثة يبحثون عنه ولا يقصرون «عند اللزوم».
قالت: ألا يحتاج إلى من يعوله ويواسيه ويحف به وهو يودع دنياه.
قال همام: إن كنت يا ماريانا حريصة على خروجه من حجراتك فانصحي له بكتابة إعلان في الصحف السيارة، يقول فيه إنه يملك كذا من الألوف ويحتاج إلى كذا من الأخوال وأولاد الأعمام وأولاد الأخوال، وانظري كيف يضيق بيتك عن الطالبين والطالبات ممن «آنسوا في نفوسهم بالشروط».
فنسيت الفتاة غضبتها الصغيرة واندفعت ضاحكة، وما زالت حتى أجبرت هماما - وهو في غنى عن الإجبار - أن يحول الحديث إليها. فسألها قائلا: وأنت يا سيدة، نعم أنت يا سيدة في هذه المرة، لأية قرابة ترشحين نفسك إذا أعلن الرجل إعلانه؟
فهزت رأسها تفكر، ثم قالت: أوفرها نصيبا في الميراث؟
قال: لا تكونين إذن إلا زوجة؟
قالت ما معناه: فأل الله ولا فألك، أي غرام غرامك هذا بذكر الزواج والزوجات والأزواج؟ ... ثم رفعت رأسها متأففة كأنها تطوي حديثا لا تحب أن يجري لها على لسان، وهي في الواقع تود لو أفرغت كل ما في جعبتها من ذلك الحديث، أول ما تسعف المناسبة وتبدر من همام بادرة إغراء.
قال همام: لا تؤاخذيني إن ذكرت الزواج مرة أو مرتين، فإنني لم أتزوج قط ولا خبرة لي بهذا الجانب من مزعجات الدنيا ...
قالت: أصحيح؟ ... لقد أراحك الله، فبأي جانب من مزعجات الدنيا أنت خبير؟
فأسرع همام قائلا: لذلك شرح يطول!
قالت: يا لك من منتقم ... على أنك تستطيع أن تطمئن كل الاطمئنان، فإنني لا أكلفك عناء هذا الشرح ولا أستطلع دخائل شأنك ... لست فضولية بحمد الله.
قال: وإذا كنت أنا فضوليا؟
قالت: إذن يختلف الأمر.
قال: كيف يختلف؟
قالت: يلوح لي أنك كما وصفت نفسك؛ أنت فضولي ولا فخر.
قال: ليس مع كل الناس.
قالت: تحيات وغزل ... وعما قريب عيناك ووجنتاك وأهواك ولا أنساك، إلى آخر هذا الموال المحفوظ.
قال: ولماذا عما قريب! ... الآن!
قالت: أنت عجول، وأنت جريء أيضا.
قال: إن وعدتني أن أجني للصبر ثمرة فأنا أصبر من أيوب، قوليها كلمة واحدة وأنا لا أتعجلك شيئا، وأنصرف الآن!
قالت: وصاحبك الذي تسأل عنه؟
قال: ها ... يلوح لي أنني أعجبتك! وأنك تسبقينني!
قالت: لولا أنك تمزح لقلت إنك مغرور، غروركم كلكم معشر الرجال، لا تتكلم الواحدة كلمتين مع واحد منكم حتى يحسبها مجنونة بهواه.
قال: أو يحسب أنه مجنون بهواها!
قالت: طيب والله لقد قطعنا شوطا بعيدا جدا في نصف ساعة، ولا أدري ما خطب «ماريانا» سامحها الله! أين ذهبت وتركتنا؟ ألعلك على اتفاق معها أن تهيئ هذا اللقاء؟ ... ما في ذلك من عجب، فهكذا تصنع الخائطات فيما يقال.
وسمعت «ماريانا» اسمها فعادت تهرول وتتساءل: ماذا تقولين عني يا سارة؟
قال همام: إنها تتهمك بأنك تدبرين عن عمد خلوة غرامية بين هذه الديكة وهذه الدجاج.
قالت ماريانا : أنا أعلم على الأقل أن الدجاج لا تحتاج إلى من يدبر لها الخلوة مع الديكة.
قالت الفتاة: قاتلك الله يا عجوز السوء، لماذا تنصلين من التهمة؟ أما كان الأولى أن تتمهلي لمحة لعلي كنت أنوي أن أشكرك على ما صنعت؟
فطاش الفرح بهمام، وأوشك قلبه أن يفلت من نياطه، وانتشى نشوة خمسين كأسا في رشفة واحدة، وقال وهو يهجم على «ماريانا»: بل دعي لي أنا أن أشكرها، إنني أقبل وجنتيها ... إنني ألثم فاها ... وصنع ما يقوله قبل أن تفيق «ماريانا» من دهشتها وقهقتها، ومال إلى الفتاة قبل أن تدري ما هو صانع قائلا: وأقبلك أنت أيضا إكراما لماريانا. وقبلها!
ثم جلس مأخوذا بما حدث يتوقع ماذا تكون الكلمة الأولى التي تلفظها الفتاة؛ أتشتم؟ أتصطنع الغضب؟ أتنطلق من المنزل؟
وكأنما كان التوقع هو شغله الشاغل في حينها دون ما يتبعه من ثورة أو مسامحة، فاستطال الأمد، وما انقضت غير ثوان في توقع ما يكون، وزاده فرحا على فرح أن شيئا مما توقعه لم يحدث، وأن كل ما حدث أن الفتاة بهتت وراحت تقول شيئا لا بد أن يقال، فقالت في صوت خافت: لقد آذاني شاربك الطويل! •••
وتم التعارف بالأسماء.
واسترسل الحديث أصداء لا يقصدها القائل ولا يصغي إليها السامع، لحظة يسيرة ثم انقلب الفرح غما ثقيلا بغير منفذ وبغير دلالة، فإن الفتاة لبثت تتكلم ويبدو من عينيها أنها تفكر في غير ما تتكلم، ثم خرجت ساهمة بغير استئذان إلا حين قاربت الباب، فقد انثنت تحيي هماما تحية من يؤدي «واجب اللياقة» لا تحية من يجامل في وداع.
قال همام: ما معنى هذا؟
قالت «ماريانا»: لا عليك منها، إنها ستعود يوما لا محالة.
قال: لست عن هذا أسأل؟ فهل هي غاضبة؟
قالت: مم تغضب؟ أمن القبلة؟ فلم لم أغضب أنا؟!
قال: خيبة الله عليك يا عزيزتي ماريانا ... دعينا من غضبك أنت ورضاك، فإنها هي القبلة الأولى والأخيرة بغير مراء! ولئن رضيت عنها فما أنا براض ... ولكن الذي يعنيني ألا تكون قبلتها هي القبلة الأولى والأخيرة. فما رأيك؟
قالت: ابغ لك مستشارا غيري، إنني أعرف كيف أوفق بين الكسوة وصاحبتها، ولا معرفة لي بالتوفيق بين رجل وامرأة!
فلم يشأ همام أن يطيل الكلام، ولم ينتظر صاحبه الذي لم يعد، ولم يكن يبالي في تلك الساعة أن يعود، وخرج منقبضا متحاملا يلوم نفسه على خروج الفتاة ولا يلوم نفسه على تقبيلها، كأنما كان يستطيع الفصل بين الأمرين! ... وعادت القبلة إلى شفتيه كأنها طيف يرف على مهاده الأول، حتى لقد أوشك أن يضم شفتيه ليلامس ذلك الثغر الذي لاح له أن ينضغط وينضغط من لينه وطراوته إلى غير نهاية، وسرت لذعته الباردة كلذعة النعناع الذي هدأت سورته وبقيت ذكراه، فازداد غما على غم، ولعن ذلك الشيطان الكامن في أعماق كل نفس يثير لواعجها وينكأ جراحها، في حيثما احتاجت إلى التهوين والنسيان.
وذهب إلى المكتب فتلقاه الخادم قائلا: إن سيدة سألت عنك بالتليفون.
فلم يعره كبير التفات.
وعاد الخادم بعد فترة يقول: إن سيدة على التليفون تسأل عنك، وأظنها السيدة الأولى.
فنهض همام إلى التليفون وآخر ما في ذهنه أن المتكلمة هي فتاة ذلك الصباح، وقال بغير اكتراث: من المتكلم؟
قال صوت كصوت الفتاة بعد التحريف المعهود في أداء التليفون: ألا تعرفني؟
قال: عرفتك الآن، أنت سارة ولا ريب!
ولم يلاحظ هو ولا لاحظت هي أنه حذف اللقب وخاطبها باسمها كما يتخاطب الأصدقاء الأقدمون!
قالت: أوكنت تنتظر هذه المحادثة؟
قال: لا أزعم أنني كنت أنتظرها، ولكني أحسب أنني كنت أتمناها!
قالت: إذن هل تحب أن أراك الليلة في دار الصور المتحركة ...؟
قال: بل أحب أن نلتقي على انفراد، فذلك أروح وأسلم.
قالت: إنما عنيت أن تشهد الرواية؛ لأنها تشبه قصتي تمام المشابهة، ويجوز أن تكون القصة مما يعنيك.
قال: لأن أسمعها من لسانك خير من أن أشهدها مع مئات.
قالت: فأين إذن؟
قال: ما رأيك في حديقة الأهرام؟ إنها مكان قلما يغشاه أحد في هذه الآونة، وسنلتقي في زاوية من الطريق ونستقل سيارة من هناك إلى الحديقة، وأسمع منك أو أقول لك كل ما تحبين. •••
كان أول ما فاهت به وهي تجلس إلى جانبه في السيارة أن قالت: لا بد أنك حسبتني مجنونة وقلت في خلدك: ما هذه الرعناء التي تقبل التقبيل، ثم تخرج مغضبة، ثم تتكلم بالتليفون، ثم تحضر إلى الموعد طائعة؟ فماذا حسبتني بربك؟ قل لي ولا تكذب!
قال: على كل حال لست بآسف لجنونك.
قالت: وأنت يا حضرة العاقل اللبيب الرشيد، أما حاولت أن تفهم لماذا كان خروجي بهذه المفاجأة قبل أن ترميني بالجنون؟
قال مستفهما: أللأمر علاقة بماريانا؟
قالت: هو ذاك، فلو أنني أطلت المكوث لباخ الغضب بعد ذلك، ولو أننا تواعدنا أمامها لوقعت في براثنها بلا رحمة، فإما أن أطيعها في كل ما يعن لها، وإما التهديد والإنذار.
فربت على خدها كأنها طفلة أجادت درسها، وقال: إنك لحصيفة يا هذه التي تتطلع مني إلى تهمة الجنون، ولكنها حصافة مخيفة.
ثم حكى لها ما قالته ماريانا بعد انصرافها، وكيف أنها لم تغضب حين قبلها، فكيف تغضب الفتيات الماجنات؟ ... فأخذت تضحك حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وثابت إلى الحصافة فأوصته أن يزور «ماريانا» في اليوم التالي ويثابر على سؤالها بضعة أيام، ثم ينسى المسألة كأنه ألقى بها في ذمة المصادفات.
وانطوت المسافة إلى حديقة الأهرام بمثل لمح البصر، وزعم همام وهو يناول السائق أجره أن سيارته أسرع ما أنجبته المصانع الحديثة، وأنه حرام عليه أن يشترك بها في سباق السيارات.
وخف كل شيء في الدنيا حتى أشفقا أن يذهل قانون الجاذبية عن واجبه المرسوم، وشعرا بهذه الخفة من حولهما، ولا سيما حين بصرا بالمكان خاليا من كل إنسان، فانطلق الكلام كأنه ثرثرة الأطفال، وانبعثا معا في خلق جديد.
