يونيو 2013م
في غرفة نومها بالشقة ذات الغرف الثلاث بالطابق العاشر من بناية جديدة مطلة على شارع رئيسي من شوارع منطقة سموحة المكتظة بصفوف متراصة من السيارات التي لم تجد لها مكانا للمبيت في الجراجات التي تتكدس فيها السيارات أسفل البنايات الكبيرة كما تتكدس أسماك السردين في العلب المعدنية، استلقت فريدة في فراشها تعاني الأرق والقلق. انتصف الليل في الإسكندرية وقد نام الجميع أو تظاهر بالنوم، نامت المدينة التي لا تنام، سكنت مقاهي الكورنيش الصاخبة، أغلقت المحلات والشوارع والنوادي أبوابها، أقفرت الميادين التاريخية العتيقة وغاب باعتها الجائلون، وسكتت تماثيلها الباقية من عصور الازدهار والجمال، يطل محمد علي باشا من فوق تمثاله البرونزي البديع على المنشية؛ ميدانه الأثير الذي أراد به أن يجعل الإسكندرية مدينة عصرية يباهي بها كبريات الحواضر الأوروبية. ينظر أفندينا بأسى للميدان، وقد ذبلت وروده واصفرت خضرته وطالته يد الإهمال والقذارة، المباني التاريخية البديعة على جوانب الميدان بدت كشيوخ طاعنين في السن محنية ظهورهم وقد شققت وجوههم التجاعيد. تراكم التراب على هذه الجواهر المعمارية ولم تنظفها يد منذ عقود؛ أسقفية الكاثوليك، معبد اليهود، محكمة الحقانية، شارع فرنسا، كتاب كامل من التاريخ يمثله كل ركن هنا وكل حجر، قاتل الله من نهش لحم التاريخ بهذه البشاعة، ماذا فعلتم بالميدان ؟ ماذا فعلتم بمدينة الرب؟
كانت تترقب نهارا لا يعلم إلا الله ما سيأتي به، كانت الأيام مخيفة بحق، وكان الترقب ينهك أعصابها المنهكة بالفعل، يؤرقها الوضع المتأزم في المدينة من حولها، تتوقع الجدال اليومي المعتاد مع أبنائها، سيرغبون في لقاء رفاقهم في النادي، بينما ستخاف هي عليهم من الخروج إلى الشارع في تلك الأيام المقلقة. كبر الأولاد وضجروا من الاحتجاز الطويل في المنزل، يريدون الانطلاق والتمتع بإجازتهم الصيفية التي تبعت عاما دراسيا مرتبكا وعامرا بالتوقفات غير المتوقعة؛ تارة بسبب عدم توفر الوقود لحافلات المدرسة نتيجة أزمة الوقود التي لم تزل تضرب البلاد، وتارة لإغلاق الشرطة محيط منطقة المدارس الدولية الواقعة وسط منطقة فقيرة على أطراف المدينة؛ نتيجة مشاجرة ضخمة بالأسلحة النارية بين مجموعات من سكان المنطقة استمرت ليومين وأسفرت عن سقوط قتلى، وتارة ثالثة بسبب التظاهرات التي عمت أرجاء المدن احتجاجا على قرارات رئيس الجمهورية وعلى ممارسات جماعته. تعرض الأبناء لجرعة مكثفة من الضغوط للعام الثالث على التوالي؛ مما أشعل ثورتهم ضد قرارها باحتجازهم في البيت مع بداية الإجازة، فقد كانت أثناء شهور الدراسة ترسلهم إلى المدرسة في كل صباح مضطرة، لو كان الأمر بيدها لاستبقتهم في البيت بدلا من أن ينهش قلبها القلق في كل يوم حتى يعودوا إليها. كان النادي على بعد خطوات قليلة من بيتهم، مسيرة عشر دقائق يجتازون فيها ميدان فيكتور عمانويل فيصبح سور النادي أمامهم، لكن الشارع ليس آمنا. قبل يومين خرجت معهم مساء إلى سوق الكمبيوتر المجاور لشراء بعض المستلزمات ففاجأتهم تلك المجموعات المسلحة بالهراوات والجنازير الحديدية التي خرجت لتثير الرعب في الشوارع، كإجراء استباقي تكرر عدة مرات لتخويف حشود الثائرين التي تستهدف اجتياح مقر جماعتهم الدينية الحاكمة الواقع خلف محطة القطار على بعد أمتار قليلة، في ظرف ثوان كانت كل المحلات الصغيرة المتجاورة في سوق الكمبيوتر قد أغلقت بواباتها الحديدية خوفا من النهب ومن تحطيم واجهاتها