صحراء
استمرت تلك الهياكل الرمادية الميتة في النمو، كان غريبا أن تنمو وهي ميتة، لكنها كانت تنمو بسرعة حتى التهمت المكان كله وصارت تحجب نور الشمس أغلب النهار، وتحجب القمر والنجوم طوال الليل، لم تكن تتواصل مع من حولها، لم تكن ودودة كالشجر الذي اقتلع، ولا كالزواحف التي هربت. كانت الشجرة تشعر بالانفصال عن ذلك العالم الذي لم يعد كما تعرفه، ولم يتبق لها فيه أنيس أو صديق، كانت تشعر للمرة الأولى بأنها شاذة في المكان؛ فلا شيء هنا يشبهها، لا تفهم ما يدور حولها ولا تألف تلك الكائنات الدخيلة ولا الزوار الجدد. حتى رمال الصحراء لم يتبق منها الكثير بعد أن تقيأ أحد تلك الوحوش حجارة سوداء صغيرة وكثيرة جدا، راسما بها خطوطا عريضة ممتدة إلى الأفق، ثم جاء بعض البشر بحجارة أخرى ملساء ومتطابقة، وقاموا برصها بترتيب محكم بجوار بعضها البعض؛ فصارت تشكل أرضا أخرى، سوداء ناعمة لامعة، شكلها يشبه حجارة الجبال، لكنها ليست بجبال، وأي جبال تلك التي لها هذا الملمس الناعم؟
الفصل الثامن
أغسطس 1994م
على رصيف محطة السكك الحديدية برمسيس نزل بهدوء واثقا من صحة قراره باختيار الطريق الثاني، مشى في ثبات وفي خط مستقيم وسط زحام العابرين المهرولين إلى القطارات والخارجين منها، متجها إلى أحد أكشاك الهواتف العمومية ذات اللونين الأخضر والأصفر المثبتة على جدار بهو المحطة الكبير، ثم أخرج من جيبه بطاقة الاتصال الخاصة بالشركة التي تتبعها تلك الهواتف، ومعها بطاقة أخرى عليها اسم مكتوب بخط عربي مزخرف قرأ منها رقما وطلبه على أزرار الهاتف. عندما أجابه الطرف الآخر رد في ثقة وهدوء بالغين: ألو ... أنا ياسين عمران يا أستاذ نايف ... نعم بخصوص وظيفة مدير الحسابات التي تحدثنا عنها ... أهلا بك ... بخير والحمد لله ... أشكرك ... حسنا لقد وصلت إلى القاهرة ويمكنني مقابلتك هذا المساء في نفس الفندق، أظن أنني سأكون جاهزا للسفر بعد استكمال توثيق المستندات المطلوبة من وزارة الخارجية ثم من السفارة السعودية، لا أتوقع أن تستغرق تلك الإجراءات أكثر من أسبوعين سأقوم في أثنائهما كذلك باستخراج تصريح السفر من مركز التجنيد.
يونيو 2012م
على كرسي دوار ذي ظهر مرتفع مصمم لتثبيت فقرات الظهر بوضع مريح للجلوس لفترات طويلة، ومغطى بنسيج مسامي يمنع التعرق، جلس ياسين أمام مكتبه ذي الجدران المركبة من قواطيع جاهزة التصنيع من إطارات من الألومنيوم، تتوسطها ألواح من الخشب المضغوط والزجاج المصقول بارتفاع يقل قليلا عن طول الشخص المتوسط، والتي تغطي جانبين فقط من المساحة المخصصة للمكتب، بينما يبقى الجانبان الآخران عن يمينه ومن خلفه مكشوفين على ممرات داخلية في صالة العمل الضخمة ذات النوافذ الكبيرة على محيط جوانبها، والتي تحتل طابقا كاملا من المبنى المهيب المطل على شارع كوين في وسط تورونتو، كان قد انتقل بالأمس فقط إلى ذلك المكتب الأكبر قليلا من بقية مكاتب الصالة، بعد أن حصل على ترقية جديدة مكنته من ترك مكتبه السابق الذي لم يكن سوى طاولة فوقها شاشة كمبيوتر رقيقة وتحتها بضعة أدراج، وأمامها كرسي دوار من نوع رخيص، ولا تحيط بها أي جدران. فقط مجرد طاولة من عشر طاولات متطابقة ومتجاورة تمثل صفا من ستة صفوف يحتلها موظفو القسم، بينما يجلس المديرون والتنفيذيون في جانب الصالة الأيمن خلف مكاتبهم التي يجمع كل أربعة منها تلك القواطيع المتعامدة على بعضها على شكل حرف إكس. هكذا هي هذه الشركة، كمثيلاتها في هذه البلاد، لا يهتم أصحاب الشركات هنا كثيرا بالمظاهر، ولا ينفقون أموالا فيما لا يعود بالفائدة على سير العمل، كل ما يحتاجه الموظف لكي يؤدي وظيفته هو مكتب عليه شاشة كمبيوتر، وتحته بعض الأدراج وكرسي دوار واتصال جيد بالإنترنت، مع أرضية مغطاة بالكامل بالموكيت، وإضاءة كافية وموزعة جيدا، ونظام صحي للتهوية والتدفئة، ونوافذ كبيرة تسمح لهم برؤية العالم في الخارج، أيام العمل الأسبوعية كلها متشابهة، يكون الجميع على مكاتبهم قبيل التاسعة صباحا، ويغادر الجميع في الخامسة عصرا إلى بيوتهم في ضواحي المدينة المتفرقة، يذهب الجميع كذلك لتناول الغداء أو الوجبات الخفيفة في المطاعم وعربات الطعام المقابلة للمبنى خلال فترة الاستراحة المخصصة لذلك في منتصف الظهيرة، ويسمح للمدخنين باقتناص دقائق لإشباع حاجتهم إلى النيكوتين بالخارج، وعلى بعد لا يقل عن عشرة أمتار من أي من بوابات المبنى، كما تنص اللوحة المثبتة بجوار المدخل، والتي تعلن بوضوح عن قيمة الغرامة المالية الكبيرة لمن يخالف ذلك.
كان منهمكا في ترتيب أغراضه على سطح المكتب الجديد، حيث يمنحه هذان الجداران القصيران على شكل زاوية قائمة بعضا من الخصوصية التي افتقدها في هذه الشركة طوال الفترة التي قضاها أمام الطاولة غير المحاطة بأية جدران في منتصف الصالة، كان ذلك القدر من الخصوصية بمثابة المكافأة التي حصل عليها نظير اجتهاده لسنوات، ليس فقط في هذه الشركة، بل كذلك في الشركة التي عمل فيها سابقا بعد أن ظل يبحث عن عمل للأشهر الأربعة الأولى له في هذه البلاد، والتي كان راتبها أقل من مصروفاته، لكنها مكنته - بعد أن قضى فيها عامين - من الحصول على وظيفة أفضل بشركته الحالية، أصبح بإمكانه الآن أخيرا أن يضع أمامه إطارا به صورة له مع أسرته أثناء عطلتهم الأخيرة في نيويورك، وأن يلصق على أحد الجدارين أبياتا من الشعر الصوفي، كان قد خطها له على ورقة بيضاء بحرف عربي مزخرف زميل سوداني عمل معه سابقا في دبي، وكان يهوى الخط العربي:
رضي المتيم في الهوى بجنونه
خلوه يفني عمره بفنونه
Unknown page