وطلبا الطعام فظهر لهمام أن صاحبته من صاحبات النظام المتحذرات من كل ما يجلب السمنة في طعام وشراب، فصدقت على كل ما اقترحه عليها إلا صفحة شواء لا تشبع، فأراد أن يحذرها من القسوة على جسدها، وقال لها إن بعض الأجسام إذا خف لم تكن خفته على استواء واحد، فيخف هنا ويسمن هناك ويشوه من حيث يراد له حسن الهندام، ولا ينال أصحابه إلا الجوع والندم!
فنظرت إليه بعيني طفلة تخاف، وسألته مستوثقة: أحق ما تقول؟
قال: حق كل الحق، وسأريك إذا زرتني في المنزل صور التماثيل التي يعدونها في العالم بأسره نماذج لجمال الأنوثة، فإن تماثيل الزهرة التي صنعها اليونان - وهم أساتذة الذوق السليم - ليست على نحافة ولا ودقة في الخصور والأطراف، ولكنها مثال الجسم المتين المنسوق. وسيفسد علينا سماسرة البدع الحديثة تنويع الجمال في بنات حواء. فأين نرى البضاضة والسموق إذ أصبح النساء وكلهن نحيفات هزيلات؟ وكيف تتعدد القوالب إذا كانت المرأة لا تخلق لنا إلا في قالب واحد؟
وسرها ما سمعت فسألته عفوا: أيعجبك إذن هندام جسمي على ما هو عليه؟
قال متماجنا: ومن أين لي أن أحكم؟
ثم أحجم عن التمادي في هذه النغمة، وأيقن أنهما في هذه الخفة التي يشعران بها ليستطيعان أن يتحدثا عن الموت كما يتحدثان عن الرقص واللهو والمجانة، وأحب أن يتحول الحديث إلى قصة الزواج التي وعدته أن تقصها عليه، والتي يتوقف على فهمه إياها أن يفهم مدى العلاقة التي ستجمعه بهذه الفتاة الجالسة في تلك الساعة أمامه، فقال وهو لا يحذر من تنغيصها باستطراده: إن كنت لا ترضين زوجا بالتماس النحافة فعلام كل هذا العناء؟ أهناك رجل آخر؟
وصح ما قدره همام، فكان جوابها على نغمة الخفة التي شملت في تلك الساعة كل شيء، وقالت: أوتحسب أن المرأة لا تتزين إلا لزوج أو حبيب؟ إنها لتتزين لنفسها، وإنها لتتزين للرجل الذي في عالم الخيال، ولو لم يكن له في عالم الواقع وجود.
واسترسلت تتهكم كأنما سألت نفسها وهي تسأله: أأرضي زوجا؟ ألا ليت هذا كل ما يعنيني! ... إذن لأكلت قنطارا من الأرز والزبدة كل يوم!
واجتازت النقلة بين إرضاء الزوج وقصة الزواج في جملة أو جملتين، ثم انقضى نصف ساعة علم فيه همام صفوة ما أرادت أن يعلم، فلو سأله سائل: أصدقها في جميع قولها؟ أعذرها في جميع فعلها؟ لكان من الصعب عليه أن يجيب بالإيجاب.
بيد أنه أدرك مما سمع أنها طفلة فقدت رحمة الأمومة، ونمت وهي لا تعرف إلا جماح الحيوية العارمة لا تمسكها هداية أم ولا تقوى على حبسها التقاليد الضعاف، مع ذلك الذكاء الوقاد الذي لا تخفى عليه خافية الموانع والمحظورات، وأنها لو سيقت إلى زوج «يملأ عينها» ويحقق معنى الرجولة في رأيها وعاطفتها لاستقرت بعض الاستقرار وقنعت بعض القنوع، ولكنها أخطأت حظها من الزواج، وبرمت بفراغ قلبها فلم تعذر الدنيا، والتمست لقلبها وحده جميع الأعذار.
قالت وقد سردت له قصتها: أصغرت الآن في نظرك؟
قال: أمني تطلبين الحكم؟ أنا حاكم مغرض فلا تنفعك الشهادة مني، غير أني أقول إن الذين ينصفونك في الدنيا قليلون.
قالت: لا حاجة بي إلى إنصاف الدنيا، فلتحفظه لمن يطلبونه. •••
ولقد رجعا من الحديقة إلى الجيزة مشيا على الأقدام، لم يتعبا ولم يشكوا طول الطريق، وجاء الترام فركبت في مقصورة النساء وركب مع الرجال.
وكان الموعد الثاني في بيت همام.
أيام
أجل، هي فتاتي لا مراء فيها.
ولئن خشيت حبا فإنما هذه الفتاة التي يحق لي أن أخشى حبها وأخشاها.
سنحت هذه الخاطرة في حدس همام مع سنوح سارة في أول الطريق طفرة واحدة.
وكان همام ممن يقيسون ارتقاء المرأة بسلوكها في مسألة المواعيد، فأبغض النساء إليه المرأة التي تحسب سرور الرجل بلقياها سببا كافيا لتنكيده بالانتظار وتكديره بالإبطاء في الحضور إلى الموعد، ولو كان في وسعها أن تسبقه إليه ... وعندها أنه ما دام راغبا في لقائها فلا يصح أن يهنأ بهذه الرغبة خالصة ويسعد بهذه المتعة صافية، وعليه أن يبذل ثمنها نكدا لا ضرورة له وغصة لا حاجة إليها، وهو صاغر راغم يحرق الأرم ولا يعرف له حيلة غير الإنابة والتسليم، وإلا فماذا هو صانع؟
وجواب «ماذا هو صانع؟» هذه يختلف باختلاف الرجال واختلاف أنواع الهوى، أما جوابها عند همام فهو الانتظار خمس عشرة دقيقة على الأكثر ريثما ينقضي أقصى المدى المفروض لاختلاف الساعات في التقديم والتقدير، ثم ينصرف ولا يسأل عن العاقبة، إلا إذا اتضح له بعد ذلك أن العذر مقبول.
فلما رأى سارة - وهو يراقب الطريق من وراء النافذة - قد أقبلت في أول الطريق قبل الموعد بدقيقتين أو ثلاث، ولاحظ للمرة الثانية أنها تتحرى الدقة في رعاية المواعيد، فرح بمعرفتها ورحب بالعلاقة بينه وبينها، وأوجس في حينها أن تنشب هذه العلاقة جذورها في فؤاده فيتبعها ما لا بد أن يتبعها من لواعج ونكبات وفواجع، وأيقن أن هذه الفتاة تفهم كثيرا جدا؛ لأن الفتاة التي تفهم أن لها قيمة غير قيمة الدلال المصطنع، وأن العاطفة أنفس من أن تشاب بالتنكيد والتكدير لغير داع، لهي صاحبة ذكاء مطبوع يفقه قيمة الزمن وقيمة الشعور وقيمة السرور، ولا يقتصر ذكاؤها على النظر على عقربي الساعة لإدراك الميعاد!
وفي الحق أن سارة قد بهرت همام بأشياء كثيرة في أول زياراتها لمنزله غير رعايتها للمواعيد.
فلو كانت تعرف ما يروقه ويستهويه من النساء معرفة تفصيل وتدقيق لحسب أنها تجوز امتحانا عسيرا وتتعمد أن تخرج منه بالتزكية التي ليس بعدها تزكية، والشهادة التي ليس فوقها شهادة.
هو قليل المرح، فيروقه من المرأة أن تكون مرحة بغير تكلف ولا مبالغة، ويسمى المرح الذي يزين المرأة ويشوق الرجل مرحا «موقعا» تشبيها له بالغناء الذي ينطلق انطلاقا وينبعث انبعاثا ولكنه يقف حينما يحسن به الوقوف، ويسكن حينما يطيب منه السكون؛ يقف ويسكن لا على اقتضاب موحش وانقطاع ناشز، ولكن على نغمة تفصل اللحن من اللحن، أو على قافية تختم البيت بعد البيت، فهو الوقوف الذي يريح ويشوق ويزيد لذة الإيقاع وطرافة السماع.
وهو يحب من المرأة الزينة التي تغري من يبصرها إغراء لا يخفى، ولكنها لو أنكرته وزعمت أنها لم تتعمده ولم تفكر فيه لما استطاع أحد تكذيبها ببرهان.
وهو يحب المرأة التي تدرك الفكاهة، ويكره التي تتخذ من فكاهتها صناعة أو معرضا مفتوحا في كل ساعة، وأقرب دليل عنده على اتفاق المزاجين هو دليل «نيتشه» الذي يقول إن الضحك من نكتة واحدة هو العنوان الواضح على تقارب الضاحكين في المزاج والتفكير، وما انفصل اثنان بفاصل هو أبعد من ابتعادهما في تمييز النكات.
وهو يحب ربة البيت التي تكون أول خادمة فيه لأنها سيدته الوحيدة، ويحتقر المرأة التي تأنف من تلويث يديها في مطبخها كما يحتقر الرجل الذي يأنف من تلويث يديه في حقله أو حديقة داره.
وهو يحب المرأة التي تستطيع أن تكون «إنسانا» في بعض الأوقات بمعزل عن الأنوثة والذكورة، فلا تكون الأنوثة الحيوانية هي كل وظيفتها في الحياة.
ولقد تجلى له كل أولئك من سارة في أقل من ساعة، يوم جاءته في أول زيارة.
جاءته في زينة تلفت العين إلى كل مزية في جسدها، ولا تلفت النظر إلى عيب في نفسها.
ولم يكد يستقر بها المجلس حتى نهضت إلى أثاث الحجرة تضعه في مواضعه التي تهواها، وإلى جوانب البيت تعيد تنظيمه على النحو الذي تود أن تراه، وإلى المطبخ تجول فيه بنظرة فاحصة تدرك لأول وهلة كيف طهيت كل صفحة، وكيف أعدت كل طبخة، وكيف لوحظت النظافة في التحضير والغسل والتجفيف.
وحان وقت المائدة فقدم لها «الديك» قائلا: هذا اعتراف بفضل الديك في تعارفنا، وتمهيد محادثتنا الأولى.
فما أسرع ما قالها حتى بادرته متهافتة: لا أحب يا صاحبي أن تعرف لي فضلا على هذه الطريقة!
فطرب للنكتة ووجم في وقت واحد، ولو كان يتوقع عند فتاة صغيرة هذه الفكاهة الماضية لاحترس بعض الاحتراس، ولكنها فاجأته بها فوجم ولم يسعه إلا أن ينقذ نفسه وهو يردد في شيء من التلعثم: إن كنت لا تأبين أن أمزجك بدمي ولحمي وأن أجعلك جزءا مني فالطريقة لا تهم، وأنت أكلة شهية تطيب لي بغير حاجة إلى السكاكين والقدور!
وكان حديثها على المائدة - وقد استغرقت ساعتين - على هذه الوتيرة من أمتع وأفكه ما تكون أحاديث الموائد.
لاحظت أنه لا يأكل من صدر الديك ويقصر اختياره على الجناحين والوركين، فقالت: كان من حقنا أن نتزوج، فنحن زوجان طبيعيان، أنت لا تأكل الصدر وأنا لا آكل غيره، فلا يشجر بيننا نزاع.
قال عفو الخاطر غير عامد لما يقول: هذا مذهب شوبنهور منقولا إلى المطبخ!
وأحس أنه أقحم شوبنهور في غير مقحم؛ أعلى المائدة ومع فتاة يدار ذكر الفيلسوف المتشائم عدو النساء؟!
وإنه ليهم بتوبيخ لسانه والتراجع إلى موضوع غير هذا الموضوع الذي أثاره، وإنه ليريد أن يأخذ عليها سبيل السؤال عن شوبنهور ومذهب شوبنهور إذا هي تلاحقة قائلة: نعم، القصير يطلب الطويلة، والأبيض يطلب السمراء، والبدين يطلب النحيفة، ومن يأكل جناح الدجاجة يطلب من لا تأكل الجناح ... هذا تطبيق صحيح لمذهب الفيلسوف.
