فأجابه سانين وهو يخرج: «إنك أنت الأحمق!»
ولما وصل سانين إلى منعطف تكثر فيه الأشواك الثابتة نفض المكان ليرى الموضع الذي تشرف عليه نافذة سارودين، ثم مشى بحذر بين الأشواك وتسلق الحائط، ولما بلغ قمته كاد ينسى لماذا صعد لفرط ما بهره جمال المنظر وهو يطل من مرقبه على النجائل والحديقة الفيحاء، والنسيم الرقيق يمسح أعضاءه الحارة القوية، ثم وثب عن الحائط إلى الناحية الأخرى بين الأشواك وجعل يدلك جسمه حيث شكته واجتاز الحديقة، وبلغ النافذة حين كانت ليدا تقول: «أتريد أن تقول إنك لا تزال تجهل؟»
فأدرك من غرابة لهجتها حقيقة الأمر، فاستند إلى الحائط وعينه إلى الحديقة وأرهف سمعه وأدركه العطف على أخته الحسناء التي لا تلائم جمالها لفظة «الحبلى» الخشنة. ووقع من نفسه الاختلاف بين هذه الأصوات الآدمية الصاخبة والسكينة الرائعة التي كانت تجلل الحديقة الزاهية.
وطارت فراشة بيضاء فوق الحشائش وقد أنعشتها الشمس فضحت لها فجعل سانين يرقبها بمثل اهتمامه بالإصغاء. ولما صاحت ليدا: «أيها الوحش!» ضحك سانين جذلا وعاد أدراجه في تثاقل وإبطاء غير مكترث لمن يراه أو لا يراه.
وعدت أمامه سحلية فلبث برهة يرصد حركاتها السريعة وهي تزحف بجسمها الصغير الأخضر بين الحشائش الطويلة.
الفصل الثامن عشر
لم تعد ليدا إلى البيت بل حثت خطاها في طريق ينأى بها عنه، وكانت الشوارع خالية والحر يأخذ بالمخنق والظلال متقلصة إلى الحائط والسياج بعد أن هزمتها الشمس الظافرة وردتها، ففتحت ليدا مظلتها بحكم العادة وقوتها، ولم تلتفت إلى الحر أو البرد ولا إلى النور ولا الظلمة، ولم تدر في أيها تسير، فمضت مسرعة وتجاوزت الأسيجة المعفرة المكسوة بالأكلاء ورأسها مثني وعينها إلى الأرض، ولم تصادف في طريقها إلا نفرا من الراجلين كان يخنقهم الحر، وفيما عدا ذلك كانت البلدة ساكنة كما تكون في القيلولة.
وكان قد تبعها جرو أبيض شم رداءها ثم انطلق يعدو أمامها يلتفت إليها ويبصبص لها بذنبه كأنما يريد أن يقول لها إنهما زميلان مترافقان. ورأت ليدا عند منعطف الشارع صبيا صغيرا بدينا مضحك الهيئة أطل قميصه من جاكتته عند كتفه وخداه طويلان ملوثان بعصير بعض الفاكهة ويداه تعملان بقوة في منفاخ خشبي.
فأومأت ليدا إلى الجرو وابتسمت للصبي غير معتمدة شيئا مما فعلت، فقد كانت روحها سجينا، وكانت تدفعها إلى الأمام قوة غامضة تفصل ما بينها وبين الدنيا، وتجوز بها ضوء الشمس والخضرة وكل ما في الحياة من مفارح ومتع وتسوقها إلى هاوية سحيقة مظلمة أشعرها الألم أنها منها قريبة.
ومر بها ضابط تعرفه على جواده فلما أبصرها وقف وسألها بصوت طروب: «ليدا بتروفنا! إلى أين في هذا القيظ»
Unknown page