الزجاجية. لم يستطع أحد تحديد الاتجاه الذي ستأتي منه تلك المجموعات التي وصلهم فقط ضجيج هتافاتها الدينية المعروفة، مختلطا بصخب ضرب الجنازير على أسطح معدنية بعيدة. عمت الفوضى، واختلطت صرخات النساء المذعورات بصياح الرجال الخائفين على مصدر رزقهم، فر كل من كان يسير في تلك الشوارع الضيقة هاربا على غير هدى، لم يكن بوسعها بعد أن أحيط بها في هذه المصيدة إلا احتضان أبنائها والركض بهم إلى داخل أقرب محل قبل أن ينزل بوابته الحديدية بلحظات، أغلق الشاب النحيل الذي يعمل في ذلك المحل الضيق بوابته واستند بإحدى قدميه على طرفها الأسفل ليثبتها بثقل جسده إلى الأرض، وهو يلهث ويطلق سبابا فاحشا دون أن ينتبه - أو ربما دون أن يبالي - لوجود سيدات وفتيات داخل المحل، أطفأ الأنوار وبدأ يلعن المظاهرات والثورة والإخوان والأيام التي صار فيها لا يبيع ولا يشتري، ولا يجمع من المال ما يكفي حتى لدفع فاتورة الكهرباء التي تنقطع أكثر مما تعمل، اقترب صخب الحشود وعلا صوت ارتطام الجنازير والهراوات بالبوابات المعدنية المغلقة، ارتعب الجميع وندت عن إحدى الفتيات المحتجزات بداخل المحل المظلم صرخة مكتومة إثر ارتجاج البوابة الحديدية تحت ضربة عنيفة، مما بدا أنها هراوة خشبية ثقيلة. تمسك الشاب بموقعه خوفا من انزلاق البوابة إلى الأعلى حتى اطمأن إلى ابتعاد الصخب، وحتى سمع بأذنه صرير ارتفاع بوابات المحال المجاورة، فرفع قدمه وانحنى ليفتح البوابة؛ كان الشارع بالخارج غارقا في ظلام دامس إلا من أضواء بيضاء خافتة لمصابيح متناثرة هنا وهناك، من النوع الذي يعمل بالبطاريات، لم يكن أحد في الشارع بحاجة إلى تفسير؛ فقد كان جليا أن الكهرباء قد انقطعت كعادتها المتكررة في الشهور الأخيرة في الانقطاع عدة مرات في كل يوم.
خرجت بأبنائها من المحل وقد بدأت في الارتفاع ضوضاء مولدات الكهرباء الصغيرة التي انتشر استخدامها مؤخرا في المحلات التجارية والكثير من المنازل، امتزجت في الهواء الصيفي الحار روائح عادم الوقود المحترق في المولدات بروائح الخوف والترقب للأيام الحاسمة القادمة، وصلوا إلى بنايتهم بعد مسيرة دقائق في الشوارع المعتمة، ثم جلسوا هناك على السلالم الرخامية للمدخل في انتظار عودة الكهرباء لكي يأخذهم المصعد إلى الطابق العاشر. انتظروا لما يقارب الساعتين متنقلين بأبصارهم في ضجر بين أضواء السيارات العابرة في الشارع المظلم، وبين تلك البوابة الحديدية السوداء القبيحة التي تشبه بوابة زنزانة، والتي اضطروا بالاشتراك مع سكان البناية إلى تركيبها أمام الواجهة الزجاجية الأنيقة التي كانت تميز المدخل الفاخر لبنايتهم، فعلوا ذلك عندما فعله كل سكان البنايات المجاورة أيام الانفلات الأمني واللجان الشعبية، قبل أكثر من عامين خوفا من هجوم البلطجية، الذين لم تكن لتردعهم تلك الواجهة الزجاجية عن اقتحام البناية.
في الصباح بدأ الجدال المتوقع بالأمس بينها وبين الولد الكبير الذي يصر على الذهاب للقاء أصدقائه في النادي، قالت له بحسم: لا يمكنك النزول الآن، ألم تكن معنا بالأمس في سوق الكمبيوتر؟ ألم تشاهد كيف ظللنا محتجزين في ذلك، المحل وكيف كانوا يضربون بوابات المحلات بالجنازير؟ يمكن لهؤلاء المجرمين أن يظهروا في أي وقت.
أجابها المراهق بنفاد صبر: لكنني لن أذهب إلى سوق الكمبيوتر يا أمي، ولن أقترب من مقرهم أو أذهب في اتجاهه. تعرفين أن النادي على مبعدة خطوات، سأركض إلى هناك وسأحادثك من الهاتف المحمول بمجرد دخولي من بوابة النادي.