فراعه تعقيبها وسرعة التفاتها إلى «محل الشاهد» - كما يقولون - أضعاف ما راعته نكاتها، ولمحت هي دهشته فاستطردت تقول: على رسلك، لا تخف ولا تعجل، فلست بحمد الله فيلسوفة، وما قرأت شوبنهور إلا لأن «أحدا» أرادني على قراءته، ولأن تفهيمه إياي كان ذريعة اللقاء بيننا، وما كان بالجائز أن يحضر إلي ليفهمني رواية أو مقالة ممتعة ... فلم يعد لنا بد من الفلسفة وأمرنا إلى الله! فأغرب همام في الضحك؛ لأنه تخيل شوبنهور العظيم بوجهه العبوس وعينيه الظريفتين تبرقان من الحرد والسخرية وهو يسمع بأذنيه كيف انتقمت منه امرأة وهزئت به، وسخرت فلسفته لغرامها.
وأثنى همام على صراحة سارة وقلة دعواها، واطمأن إلى سياق الفلاسفة والشعراء فقال: الآن آمنت مرة أخرى أن صديقي «هيني» خبير بالنساء في جده ومزاحه ...
قالت: ومن صديقك هذا هيني؟
قال: لا تتهيبي، فليس هو بفيلسوف مغلق، ولا هو بالكاتب الذي يحوجك إلى ترجمان أو مفسر، إن حلا لك أن تقرأيه وحدك فهو شاعر سلس سائغ، وما أحسب له نظيرا في الدعابة وخفة الروح.
قالت: أصحيح؟ وماذا قال عنا معشر النساء هذا الشاعر الظريف؟
قال: إنه ضجر من سيدة دعية لها عين واحدة تتطفل على الأدب، فكتب عنها يقول: كل امرأة تكتب فإنما تتجه عينيها إلى القرطاس وبالعين الثانية إلى رجل ... ما عدا فلانة طبعا ... فإن لها عينا واحدة كما يعلم القراء!
فراقتها غمزة الشاعر للمرأة الدعية، وقالت: أما من جهتي أنا فإني لأقر وأقسم بين يديك وبين يدي الله أن هيني لظريف وإنه لصادق، فما تقرأ المرأة إلا عن رجل أو بسبب رجل، وكل ما عدا ذلك كذب وادعاء.
وتشعب الحديث، وتفتحت مغاليق الأسرار من الجانبين، وفي غير مناسبة ظاهرة سألته وفي عينيها خبث كخبث الأطفال المناوئين: كم عمرك يا همام؟
قال همام: دعي هذه المحرجات يا بنية، فإن أبيت إلا الإلحاح فسأخبرك على شريطة واحدة، وهي أن تخبريني أنت - بداءة - لماذا تسألين؟
قالت: ولم؟ أيتغير عمرك بتغير أسباب السؤال؟ على أنني لا أنوي أن أدعك تطيل التخمين، وأريد أن أفرض لك اثنتين وثلاثين سنة إذا كنا متفقين في نسبة السن كما اتفقنا في غيرها من المقارنات ... فإنني أنا في الثالثة والعشرين، وينبغي أن يكون عمر المرأة نصف عمر الرجل مضافا إليه سبع سنوات.
قال: بل تسمحين أن يكون عمرك خمسا وعشرين ليتفق الحساب من الطرفين، وأقسم لك أنني ما أسقطت يوما واحدا، وأنك أسقطت السنتين الناقصتين! •••
من الواجب أن نعرف لأيام النعيم وداعا غير وداع الأسى والأنين الذي اصطلح عليه شعراء الاصطلاح في بعض العصور العربية.
فمن الخيانة للسرور عند هؤلاء الناس أن تلوح له ساعة وداعه بمنديل غير مبلول، وأن تفرغ منه شبعان راضيا عن الشبع شاكرا للزاد، خاليا بذكرياته للتملي به والتأمل فيه.
وشعراء الاصطلاح جهلاء بالإنسان، لا يدرون ما الأسى ولا يدرون ما السرور، فالواقع أن الإنسان ليرحب بالشبع من النعيم وهو شاكر كما يرحب بالشبع من المائدة وهو شاكر، وترتفع المائدة فلا يحزنه أن ترتفع بعدما استوفى صنوفها وروى أحشاءه من آكالها وأشرباتها وهنأ حواسه جميعا بما استطاع أن يلتهم من دسمها وحلواها، ومن شبع من الروضة زهرا ولونا وأريجا وظلا فلا بد أن يشوقه أن يغمض عينيه ليشبع منها خيالا ومراجعة، ويضع لها صورة مجملة يتأملها ويستبقيها، ويفسح لها مكانا من متحف النفس تأوي إليه أبد الآبدين بنجوة عن الواقع وطوارق الأحداث؛ انتهى السرور الظاهر فليبدأ السرور الباطن، وذهب السرور العابر فليبق السرور الدائم، وتم السرور الذي يملكنا ويؤثر فينا فلننظر في السرور الذي نملكه ونؤثر فيه.
وهكذا ودع همام يومه شبعان جد الشبع، قانعا أوفى ما يكون القنوع في تركيب أبناء الفناء، مستريحا إلى الوداع كما يستريح الشاكر المكتفي لا كما يستريح السائم الملول، وأغمض عينيه على فراشه تلك الليلة يستعيد ويستجمع ويستمرئ ويتحدى النوم وهو مقبل إليه: أيها النوم، أتحدى أحلامك أن تعطيني فوق ما أخذت اليوم في صحو اليقظة ... وأنا كاسب الرهان على الحالين ... •••
وتوالت المواعيد بعد الزيارة الأولى على تباعد بينهما في مبدأ الأمر، ثم على تقارب يوشك أن يكون بلا انقطاع.
إلا أنهما اتفقا على أن ينذرا سحابة يوم الجمعة لخلوة كاملة لا مشاركة فيها ولا يعوقهما عنها عائق.
فيوما على رمال الهرم؛ لأنها تريد أن توقظ الفراعنة!
ويوما على القناطر الخيرية؛ لأنها تريد أن تحاسب النيل العتيق على عرائسه الغريقات.
ويوما على زورق بين روض الفرج والروضة، ويوما في حلوان عند آثار صقارة، ويوما في صحراء ألماظة، ويوما في جوار عين شمس والمطرية، فإن لم تكن رياضة خلاء فعكوف في المنزل من الصباح إلى المساء، وذلك أمتع الأيام.
يخلو المنزل نهارها فلا طاهي فيه ولا خادم ولا نزيل غير سارة وهمام، وقد جعلا خدمة المنزل في ذلك اليوم شعائر مقدسة كالشعائر التي يتولاها الكهان، فهما يتبركان بها ولا يخجلان منها وهي في يدها المكنسة وهو في يده سكينة التخريط ... أو هي تمزج الحلوى وهو يقلب الآنية على النار ... أو هي تملأ الأطباق وهو ينقلها إلى المائدة، حتى إذا حان وقت الطعام مثلت إلى جانب المائدة في وقار وخشوع، وقالت: انتهى دور الخدمة، فتفضلوا أيها السادة.
وتتسرب إلى المنزل أنباء الأصيل بالاستقراء لا بالمشاهدة في معظم الأيام، فيقرآن أو يسمعان بعض الأغاني، أو يلعبان «الدومينة» قليلا، وهي لعبة تحذقها سارة ويعتقد همام أنها أصح الألعاب وأشدها مطابقة للحياة.
فالشطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيه مكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفة وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة.
أما «الدومينة» ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، وللغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك، أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل من يشاء، ولها قوانين تمنعك أن تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك.
قالت سارة يوما بعدما استعادته شرح «فلسفة الدومينة» للمرة الخامسة أو السادسة أو السابعة: أولا تستمتع بشيء إلا أن تكون له فلسفة؟
قال: لا، بل أستمتع بالشيء ثم أبحث عن فلسفته، وإنني لأبحث عن فلسفته كما يجيل الشارب الكأس في جميع جوانب فمه ولهواته، كي لا يبقى جانب من النفس لا يأخذ نصيبه من متاعه، فأحسه وأعمله وأذكره وأفكر فيه وأستقصي معناه.
وأمثال هذه الأسئلة كانت تصدر منها كما يسأل الصبي أباه الشيخ في دالة ومحبة، أو كما يفتش المالك منزلا دخله واستولى عليه فراح يسأل عن كل صغيرة وكبيرة فيه، فما كان في تلك الأسئلة فضول غريب ولا تهجم واغل، ولكن السائل والمسئول عنه هما جزء من مكان واحد تدور عليهما أسواره وتحتويهما جدرانه، ويتفقد فيه من يشاء ما يشاء، ولا فضول ولا اقتحام.
لماذا هام بها؟
حواء أخرجت من جنة، وبناتها كل يوم يخرجن من جنات ... فهل المرأة ضرة الجنة تغار منها غيرة الضرائر؟ لا ندري، ولكنها هي المرأة أبدا لا تريد للرجل أن ينعم بغير نعيمها، أو يسعد بغير سعادتها، وليس يعنيها أن تفرح معه كما يعنيها أن تكون سبب فرحه وينبوع سعادته دون كل ينبوع، وربما أرضاها أن تكون سبب ألمه وألمها، ولم يرضها أن تشاركه السعادة الوافية، إن كان للسعادة سبب سواها.
كان همام قانعا بالمودة الهنيئة الوادعة بينه وبين سارة، إن حضرت سره حضورها، وإن غابت لم يغضبه غيابها، لا يفرض عليها حقا، ولا يحسب أنها تفرض حقا عليه، ويتصلان وينفصلان ولا قلق في الأمر ولا استطلاع ولا استكراه؛ لها وقتها كله وله وقته كله، إلا ما يشتركان فيه من الوقت فهو لهما على السواء، بلا اقتسام ولا جور ولا اعتداء.
غير أن «سارة» لم يعجبها هذا الجدول المترقرق المنساب، وأبت إلا أن تراه شلالا يعج ويثور، ويضطرب ويمور، فنصبت فيه الحواجز وأقامت فيه الصخور.
كان يسألها في مبدأ العلاقة بينهما عن الموعد المقبل فتذكر له يوما ويذكر هو أن ذلك اليوم يوم زيارة صديق أو يوم شهود احتفال أو يوم عمل من الأعمال التي تشغله عن اللقاء، ويرجوها أن تنظر في تأجيل الموعد فلا يعجبها ذلك.
وكانت تستعجل الانصراف في بعض زياراتها وتعتذر إليه بموعد أو بمصلحة أو بما شابه هذه المعاذير، فيأذن لها ولا يمسكها، فلا يعجبها ذلك.
وقالت له يوما بعبارة صريحة إنه لو «أمرها» بالبقاء لبقيت وهي مسرورة.
وقالت له أياما إنه لو فضل موعدها على كل موعد غيره لفهمت أنها أثيرة عنده وأن لقاءها محبب إليه مفضل لديه، فلما قال لها إنه يفضل لقاءها على غيره إذا كان حرا في الارتباط بهذا أو بذاك، قالت هذه حجج يحتج بها الرجال حين لا يريدون وينبذونها حين لا يريدون، وإنه لو ترك من أجلها ميعادا لتركت من أجله مواعيد.
واستباحت لنفسها رويدا رويدا أن تفتش في أوراقه الخاصة وهو لا يمنعها، فعثرت فيها مرة بصورة فتاة هيفاء ممشوقة القوام في غلالة تنم على محاسن بدنها وانسجام أوصالها، فصاحت به عابسة ما هذه؟
وكان همام قد نسي الصورة ونسي أنها هناك، فنظر إليها وقال بغير اكتراث: فتاة راقصة.
غير أنه لاحظ أن سارة لم تؤخذ بجمال الفتاة كما أخذت بنوع جمالها، فلو كانت أجمل مما هي مائة مرة وكانت تشبه سارة في بضاضتها لما راعها أن تعثر بصورتها هناك تلك الروعة التي بدرت منها في صيحتها العابسة، لكن الفتاة هيفاء، وجميلة الهيف، وليس فيها ما يعيب بعض النحيفات من هزال وقلة اعتدال، وطلعتها مع ذلك طلعة راقصة كسائر أوصالها تكاد تنضح بالخفة والنغم.
