خلف المكتب المعدني نفسه بشركة المحاسبة القانونية الواقعة في شقة كبيرة بالطابق الأرضي من بناية جديدة، ضمن كثيرات يماثلنها في الشكل، كلها من سبعة طوابق تختلط فيها مكاتب الشركات بعيادات الأطباء بالشقق السكنية، وتتوسط كل أربع منها مساحة فسيحة من النجيل الأخضر، تتناثر فيها أشجار حديثة الغرس، وزهور منسقة بشكل جيد، وتصل بينها شوارع هادئة مسفلتة بإتقان، ولا يمر بها الكثير من السيارات في معظم الأوقات. لم يكن ياسين في البداية مستريحا للعمل في منطقة سموحة النائية تلك، فلم يكن الوصول إليها يسيرا؛ إذ لم تكن تربطها بمحل سكنه خطوط مواصلات مباشرة، فكان مشواره اليومي يبدأ بأن يستقل الترام إلى محطة سيدي جابر، ثم يعبر النفق المؤدي إلى الجانب الخلفي من محطة السكك الحديدية، حيث يستقل من هناك الميني باص المتجه إلى حدائق النزهة، ثم يهبط منه أمام مبنى السوق التجاري الجديد، الذي لم يزل خاليا إلا من بعض محلات ومقاه متناثرة، حيث تمتد من ورائه على مسافة سير يسيرة عمارات التعاونيات التي يقع مقر شركته في إحداها. كانت رحلتا الذهاب والعودة مرهقتين بعض الشيء، وخاصة فيما يتعلق بالمشي في شهور الصيف الحارة برطوبتها الخانقة وشمسها الساطعة، لكنه اعتاد على تلك الرحلة في وقت قصير كما هو طبعه في التأقلم مع أي ظروف مستجدة، فقط في أيام النوات الممطرة، أو في الأيام التي كان يستيقظ فيها متأخرا كان يضطر لاستقلال سيارة أجرة، وكان ذلك بجانب أنه يفسد عليه ميزانيته الصغيرة التي لا تحتمل أي مفاجآت، فقد كان كذلك يعاني كثيرا ليجد سائق سيارة أجرة يوافق على الذهاب إلى منطقة سموحة؛ حيث كان غالبية السائقين يجدونها صفقة خاسرة بما أنهم سيعودون من تلك المنطقة فارغين على أغلب الظن.
لم يكن والده كذلك سعيدا بتلك الوظيفة التي تضطر ابنه للذهاب يوميا إلى خارج المدينة، فقد كان شريط السكك الحديدية بالنسبة إليه هو حدود الإسكندرية، ولم يكن خلال عودته من أي زيارة لنادي سموحة الرياضي أو لحدائق النزهة يعتبر نفسه قد دخل حدود المدينة قبل أن يعبر بجانب مبنى مصنع فورد - الذي كان قد أغلق - وقبل أن يعبر أسفل شريط السكك الحديدية من نفق مصطفى كامل، وحتى يظهر أمامه على اليسار مصنع المياه الغازية الذي كان في طريقه للإغلاق هو الآخر. لم تكن سموحة في نظر أبناء ذلك الجيل سوى ضاحية على أطراف المدينة لا تحوي إلا النادي الرياضي، ثم المزارع والمصانع التي تمتد حتى حدائق النزهة وأنطونيادس على ضفاف ترعة المحمودية. •••
ثم رحل أبوه بعيدا، رحل إلى وادي الرجال الأقدمين، هناك حيث توجد مدافن العائلة على أطراف الرمال اللانهائية قرب بلدته النائية في أعماق الصعيد، حيث أمضى طفولته وصباه في أزمنة سحيقة مع تلك الشخصيات الغامضة، أولئك الذين كانت تلتمع عيناه بالشغف حين كان يذكر حكاياته معهم، أولئك الذين كان يتحرق شوقا للحاق بهم. فقد ياسين سنده الأول وملاذه الوحيد، لكن لعله خير، لعله الآن مستبشر، لعله الآن يتسامر مع رفاق صباه الذين سبقوه إلى هناك، ويحكي لهم كيف تبدلت الأيام، وكيف عاد إلى رحابهم القديم من دنيا لم تعد تعرفه ولم يعد يعرفها، كيف فارق هواء لم يعد عالقا به من رائحة الأيام الحلوة إلا ذكريات، وكيف أن تلك الجدران ما عادت تذكره، وكيف طمست جدران الأمس بطبقات فوق طبقات حتى لم تعد تراه، ولم تعد تبتهج لحضوره مثلما اعتادت، وكيف صار له أحباب على الضفة الأخرى أكثر مما له على ضفة الدنيا. لعله الآن يمرح، يتسلق النخل الشاهق على ضفاف النهر كما اعتاد أن يفعل وقت أن كان هناك نخل ونهر.
عندما ذهب ياسين بجثمان أبيه ليدفن بجوار أجداده كما أوصاه في أواخر أيامه، أحب مشهد السماء في ليل قرية أبيه النائية كثيرا، للمرة الأولى في عمره يرى بعينه المجردة هذا الكم المذهل من النجوم في السماء، كان قد رأى ربما مشاهد مشابهة في الأفلام الوثائقية الأجنبية التي يذيعها التليفزيون، لكنه لم يختبر من قبل شعور التحديق بالعين المجردة في سماء شديدة الدكنة تزينها لؤلؤات لامعات تتفاوت في الحجم ودرجة السطوع، كما شاهد في تلك الليلة مستلقيا على ظهره فوق الأرض الزراعية الرطبة المغطاة بالقش وقشور قصب السكر، متطلعا إلى السماء بدهشة طفل يختبر إحساس المشي للمرة الأولى، رأى هناك تكوينات بديعة من النجوم لا بد أن رابطا ما يجمعها كما كان يقرأ في كتبه المدرسية دون أن يفهم، وأنى له أن يفهم وهو فتى المدينة المزدحمة التي لا تسمح سماواتها الصاخبة بالأضواء إلا برؤية القمر متواريا خلف بناية شاهقة، أو بعيدا عند الأفق؟! ومن حوله تبدو على استحياء نجمات شاحبات الضوء. حاول استرجاع ما قرأه في الكتب عن الدب الأكبر والدب الأصغر، وتلك المسميات التي بدت له مضحكة في حصة العلوم بالمدرسة الابتدائية، وإذا بها تظهر أمامه الآن على صفحة السماء الرائقة كشاشة عالية الدقة كما لو كانت من لحم ودم. أخذ يحاول الربط بين تشكيلات النجوم اللانهائية واستنتاج النظريات والتطبيقات في شغف عارم. بعد ليلته الرابعة صارت له صداقات مع نجوم بعينها، يلقي عليها التحية ويسألها عن أحوال جاراتها اللاتي يتصادف شحوب ضوء إحداهن أو انزواء أخريات. أمست له القدرة على مخاطبة تلك النجوم وتتبع أسرارها، أخذته تلك السماء الصافية إلى أجواء الصوفية والصفاء النفسي، فكان في ليلته الأخيرة قبل العودة إلى الإسكندرية مستلقيا على ظهره ينشد مخاطبا النجوم:
سقاني الراح في ليل التداني
بكأس النور من بحر المعاني
وشاهدت المشاهد وهي تجلي
برنات المثالث والمثاني
وعاينت الجمال الصرف لما
شربت براحتي من الدنان
Unknown page