هزت رأسها يمينا ويسارا في إصرار وقالت: إذا لم تنقطع الكهرباء أثناء نزولك بالمصعد فتنحبس فيه لساعتين كما حدث في الأسبوع الماضي، فيمكن أن يقابلك هؤلاء المسلحون في الطريق، وحتى إذا استطعت الوصول إلى النادي فكيف ستعود؟ من الذي يضمن لي كيف ستكون حالة الشارع في المساء؟ ألا تذكر ما حدث في الأسبوع الماضي كذلك؟
أجاب الولد وهو يتقافز من الغيظ والضجر: ما الذي حدث يا أمي؟! رأينا المظاهرة في الشارع من داخل بوابات النادي، فعدت أنا وأصحابي للعب تنس الطاولة لبعض الوقت حتى انتهت، وقد اتصلت بك من هناك وأخبرتك بذلك، بعدها أتى والد عمر واصطحبنا في سيارته وأوصلني حتى مدخل البيت، لن يحدث شيء يا أمي أرجوك، لقد مللت من الجلوس في المنزل، إننا في الإجازة الصيفية يا أمي، هل سنقضي الإجازة في المنزل؟! ألا يكفي أننا لم نذهب إلى الساحل الشمالي هذا الصيف كما نفعل في كل عام؟!
ردت عليه في تصميم: أنت تعرف جيدا أن طريق الساحل الشمالي غير آمن، الكثيرون تعرضوا للسطو المسلح على الطريق، ثم إن تلك لم تكن مجرد مظاهرة، لقد رأيتهم من الشرفة عندما عبروا أمام بنايتنا، لقد كان هؤلاء الرجال الملتحون مسلحين، كانوا يلبسون خوذات متطابقة فوق رءوسهم ويطلقون قنابل الدخان تلك في كل الاتجاهات. هذه ليست مزحة أو نزهة يا بني، لقد عدت لي يومها بعينين ملتهبتين وظللت تسعل لثلاثة أيام نتيجة ما استنشقته من دخان، لقد كسروا الكثير من السيارات عند نفق كليوباترا عندما اشتبكوا مع الشرطة ومع أولئك الشباب المتظاهرين، رأيت ذلك في التليفزيون وعلى فيسبوك.
صممت على موقفها بمنع الولد الكبير وأخته من النزول، بعد جدال طويل انتهى بدخول كل منهما إلى غرفته غاضبا، كانت في داخلها حزينة من أجلهم، وكانت تتمنى لو استطاعت السماح لهم بالخروج والانطلاق لتعويض ضغوط تلك السنة المرهقة، لكنها كأم لم تكن لتغامر بذلك مهما كانت احتمالات الخطر قليلة، عليها أن تحميهم حتى ولو لم يعجبهم ذلك، كان ذلك يؤرقها كثيرا، كما كانت تؤرقها بشكل أكبر علاقتها بياسين التي فترت كثيرا في الشهور الأخيرة، اعتادت طبعه بمرور الزمن، تعايشت مع جفائه غير المقصود، تعرف أنه يحبها وتعرف أنه رقيق القلب برغم أنه لا يظهر لها ذلك، لكنها تريده أن يظهره، إن طباعهما مختلفة؛ هي رومانسية وهو عملي، هي حالمة وهو واقعي، تقدر ما يتحمله من ضغوط، وتتفهم ما يشغل باله طوال الوقت، خاصة بعد أن خسرته الأوضاع الأمنية المتدهورة في البلاد الجزء الأكبر من أعماله ومشروعاته التي ظل يبنيها منذ تزوجا قبل سبعة عشر عاما، لكنها تريد أن تسعد بكلمة غزل أو لفتة يشعرها فيها باشتياقه. يعتبر الرجال الزواج نهاية الحب، بينما تعتبره النساء بدايته، يظن الرجل أنه قد حصل على مراده بالزواج، ويعتقد أنه أدى ما عليه بعقد القران الرسمي، وأنه قد آن له أن يقضي بقية عمره مستقرا وادعا متفرغا لاستكمال مشواره العملي في دنيا قاسية لا وقت فيها لرفاهية الرومانسية، بينما تنتظر المرأة من الزواج الدفء والحنان، تتوقع صباحات الشغف وليالي العشق، أغنيات الغزل وباقات الزهور، أمسيات الشموع والهمسات الدافئة. ربما يرجع أصل كل المشكلات الزوجية إلى اختلاف التوقعات، ربما يرجع إلى أن الرجال والنساء لا ينظرون إلى مؤسسة الزواج من الزاوية نفسها. •••
Unknown page