وقد كانت نوبة النحافة والتنحيف يومئذ في بدايتها وفي إبانها، وكانت سارة تروض بدنها رياضة قاسية لتخف وتستوي على طراز لجمال الحديث، فكان هذا جميعه مما ضاعف اهتمامها بالفتاة وألهب فضولها.
قالت: وفيم تحتفظ بها؟
قال: صورة فنية جميلة، كأنها تمثال، كأنها تحفة.
قالت وهي تنظر إلى توقيع الفتاة وخطها الركيك: ولماذا هذا التوقيع؟ ولما لم تقرنها بثانية وثالثة ورابعة؟ أهي الراقصة الوحيدة التي راقك جمالها؟
قال: إن كان لا يقنعك إلا مجموعة كاملة من صور الراقصات فليس في الأمر صعوبة ... ثم قال: لو علمت يا خبيثة مقدار ما وهبك الله من حدة الذكاء لأنفت أن تغاري من صاحبة هذه الصورة وأنت ترين «أميتها» ماثلة في خطها.
قالت: أوتظن أنني أبتهج بأن تحبني لحدة ذكائي وتحب هذه الراقصة لما ... لما لست أدري ما أنت واجد فيها؟
قال: أنا لا أحبها.
قالت: أصحيح؟ إذن هل أنا في حل من تمزيق الصورة؟
قال: لا أمنعك ولكنها خسارة.
قالت: أهي خسارة أم تخشى أن تسألك عنها صاحبتها؟ إنني لا أنافس الراقصات يا سيدي، فاحتفظ بالصورة كما تهوى، ولكن أرجوك أن ترد إلي صورتي، فلست أختار لها أن تقيم هنا وأمثال هذه الصور في مكان واحد.
فكبر الأمر على همام، وأحس لأول مرة أن فراق سارة يثقل عليه، فقال لها: إن كان لا يريحك إلا أن تمزقي الصورة فمزقيها ...
فما أمهلته أن يتم جملته حتى قبضت على الصورة تمزقها كل ممزق كأنها تضمر لصاحبتها ضغينة وهي لم ترها ولم تسمع باسمها، ولا يذكر همام أنه بصر بامرأة تفرح هذا الفرح بتمزيق ورقة إلا امرأة جاهلة أسلمها الساحر المشعوذ لفة من الورق زعم أنها هي الرقية التي كتبتها لها الضرائر ليبتلينها بالسقم في جسمها والنكد في عيشها، فمزقتها وكأنها تود أن يصير جسمها كله أيديا تشترك في تمزيقها.
وهكذا أخذت تحاسبه وأخذ يحاسبها، وشعر بالتضييق عليه، ولكنه لم يضجر منه ولم يتبرم بالباعث إليه، وأنشأ يتعود أن يفكر فيما تصنعه وفيمن تلقاه أثناء غيابها، ويتعود أن يسألها وأن يتحرى حركاتها ... وفرغ لها فوقع في روعه ألا يقنع منها بما دون الاستئثار والتفرد، وانقلب الجدول الهادئ المنساب رويدا رويدا فغاب فيه الحمل الوديع وبرز منه الأسد المتحفز، ولو ظل كما كان جدولا وديعا لصفا واسترسل، أو لانتهى كما ينتهي النهر إلى مصبه في رفق وسخاوة. •••
ذلك سبب من أسباب الهيام، وقلما يكون الهيام لسبب واحد.
ومن أسبابه الكثيرة لذة الاستكشاف الدائم المصحوب بالتجديد والتنويع؛ فإن الرجل ليسره أن يستكشف المرأة ويسره ألا يزال واجدا فيها كل حين ميدانا جديدا للاستكشاف، ويسره أن يراقب المرأة وهي تستكشفه وتتخذ لها مسربا إلى عواطفه، وترفع من دخائله حجابا وراء حجاب، ويسره أن يستكشفا الدنيا معا والناس معا والطبيعة معا بروح مركبة من روحين وجسد مؤلف من جسدين، وضياء كله شفوف وتجديد وآفاق تنساح إلى آفاق.
فإن وقف الاستكشاف ولم يتجدد من جانب الرجل ومن جانب المرأة فقد يكون سببا للسآمة والعزوف لا سببا للشغف والهيام.
إن المرأة في استكشافها الرجل لكمن يجوس خلال الغابة المرهوبة ليهتدي أولا وآخرا إلى موطن الرهبة منها ووسيلة الطمأنينة إلى تلك الرهبة، ثم يرتع في صيدها وثمرها ويشبع من مظاهر العظمة والفخامة فيها.
وإن الرجل في استكشافه المرأة لكمن يجوس خلال الروضة الأريضة ليهتدي إلى مجتمع الظل والراحة والمتعة والحلاوة بين ألفافها وثناياها؛ فهو يستكشفها ليعرف أحلى ما فيها وهي تستكشفه لتعرف أرهب ما فيه، ثم تصبح الروضة روضة وغابة، وتصبح الغابة غابة وروضة، ويقوم حواليهما سور واحد يشعران به إذا خرجا إلى الدنيا، ولا يشعران به وهما بنجوة منها.
وكان همام وسارة يتكاشفان كل يوم ولا يخفيان أنهما يتكاشفان، بل يتحدثان بما يعن من شأنها وشأنه كأنهما رحالتان في نزهة طويلة، يشتركان في مراجعة عمل النهار كلما سكنا إلى ظلال الخيمة في ظلام المساء.
كان يراقبها في نفسها ويراقبها في نفسه، كان يرى المرأة المرحة الطروب وهي تلهو وتعبث، ويرى المرأة الكسيرة المطواع وهي تلتمس الأمان والعزاء، ويرى الإنسانة الفطرية وهي تطيع الغريزة وتلبس «دورها» على مسرح الطبيعة بين نباتها وحيوانها ومكانها وأهوائها، ويرى المرأة الذكية وهي تقرأ النثر والشعر وتنتقد الصور المتحركة، ويرى المرأة العصرية وهي تتغلب على امرأة الجيل الغابر في ميدان، وتخضع لها وتنهزم أمامها في ميدان، ويرى من وراء ذلك جميعه وفي خلال جميعه المرأة الخالدة التي لا تتحول ولا تتبدل، والأنثى السرمدية التي يهمها من «الذكر» الحماية والجاه قبل كل شيء وبعد كل شيء، ولا يهمها العقل والرجحان والفضائل والمناقب إلا لأنها وجه من وجوه الحماية والجاه.
لقد أكبرته كثيرا وهي تسمع الثناء عليه في مجالس أناس من علية الناس لا يعلمون ما بينهما من صلة، ولا يستريحون إليها لو علموها.
ولقد أكبرته كثيرا وهي تقرأ له أسفار النوابغ من أساطين الأقدمين وفحول المحدثين الغربيين، وهو يعقب على ما يسمع بكلمة هنا وكلمة هناك، ويناقش لها ما يبدو أنه حقيق بالمناقشة، وليست هي من الجهل بحيث يخفى عليها سداد مناقشاته، وليست هي من قلة الثقة به بحيث تغلق المنافذ على ذهنها مكابرة وتقليدا كما يفعل العامة الجامدون، وليست هي من العلم بحيث تفهم أن نوابغ الغرب كائنة ما كانت أقدارهم وبالغا ما بلغ صيتهم واشتهارهم خاضعون للنقد قابلون للتشريح والتصحيح، بل هي نشأت نشأتها الأولى على تقديس هؤلاء النوابغ والعلو بهم إلى مرتبة العصمة والتأليه، فإذا بدهتها الملاحظة ولم تجهل سدادها فغرت فاها الصغير وحملقت بعينيها الواسعتين كما تفعل الطفلة وهي تتفرج على منظر طريف، وجال في قلبها إكبار تعبر عنه بكل ما تستطيع من علامات التحبب والتدليل.
إلا أن شيئا من ذلك - في مدى السنوات الطوال - لم ينعشها ولم يلمس كوامن أنوثتها ولم يقدح من سرورها به وحنينها إلى جواره مثل ما نعشها وسرى فيها وتجلى عليها في حادثة عرضية حدثت ذات مساء في مركبة من مركبات الأجرة بين الزمالك والجزيرة.
كانت المركبة تسير على مهل والحوذي قد غفل عن إشعال مصابيحها بعد مغيب الشمس، فصدمت واحدا من ثلاثة أو أربعة من رجال الضبط كانوا يتمشون على ساحل النيل في محاذاة العوامات والذهبيات، وذلك جرم من الحوذي تضيق عنه رحمة الله! فإن كل شيء ليجوز للحوذي الغافل إلا أن يصدم السادة «رجال الضبط»، وهم هم أصحاب الحول والطول والقول الفصل في الخيل والمركبات والسيارات والحوذية والساقة، وما يحملون ومن يحملون! ... فإذا كان ذلك في أثناء «تأدية وظيفة» كما يسهل القول والإثبات، فويل يومئذ للمسكين ... إنه لذاهب من الدار إلى النار وما له من شفيع.
وقد كان أصاب الغافل الأثيم جزاءه اليسير في سرعة لا تليق بمركبات الخيل ولو كان لها مائة حصان، فجذبه «رجال الأمن» من مقعده الرفيع وصافحوا صدغيه بكل ما وسعته الكفوف من مران على هذا الضرب من المصافحات، وجعل الرجل يستغيث ويعتذر ويتوسل ولا جواب له إلا ضربات متداركات تتبارى فيها الألسنة والكفوف.
وطال الخصام ولاح لهمام أنه لا يؤذن بختام ... فلم يجد مناصا من النزول والسعي في الإصلاح، ولم يغب عن باله أن اللجاجة قد تفضي برجل الضبط «المعتدى عليه» إلى كتابة محضر واستدعاء شهود، وأنه سيكون لا محالة واحدا من هؤلاء الشهود، فإذا أفضى الأمر إلى ذلك فقد كان ينوي أن يعطيهم عنوانه إن قنعوا به أو يصاحبهم بعد أن يحتال في صرف سارة وإبعادها عن القضية ما استطاع.
على أن المسألة لم تلجئ إلى شيء من ذاك، ولم تستغرق أكثر من دقيقة أو دقيقتين، فقد كان «رجال الضبط» ظرفاء رقاق الحاشية يعرفون همام بالرؤية والسماع وإن لم تجمعهم به صداقة، فتلطف أكبرهم وحيا هماما بلقبه دون اسمه، واتجه إلى الحوذي بعد أن صفعه الصفعة الأخيرة وأسلمه الرخصة المنزوعة ... وهو يهنئه بالسلامة، إكراما للرجل الذي معه لا إكراما لأمه وأبيه اللذين من صفاتهما كيت وكيت، كما علم قبل ذلك على ما يظهر.
ولم تكن سارة من السذاجة بحيث تفرق من محذور هذه الحادثة، ولم تكن من قلة الحيلة بحيث تعي بتدبيرها أن ساءت الجريرة وقد أفهمها همام قبل نزوله من المركبة أن اتقاء المحذور سهل من «الوجهة الرسمية»، وقد سبق لهما أن تعرضا معا لمهاجمة بعض العاطلين الذين يأخذون الطرقات على المارة في الضواحي البعيدة رجاء المساومة على ما يحسبونه من الفضائح الغرامية، فنظرت إليهم غير حافلة وتركت هماما يزجرهم وينهرهم ليعلموا ألا رجاء في مساومة ولا خوف من فضيحة، فلم يكن سرورها بصاحبها تلك الليلة سرور النجاة من مأزق مخيف والفزع من عاقبة محذورة، وإنما كان سرور المرأة بالحماية والثقة والاستسلام وهي مغمضة العينين.
فلما عاد همام إلى المركبة واستوى في مكانه فيها لم تزد على أن زحفت إلى جانبه واستكانت إلى جواره وتطامنت في حضنه تطامن الفرخ في حضن أبيه، وهمست تحت أذنه وهي تمسح خدها بخده: ما أسعدني بجوارك سيدي ومولاي! وكانت تلك أول مرة دعته فيها تلك الدعوة، وكان ذلك كل ما فاهت به من تعبير عن سرورها، وما كانت في حاجة إلى أن تزيد؛ فقد كان شعور همام بسرورها الناعم المرفرف الشكور غنيا عن كل كلام.
وعرف همام أنها استكشفته وطبعته في صفحة المحاكاة عندها بعد فترة وجيزة، فجعلت تحكيه وتمثله في ضحكه وحديثه وتأمينه الصامت، واعتراضه بالإشارة، وردوده وهو مشغول، وردوده وهو حاضر القريحة، وتعقد أحيانا محادثة طويلة بينها وبين نفسها تتكلم فيها مرة بصوتها وأسلوبها ومرة بصوت همام وأسلوبه، فتجيد المحاكاة في اللهجة والتفكير إجادة لا يعيبها الفرق بين الصوتين والجسمين والهيئتين، بل يزيدها ملاحة على ملاحة.
وإنها لقد عرفت منه بزكانة المرأة في شهر واحد ما لم يعرفه أصدقاؤه وخلطاؤه في أعوام، فتقول له إن الزوبعة منك لا تخيف ولا تطول بمقدار ما يخيف الاستقرار الذي بطل فيه التردد وخلا من كل هياج وكل ثورة، وتقول له: إنني إذا أردت أن أهزمك لم أبرز لك بسلاح ولم ألبس لك شكة الحرب، فأقودك من أذنيك. •••
وما زالا يتكاشفان ويتكاشفان حتى علما أنهما مكشوفان لا يتواريان في جنة لا ينبت فيها ورق التين، فكان هذا التكاشف سببا ثانيا من أسباب هيام همام، وقلما ينحصر الهيام في سببين اثنين.
نعم، فقد كان لهيامه بها أسباب مختلفات، بعضها محدود واضح المعالم وبعضها مزيج من شتى أسباب لا تتضح لها حدود.
فمن تلك الأسباب الواضحة أنه كان يحس إحساسا شديدا أن توديع هذه العاطفة قد يرادف في معناه توديع الحياة.
لأنه تعلق بها وهو في العقد الرابع من عمره، فإذا انقطع ما بينه وبينها فمن بفتاة تخلفها في ذكائها ونضارتها وموافقتها؟ وإذا وجد الفتاة فمن له بالقلب الذي يلبي دواعي الصبا وينزع منازع الفتوة ويتقد ويخبو على حسب المشيئة، ويغامر اليوم في عاطفة مرجوة وقد كان بالأمس في عاطفة يائسة مضيعة؟
إن خبت هذه العاطفة فهي جذوة الغرام الأخيرة، عليه أن يذكيها ويرعاها كما كان الأقدمون يرعون الشعلة المقدسة مخافة أن تنطفي فلا يستعيدوها، قبل أن يحذقوا صناعة الزناد والثقاب. •••
ومن أسباب هيامه بها ألفة متغلغلة في أنحاء النفس والجسد كألفة المدمن للعقار المخدر، من شاء أن يسميها حبا فهو صادق، ومن شاء أن يسميها بغضا فهو صادق، ولمن شاء أن يزعم أن المدمن يتعاطى عقاره وهو راغب فيه، ولمن شاء أن يزعم أنه يتعاطاه وهو ساخط عليه فقصارى القول أنه يتعاطاه، وأن الإقلاع عنه يكلفه جهد الطاقة وغاية المشقة.
ومن الحق أن نذكر هنا أن الرجل يعشق الأنثى في مبدأ الأمر؛ لأنها امرأة بعينها؛ امرأة بصفاتها الشخصية وخلالها التي تتميز بها بين سائر النساء، ولكنه إذا أوغل في عشقها وانغمس فيه أحبها لأنها «المرأة» كلها أو المرأة التي تتمثل فيها الأنوثة بحذافيرها وتجتمع فيها صفات حواء وجميع بناتها، فهي تثير فيه كل ما تثيره الأنوثة من شعور الحياة، وأي شعور هو بعيد من نفس الإنسان في هذه الحالة؟ إن الأنوثة لتثير فيه شعور القوة، وشعور الجمال، وشعور الألم، وشعور الجموح والانطلاق من قيود المنطق والحكمة، وشعور الإنسان كله، وشعور الحيوان كله، بل تثير فيه حتى الشعور بما وراء الطبيعة من أسرار مرهوبة ومن أغوار لا يسبر مداها في النور والظلام؛ لأن المرأة حين تمثل الأنوثة هي مناط الخلق والتكوين، وأداة التوليد والدوام والخلود، وهي مظهر القوة التي بيديها كل شيء في الوجود وكل شيء في الإنسان. •••
وكذلك تجمعت أسباب الهيام من ألفة إلى متعة إلى تفاهم إلى اتفاق في أمور غيرها، حتى استحكمت أواصر الملازمة، وتلاحمت وشائج الفتنة، فلما أنشأ يحاسبها على حقوق الوفاء، ويتقاضاها أمانة الإخلاص، لم يكن ذلك غلوا منه في تنزيه العصمة الإنسانية، ولا غلوا في تنزيه عصمتها، ولكنه حاسبها ذلك الحساب لأنه حتم لا مندوحة له عنه، ولأن السكوت عنها كان أشق عليه من حسابها.
وإلا فماذا هو صانع؟ أيفارقها؟ ذلك عسير!
أيستبقيها على أن يكون لها وحدها ولا تكون له وحده؟ ليس ذلك بيسير!
وهكذا يتفق أن يحاسب الرجل المرأة بميزان الملائكة، وهو لا يستبعد منها غدر الشياطين.
حبان
إذا ميز الرجل المرأة بين جميع النساء، فذلك هو الحب.
إذا أصبح النساء جميعا لا يغنين الرجل ما تغنيه امرأة واحدة، فذلك هو الحب.
إذا ميز الرجل المرأة لا لأنها أجمل النساء، ولا لأنها أذكى النساء، ولا لأنها أوفى النساء، ولا لأنها أولى النساء بالحب، ولكن لأنها هي بمحاسنها وعيوبها، فذلك هو الحب.
وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد، لكن لا بد من اختلاف بين الحبين في النوع، أو الدرجة، أو في الرجاء.
فيكون أحد الحبين خالصا للروح والوجدان، ويكون الحب الآخر مستغرقا شاملا للروحين والجسدين.
أو يكون أحد الحبين مقبلا صاعدا، والحب الآخر آخذا في الإدبار والهبوط.
أو يكون أحد الحبين مغريا بالرجاء، والحب الآخر مشوبا باليأس والريبة.
أما أن يجتمع حبان قويان من نوع واحد في وقت واحد فذلك ازدواج غير معهود في الطباع؛ لأن العاطفة لا تقف دون المدى ولا تعرف الحدود، وإذا بلغت مداها العاطفة جبت ما سواها.
وقد كان همام يحب امرأة أخرى حين التقى بسارة في بيت ماريانا، يحبها الحب الذي جعله ينتظر الرسالة أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء، وكانا كثيرا ما يتراسلان أو يتحدثان، وكثيرا ما يتباعدان ويلتزمان الصمت الطويل إيثارا للتقية واجتنابا للقال والقيل وتهدئة من جماح العاطفة إذا خافا عليها الانقطاع، ولكنهما في جميع ذلك كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين ، يتلاقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق ...
كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل، ولا يزيدان.
وكان يغازلها فتومي إليه بأصبعها كالمنذرة المتوعدة، فإذا نظر إلى عينيها لم يدر أتستزيده أم تنهاه، ولكنه يدري أن الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز.
وكان يكتب إليها فيفيض ويسترسل، ويذكر الشوق والوجد والأمل، فإذا لقيها بعد ذلك لم ير منها ما ينم على استياء، ولم يسمع منها ما يدل على وصول الخطاب، وإنما يسمع الجواب باللحن والإيماء دون الإعراب والإفصاح.
وربما تواعدا إلى جلسة من جلسات الصور المتحركة في مكان لا غبار عليه، فيتحدثان بلسان بطل الرواية وبطلتها، ويسهبان ما احتملت الكناية الإسهاب، ثم يغيران سياق الحديث في غير اقتضاب ولا ابتسار.
وكانا أشبه بالنجمين السيارين في المنظومة الواحدة، لا يزالان يحومان في نطاق واحد، ويتجاذبان حول محور واحد، ولكنهما يحذران التقارب ... لأنه اصطدام!
ولم تكن هند - وليكن اسمها هندا - لتعتقد الرهبانية في همام، ولا لتزعم بينها وبين وجدانها أنه معزول عن عالم النساء، غير أنها لم تكن تحفل اتصاله بالنساء ما دام اسمهن نساء لا يلوح من بينهن اسم امرأة واحدة، وشبح غرام واحد؛ فإن اسم النساء في هذه الحالة لا يدل على معنى، ولا انتقاص فيه لما بينهما من رعاية واستئثار.
فلما شعرت بأن النساء تحولن عنده إلى امرأة لها شأن غير شئون أخواتها من بنات حواء زارته على حين غرة في مكتب عمله، وهي الزيارة الأولى والأخيرة من قبيلها، ولم يكن لها مسوغ من طول الغيبة ولا امتناع الحديث في التليفون، فما شك لحظة في غرض الزيارة ولا في باعثها، وتوقع منها عتبا عنيفا على أسلوبها في التعبير الصامت المبين، ولكنه علم سلفا أنها غير منصفة في عتبها؛ لأنه لم يختلس منها شيئا هو من حقها عليه، فرحب بها وأبدى لها استغرابه لزيارتها وابتهاجه بسؤالها عنه، وأنصت مترقبا ... فقالت بعد فترة وصوتها يتهدج: لست زائرة ولا سائلة!
قال: إذن ...
ولم يتمها لأنها نظرت إليه كمن يستحلفه ألا يتكلم، وانحدرت من عينيها دمعتان.
فما تمالك نفسه أن تناول يدها ورفعها إلى فمه يقبلها ويعيد تقبيلها، فمانعته ولم تكف عن النظر إليه، ثم استجمعت عزمها ونهضت منصرفة، وهي تتمتم هامسة: دع يدي ودعني! ثم انصرفت بعد أن سكن جأشها وزال من صفحة وجهها أثر الدموع.
لو جاءت هذه الزيارة وهمام في بداية العلاقة بسارة لما كان بعيدا أن تقضي على تلك العلاقة، وأن ترد سارة اسما مغمورا في عامة عنوان النساء.
بيد أنها جاءت وقد أوغلت العلاقة بينهما إيغالها الذي لا تراجع فيه، وصمدت على طريقها تعدو مع الأيام عدوا لا تنظر فيه إلى الوراء، وفسح لها الطريق أن هماما لم يتوغل فيها مثقلا بتبكيت ضمير؛ لأنه لم يخن هندا ولم يقصر في حقها عليه، ولا وهم أنها تغضب من أمر لا عهد بينه وبينها فيه. •••
ولقد كانت سارة وهند على مثالين من الأنوثة متناقضين؛ كلتاهما أنثى لا تخرج عن نطاق جنسها، غير أنهما من التباين والتنافر بحيث لا تتمنى إحداهما أن تحل محل الثانية، ويوشك أن تزدريها.
ماذا أقول؟ بل لعلهما من التباين والتنافر بحيث تتمنى كلتاهما قبسا من طبيعة الأخرى، ولولا أنها تنكر الاعتراف بذلك بينها وبين نفسها، فتسمح للتمني أن يستحيل إلى نفور.
فإذا كانت سارة قد خلقت وثنية في ساحة الطبيعة، فهند قد خلقت راهبة في دير، من غير حاجة إلى الدير!
تلك مشغولة بأن تحطم من القيود أكثر ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعت من قيود، ثم توشيها بطلاء الذهب وترصعها بفرائد الجوهر.
الحزن الرفيع والألم العزيز شفاعة عند هند مقبولة إذا لم تكن هي وحدها الشفاعة المقبولة، أما عند سارة فالشفاعة الأولى، بل الشفاعة العليا، هي النعيم والسرور.
تلك يومها جمعة الآلام، وهذه يومها شم النسيم.
تلك تشكو ويخيل إليك أنها ذات أرب في بقاء الشرور تستديم بها معاذير الشكوى، وهذه تشكو كما يبكي الطفل لينال نصيبا فوق نصيبه من الحلوى.
تلك مولعة بمداراة نقائصها لتبدو كما تتمنى أن تكون، وهذه مولعة بكشف نقائصها لتمسح عنها وضر الخجل والمسبة، وتعرضها في معرض الزينة والمباهاة.
تلك لها عدة المتانة والمجاملة، وهذه لها عدة الرخاصة والبساطة، لو عملت تلك عمل الرجال لانتظمت في السلك السياسي، ولو عملت هذه عمل الرجال لانتظمت نديما في حاشية أمير مفراح.
كلتاهما جميلة، ولكن الجمال في هند كالحصن الذي يحيط به الخندق، أما الجمال في سارة فكالبستان الذي يحيط به جدول من الماء النمير، هو جزء من البستان لا حاجز دون البستان، وهو للعبور أكثر مما يكون للصد والنفور.
تلك ذات طموح وهمم، وهذه تحسب الواقع الذي يوائمها خيرا وأشهى من كل مطمع ومن كل همة.
تلك تعطيك خير ما أعطت على البعد والحيطة، وهذه تعطيك خير ما أعطت على القرب والسرف.
كلتاهما ذات ثقافة وألمعية، لكن ثقافة هند إلى المعرفة، وثقافة سارة إلى الفطرة.
ولو نسينا العرف والاصطلاح لحار الإنسان أيهما أقوم في السجايا والأخلاق، ولكن الذي لا ريب فيه ولا حيرة فيه أن سارة أرجح وأصلح قبل أن ينزل التكليف على أبناء آدم وحواء، وأن هندا أرجح وأصلح حيثما نزل تكليف ... أي تكليف! •••
وما زالت الصور النسائية تتوارى وتتهافت في بديهة همام حتى احتجبت كل صورة إلا هاتين الصورتين المتقابلتين، إحداهما قائمة في محراب، والأخرى باثقة كالزهرة من زبد العباب! وتعاقب الأيام فأصبحت صورة فنية نفيسة لا تقوم بمال ومثلت الأخرى كما كانت تمثالا من لحم ودم. •••
وكانت سارة لا تعلم من شأن هند إلا أن هماما يعرفها ويكبرها ويزورها حينا بعد حين، فكانت تبرم بهذه الزيارات، ثم كانت تتوخى أن تغويه وتشغله في اليوم الذي يختاره لزيارة هند ... فيؤجل الموعد لأنه لم يكن في الحقيقة بموعد، ولأن البعد يمنع الاتصال بسارة وما عندها من سرور، ولكنه لا يمنع الاتصال بهند في ذلك اليوم، وفي كل يوم.
وراح همام ينسرق من نفسه وهو يدري تارة ولا يدري تارة أخرى، حتى ابتلعته اللجة وشغلته سارة عن كل شاغل، أو أصبحت على الأصح ممزوجة بكل شاغل، فبعد أن كانت في بداية التعارف بينهما واحدة من ألوف وملايين يشملهن عنوان النساء مفضلة إن حضرت، وتغيب فيغني عنها من حضر، عادت وهي الواحدة وحدها لا يغني عنها سواها، وعاد همام ينظر إلى النساء في الطرقات ويوشك أن يسأل جدا وصدقا: ما بال هؤلاء؟ ولماذا خلقن؟ ومن ذا الذي ينظر إليهن؟
لماذا أشك فيها؟
اثنان لا يشكان في المرأة التي يحبانها، وباب الشك فيها مغلق عندهما: شاب في مقتبل أيامه، مخدوع في أحلامه، مؤمن بقداسة الحبيبة على منوال عصور الفروسية يرتفع بها إلى سماء الطهر، ويكبرها أن تخون ويكبر نفسه في الحقيقة أن يخان، ويسمع منها أنها تمحضه الحب وتخلص له الولاء، فلا يدور بخلده أنه يسمع كلاما يحتمل الصدق والكذب، ويجوز فيه الغلو والتزويق، ويتعاهدان على دوام الصفاء بقية العمر كله فلا يخيل إليه أنهما يتعاهدان على مستحيل؛ لأنه يتمنى، ولا يفرق بين ما سيكون وبين ما يتمنى أن يكون.
والآخر رجل مطموس البصيرة مملوء الخياشيم بالغرور والدعوى، يؤتى إليه أنه حسب المرأة من أمنية ومطمع، فلا منصرف لها عنه، ولا معدى لها إلى غيره، وإلا فماذا عساها أن تبغي عند غيره؟ إنه رضى النساء من جمال واعتدال وقوة ومال، فإذا قنعت به فما هي بمظلومة، وإن تقنع به إنها إذن لظالمة!
حسن، ولكن ألا يحدث في الدنيا أن تكون المرأة ظالمة؟
كلا؛ لأن ذلك لا يسره! وكفى ألا يسره شيء من الأشياء حتى لا يكون ولا يجوز أن يكون!
ولم يكن همام بهذا ولا بذاك.
لم يكن شابا في مقتبل أيامه؛ لأنه جاوز الثلاثين وأوشك أن يصعد إلى الأربعين.
ولم يكن مخدوعا بهذا الضرب من الغرور؛ لأنه موكول إلى ضروب من غرور النفوس، مطبوع على أن لا يعلق قيمته في معارض الفخر والمباهاة على رأي إنسان من النساء، أو من الرجال.
وكان قد خبر من أحوال المرأة والرجل ما أقنعه أن الخيانة بينهما ليست من الصعوبة والامتناع بحيث يتوهمان، فما من رجل كبر أو صغر إلا والمرأة واجدة بديلا منه يغنيها عنه في جميع نواحيه أو بعض نواحيه. إن كان محبوبا ففي الرجال من هو أحب، وإن كان مهيبا ففي الرجال من هو أهيب، وإن كان جميلا أو سريا أو قويا ففي الرجال من هو أجمل وأسرى وأقوى، ولقد تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فليس من الضروري أن تفاضل المرأة بين الحسن والصالح والأصلح، وليس من الضروري - إن هي فاضلت - أن تكون مختارة مفتوحة العينين فيما تدع وفيما تأخذ، فقد تكون مخدوعة مسوقة ثم تستنيم إلى الخديعة، وقد تؤثر الرجل على الرجل شهوة طريق، كما يذهب الإنسان إلى غدائه فيلقاه مطعم يفعم أنفه ببعض روائحه، فيميل إليه وقد يعافه في غير تلك الساعة.
وكان همام يعتقد أن الغش عند المرأة كالعظمة عند فصائل الكلاب، يعضضها الكلب المدلل ويدخرها حيث يعود إليها وإن شبع جوفه من اللبن واللحم والأغذية المشتهاة؛ لأن ألوفا من السنين قد ربت أسنانه وفكيه على قضم العظام وعرقها، فهو يطلبها ليجهد أسنانه وفكيه في القضم والعرق ولو لم تكن به حاجة إلى أكلها.
وألوف من السنين قد غبرت على المرأة وهي تخاف وتحتال وتراوغ وترائي وتلعب بمواطن الضعف في الرجل، حتى أصبح بعض النساء ممن قويت فيهن عناصر الوراثة وبرزت في طباعهن عقابيل الرجعة ينشدن الغش التذاذا به وشحذا للأسنان القديمة التي نبتت عليه. ويسرهن أن يصنعن الشيء ويخفينه ولو لم تكن بهن حاجة إلى صنعه ولا اخفائه؛ لأن المرأة من هؤلاء تشتهي العظمة بجوع عشرين ألف سنة، وتشتهي اللحم واللبن بجوع ساعات.
ولقد عرف همام سارة، فلماذا لا يعرفها غيره؟ ولم يصعب عليه أن ينال عطفها، فلماذا يصعب على غيره أن يناله؟
إنه لم يكن يستبعد الغش والخيانة، وليس بين الشيء الذي لا يستبعد والشيء الذي يتوقع إلا خطوة وعلامة محسوسة، على أن الإنسان قد يتوقع الغش لفرط إشفاقه من الفقد والخسارة لا لفرط اتهامه وسوء ظنه.
فالخزانة التي تتركها فارغة هي بعينها الخزانة التي تملؤها بالذهب والفضة والجواهر الثمينة، لكنك تخشى على متانتها وهي حافلة عامرة ولا تخشى على متانتها وهي فارغة منسية.
وربما خرج الرجل الواحد من المنزل تنتظره فيه أم حنون وزوجة قالية، فإذا تأخر عن موعد الإياب فأول ما يخطر على بال الأم أن ابنها قد أصابه مكروه، وأول ما يخطر على بال الزوجة أن زوجها يعبث ويعربد، ولا يمكن أن يكون الرجل الواحد رجلين في الرشد والحصافة والقدرة على دفع الأخطار، وإنما اختلف التوقع باختلاف الشعور والخشية، فتتوقع الأم المكروه؛ لأنها تخشى المكروه ولا تبالي سواه، وتتوقع الزوجة العربدة؛ لأنها تخشى العربدة ولا تبالي سواها، ولا يسوءها أن يصاب زوجها البغيض كما يسوءها أن يصيبها في غيرتها وكرامتها الزوجية.
لهذا أصبح همام يحذر الخيانة حين أصبحت هذه الخيانة شيئا يهمه ويشغل باله، ولم يتأهب لنفيها كما تأهب لقبولها، ولم يكبح خواطره عن التمادي في الظلم؛ لأنه علم أن ضمان العدل موجود لا يغفل! وضمان العدل أن سارة عزيزة عليه، فما هو بمستعد للتفريط فيها تجنيا عليها ومطاوعة لوهم عارض أو شبهة طفيفة، وما هو بقادر على التفريط إلا وقد أصبح وأمسى وليس له عن التفريط محيد. •••
خذوا أسرارهم من صغارهم ... وسر «سارة» إنما طرق مسامع همام - أول ما طرقها - من لسان طفلها الصغير.
كانا يتنزهان يوما في أرباض القاهرة ومعها طفلها الصغير، فلعب الطفل ومرح وعدا وطفر ما شاء له من مرح الطفولة ومرح المكان ... ثم اتجه - طفرة أيضا - نحو أمه وهو لا يدري ماذا يصنع، فاتخذ منها موقف العاشق المدله وجعل يفوه بألفاظ من عبارت المناجاة والغزل والتحبب والتدليل لا تسمع إلا بين عاشقين في خلوة غرام، وانطلق يرصها رصا كأنما يتلقاها من ملقن أو يتلوها من كتاب، فصحا همام من حلمه الذي كان سادرا فيه على مهل وتكاسل كأنه لم يتبين بعد معنى ما يسمع، وأسرعت هي فانتهرت الطفل انتهارا شديدا وعنفت عليه وهي تبالغ في نهيه أن يسترسل في تمثيل دوره، وأرادت أن توقع في روع همام بغير اكتراث ظاهر أنها إنما تزجر الطفل لبذاءة الكلام الذي يسرده لا لأنها تكتم سرا يوشك أن يفضحه بثرثرته وهذره، فقالت: تلك مصيبة العشرة السيئة والقدوة المرذولة ... ما أدري والله ماذا صنع بهذا الطفل في سنه الصغيرة؛ فلا هو يصلح للمدرسة ولا هو يطيق الحبس والعزلة عن أنداده وأترابه، ولا هو يسلم من معاشرة الأنداد والأتراب.
قال همام: ولكنك تعرفين أنداده وأترابه، فمن منهم تحسبينه خليقا أن يعيد على مسمعه تلك العبارات؟
قالت: ومن أين لي أن أعلم؟ فقد يسمعونه من خادمة أو خادم في أكنان الحدائق وزوايا الطريق.
قال: أوهذا كلام خدم؟ إن الخدم لا يصطنعون التدليل والغزل على هذا المنوال.
فسكتت وسكت، وما في ذهنه ذرة من الشك في أن بعضا من ذلك الكلام الذي لغط به الطفل قد صدر من أمه ... لأنه كلامها، فكيف تسرب إليه؟ ومن أين؟
إن هماما ليذكر جد الذكر أنهما لا يتخاطبان في محضر الطفل إلا كما يتخاطب الرجل والمرأة في المجلس المشهود، وليس لسارة زوج يعيش معها، وليس من عادة الأزواج مع هذا أن يتغازلوا على هذا المنوال بمسمع الأطفال الصغار، فمن أين تسربت إليه المناجاة بطرفيها؟ من أين؟ نعم، من أين؟!
واقترنت تلك الظاهرة في حينها بظواهر مريبة مثلها ... ف «ماريانا» التي كانت لا تؤتمن على سر المعرفة بينهما ما بالها اليوم قد أصبحت مأمونة الجانب مغشية الدار حتى لا حذر من التواعد لديها على غير ضرورة؟ وتلك الزينة المعهودة بعطرها وشياتها ما بال سارة تحتفل بها في غير أيامها؟ ونوازع الغرائز التي لا سلطان عليها للمرأة ما بالها تتبدل؟ ووسائل الحيطة الخفية ما بالها تتعدد؟ وذلك التلطف المريب تلطف الآثم الذي يمسح حوبته بفرط المجاملة ويكفر عن خيانته الباطنة بفرط المصالحة الظاهرة، ماذا وراءها وماذا في أطوائها؟
علامات وقرائن لا يأخذ بها القاضي في قضائه بالإدانة، ولكنها كافية للتشكيك في خلوص النية.
والقضاء بعد مطالب بإقناع غيره محظور عليه أن يكتفي بإقناع نفسه ... أما الرجل الذي ينشد الطمأنينة مع المرأة فلمن يحكم إن لم يحكم لنفسه؟ وبأي اقتناع يدين إن لم يدن باقتناعه؟
وراء الأكمة ما وراءها ... تلك حقيقة لا ريب فيها، ولكن ماذا وراءها؟ قد يجهل الرجل ذلك على التحقيق والتفصيل، ولكن ألا يكفي أن تكون هناك أكمة وأن يكون هناك شيء مجهول وراءها ليقوم الحائل بين القلبين، ويكدر الجو بين الصفيين؟
وجائز عند همام أن تنصرف سارة إلى غيره، ولكن ليس بالجائز أن تستغفله؛ لأنها تتوهم في دهائها القدرة على الجمع بينه وبين غيره!
جائز أن يكون هو وهي ألعوبة واحدة في يد الطبيعة التي تسوقه وتسوقها، ولكن ليس بالجائز أن يكون هو ألعوبة في يدها وأن تكون هي اللاعبه بلبه وولائه!
وقد نصب لقلبها الميزان الذي نصبه لقلبه في السر والعلانية، وأخذ عليها شبهات كثيرة ولم تأخذ عليه شبهة واحدة، واتهمها فلم يشاهد عليها عذاب المرأة التي تفجع في حب تقابله بحب مثله، بل كان كل ما شاهده عليها مجال المتهم الذي يجهد في تفنيد تهمة، ويود لو فاز بالغلبة ووقع على الأدلة الدامغة.
هل ظلمها؟
يجوز ...!
وكلما أعاد همام هذا السؤال، وأعاد معه هذا الجواب لمس به أغوار فتنتها، واعتقد أنه يخدع عقله باختياره، ويساعدها على تضليل حسه ورأيه، وأنه لم يظلمها ولا افترى عليها! ولولا ذلك لقد كانت شبهة أهون من هاتيك الشبهات كافية كل الكفاية للبت في أمرها وطي السؤال والجواب عنها.
وخير له أن يفارقها بغير جريرة قادرا على آلام فراقها، صائما عن مسراتها، من أن يعاشرها عاجزا عن فراقها، باذلا كل ما عنده من اهتمام، مستحقا كل ما عندها من احتقار واستغفال.
لقد سلبته الطمأنينة وكفى!
جلاء الحقيقة
انتهت مهمتي!
إي نعم، انتهت المهمة، وبطلت الرقابة، واستراح الرقيب!
وكان «أمين» موفقا في هذه المرة كل التوفيق؛ لأنه زود هماما بالحجة القاطعة التي يواجه بها غوايته ويقمع بها نكسات ضعفه، كلما ساوره الندم وعزت عليه السلوى.
ولم تأت هذه الحجة إلا بعد استئناف الرقابة بزمن غير قصير، وجهد غير قليل.
ولكن علام الرقابة بعد القطيعة؟ ألم ينحسم كل ما بين ذلك الرجل وتلك المرأة من علاقة؟ ألم يقصر همام عن ذكر سارة ووفاء سارة وخداع سارة؟ ألم يعول كل التعويل على أن يظن أسوأ الظنون ويفرض أشنع الفروض، ويوطن عزيمته على خيانتها ولا يغالط وهمه في شأنها ولو تفتحت له أبواب المغالطة؟
بلى، كان ذلك!
غير أنها كانت أحلاما، ولم تصح الأحلام إلا بضعة أيام، وقد صحت الأحلام في الأيام الأولى بعد القطيعة، حتى ظن همام أنه قد سلا، واستقر على السلوى، فما يبالي بعدها من خان ووفى ومن ضل وغوى.
على أنها كانت راحة موقوتة أشبه براحة اللديغ حين ينقلب من جنب إلى جنب، وما به من نوم ولا غفوة على هذا الجنب ولا على ذاك.
ثم خرج همام من هذه الراحة الموقوتة إلى شيء آخر، إلى شيء غير الراحة وغير السلوى، إلى الشعور القاصم بالفراغ، وبالحرج والضيق ونفاد الحيلة كلها في ذلك الفراغ.
كل حاسة من حواسه فقدت شيئا، وكل لحظة من لحظاته فقدت شيئا، وكل مكان يغشاه فقد شيئا، وكل سرور من مسراته أو كل ألم من آلامه فقد معناه وغايته ولبابه، وماذا عوضها جميعا؟ ... عوضها نقيضها الذي يلغيها عنها، فإما غم محبوس كظيم، وإما حيرة عمياء ليس لها اتجاه، وإما سكون موحش بعد حركة وجيعة، وكل أولئك في فراغ فارع لا مبدأ له ولا نهاية ولا مهرب فيه ولا قرار.
خوى الجحيم الحي وهبط في مكانه الزمهرير الميت، وبئس هذا الموت وبئست تلك الحياة.
زمهرير لا يعيش فيه الأحياء، ولكنما هو زمهرير خاص للتعذيب لا لمأرب غير التعذيب، فلهذا يعيش فيه من يعيش من الأحياء!
وجرب السلوى، وما خامره الشك في أنها علاج مطلوب، وأنها علاج مستطاع.
ولم لا يكون مستطاعا أن يسلو الرجل امرأة بامرأة مثلها أو أفضل منها؟ ألا يسلو الجائع عن صفحة من الطعام بصفحة مثلها أو أشهى منها؟ فلماذا يعيبه أن يسلو عن المرأة بغيرها من بنات حواء؟
ونسي همام أنه ليس بجائع وإنما هو عليل مسلوب الاشتهاء ... فمن حاجته قبل أن ينظر في انتقاء طعامه أن يعيد ذوقه إلى اعتداله، وأن يجد هذه اللذة فيما يشتهيه، ويستوي عنده قبل ذلك أطيب الطعام وأخبث الطعام، كما يستوي الأكل والصيام.
بل نسي أن الرجل حين يحب المرأة فإنما يريدها ولا يريد ما هو أجمل منها، وإنما يحسها ويحس بها؛ لأنها هي هي لا لأنها امرأة لا فارق بينها وبين سائر النساء.
وكالنظارة التي تجلو العين؛ لأنها نظارتها تكون المعشوقة للعاشق الذي عاشرها وألف محاسنها وعيوبها، وتمثل كل صفة من صفاتها كأنها شخص مستقل «مخصوص» لا مشابهة بينه وبين الصفات عامة، فلا النظارة التي هي أبعد أمدا وأنفس زجاجا تغني العين التي تنظر بما دونها، ولا المرأة التي هي أجمل طلعة وأكرم سليقة تغني القلب الذي تعود أن يخفق لها أو يخفق معها.
لا، بل تكون التسلية هنا أحجى بأن تنكأ الجرح وتضاعف الحسرة وتضرم لوعة الفقد والغيبة، فالمرأة المجهولة تغني عن المرأة المجهولة؛ لأنك لا تعرف لها صفة تنكرها عند أختها ... أما التي «تشخصت» في حسك كل صفة من صفاتها، فكيف ترى امرأة غيرها دون أن تشعر في كل لمحة وكل لمسة أن لها وجها غير وجه فلانة، وعينا غير عينها، وصوتا غير صوتها، وقواما غير قوامها، وأعطافا غير أعطافها، وروحا غير روحها، وكلاما غير كلامها؟
وكيف تشعر بذلك دون أن تنقلب التسلية غصة، ودون أن ينقلب العوض المنشود ذريعة من ذرائع الفقد الدائم والحرمان المتجدد؟
كلا، لا تسلية عن «النظارة» المضبوطة بنظارة أنفس منها وأقدر على التقريب والتوضيح.
ولا تسلية عن الابن الضائع بابن من صلب غيرك ولا من صلبك، ولو كان أبر الأبناء الذين ولد الآباء، ولا تسلية عن المرأة المعشوقة بامرأة تفوقها ملاحة وتبرعها ذكاء، وتبذها عندك وعند غيرك في بعض الخصال ولا في جميع الخصال.
وفي الحب كثير من بقايا الطفولة وتراث الغريزة، فلا بد للقلب من فترة طويلة يعاف فيها كل هوى غير هواه، كما يعاف الطفل كل ثدي غير ثديه، أو يعاف الطير كل أليف غير أليفه، أو يعاف الحيوان كل سكن غير سكنه بين أمه وأبيه. •••
في هذه الفترة عاد «أمين» إلى القاهرة في إجازة طويلة، ورأى من الأمسية الأولى التي قضاها مع همام أين تقف الأمور كما يقول، بغير حاجة إلى إفاضة شرح وإطالة سؤال.
الحقيقة غير معروفة، والسلوى غير ميسورة، والوقت ثقيل كسيح لا يخف ولا يتحرك! وكل وسيلة يقطعانه بها لا تلبث أن تمسه قليلا حتى تتثلم وتكل وترتد عن صفحته الكثيفة وجلده الصفيق؛ فالقراءة لا تنفع واللعب لا يمنع الذهن أن يشرد ويتيه، والسماع لا يطاق، والرياضة مطلوبة مستحبة على أن تكون في غير الأماكن التي كان يطرقها همام وسارة، وهل من مكان لم يطرقاه؟
وكثر التحدث عن الجنون والمجانين وبوادر الهوى التي تصيب العقلاء من حيث لا يعلمون ولا يعلم أصحابهم المقربون، فكان همام يقول: ما أحسب إلا أنني سأكون بين الناس في بعض الأيام فأخلط بالحديث عن سارة وظنون سارة، ثم يسأل أمينا: ترى كيف تقع هذه المفاجأة في فلان وفلان؟ وكيف يكون هذا الخلط لو كان؟
ثم يأخذان في التمثيل والمحاكاة كأنهما يتلهيان ويتفكهان، وإنهما لفي مرارة سقيمة تفسد جميع الطعوم!
هذا أو يعمد أمين إلى فنون من الألاعيب الصبيانية ينفي بها الملل ويموه بها الكآبة، فيدق التليفون ويجيبه الرجل المقصود أو غير المقصود، فيجري بينهما حديث كهذا الحديث: هل أنت فلان؟ - نعم، أنا هو. - أواثق أنت مما تقول؟ - عجبا، ما معنى هذا السؤال؟ - عفوا يا سيدي عفوا ... إنما أردت أن أتحقق من صواب عاملات التليفون، فهل عندك الرقم المطلوب بعينه؟ - نعم يا سيدي، هل من خدمة؟ - بل سؤال صغير إن سمحت! - تفضل. - أرجو أن تجيبني ولا تستغرب، هل قرأت صهاريج اللؤلؤ؟ - صهاريج اللؤلؤ؟ ما هذا؟ - أي نعم، صهاريج اللؤلؤ للسيد توفيق البكري، ظننتك قد سمعت به ... أما سمعت به؟ أما قرأته؟ - بلى، قرأته، فما هذه الأسئلة العجيبة؟ - إذن، تقرءه مرة ثانية!
ثم يلقي السماعة، ويمضي في تخيل فلان هذا وهو يغضب ويصخب، وينعي على مصر والمصريين هذه الفصول التي لا تحدث في باريس ولا لندن ولا برلين!
صبيانيات من هذا القبيل تشغل الوقت، ويندر جدا أن تغصب هماما على ضحكة أو ابتسامة، إلى أن كانت ليلة من هذه الليالي المتشابهات طال فيها السأم ونزر فيها الكلام ورانت فيها الكآبة، فقال أمين: ما الرأي في استئناف الرقابة؟
ولعله قالها لفتح باب من أبواب السمر، أو لعله قالها لدفع السآمة، أو لعله قالها شوقا إلى إتمام عمل بدأ فيه وكبر عليه أن يتركه بغير نتيجة ... إلا أن هماما رحب باقتراحه وحاول أن يجد في معارضته كي يمهد لأمين طريق التراجع إن كان قد تعجل أو بدر منه ذلك الاقتراح تزجية للوقت وجذبا لأطراف الحديث، فلم تسعفه أسباب المعارضة ولم يسعه إلا الموافقة، وهو لا يدري من فائدة لاستئناف الرقابة إلا أنه عمل لن يزيده تعبا على تعبه، وقد يريح.
وبدأت الرقابة بكرة وقد تدرب عليها أمين من جهة، وتهيأت دواعيها من جهة أخرى، وعاونتها المصادفات من جهة ثالثة فنجحت بعد محاولة طويلة نجاحا كان جديرا بعناء المحاولة؛ لأنه أراح هماما وأراح أمينا وصوب الضربة إلى رأس الأوهام واللواعج والمعاذير فقضى عليها.
عاد أمين من رحلته ذات يوم متهللا مسرعا يتكلف الحزن والأسف تكلف الناعي الذي ينقل أخبار الوفاة إلى وارث مدين يتنازعه الحزن والسرور.
قال همام: خير.
قال أمين: خير، كل الخير.
ولولا احتراسه أن يصدم صديقه بالنبأ السعيد المشئوم لصاح صيحة «أرخميد» ... وجدتها، وجدتها ... وحق له أن يصيح؛ فقد كان يمتحن زيفا دقيقا لا يقل عن الزيف الذي امتحنه الرياضي العظيم.
وسرد القصة بتفصيلاتها عملا بالوصية الأولى، إن لم يكن همام بالحريص في هذه المرة على التفصيلات، بعد أن نجحت الرقابة وظهرت النتيجة.
وفحوى القصة أنه تبع سارة من منزلها حتى نزلت في ميدان باب الحديد، فمشت أمام ومشى وراء، ودارت بعينيها فيما حولها تروز الطريق وتتوقى الأنظار، فأطل رجل من سيارة وكانت واقفة بالانتظار وأشار إليها ، فانفتلت إلى السيارة في سرعة البرق، وتبين أمين الرجل بثيابه وسيماه.
قال همام: وهل تبعت السيارة؟
قال أمين: لا، فقد غابت عن النظر قبل أن أدركها بسيارة أخرى.
قال همام مستضحكا جذلا ليصرف عنه أسفه المصطنع ويسري عنه ندامة هذا الفشل الصغير، ويسره بنتيجة تعبه: أحسنت يا سيد أمين، أحسنت، قد وصلنا، وصلنا وإن لم نصل إلى باب الدار، فاستمر على بركة كيوبيد. •••
وانقضت أيام في مثل حالة المفجوعين الذي اطمأنوا إلى موت فقيدهم في ديار الغربة، ولم يبق إلا أن تصل الجثة إلى مقرها الأخير بعد سنوات من وقوع المصاب، لا حدة ولا حداد ولا حرارة في الانتظار، بل مسايرة للأيام والحوادث إلى أن تنتهي حيث يروقها الانتهاء.
ففي بعض هذه الأيام كان همام يركب الترام قبل الموعد بنحو الساعة إلى حيث يلقى أمينا - عشاء كل يوم - بعد رحلته اليومية المعهودة، فإذا بأمين يقفز إلى جانبه والترام سائر على أقصى سرعة.
فنسي همام ما كانا فيه ولم يذكر إلا نوادر أمين في الخوف من ركوب الترام والنزول منه وهو سائر، فليس أظرف من سهواته المحفوظة إلا نوادره في خوف الترام والمركبات والزوارق وكل ما يسير ويخشى من سيره الهلاك، فقد ولع به أصحابه من جراء ذلك وتعقبوه بالمناوأة والمحاورة عسى أن يقلع عن خوفه فما أقلع ... وآخر نوادره في هذا الباب كان في خلال ذلك الأسبوع، وكان هو وأصحابه يغادرون حديقة الحيوان وهم يوهمونه أنهم سيركبون الترام الذي يهم بالمسير، ويتباطئون لقلة اكتراثهم أن يركبوه وهو سائر، فأسرع قبلهم ليدركه قبل أن يتحرك، فتركوه ووقفوا ينظرون إليه وينظر إليهم وهو لا يجسر على النزول!
وأبى أمين أن يقنع بهذا في أضاحيك يوم، فزاد عليه أضحوكة أخرى من سهواته وبدواته: مضى مع الترام إلى آخر الخط ثم قضى في البحث عن أصحابه بقية الظهيرة، وقد كان في وسعه أن ينزل في المحطة التالية ويركب معهم القطار الذي ركبوه ... ولكن الرجل سخي بسهواته ومخاوفه لا ينفق منها بحساب!
ذكر همام هذا حين رأى المعجزة التي ما رآها قط ولا توقعها ... وعلم أن أمرا خطيرا لا بد قد جرى في الدنيا وقفز بأمين تلك القفزة النادرة، بل تلك القفزة المقطوعة النظير! ولا شك أن الضحك الذي سرى تلك الساعة إلى خاطر همام قد كان بطانة ناعمة وثيرة نسجتها المقادير ليتلقى عليها الخبر المشئوم الميمون، المترقب بنافد الصبر ونافد الحيلة منذ شهور، وقد كان له شأن أي شأن في تهوين المسألة كلها وتلطيفها وإفراغها في مرحلتها الأخيرة في قالب السخر والفكاهة.
فلما جلس أمين إلى جانب همام لم ينتظر سؤالا ولم يأبه للضحك الذي كان يلوح على عيني همام، وقال في رصانة وتؤدة: انتهت مهمتي.
قال همام: لا ريب في ذلك، فإن قفزتك وحدها لدليل أقوى من كل دليل، فأوجز يا صاح، أوجز ولا ضرورة للتفصيل.
قال أمين: الآن هي في مخدع مريب في بيت قريب، تبعتها إليه وعرفته وعرفت اسم صاحبه الذي يستأجره، وعرفت أنها تغشاه من حين إلى حين.
فلم يزد همام على أن أغمض عينيه هنيهة، أغمضهما كأنه يتحاشى النظر إلى سبة شائنة، أو كأنه يتهيأ للراحة بعد سهاد طويل في ارتقاب خبر مكتوم مضنون به عليه، ثم أسرع فصافح أمينا وهز يده هزة الشكر والرضى والابتهاج، وقال له: صدقت، صدقت، لقد انتهت المهمة، فهلم نحتفل بتشييعها!
ونشط كلاهما نشاطا لم يدريا ماذا يصنعان به وكيف يجريانه في مجراه، فانطلقا إلى أطراف المدينة يمشيان بل يغذان السير على غير هدى، وطفقا يطوفان ويعودان إلى حيث كانا حتى صادفا اثنين من أصحابهما الأدباء يلتمسان السهر ولا يتفقان على مكان، فانساقوا جميعا إلى ناد متطرف على هامش الصحراء، وكانت الليلة مقمرة والجو رائقا والسيارات ذاهبة آيبة في خفة وطرب واشتياق.
ويتم التوفيق فيكون أحد الأديبين صاحبنا الذي كان أمين يختلق له الأسئلة في التليفون، ويتم التوفيق مرة أخرى فيجري الحديث في الأدب وفي النثر البليغ وفي صهاريج اللؤلؤ ... أي نعم، في صهاريج اللؤلؤ بعينها، ويقول صاحبنا: لقد قرأته مرتين، ويوشك أمين وهمام أن يسألا: أكان ذلك بعد نصيحة التليفون؟ ولكنهما يكتفيان بالإيماء ويحبسان الضحك، ويضيفانه إلى حساب السرور الخفي الذي يحتويانه منفردين.
فيم كان ذلك السرور؟
لعله كان سرورا بتقليم مخالب العذاب التي كانت تنوشه من كل جانب وهو ملقى بينها عاجز عن النجاة منها.
ولعله كان سرور الرضى بتحقيق الظنون وانقطاع الشكوك.
ولعله كان سرور القدرة على التفريط في سارة بغير لاعجة من حسرة ولا خالجة من ندم ... أولم تعد مرأة من النساء بعد أن كانت المرأة «المخصوصة» بعاشق واحد دون سائر الرجال؟ ألم تنقشع عنها سرابيل الحب الأثير التي كانت تغليها وتعلو بها في ضمير همام؟ ألم يسقط عنها «سحر» الانفراد الذي جعلها محبوبة لا تغني عنها واحدة ممن يحملن عنوان النساء؟
بلي! كان ذلك أكبر ما سر هماما في تلك الليلة بما سمع من «بشارة» أمين، وظل على سروره هذا أياما يترشفه ويكرع منه ولا يروي منه بالجرعة والجرعتين، وصفا له شعور الراحة والسكينة برهة لا ينساها بقية أيامه، فلم يرنقها عليه كدر ولا ألم من نكسات الداء القديم، ولم يكد يشعر أن للداء القديم رسيسا باقيا إلا حين انقضت إجازة أمين وودعه صباح يوم للذهاب إلى عمله، فقد كانا معا كالسائحين في طريق واحد معروف المعالم والأنحاء لهما على السواء، فلما افترقا أحس همام كأنه قد ضل الطريق، وألح عليه هذا الإحساس المبهم بضعة أيام، ثم تراجع رويدا رويدا إلى رضوان صحيح، أو رضوان يقنع نفسه بأنه صحيح.
إلا أن كوبيد شيطان مريد له لؤم الشياطين ونزعاتهم ومكائدهم وكراهتهم أن يتركوا الناس هادئين وادعين، فمن حين إلى حين كان همام يسمعه يهجس له ويوسوس في صدره ليسلبه ارتياحه إلى فراق سارة وقدرته على تناسيها، فلا يفتأ يعاوده أبدا بهذا السؤال: أليس من الجائز أنها وفت لك في أيام عشرتها واستحقت وفاءك لها وصيانتك إياها وغيرتك عليها؟ أليس من الجائز أنها يئست منك فزلت بعد الفراق ...؟!
Unknown page